أحزان أكبر مدينة عربية.. سردية تحولات القاهرة المتنازع عليها
تاريخ النشر: 30th, April 2024 GMT
على الرغم من غناها ومجدها في الربع الأول من القرن الـ19، بدت العاصمة المصرية (القاهرة) منذ تسعينيات القرن الـ20 جسدا مترهلا ومثقلا يئن تحت وطء مشكلات عديدة ومتراكمة، وأمراض راكمتها حوادث تاريخية عدة.
منذ ذلك التاريخ تفاقمت مشكلات المدينة، وباتت عصية على الحلول التقليدية وأضحت محل تنازع لسيطرة أطراف عديدة.
المشكلات البنيوية التي تعانيها المدينة التاريخية، -والتي طالما لعبت دورا ثقافيا وسياسيا في العالم الإسلامي لقرون- وتشخيص أمراضها وعللها، كانت موضوع بحث علماء أجانب وباحثين في علم الاجتماع في كتاب حمل عنوان "القاهرة المتنازع عليها" حرره "دايان سينجرمان" وترجمه يعقوب عبد الرحمن وصدر أخيرا عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة.
الكتاب جاء محاولة لمناقشة التحولات الكبرى التي شهدتها القاهرة، والإجابة عن أسئلة من شاكلة؛ ما الذي غيّر ويغير المزاج الفكري والثقافي للمصريين؟ وما تأثير وسائل الاتصال الحديثة على النسيج الاجتماعي؟ وكيف يتعاطى المصريون مع واقعهم ومتغيراته السريعة والبطيئة؟ وكيف تحدث عمليات الدمج الجماعي للغرباء، وكيف يتولد العنف؟
يشير الكتاب الذي جاء في 450 صفحة وحوى 17 فصلا إلى أن "الليبرالية الجديدة" تثير الكثير من الصراعات، وتزيد من الفروق الطبقية، وعدم المساواة والاختلاف بين المصريين.
ويرى أن السياسات الاقتصادية الخاطئة، جعلت الأرض أكثر سهولة في البيع والشراء والإيجار، كما أصبحت المضاربة في العقارات أمرا شائعا، ما ولّد اختلافات مكانية صارخة في المدينة التي انقسمت بين مجمعات سكنية حديثة ذات أسوار مغلقة ومجمعات قديمة وعشوائية.
المدينة وتأثيرات العولمةالكتاب يعد الجزء الثاني للموسوعة الضخمة "القاهرة المدينة العالمية" ويوضح في كل فصوله أن ثمة حربا بين السلطة وفئات مختلفة من أبناء الشعب المصري.
ويكشف الكتاب تأثيرات العولمة على المدينة العملاقة، وكيف تتفاعل معها وأثر تدفق العمالة ورأس المال والمعلومات في إعادة تشكيل حدود المدينة وبنيتها الاقتصادية، والمشهد الحضري لسياساتها وشكلها المادي.
ويطرح مزيدا من الأسئلة عما يحدث للمدينة التي احتلتها "الليبرالية الجديدة" ودورها في تقليص الخدمات العامة وتشجيع خصخصة السلع، وكيف يكافح القاهريون بيئة بيروقراطية معقدة، حيث الشرعية ميزة في متناول القلة المقربة من السلطة، في حين أن الغالبية العظمى لا يمكنها تحمل آثار مثل هذه السياسات، بينما الحكومة ماضية بدأب في عملية تحويل مستمرة للأماكن العامة والأسواق تحت مزاعم النمو والأمن والحداثة؟
ويتناول الكتاب -ضمن دراسته للعاصمة المصرية- موقع مؤسسة الأزهر ورسالة المؤسسة العريقة التي اعتبرها محط تجاذب بين الدور الرسالي الذي ينهض به، ورغبة السلطة الدائمة في الاستحواذ عليه وقد جرت محاولات للسيطرة عليه وجعل خطابه في خدمة السلطة منذ تولي "الضباط الأحرار" السلطة على مصر.
هذه المحاولات جاءت بعكس أزمان ماضية حيث وصف المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي (1754 – 1882م) علماء الأزهر بوصفهم أصحاب مهام اجتماعية واسعة، بالرغم من تدهورهم الفكري في نهاية القرن الثامن عشر، مشيرا إلى أن سلطة العلماء ضعفت حال شراكتهم للحاكم.
حرب "الترك" والإهمالوطفت مشكلة الأحياء العشوائية التي تحيط بالقاهرة من جهاتها الأربع، وتمثل قنبلة موقوتة مستعدة للانفجار في أي وقت، انشغل بها الخطاب الإعلامي وتم رمي سكانها بالعديد من الصفات السلبية، لأنهم قاموا بالاعتماد على أنفسهم وحل مشكلتهم ومشكلة الإسكان والمرافق العامة بالموارد المحدودة بعد أن تخلت الدولة عن دورها في ذلك.
بدا أن الجميع استحل دماء المدينة العجوز، حين يجهز السكان الوافدون عليها بتمزيق رقعتها الزراعية بتقسيم الأراضي والبناء عليها، فيما الدولة المصرية تخلت عن عقدها الاجتماعي، ودورها المنوط بها في حماية السلة الزراعية اللازمة لإطعام الملايين في القاهرة.
وتوصلت دراسة للبنك الدولي إلى أن 81% من التجمعات السكنية غير الرسمية كانت مشيدة على أراض زراعية، نسبة 10% فقط مشيدة على أراض صحراوية، وقدرت خسائر الأراضي منذ عام 1982 وحتى عام 2004 بما يقرب من 1.2 مليون فدان، وأن حجم السكان في المناطق العشوائية بلغ 65% من سكان القاهرة الكبرى ( 10.5 ملايين ساكن من إجمالي 16.2 مليون ساكن).
ويعتبر الكتاب أن سكان المناطق العشوائية كان يتم تجاهلهم، ويتركون وشأنهم، حتى ظهور تمرد حركات إسلامية عنيفة، ويتتبع الكتاب جذور ونشأة "الجماعة الإسلامية" في منطقة عشوائية بحي إمبابة في تسعينيات القرن الماضي.
ويتناول أيضا الطرق الصوفية "التي لا تهتم بالسياسة وأمورها"، ويرسم صورة حية ومشوقة لاحتفالات مولد السيدة نفيسة، حيث يتقابل نوعان مختلفان تماما من أنماط الاحتفال في المولد، إذ تهيمن الدولة على وسط الميدان بطريقة متزايدة، بينما تهيمن الطبقات الشعبية على الشوارع الجانبية للاحتفال.
سردية تحولات المدينةوعلى مسار آخر يروي فصل آخر من الكتاب، كيف تعامل السرد الأدبي مع القاهرة كمدينة تجمع المتناقضات المتفجرة، وكيف تحول فن الرواية من (عالم الحارة) المحفوظية التقليدية إلى (عالم العمارة) الجديدة بهيكلها الاجتماعي الذي يبدو منغلقا على ذاته.
ويقدم الكتاب تشريحا معماريا لأربع من الروايات الواقعية التي تمثل فترات تاريخية متنوعة خلال النصف الثاني من القرن العشرين، في باب بعنوان "من الحارة إلى العمارة"، وتمنحنا القراءة المتأنية لهذه الأعمال مقارنة واضحة بالعديد من التغيرات التي حدثت في نسيج القاهرة الحضري في النصف الثاني من القرن العشرين.
كما اظهرت الروايات بعض الأنماط المكانية والاجتماعية الجديدة للاستقطاب داخل المدينة العملاقة من خلال دراسة نقدية لتلك الروايات، وهي "ذات" 1992، للكاتب صنع الله إبراهيم، و"لصوص متقاعدون" 2002 لحمدي أبوجليل، و"عمارة يعقوبيان" 2004 لعلاء الأسواني، و"جريمة قتل في برج السعادة" 2003 لمحمد توفيق.
تأخذنا الروايات الأربع في رحلة نحو أطراف أنحاء القاهرة، وتشير الصورة الأدبية للعمارة في الروايات المختارة "ليس للتحولات التي تطرأ على المجتمعات الحاضرة فيها وحسب، ولكنها تتوافق بشكل مدهش مع الأماكن التي يشغلها كل واحد من هؤلاء الكُتاب في داخل هذه المدينة.. وفي هذا النهج، فإنهم يعيدون بناءها من خلال المواقف السياسية والعقائدية الخاصة بهم بوصفهم مهندسي البناء الأدبي للمدينة".
وتقع محاولة الدولة لإزالة سوق روض الفرج العتيق في يونيو/حزيران عام 1994، بعد أن بقي رابضا بوسط القاهرة لأكثر من نصف قرن، دون إجراء دراسات كافية أو استطلاع آراء تجار الجملة والتجزئة، أو حتى معرفة مدى تأثير هذا الإجراء على أسعار الخضر والفواكه في العاصمة، وما جرى خلاله من صدامات بين الدولة والتجار نتج عنه اعتقال المئات وجرح العشرات من العمال والأهالي.
ولا يتركنا الكتاب إلا ويعرض لنا بحثا شيقا عن بداية تأثير الميول السياسية على الأنماط الاستهلاكية في مصر بوجه خاص وفي العالم العربي بوجه عام، ومحاولات المواطنين في أن يكون لهم تأثير على القرارات السياسية المتحيزة لحكام الولايات بوجه خاص والغرب بوجه عام، والإشارة إلى المقاطعة في سياقها المحلي كنوع من النزعة الاستهلاكية السياسية التي تطورت في مصر وتأطيرها داخل المشاعر المناهضة للعولمة والحركات المناهضة للحروب في مطلع الألفية الجديدة.
تبدلات في المزاجوعن مدى تطور الوعي الديني لدى المصريين، يوضح أحد فصول الكتاب، أن تغيرا واضحا قد حدث في المزاج والخطاب الفكري في مصر، مع نشأة ما يسمى بالدعاة الجدد في المنطقة منذ سنوات السبعينيات من القرن الماضي، وتأثير تقنيات الاتصالات الجديدة، وكيف خلقت منابر متنوعة لعدد كبير من الدعاة، مع التركيز على دراسة حالة شديدة الظهور من خلال ميلاد وصعود الداعية المصري عمرو خالد.
ولأن القاهرة وحدها تحتضن ملايين اللاجئين، فقد تمت دراسة واضحة عن فئتين فقط من اللاجئين الأفارقة، وتتبع أحوالهم، مع رصد صراعات الشتات في القاهرة، والتي يعتبرها الأفارقة عاصمة القارة بأسرها، يركز البحث على عينات من أسر اللاجئين السودانيين والصوماليين الذين يشكلون النسبة الأكبر من اللاجئين في القاهرة.
وانتهت الدراسات إلى أنه على الرغم من الصعوبات التي يواجهها اللاجئون حتى يصلوا إلى القاهرة، فإن نسبة كبيرة منهم بعد أن تنجح في الهجرة إلى الغرب وتكوين ثروة تستطيع أن تعيش بها، تعود مرة أخرى للاستقرار في القاهرة، لأنهم يرونها أفضل من العيش في الغرب.
وهكذا تستمر الحرب الصامتة من أجل تدجين مؤسسات وأفراد المدينة العتيقة، في المقابل كان الإهمال هو نصيب المدينة العجوز التي تآمرت عليها قوى الفساد والانتهازية، وتكالبت عليها كل أمراض البيروقراطية والفساد حتى حولتها لمدينة متعبة وحزينة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات فی القاهرة من القرن إلى أن
إقرأ أيضاً:
إكسبوجر 2025.. كيف أعاد المهرجان سردية التصوير في العالم؟
في أجواء مليئة بالإلهام والتفاؤل، استضاف مهرجان التصوير الدولي «إكسبوجر 2025»، المقام حاليا في دولة الإمارات الشقيقة والذي ينظمه المكتب الإعلامي لحكومة الشارقة، مجموعة من أبرز المصورين والمبدعين العالميين، ليعيد سردية التصوير الفوتوجرافي بينما احتضن المصورين الذين حوّلوا عدساتهم إلى أدوات لتوثيق الجمال، وإيصال رسائل إنقاذ الكوكب، وإبراز القضايا الإنسانية من بين هؤلاء، برز اسم المصور البيئي فرانك جازولا، الذي ألقى خطابًا ملهمًا خلال المهرجان، كاشفًا عن رحلته التي بدأت كمغامرة تحت الماء وانتهت برسالة عالمية لحماية البيئة.
فرانك جازولا: من المغامرة إلى الرسالةلم يكن فرانك جازولا مجرد مصور مغامر، بل كان رجلاً استجاب لنداء البحر منذ أكثر من عشر سنوات، وغاص في أعماقه ليصبح واحدًا من أبرز المصورين البيئيين الذين كرسوا حياتهم لتوثيق الجمال الهش تحت الماء، والتحذير من المخاطر التي تهدده و خلال جلسة ملهمة في «إكسبوجر 2025»، استعاد جازولا لحظة التحول الأولى في مسيرته، قائلاً: «كان لقاءً عابرًا مع مصور شهير، أعلنت أمامه عن رغبتي بأن أصبح مصورًا مهمًا» تلك الدعوة قادته إلى مشروع استكشاف في غرينلاند، غيرت مجرى حياته إلى الأبد.منذ ذلك الحين، أصبح اللون الأزرق رفيق جازولا الدائم.
يقول: «هذا اللون يحيطني، ويسكنني، ويدفعني لمواصلة التوثيق، ليس فقط لحياة المحيطات، بل أيضًا للآثار التي يتركها الإنسان عليها بسبب السياسات البيئية غير الرشيدة». وهكذا، تحول شغفه بالمغامرة إلى مهمة أعمق: الدفاع عن الكوكب عبر عدسة تكشف للعالم ما يجري تحت سطح الماء.لم يقتصر دور جازولا على التصوير، بل أصبح محاضرًا في مجال حماية البيئة البحرية، مسلطًا الضوء على تدهور الشعاب المرجانية، والتلوث الناجم عن البلاستيك، والتغير المناخي.
لكن هذا الشغف لم يكن بلا ثمن تحدث جازولا عن تجربته الأكثر تحديًا: «مكثت شهرًا في القطب الشمالي، أمارس الغطس في المياه المتجمدة.كان ذلك شاقًا للغاية، لكنني لم أتمكن من التوقف، لأنني أحب ما أفعله».
«الأمل العميق»: مشروع لإنقاذ الشعاب المرجانيةفي مسيرته الممتدة، جاءت لحظة فارقة حين نشرت مجلة «ناشيونال جيوغرافيك» أول صورة التقطها جازولا يقول: «كانت نقطة تحول كبرى، أعطتني الأمل في تنفيذ مشروعات بيئية ضخمة» ومن بين هذه المشروعات، أطلق جازولا مشروع «الأمل العميق»، الذي يهدف إلى دراسة الشعاب المرجانية. خلال هذا المشروع، غاص مع فريقه حتى 80 مترًا تحت سطح الماء، وواجهوا خطر هجوم الكائنات البحرية، لكنه يؤمن أن مواجهة المخاطر جزء لا يتجزأ من المهنة، ما دام الهدف هو حماية البيئة البحرية.
«الطريق إلى إكسبوجر»: معرض يعيد تعريف السرد الفوتوغرافيضمن فعاليات «إكسبوجر 2025»، برز معرض «الطريق إلى إكسبوجر»، الذي ينظمه اتحاد المصورين العرب، كواحد من أبرز المحطات البصرية التي تعيد تعريف مفهوم السرد الفوتوغرافي. يجمع المعرض بين التراث والتكنولوجيا والروح الإنسانية، ويقدم شهادة حية على الإبداع العربي.في المعرض، تتنوع الأعمال بين توثيق المعالم الأثرية، واللقطات الرياضية، والمشاهد الطبيعية التي تجسد تفرّد البيئة العربية والعالمية من القدس، تروي عدسة عبد الله خضر قصة «قبة الصخرة» بكل تفاصيلها، بينما يقدم عمار السيد أحمد صورة «ريش الطاووس»، التي تعكس ألوان الحياة وتنوعها الساحر
محمد أمين: عدسة أنقذت ملايين الأرواحفي زاوية أخرى من المهرجان، تبرز قصة المصور الكيني محمد أمين، الذي حوّل صوره إلى نداء عالمي لإنقاذ ملايين الأرواح. في منتصف الثمانينيات، وثّق أمين المجاعة التي ضربت شمال إثيوبيا، حيث أزهقت أرواح مليون إنسان. صوره التي انتشرت في وسائل الإعلام العالمية، دفعت العالم إلى التحرك في أكبر حملة إغاثة إنسانية في التاريخ.في «إكسبوجر 2025»، تُعرض صور أمين ليس فقط كتوثيق للتاريخ، بل كتذكير بقدرة الصورة على تغيير الواقع.
يقول أمين: «الصورة ليست مجرد مشهد، بل هي رسالة تنقل الحقيقة وتلامس القلوب».
الابتكار والتكنولوجيا: مستقبل السرد البصريخلال المهرجان، أكد خبراء على أهمية الابتكار والتكنولوجيا في تطوير السرد القصصي البصري. في جلسة بعنوان «تطور سرد القصص: الماضي - الحاضر - المستقبل»، تحدث المخرج جلين جينور عن دور الابتكار في صناعة السينما، مؤكدًا أن «الابتكار هو مفتاح النجاح في هذا المجال».
من جهته، أشار ترافون فري إلى أن الإمارات أصبحت مركزًا ملهمًا لصناع الأفلام الشباب، مؤكدًا أن التكنولوجيا الحديثة، مثل الهواتف الذكية، أتاحت للجميع فرصة سرد قصصهم بطرق مبتكرة.
«باكاشيميكا»: سرد القصص البصرية في إفريقيافي جلسة أخرى، سلط المهرجان الضوء على مهرجان «باكاشيميكا» الدولي للتصوير الفوتوغرافي، الذي يحتفي بالمجتمع الفوتوغرافي المزدهر في زامبيا وجنوب إفريقيا. تحدث المؤسسون عن أهداف المهرجان، الذي يسعى إلى دعم التعليم الإبداعي والبحث التصويري في المنطقة، وتعزيز ثقافة التصوير كأداة للتعبير الفني.
آنا جوسين: السرد البصري كقوة دافعة للتغييراختتمت فعاليات «إكسبوجر 2025» اليوم بجلسة للمصورة الفنزويلية آنا ماريا أريفالو جوسين، التي حثت المشاركين على استخدام السرد البصري كأداة للتغيير الاجتماعي و قالت جوسين: «الصورة يمكن أن تكون قوة دافعة للتغيير الإيجابي، إذا ما تم استخدامها بوعي وإبداع».