انطلقت فعاليات "ليالي الشعر"، إحدى أبرز فعاليات معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024، الذي ينظمه مركز أبوظبي للغة العربية، في الفترة من 29 أبريل الجاري إلى 5 مايو المقبل، حيث تستضيف هذه الفعالية نخبة من شعراء الإمارات، الذين أثروا الثقافة المحلية بمخزون من أجمل القصائد والصور الشعرية.

افتتحت "ليالي الشعر" موسمها الجديد بأمسية للشاعر سيف السعدي، حملت عنوان "عطر السحاب"، المستوحى من قصيدة شهيرة للشاعر، الذي يعد من أبرز شعراء الإمارات ودول الخليج العربي، إذ يتميز بإحساس عالٍ، وأسلوب متميز في القصيدة، ولديه مسيرة طويلة حافلة بالإبداع والعطاء، ولهذا استحق لقب "الشخصية الإبداعية" لجائزة "كنز الجيل"، التي أطلقها مركز أبوظبي للغة العربية، بهدف تعزيز مكانة الشعر وخاصة النبطي وإبراز دوره في المجتمع.

وأمتع السعدي الجمهور، الذي ضمّ عدداً من الشعراء المحليين، بإلقاء عدد من قصائده، التي عبرت عن حسّه المرهف وفطرته في نظم الشعر وإلقائه، ودلّت على أنه كما يقول عن نفسه: "أنا لا أكتب القصيدة وإنما هي من تكتبني".

واستهل السعدي أمسيته بإلقاء أحدث قصائده التي يقول مطلعها:

هلّ منشول اليديل الفوضوي دام عين الشمس غطاها اليديل

واسقني كاس الغرام الأنثوي ولا تصحيني من الحلم الجميل

وفي الأمسية التي حاورته فيها الدكتورة عائشة الشامسي، أكد السعدي أهمية حضور المفردة المحلية في القصيدة. وقال "اللهجة البيضاء تضيع هوية القصيدة لأنني لا أستطيع أن أميز هوية شاعرها، لكن خصوصية المفردة المحلية تجعل المتلقي يعرف هوية قائلها، فاللهجة هوية، مثلها مثل الاسم، وإن نزع الشاعر لهجته فقدت قصيدته هويتها، وكلّ من يفقد هويته لا ينال التقدير"، موضحاً أن العمل في مجال الإعلام أثر على مسيرته الشعرية.

وقال "العمل الإعلامي سلاح ذو حدين وبالذات إذا كنت شاعراً، فالقصائد تظل عالقة في ذهنك، وعندما تريد أن تكتب شيئاً تشعر وكأنك كتبت قصيدة من القصائد التي قرأتها، لكن في الوقت نفسه فإنها تكسبك لغة شعرية ومفردات جديدة، كما أنك عندما تقرأ هذه القصائد والنصوص الشعرية تعرف مكانك ومكانتك بين الشعراء، وبالنسبة لي فإن وجودي في المجال الإعلامي دعم المجال الشعري لدي وأفادني".

سهرة حالمة عاشها جمهور السعدي، أعادته إلى ذكريات الزمن الجميل على وقع كلمات قصائده الغزلية الشهيرة، من بينها قصيدة "يا بو يديل" والتي غناها الفنان خالد محمد، وقال فيها:

يا أبو يديل مدلهمي تخجل بهاتك طلعة النور

أن ييتني لو مستهمي برحت عقب الضيق مسرور

ودعا السعدي المؤسسات الثقافية إلى تكريم الشعراء والاحتفاء بهم، من أجل تشجيعهم على تقديم المزيد من البذل والعطاء في المجال الثقافي والشعري.

وعبر السعدي في الأمسية، التي حضرها سعيد حمدان الطنيجي، المدير التنفيذي لمركز أبوظبي للغة العربية ومدير معرض أبوظبي الدولي للكتاب وعدد من القائمين على المركز، عن شكره وامتنانه لهذا الصرح الكبير الذي كرمه، وقدم له مبادرة رائدة تمثلت في تسجيل ديوان صوتي انتهى من توقيعه قبيل بدء الأمسية، واختتم السعدي الليلة بإلقاء أبياتٍ من قصيدته الشهيرة "عطر السحاب"، التي يقول مطلعها:

عذب ولا يهمك عذب ولا أشتكيك

كثر ما أحبك استعذبت منك العذاب

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: معرض أبوظبي الدولي للكتاب مركز ابوظبي للغة العربية شعراء الإمارات الثقافة المحلية

إقرأ أيضاً:

الأمة هوية.. والهوية ثقافة.. ولا أساس للعرقية في الهوية القومية

إن المفهوم العلمي للهوية الوطنية كما فصلناه في مقالنا السابق بـ "عربي21" هو واحد في كل بلدان العالم ولكن الذي يختلف ويتعدد من أمة وثقافة إلى أمة وثقافة أخرى هو محتوى الثوابت النوعية للأنماط الثقافية السائدة والغالبة التي تتكون منها هذه "الهوية الوطنية"؛ مثل فرنسا والجزائر في الماضي والحاضر، أو روسيا وأوكرانيا أو تركيا وبلغاريا وفرنسا وألمانيا وصربيا وألبانيا وغيرها، والعكس صحيح في النمسا وألمانيا وفي الكوريتين حاليًا أو الفيتناميتين والألمانيتين واليمنيتين سابقا..

فالثقافة الواحدة ذات اللسان المكتوب الواحد والدين الواحد أو الغالب، تعطي هُوِيَّة واحدة للشعب المتجانس في العموميات الثقافية، مثل كل الشعوب العربية بالدرجة الأولى، والإسلامية بالدرجة الثانية. كما سنبين ذلك فيما يلي: إن آخر تعريف للثقافة من وضع اليونيسكو في مؤ تمرها الدولي المعقد بالميكسيك سنة 1981 يقول: الثقافة هي جماع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعًا بعينه أو فئة اجتماعية بعينها، وهي تشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان، ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات، وإن الثقافة هي التي تمنح الإنسان قدرته على التفكير في ذاته والتي تجعل منا كائنات تتميز بالإنسانية".

ونستنتج من هذا التعريف الجامع المانع خاصيتين أساسيتين في الثقافة هما:

1 ـ إن الثقافة شيء مكتسب ولا تمت بصلة إلى المسائل الغريزية (الجسدية) في الإنسان، ومن ثمة فتوحيدها والمحافظة على أنماطها العامة التي لها علاقة بالهوية تظل دائمًا رهن إرادة الإنسان في كل زمان ومكان.

2 ـ إن الثقافة متبادلة التأثير مع الإنسان، وتؤثر بصفة خاصة على السلوك الفردي والجماعي. وتأكيدًا لهذا المعنى يقول أحد علماء الأنثروبولوجيا الثقافية (وهو رالف لينتون Ralph Linton) في كتابه :Le fondement culturel dela Personnalité)عن الإنسان وعلاقته بالثقافة: "إن الإنسان هو كائن له شكله الفيزيقي، وتراثه الاجتماعي وسماته الثقافية، إن الطفل قد يولد زنجيًا من الناحية الفيزيقية ولكنه لو ينشأ في فرنسا مثلا فإنه يكتسب عادات اجتماعية وسيتصف بسمات ثقافية تميزه عن أقرانه الذين لم يبرحوا موطنهم الأصلي في القارة الأفريقية".

إن الثقافة شيء مكتسب ولا تمت بصلة إلى المسائل الغريزية (الجسدية) في الإنسان، ومن ثمة فتوحيدها والمحافظة على أنماطها العامة التي لها علاقة بالهوية تظل دائمًا رهن إرادة الإنسان في كل زمان ومكان.ولبلورة هذه المعاني العامة للثقافة وتجسيدها في أمثلة ملموسة نقول بأن للثقافة جانبين متكاملين هما:

1 ـ  جانب معنوي : ويتمثل في التأمل والتفكير والشعور والاعتقاد.

2 ـ جانب سلوكي ومادي: ويتمثل في قواعد المعاملات بين الأفراد في جميع مجالات الحياة في المجتمع.

وكما أن للثقافة جانبين مادي ومعنوي فلها أيضا مستويان لكل جانب:

1 ـ مستوى عالمي، وهو خاص بالإنسان العاقل الناطق مقابل الحيوان الأعجم. كظاهرة ارتداء الحد الأدنى من الملابس لستر العورة، وظاهرة اللغة وظاهرة الاعتقاد وظاهرة العلاقات الأسرية وظاهرة السلطة وما إلى ذلك من الخصائص الثقافية.

2 ـ مستوى محلي وطني (نسبة إلى الوطن أو قومي نسبة إلى القوم) وهو تخصيص أو انتقال من العام إلى الخاص، ومن المشترك إلى المتميز، أي الانتقال من ظاهرة ارتداء الثياب إلى نوع الثياب بالذات، ومن قواعدالأخلاق إلى نوع القواعد ومحتواها القيمي في ذاتها، ومن ظاهرة النطق إلى نوع اللغة ومن ظاهرة الاعتقاد إلى نوع المعتقد بذاته... وهذا ما يجعل أنماط الثقافة الوطنية التي هي أساس الهُوِيَّة الوطنية تختلف بالضرورة عن الأنماط الثقافية العالمية في النوع وليس في الدرجة من الجانبين (المادي والمعنوي) في حين أن مميزات الثقافة الوطنية في عمومياتها هي واحدة النوع بالضرورة في الجانب المعنوي على الأقل، وقد تختلف من منطقة إلى أخرى داخل الوطن الواحد في بعض الجوانب المادية الداخلة في عداد البدائل أو الخصوصيات الجغرافية والمناخية كما سنبين بعد حين.

وبالنسبة لتوضيح مفهوم الهُوِيَّة وعلاقتها بوحدة الثقافة واللغة بالذات يمكن ضرب المثال بعلاقة النمسا بفرنسا، وعلاقتها بألمانيا، فعلاقة النمسا بفرنسا هي علاقة اختلاف في الجنسية الورقية وفي الهُوِيَّة الثقافية، أما علاقة النمسا بألمانيا فهي مختلفة في اسم الجنسية، ومتفقة أو متطابقة في الهُوِيَّة تمامًا (رغم الحدود السياسية أو الجمركية.... )، شأنها في ذلك شأن ألمانيا الشرقية والغربية سابقا، وشأن سوريا ولبنان والكويت والعراق واليمنيين (سابقا كذلك) والأردن وفلسطين وبلاد المغرب العربي عمومًا، سابقا وراهنا.

فهذه كلها شعوب ذات هويات ثقافية واحدة، وجنسيات سياسية مختلفة (وهو ما ينضوي تحت مثال الدول المتعددة في الأمة الواحدة، أو الأمة المتعددة الدول، والغريب أن ألمانيا كانت جزءا من النمسا في عهد الإمبراطورية النمساوية، ولا يستبعد أبدا أن تصبح النمسا جزءا من الإمبراطورية الألمانية ضمن مجموعة الاتحاد الأوروبي، وهو الحاصل في الواقع الراهن وكذلك الجزء الألماني من الدولة السويسرية الحالية التي يمثل فيها الناطقون بالألمانية 64٪ من الشعب السويسري.. وهذا ما جعلني أقول بأن سويسرا لن تدخل في الاتحاد الأوروبي أبدا، لأن الاختلاف هنا بين السويسري الألماني والألماني النمساوي هو اختلاف في الجنسية وليس في الهُوِيَّة الثقافية. فمن هذا المنطلق ـ إذن ـ يتم الفرز بين الثقافة كظاهرة إنسانية عامة والثقافة النوعية في المجتمع "الأمة" ذي الثقافة المتجانسة في الأسس كما يفترض أن تكون.

ولوضع الأيدي على نقاط الاتفاق الملزم والاختلاف المباح في هذه الأسس المتداخلة الأطراف، بقصد إدراك هذه العلاقة القائمة أو التي يجب أن تقوم بين الهُوِيَّة والسمات الثقافية العامة المميزة لهذه الأمة عن تلك، نورد هذا التقسيم العلمي للثقافة إلى مستويات أو دوائر ثلاث هي:

1 ـ العموميات: وهي النظم ذات العلاقة الوطيدة بالثقافة والهوية" وذات التأثير المباشر لها منها وعليها، والتي يتبعها ويخضع لها كل أفراد المجتمع الواحد، كاستعمال اللغة الوطنية في الأماكن العامة مع أبناء الوطن الواحد بصفة خاصة، أو التزام حدود الشريعة الإسلامية في الدول غير اللائكية(...).

2 ـ البدائل : أما البدائل الثقافية فهي مجموعة من النظم التي لا تطبق على كافة أفراد المجتمع في الوقت ذاته وبنفس الكيفية، وإنما هي نظم وأنماط ثقافية اختيارية بحيث يمكن للفرد أن يختارها كلها أو يختار بعضها أو يتركها دون حرج.

3 ـ الخصوصيات: إذا كانت النظرة الخارجية للمجتمع تعطينا صورة شكلية عن الطابع الثقافي العام الذي يميز المجتمع الواحد، ويميز هويته الوطنية بطابع خاص.. (كما سبقت الإشارة )، فإن النظرة إلى المجتمع من الداخل تكشف لنا عن وجود خصوصيات ثقافية ذات علاقة ببعض الفئات الاجتماعية دون الأخرى، وهذه الفئات تتحدد بحسب السن والجنس والمهنة والمناطق الجغرافية داخل البلد الواحد، ومن هنا نجد أفراد المجتمع الواحد إذا كانوا يلتقون بالضرورة في العموميات الثقافية (أو في بعض البدائل) فإنهم على العكس من ذلك قد يختلفون في الخصوصيات الجغرافية والفلكلورية التي تعتبر من مكونات الهُوِيَّة الوطنية في مجموعها دون تناقض جوهري معها.

ولنوضح هذه العلاقة بين الثقافة في عمومياتها (الملزمة) وبدائلها الفرعية (غير الملزمة) لكل أفراد المجتمع نضرب المثال التالي من واقعنا المجتمعي الإسلامي: إن العائلات المسلمة تحتفل بصبيّها عندما يصوم أول يوم في حياته، ولكن هذه العائلات وإن اتفقت على مبدأ الاحتفال، فإنها تختلف في طريقة الاحتفال من منطقة إلى أخرى. فالاحتفال في ذاته يدخل في العموميات مثل الصوم أو الختان، أما طريقة الاحتفال فتدخل ضمن البدائل الثقافية الفرعية.. وهذا أمر طبيعي جدا، ولا يتعارض في جوهره مع الثقافة الوطنية التي هي جزء أصيل من ثقافة الأمة في عمومياتها المتميزة بالشمولية والثبات.

والذي يهمنا التأكيد عليه في هذا الصدد هو أن الثقافة الفرعية الخاصة بالوطن والإقليم داخل الأمة الواحدة هو أنه لا يمكن أن تتناقض في جوهرها مع الأنماط الثقافية العامة والثابتة لهذه الأمة، فالمسجد المبني بالحجر والطوب ـ مثلا ـ لا يتناقض في وجوده مع المسجد المبني بالإسمنت المسلّح والرخام، والمسجد الكبير لا يتناقض مع وجود المسجد الصغير، ولكن الذي يتناقض ـ جوهريا ـ مع وجود المسجد، أو بعبارة أخرى مع الثقافة الوطنية أو ثقافة الأمة في عمومياتها هو عدم وجود المسجد.. وكذلك الصوم فلا يناقضه إلا الإفطار بدون عذر شرعي (استثنائي) وإذا صادف المرء ثقافة "فرعية" في بلادنا الإسلامية تروج لإباحة الإفطار في رمضان، فهي ثقافة غير إسلامية وبالتالي ليست وطنية بكل تأكيد على اعتبار أن الإسلام يمثل بشهادة وإقرار الجميع ـ جوهر وأساس ثقافة أمتنا، ومن ثم جوهر وأساس هويتنا الوطنية والقومية، كما يقر بذلك حتى المسيحيون العرب الأصلاء، ومنهم المفكر السوري ميشال عفلق الذي يقول: "لا يوجد عربي غير مسلم، فالإسلام هو تاريخنا، وهو بطولتنا وهو لغتنا وفلسفتنا ونظرتنا إلى الكون... إنه الثقافة القومية الموحدة للعرب على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، وبهذا المعنى لا يوجد عربي غير مسلم... وإن المسيحيين العرب عندما تستيقظ فيهم قوميتهم سوف يعرفون بأن الإسلام هو لهم ثقافة قومية يجب أن يتشبعوا بها ويحبوها ويحرصوا عليها حرصهم على أثمن شيء في عروبيتهم... ولئن كان عجبي شديدًا للمسلم الذي لا يحب العرب فعجبي أشد للعربي الذي لا يحب الإسلام!؟".

الأقلية الهامشية موجودة في كل زمان ومكان وفي كل الثقافات والأديان، وقد ظلت موجودة حتى في مكة المكرمة ومعظم البلاد الإسلامية حتى يومنا هذا، لكن وجود أمثال أبي جهل وأبي لهب والوليد ومسيلمة لم يمنع قاعدة الإسلام من أن تنتصر وتنتشر في مشارق الأرض ومغاربها، وهي تزداد انتشارًا يومًا بعد يوم حتى الآن شرقا وغربا.ونفس الرأي يؤكده مسيحي آخر من لبنان هو فكتور سحاب الذي يقول: "إن النصراني لا يمكنه أن يكون عربيًا، إذا لم ينتم إلى حضارة الإسلام، فكيف يكون عربيًا ذلك النصراني الذي لا يتكلم لغة القرآن، ولا يطرب للموسيقى العربية المتحدرة من التجويد القرآني، ولا يهتز قلبه للشعر العربي، ولا تسحره العمارة الإسلامية، ولا تلتهب شرايينه بنار مجاهدة الغرب الاستعماري ، ولا تسير حياته مفاهيم العربية الاجتماعية الموروثة والمتجددة. إن النصراني العربي ابن الحضارة الإسلامية، وليس أجنبيًا عن التراث الإسلامي.. فنحن أبناء حضارة واحدة ، وهي حضارة منفتحة، بل لعلها أكثر الحضارات انفتاحًا على التأثرات الخارجية... فنحن لنا حضارة واحدة هي الحضارة العربية وروحها الإسلام". (جريدة النهار 6 يونيو. 1982)

وإن الذي يهمنا في هذا كله هو القاعدة العامة والغالبة وليس الاستثناء، فالاستثناء موجود في جميع أنحاء العالم، وفي جميع المجتمعات والأمم، ولكنه دائمًا يعيش على هامش التاريخ والواقع لتلك المجتمعات، ولا يغير القاعدة أبدا إن لم يثبتها! فالأقلية الهامشية موجودة في كل زمان ومكان وفي كل الثقافات والأديان، وقد ظلت موجودة حتى في مكة المكرمة ومعظم البلاد الإسلامية حتى يومنا هذا، لكن وجود أمثال أبي جهل وأبي لهب والوليد ومسيلمة لم يمنع قاعدة الإسلام من أن تنتصر وتنتشر في مشارق الأرض ومغاربها، وهي تزداد انتشارًا يومًا بعد يوم حتى الآن شرقا وغربا.

إن التاريخ الثقافي الذي كتب بالإسلام وفي الإسلام لا يمكن أن يفصل عن التاريخ العام للوطن العربي الإسلامي وشخصية أفراد الأمة بكل أبعادها وخصائصها المتميزة. وهذا الامتداد التاريخي للشخصية القومية (الثقافية والحضارية) للمجتمع العربي الإسلامي قد تم منذ أربعة عشر قرنا بكيفية أشبه ما تكون بعملية التلقيح وزرع الأعضاء في عالم البشر أو التطعيم في عالم الشجر! إن الجزائر وكل بلاد المغرب الإسلامي الناطقة بالعربية كلغة وطنية ورسمية (خارج الفئات الأمية التي تتواصل بالشفاهيات المحلية.... ) هي جزء من الأمة المحمدية، منفصلة بالجنسية بقدر ما هي متصلة بالهوية ومختلفة عما عداها تبعا للدين، و خاصة للسان الجامع (وليس اللغات الشفاهية للأميين في الشارع.) وعددها في العالم اليوم يقدر بحوالي 6550 لغة محلية و جهوية، ولو كان لكل لهجة قبلية أو قروية، الحق لأفرادها في تأسيس (دويلة) لكان عندنا اليوم أكثر من 6000 دولة في العالم. بينما عدد هذه الدول ذات العضوية في منظمة الأمم المتحدة لا تتجاوز 193 دولة تتقاسم فيما بينها كل مجموعة من الدول لغة واحدة كالدول العربية والدول الإفريقية (جنوب الصحراء) وأمريكا اللاتينية بالنسبة للأنجليزية والفرنسية والإسبانية.

وأعطيكم مثالًا عن الهُوِيَّة الثقافية للشعوب والأمم التي ليس لها علاقة إطلاقا بالناحية السلالية العنصرية أو العرقية المزعومة في بعض الدول المسلمة (العربية وغير العربية) من حاضرنا وماضينا القريب، يفيد الراغبين في معرفة الحقيقة لمحاربة التضليل والسخافة المغلفة بأعلام الخرافة!

أصبحت إسبانيا بعد هذا الفتح المبين الواقع في القرن السابع الميلادي عربية اللسان إسلامية الديانة (الغالبة) لمدة ثمانية قرون كاملة.. ولكن بعد الخيانات والصراعات والانقسامات العائلية والطائفية والصراعات على الكراسي والعروش عادت إسبانيا إلى ما كانت عليه من قبل، وهي الآن مسيحية الديانة لاتينية اللسان والثقافة..أعطيكم مثالًا عن مفهوم الهُوِيَّة الثقافية (غير العرقية) للأمم والشعوب في كل الدول المعتبرة ذات السيادة والوحدة القومية وأبرزها إسبانيا الحالية.. "إن إسبانيا كانت مسيحية الديانة، لاتينية اللسان كلغة مكتوبة"، وبعد الفتح الإسلامي الواقع عليها مثل كل الدول الإسلامية الحالية الممتدة رقعتها على 32 مليون كلم مربع ومليارين من المسلمين الموحدين في التوجه إلى القبلة الواحدة خمس مرات في اليوم من جاكارتا إلى داكار..! وقد أصبحت إسبانيا بعد هذا الفتح المبين الواقع في القرن السابع الميلادي عربية اللسان إسلامية الديانة (الغالبة) لمدة ثمانية قرون كاملة.. ولكن بعد الخيانات والصراعات والانقسامات العائلية والطائفية والصراعات على الكراسي والعروش عادت إسبانيا إلى ما كانت عليه من قبل، وهي الآن مسيحية الديانة لاتينية اللسان والثقافة..

لا شيء قد تغير فيها إلا الإسلام ولسانه بعد أن ظلت الأندلس جزءا من الخلافة الإسلامية لثمانية قرون خلت، كما تشهد على ذلك معالم أهم المدن والحواضر الأندلسية حتى الآن، وأن 90٪ من سكان جنوب الأندلس هم من بلاد المغرب العربي الحالي.. والآلاف من سكان السواحل الجزائرية والتونسية والمغربية هم إسبان مسلمون هربوا بعقيدتهم من أبناء جلدتهم المسيحيين الذين انقلبوا على دينهم نتيجة تسامح المسلمين مع أهل الكتاب في أوج الحضارية العربية الإسلامية من بغداد إلى الأندلس.

نرجو أن يكون هذا المثال كافيًا لتوضيح معنى الهُوِيَّة الثقافية وليس العرقية، لأنه لا يوجد عرق خالص على الإطلاق في الدول المتحضرة الحالية وخاصة الإسلامية.. قلت المتحضرة التي لها دفاتر عائلية وسجلات الحالة المدنية في الإدارة المحلية.. ولعل فرنسا هي أحسن مثال لنا (بالنسبة للاختلاط العرقي) بحركانا هناك، من كل الولايات، وخاصة من ولايات الجزائر الشمالية، حتى من المرابطين "الأشراف" في الحواضر والأرياف.. واطلبوا العلم بالهوية الثقافية والوحدة الوطنية (غير العرقية) ولو في فرنسا عندها.. وليس عندنا مع الحركى الانفصاليين لصالح الاستحلال بعد انهزامهم في إبقاء الاحتلال المباشر بالعساكر.

ولذلك نؤكد لكل شعوب البلاد الاسلامية الناطقة بالعربية في شمال القارة الإفريقية أن لا هوية ولا وحدة وطنية لشعوبها المتجانسة (دينيًا ومذهبيا وثقافيًا واجتماعيًا ولسانيًا) دون التمسك بالمبادئ الوحدوية والثوابت الوطنية المتوارثة عبر القرون والأجيال وأن أي انحراف عنها تحت أي شعار (وثني أو جاهلي) هو ردة وخيانة لكل شهداء الوطن والأمة لصالح أعدائهم الألداء في الخارج والداخل من الفاعلين الحقيقيين ومن نواب الفاعل الموسميين المتغيرين حسب الحاجة والطلب من بعض العائلات والفئات والجهات..

*كاتب ومفكر من الجزائر

مقالات مشابهة

  • الأمة هوية.. والهوية ثقافة.. ولا أساس للعرقية في الهوية القومية
  • ضمن "ليالي السعديات".. موعد حفل جينيفر لوبيز في أبوظبي
  • في أول لقاء منذ إستلامه لمنصبه مدير عام هيئة أراضي وعقارات الدولة بأبين م/سالم عكلف يلتقي بالمستثمر وليد السعدي
  • في مثل هذا اليوم.. لقاء السحاب بين أم كلثوم وعبد الوهاب
  • السعدي: لا انشقاق داخل الحكومة ولن نمارس الوصاية على طموحات الحلفاء
  • تحدٍ فني في “توب شيف 8”: أطباق تعكس هوية كل مشترك!
  • عبر "أبشر".. خطوات الاستفادة من خدمة توصيل هوية مقيم
  • الغلوسي ينتقد "تباطؤ" تنفيذ قرار محكمة النقض بحق المتهمين في ملف كازينو السعدي
  • حماة المال العام ينتقدون تعثر تنفيذ قرار محكمة النقض في قضية كازينو السعدي
  • القاهرة تستضيف فرقة «سحر التانجو» الأرجنتينية في ليلة استثنائية من «ليالي مصر»