عقد مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية  CSISبواشنطن، جلسة حوارية عنوانها "الاستراتيجية الدفاعية الأمريكية في الشرق الأوسط". ويستمد الحوار أهميته من أهمية الموضوع وأهمية ضيفة الحوار "دانا سترول"، فقد كانت النائبة السابقة لمساعد وزير الدفاع لشئون الشرق الأوسط، وتعمل حاليا مديرة الأبحاث في مركز واشنطن لسياسة الشرق الأدني.

وأدار الحوار "جون ألترمان" النائب الأول لرئيس كرسي زبيغنيو بريجنسكي للأمن العالمي والجيوستراتيجية، ومدير برنامج الشرق الأوسط بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية. وشارك في إدارته أيضا "ناتاشا هول" و"ليا هيكرت" الزميلتان في برنامج الشرق الأوسط بالمركز. ونقدم في هذا المقال عرضا موجزا وافيا لما دار في هذه الجلسة الحوارية المهمة:

موقع الشرق الأوسط في الاستراتيجية الأمريكية قبل حرب غزة

قامت استراتيجية الأمن القومي الأمريكية، وخصوصا في إدارة بايدن، على أساس أن الصين هي المنافس الاستراتيجي الرئيسي للولايات المتحدة، ثم تأتي روسيا في المرتبة الثانية. وقد تراجعت أولوية الشرق الأوسط في هذه الاستراتيجية، حيث ركزت الولايات المتحدة على اتباع الوسائل الدبلوماسية لا العسكرية لتخفيف حدة الصراعات وإنهائها. وكذلك الاستثمار في الاستجابات الإنسانية للمدنيين المحتاجين في دول مثل اليمن وسوريا وأماكن أخرى.

أساس هذه الاستراتيجية هو أن الطريق إلى الاستقرار والأمن في الشرق الأوسط يكون من خلال التكامل بين شركاء وحلفاء أمريكا في المنطقة. وقامت على سياسة الردع المتكامل، بما في ذلك قيام الحلفاء والشركاء باستثمارات معينة تفيد أمن الجميع، بما يعني:

ـ استثمارات ذات مصداقية في أسلحة جيوش الحلفاء والشركاء.
ـ التدريبات العسكرية وتبادل المعلومات.
ـ التنسيق في المجالات الاقتصادية والدبلوماسية.
ـ التعاون في الفضاء المعلوماتي.
ـ بناء تحالفات بين دول المنطقة لمواجهة التهديدات الأمنية.
ـ عدم التورط العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط.

حرب غزة وتغيير الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط

إذن، فقد تراجع الشرق الأوسط في سلم أولويات استراتيجية الأمن القومي. لكن كل ذلك قد تغير إثر اندلاع حرب السابع من أكتوبر تشرين الأول 2023 بين حماس وإسرائيل، فقد تحول التركيز على الشرق الأوسط، وتغيرت أفضل الخطط الموضوعة:

كان طوفان الأقصى، ولازال، بمثابة تسونامي سياسي واستراتيجي، وستكون له آثاره وتوابعه الزلزالية على مصير القضية الفلسطينية ومستقبل المنطقة. كما سيكون أيضا أحد العوامل المؤثرة في هذه المرحلة الانتقالية من عمر العالم الذي يشهد تغيرات واسعة المدى في تشكيل القوى الإقليمية والدولية، وتعرية النظم والولاءات والتحالفات.ـ أصبح مجلس الأمن القومي الأمريكي يجتمع بصفة شبه يومية، بعد أن كانىت اجتماعاته المتعلقة بالشرق الأوسط في عام 2022 لا تزيد عن اجتماع واحد أو اجتماعين شهريا قبل الحرب.

ـ تم استخدام العضلات الدبلوماسية.

ـ زاد التواجد العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط، وتدفقت المعدات العسكرية الأمريكية على إسرائيل.

 ـ عملت أمريكا على منع توسع الصراع إلى حرب إقليمية شاملة. وسعت إلى زيادة الاتصالات بين الجيوش الشريكة في المنطقة، بما في ذلك إسرائيل، التي هي الآن جزء من القيادة المركزية للولايات المتحدة (CENTCOM).

ـ الاستثمار في أنواع المعدات التي يمكنها القيام بالدفاع الجوي المشترك، وإنشاء شبكة للإنذار المبكر وتبادل المعلومات الاستخبارية. 

ـ تفعيل ما يعرف القوات البحرية المشتركة (CMF) التي تضم العشرات من الدول، ليس فقط من الشرق الأوسط، ولكن من جميع أنحاء العالم.

جاءت كل هذه الإجراءات الأمريكية في إطار الردع المتكامل ومفهوم الأمن الأوسع الذي يتجاوز الحدود الإقليمية لكل دولة بالمنطقة لمواجهة أكثر التحديات الأمنية إلحاحا في الشرق الأوسط وخصوصا المسيرات الإيرانية الهجومية والانتحارية القاتلة. ولا يزال التنسيق العسكري والاستخباراتي مرنا للغاية بين الولايات المتحدة وشركائها في الشرق الأوسط بما فيهم إسرائيل، هذا على الرغم من الغضب الحقيقي في العالم العربي على إسرائيل بسبب سلوكها في هذه الحرب. ومن الواضح أن أحد التحديات المحركة في هذه اللحظة من الزمن أن حلفاء وشركاء الولايات المتحدة يرون أنها دعمت إسرائيل إلى مستوى غير مقبول من الخسائر في صفوف المدنيين في غزة وساهمت في الأزمة الإنسانية الرهيبة في غزة. ونظرا لأن الحوثيين وغيرهم من الجماعات المدعومة من إيران يلفون أنفسهم بعباءة الدفاع عن القضية الفلسطينية، فقد دفع ذلك بعض شركاء الولايات المتحدة إلى وضع مسافة علنية بينهم فقد دفع ذلك بعض شركائنا إلى السعي إلى وضع مسافة علنية بين عواصمهم والولايات المتحدة.

لا أحد يستطيع القول بأنه يمكنه مواجهة إيران ووكلائها بدون الولايات المتحدة. هناك إحباط وتوتر كبيران لدى شركاء الولايات المتحدة. لكن لا أحد يشكك في القيمة المضافة للمساهمات العسكرية والبلوماسية الأمريكية، وما يمكن أن تقدمه الولايات المتحدة من موارد ووسائل لمعالجة الأزمات الخطيرة التي تعصف بالمنطقة اليوم.

شركاء أمريكا لا يثقون بها

إحدى الشكاوى الأكثر شيوعا لدى شركاء الولايات المتحدة في المنطقة هي أنه لا يمكن الوثوق بها أو الاعتماد عليها لأن سياستها تتغير كثيرا بناء على من هو في البيت الأبيض. وهذه شكوى منطقية لأنه من المؤكد أن هناك تقلبات وخلافات كثيرة جدا، حول العديد من أهداف السياسة العامة وما اعتبرته الإدارات المختلفة إنجازات لها.  وكأن شركاء أمريكا يقولون: نحن لا نحب الديمقراطية، لأنه كل أربع إلى ثماني سنوات، تتغير الإدارة الأمريكية، ونضطر إلى التعود على فريق جديد وسياسات جديدة وفهم اللاعبين الجدد".

هل لتغيير الإدارات أثر على الاهتمام الأمريكي بالشرق الأوسط؟

على الرغم من تخوفات الشركاء والحلفاء في الشرق الأوسط، فإن السياسات الأمريكية تجاه الشرق الأوسط تتميز بالثبات على اختلاف الشخصيات والإدارات وأساليب القيادة والأولويات:

ـ حافظ كل رئيس أمريكي على الوجود العسكري الأمريكي الكبير إلى حد ما في الشرق الأوسط.

ـ لم يغلق أي رئيس أمريكي القواعد الجوية الأمريكية المهمة جدا في الشرق الأوسط.

ـ لم يوقف أي رئيس المساعدات العسكرية والاقتصادية الأمريكية التي تذهب إلى الشرق الأوسط. وأكبر المستفيدين منها على مستوى العالم هم جميعا في الشرق الأوسط، باستثناء العامين الماضيين إذ كانت أوكرانيا هي المستفيد الأكبر.

ـ أفضل سفراء الولايات المتحدة، والمعدات العسكرية الأكثر تطورا، والموارد الأمريكية، والاستثمار في البشر، تذهب إلى الشرق الأوسط.

يركز الكثير من الشركاء والحلفاء على الخطاب الصادر إما من الكونجرس والبيت الأبيض، ومع ذلك فقد ظلت الاستثمارات الأمريكية والمساعدات في كافة المجالات ثابتة نسبية. لذا، يتعين على هؤلاء الشركاء التعود التعود على فكرة أن أمريكا تتغير كل أربع إلى ثماني سنوات ، وأن الديمقراطيات والأعضاء المنتخبين في الحكومة الأمريكية وفي الكونجرس الأمريكي يستجيبون للناخبين الأمريكيين الذين ليهم وجهات نظر حول كيفية استخدام الموارد الأمريكية الثمينة، وهذا يختلف عن نظام الحكم غير الديمقراطي.

هل أثرت حرب أوكرانيا على الاهتمام الأمريكي بالشرق الأوسط؟

لن يعود الشرق الأوسط أبدا كما كان قبل 7 أكتوبر على الرغم من حجم التأمر الدولي والإقليمي، وحجم التضحيات التي يقدمها الشعب الفلسطيني في القطاع الصامد.
في عام 2022، ومع اندلاع حرب أوكرانيا، تخوف البعض من أن الانشغال الأمريكي  قد يؤدي إلى تفكك الشراكات الأمريكية في الشرق الأوسط؛ لكن المسئولون في واشنطن على مستوى الإدارة والكونجرس يعملون على التمسك بألا تؤثر الحرب على اهتمام أمريكا بشركائها في الشرق الأوسط. لقد رأت الإدارة الأمريكية أن إذا لم يتم وقف العدوان الروسي على أوكرانيا، فمن المؤكد أنه سيشجع خصوم أمريكا في المسارح الأخرى التي قد تعتقد أن العالم لن يحشد الإرادة السياسية والموارد العسكرية والاقتصادية في مسرح آخر إذا سعى أحد هؤلاء الخصوم إلى استخدام القوة لإعادة تشكيل الحدود. ومن الواضح أن أن هؤلاء الخصوم هم الصين في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وإيران في الشرق الأوسط. من وجهة نظر واشنطن العاصمة، أن شركائها في الشرق الأوسط سيقررون بالتأكيد الوقوف إلى جانب واشنطن، لأن النظام الدولي الحالي بما يقوم عليه من قواعد يفيد هؤلاء الشركاء، ولذا يجب عليهم دعم النظام الدولي الحالي، خصوصا وأن هناك محور ناشئ من التعاون والتنسيق بين الروس والإيرانيين والصينيين والكوريين الشماليين يتحدى طبيعة النظام العالمي القائم حاليا والذي استفاد منه الغرب وشركاؤه في المنطقة.

الشركاء وطريقة تعامل الولايات المتحدة مع حرب غزة

هناك من شركاء الولايات المتحدة من يتصور أن إسرائيل تستخدم الأسلحة الأمريكية لتدمير البنية التحتية في غزة لقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين، مع عدم الاكتراث بمعاناة المدنيين. وهناك تقييمات أكثر إثارة للجدل حول ما يفعله الإسرائيليون بدعم أمريكي مستمر، وأنه عندما يتم الحديث عن نظام قائم على القواعد، هناك نفاق عميق من الجانب الأمريكي لقوله: "النظام القائم على القواعد ينطبق على الطريقة التي تدير بها روسيا الحرب، لكنه لا ينطبق على الطريقة التي تدير بها إسرائيل الحرب". لكن السبيل لمعالجة ذلك لا يتمثل في كسر الشراكة أو وقف كل الدعم العسكري لذلك الشريك. ومما لا شك فيه أنه ينبغي أن يكون هناك قلق بشأن الخسائر في صفوف المدنيين والخسائر الإنسانية. لكن ما لا يقوله الشركاء علنا، وما هم على استعداد للحديث عنه سرا، هو أنهم يريدون تفكيك حماس.

مفهوم النصر في غزة وهل يمكن تحقيقه؟

لقد تغيرت طريقة تفكير الولايات المتحدة في النصر. فقد اعتقدت من قبل أنها ستحقق نصرا نظيفا في حربها في العراق وأفغانستان في بداية هذا القرن. وهي تنظر الآن إلى إسرائيل كحليف وثيق يجب أن تحقق النصر في حرب غزة، لأن ذلك النصر ضروري لبقاء الولايات المتحدة.  وهذا ما عبر  عنه وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن في منتدى ريجان للأمن القومي في كانون الأول/ديسمبر الماضي، عندما تحدث عن تركيز إسرائيل على النصر التكتيكي بينما تخسر الحرب الاستراتيجية. وما كان يقصده بذلك هو أنه يجب إعادة تصور شكل النصر. فما تعلمته الولايات المتحدة من حروبها في العراق وأفغانستان هو أنه لا يوجد نصر "عسكري فقط". وإذا لم يتم الاهتمام باحتياجات السكان مع التخطيط لما يحدث فور انتهاء القتال، والتخطيط كذلك لإعادة الإعمار قبل إزالة الأنقاض، فإن النصر سيكون في خطر مطلق.

يدور الكثير من الحديث مع إسرائيل الآن حول ما هو ضروري أو كاف عسكريا حتى لا تتمكن حماس من العودة إلى السيطرة على غزة. ولكن إذا لم يعطوا الأولوية لاحتياجات المدنيين في غزة، فلن يتم ضمان أمن إسرائيل أبدا. وهذا هو أحد الدروس الصعبة التي تعلمتها أمريكا من حروبها. ولذلك، فإن الفكرة التي يرددها الكثير من الإسرائيليين هي أنهم يريدون التركيز فقط على إضعاف حماس ليس من شأنه أبدا أن يوفر الأمن لإسرائيل.

صدمة 7 أكتوبر وكيفية التعامل معها

قبل 7 أكتوبر تشرين الأول، كان أكثر الإسرائيليين يقولون إنهم في صراع مع الفلسطينيين منذ قرن، وكان لدى الأمريكيين والإسرائيليين أنه يتعين إدارة العداء الفلسطيني الدائم والتأكد من أنهم لن يكون لديهم القدرة على تحدي إسرائيل. لكن في عالم ما بعد 7 أكتوبر، فإن بايدن قد تحدث في خطاب الاتحاد على أنه إذا لم تعالج العوامل طويلة الأجل التي تساهم في عدم الاستقرار الدائم في الضفة الغربية أو غزة، فلن تتمتع إسرائيل أو الإسرائيليون بالأمن. يجب أن تكون هناك تغييرات في سياسات الحكومة في القدس التي تخدم أمنهم إسرائيل. ويتمثل ذلك في:

ـ بالنسبة لغزة: معالجة الحالة الإنسانية في غزة، والبدء في التخطيط لما يبدو عليه "اليوم التالي" فيها لأنه لا يمكن تركه على ما هو عليه.

ـ أما الضفة الغربية: فيجب إيلاء الاهتمام لمعالجة الاقتصاد، ومعالجة انعدام الأمل لدى الشباب الفلسطيني في الضفة الغربية، واقتصادهم الذي وصل إلى طريق مسدود.

على الجميع أن يعترف بصدمة 7 أكتوبر. ويجب أن يوضع في الاعتبار أن الاعتراف الفوري بدولة فلسطينية في غياب إصلاح السلطة الفلسطينية ومكافحة الفساد ونزع سلاح الدولة الفسطينية وكل هذه القضايا ـ لن تجعل الإسرائيليين يشعرون بالأمان. هناك تنوع في وجهات النظر لدى الإسرائيليين، وهناك اعتراف بأن عدم الاستقرار الدائم، والضغط الاقتصادي، وانعدام الفرص، وعدم الثقة في الحكومة في رام الله لا يخدم في الواقع المصالح الأمنية الإسرائيلية. لذا، فالأمر يحتاج إلى التفكير في كيفية توصيل ما هو جيد لأمن إسرائيل. فالوضع الراهن أو العودة إلى الوضع السابق لن يكون جيدا لأمنها. كما أن الظروف مهيأة لمزيد من العنف في الضفة الغربية أو غزة. وهذا لا يصنع الاستقرار على المدى الطويل.

التعليق

كان طوفان الأقصى، ولازال، بمثابة تسونامي سياسي واستراتيجي، وستكون له آثاره وتوابعه الزلزالية على مصير القضية الفلسطينية ومستقبل المنطقة. كما سيكون أيضا أحد العوامل المؤثرة في هذه المرحلة الانتقالية من عمر العالم الذي يشهد تغيرات واسعة المدى في تشكيل القوى الإقليمية والدولية، وتعرية النظم والولاءات والتحالفات. ولن يعود الشرق الأوسط أبدا كما كان قبل 7 أكتوبر على الرغم من حجم التأمر الدولي والإقليمي، وحجم التضحيات التي يقدمها الشعب الفلسطيني في القطاع الصامد.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب حرب غزة الفلسطينية امريكا احتلال فلسطين غزة حرب كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة شرکاء الولایات المتحدة الشرق الأوسط فی فی الشرق الأوسط الضفة الغربیة الأمریکیة فی على الرغم من فی المنطقة حرب غزة فی غزة إذا لم فی هذه

إقرأ أيضاً:

قرية الغجر: كيف أشعل خط على الخريطة نيران الصراع في الشرق الأوسط؟

نشرت مجلة "نيو لاينز" تقريرًا يسلط الضوء على قضية قرية الغجر، التي تقع عند الحدود بين سوريا ولبنان وفلسطين المحتلة، والتي أصبحت ضحية لخطأ خرائطي استعماري أدى إلى تقسيمها، موضحًا أن جذور المشكلة تعود إلى خط الحدود المعروف بـ"الخط الأزرق"، الذي رسمته الأمم المتحدة عام 2000 لتحديد انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان.

وقالت المجلة، في هذا التقرير الذي ترجمته "عربي21"،  إن اتفاق وقف إطلاق النار الذي بدأ في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي أدى  إلى حالة من الهدوء الهش على الحدود بين لبنان و"إسرائيل".

ووفقًا لمذكرة تفاهم نشرتها الولايات المتحدة وفرنسا، ستقوم الولايات المتحدة، بالشراكة مع الأمم المتحدة، بتسهيل المحادثات غير المباشرة بين البلدين لحل النقاط المتنازع عليها على طول ما يسمى بالخط الأزرق، وهو خط رسمه رسامو الخرائط التابعون للأمم المتحدة في أيار/ مايو 2000، إيذانًا بانسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان.



وقد تجاوز عمر هذا الخط الأزرق، الذي زُعم أنه مؤقت، عمر الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان بسبع سنوات الآن، ولا يزال يشكل مصدر توتر سياسي بين "إسرائيل" ولبنان ومصدر قلق هائل لسكان المنطقة الحدودية المتنازع عليها.

وتعد قرية الغجر، وهي قرية يسكنها علويون، وتسيطر عليها "إسرائيل" وتطالب بها كل من لبنان وسوريا، أخطر نقاط الخلاف؛ فقد قسم الخط الأزرق الذي رسمته الأمم المتحدة قرية الغجر إلى قسمين. جزء يقع تحت السيطرة اللبنانية والآخر تحت السيطرة الإسرائيلية، مع كل القيود المفروضة على الحركة التي يمكن للمرء أن يتخيلها في منطقة حدودية بين بلدين في حالة حرب، لقد قسم خط مرسوم على الخريطة العائلات وعطّل حياة القرويين الذين عاشوا كمجتمع متماسك لقرون.

وتجمع القصة الكامنة وراء تقسيم قرية الغجر بين الإرث الاستعماري للشرق الأوسط الحديث، وترسيم الحدود الأخرق، والأخطاء والتلاعبات في رسم الخرائط، والصراعات العربية الداخلية، والصراعات الغربية الإسرائيلية حول الوصول إلى المياه في سياق الجغرافيا السياسية الأوسع في الشرق الأوسط.

وأوضحت المجلة أن قرية الغجر، التي يبلغ عدد سكانها 2,806 نسمة وفقًا لإحصاء سنة 2022، تقع على الضفة الشرقية لنهر الحاصباني، بين سوريا ولبنان و"إسرائيل"، وهي قريبة من المنحدرات الغربية لجبل الشيخ ومنبع نهر الأردن، وقد احتلت "إسرائيل" القرية وبقية هضبة الجولان خلال حرب حزيران/ يونيو 1967.

وفي كانون الأول/ ديسمبر 1981، أقرّ الكنيست قانون مرتفعات الجولان، الذي طبّق القانون الإسرائيلي على المنطقة ومنح الجنسية الإسرائيلية لسكان الغجر؛ حيث يعرّفون أنفسهم بأنهم علويون سوريون ولكنهم مندمجون تمامًا في الحياة السياسية والاقتصادية في "إسرائيل".

ولعدة قرون، كانت الغجر قرية فقيرة ونائية في ولاية دمشق التابعة للإمبراطورية العثمانية، ثم أصبحت قرية سورية خلال فترة الانتداب الفرنسي عندما منحت عصبة الأمم فرنسا حق الوصاية المؤقتة على سوريا بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى.

وقسمت فرنسا المنطقة المعروفة باسم سوريا الكبرى إلى لبنان وسوريا، وفرضت الحكم الفرنسي على البلدين، وكان إنشاء الدولتين تعبيرًا عن منهجية "فرّق تسد" الاستعمارية.

وفي 31 آب/ أغسطس 1920، أصدر هنري غورو، أول مفوض سامٍ فرنسي في سوريا ولبنان، المرسوم 318، معلنًا إنشاء لبنان الكبير منفصلًا عن سوريا. ورغم أن الفرنسيين لم يرسموا حدود هذه الدولة الجديدة بدقة، إلا أنهم استخدموا خريطة فرنسية تعود لسنة 1862، "خريطة لبنان"، لتوضيح نواياهم فيما يتعلق بخطوطها.

على الرغم من أن "خريطة لبنان" كانت خريطة مرسومة بشكل جميل، إلا أنها كانت غير دقيقة وكان مقياس رسمها صغيرًا جدًا بحيث لا يمكن استخدامها لأغراض ترسيم الحدود بشكل احترافي.

ووفقًا لهذه الخريطة، فإن خط الحدود في المنطقة التي تهمنا يتبع مجرى نهر الحاصباني وينحني شرقًا باتجاه جبل الشيخ شمال الغجر، مما يضع القرية داخل سوريا مباشرة، ونظرًا لأن سوريا ولبنان لم يوقعا حتى هذا التاريخ معاهدة رسمية لترسيم الحدود، فإن الخريطة الفرنسية غير الدقيقة المرسومة عام 1862 هي الوثيقة الرسمية الوحيدة التي تُظهر الخطوط العريضة لحدود لبنان كما رسمتها فرنسا.



في سنة 1936؛ أنتج الفرنسيون أخيرًا خريطة أحدث للمنطقة. واستنادًا إلى الخرائط العثمانية لسوريا ولبنان، والتي كانت لا تزال غير مهنية نسبيًا، وُضعت قرية الغجر داخل سوريا بينما تم تحديد نهر الحاصباني كنهر حدودي بين سوريا ولبنان، وفقاً للنوايا الأصلية للفرنسيين في سنة 1920.

وأشارت الصحيفة إلى أن أحداث الحرب العالمية الثانية أدت إلى تفاقم الارتباك في رسم الخرائط، ففي تموز/ يوليو 1941، احتلت قوات الحلفاء بقيادة بريطانيا سوريا ولبنان، التي كانت تحتلها فرنسا الفيشية في ذلك الوقت، حليفة ألمانيا النازية.

وفي سنة 1942، أصدرت السلطات البريطانية خرائط عالية الجودة نسبيًا وواسعة النطاق لسوريا ولبنان، لكنها لم تقم بعمل جيد في نقل البيانات الخرائطية الأساسية من الخريطة الفرنسية لسنة 1936.

لم تحافظ الخريطة البريطانية على الحدود كما ظهرت في خريطتي 1920 و1936، التي تركت الغجر داخل سوريا والحاصباني كخط حدودي، ونتيجة لذلك، تظهر قرية الغجر على خريطة 1942 داخل لبنان بالكامل، بينما وُضع نهر الحاصباني جنوب القرية في سوريا، لأن خط الحدود لم يُرسم داخل مجرى النهر بل غربه. ومع ذلك لم يؤثر الخطأ على أهالي الغجر: فقد ظلت القرية سورية تدار من قبل سوريا كجزء من مرتفعات الجولان، بينما استمر وصول لبنان إلى نهر الحاصباني دون عوائق كما كان قبل وصول القوات البريطانية.

وذكرت المجلة أن الهيمنة البريطانية في إنتاج الخرائط خلال الفترة الاستعمارية، وميل رسامي الخرائط في جميع أنحاء العالم إلى نسخ الحدود من المصادر الموجودة لتوفير تكاليف البحث وتجنب المسؤولية، أديا إلى قيام رسامي الخرائط من جميع أنحاء العالم بنسخ الحدود الخاطئة في خرائطهم.

وتُعرف أوائل الستينيات بأنها سنوات "حروب المياه" بين "إسرائيل" وجيرانها العرب؛ فقد أقامت "إسرائيل" ناقل المياه الوطني لنقل المياه من بحر الجليل إلى صحراء النقب، بينما كانت الدول العربية تبذل جهودًا لتحويل منابع نهر الأردن الموجودة في سوريا ولبنان ومنعها من التدفق إلى بحر الجليل في "إسرائيل"، وكان أحد هذه المنابع هو نهر الحاصباني، ولا سيما رافد الوزاني الموجود غرب الجزء الشمالي من قرية الغجر.

غير أن الأمر الأقل شهرة عن "حروب المياه" هو أنه حتى عندما كانت "إسرائيل" وجيرانها العرب يتصارعون على السيطرة على موارد المياه الإقليمية، كان لبنان وسوريا يحاولان تحديد حقوق استخدام الأنهار الثلاثة التي يتشاركانها: العاصي والكبير والحاصباني.

في هذا السياق، بدأ رسامو الخرائط اللبنانيون سنة 1963 في إعداد سلسلة من الخرائط لأول مرة منذ حصول البلاد على الاستقلال، الأمر الذي كانت له تداعيات مترتبة على قرية الغجر.

وأوضحت المجلة أن رسامي الخرائط اللبنانيين كانوا يعلمون أن القرية كانت تدار من قبل سوريا، لكنهم اختاروا رسم الحدود بما يتوافق مع مصالح لبنان، خاصة فيما يتعلق بالموارد المائية.

ففي الجنوب الغربي من الغجر، أعادوا خط الحدود إلى مجرى نهر الحاصباني كما في الخريطة الفرنسية لسنة 1920، مما جعل نهر الحاصباني نهرًا حدوديًا يمكن الوصول إليه من قبل سوريا ولبنان، ولكن للتأكد من بقاء منابع الوزاني، في لبنان بالكامل، انحرفوا عن الخريطة الفرنسية السابقة.

وبدلاً من الالتفاف حول قرية الغجر شمال القرية وتركها بالكامل في سوريا، رسموا خطًا باتجاه الشمال الشرقي، إلى الجنوب من الينابيع، قاطعين القرية وتاركين النصف الشمالي في لبنان والجنوبي في سوريا، ولأنهم أدركوا أن تقسيم القرية على الخريطة سيؤدي إلى حالة شاذة قد تلفت الانتباه، أطلقوا على النصف الشمالي من القرية اسم "الوزاني"، مما خلق انطباعًا خاطئًا بأنها قرية مختلفة.

ولكن لأن قرية الغجر لم تكن مقسمة فعليًا، استمر سكان القرية في العيش كما كانوا يعيشون دائمًا، ولم يخبرهم أحد أن الخريطة الجديدة أظهرت قريتهم مقسمة إلى نصفين.

وقد قام رسامو الخرائط في جميع أنحاء العالم، استمرارًا لممارسة توفير المال المذكورة أعلاه، بنسخ الخرائط اللبنانية؛ ونسخوا الخط الخاطئ الذي وضعه رسامو الخرائط اللبنانيون في منطقة الغجر، بما في ذلك قرية الوزاني الوهمية، وقد ظهر هذا الخط حتى في الخرائط السورية والإسرائيلية، وفي نهاية المطاف، وجد طريقه إلى خرائط الأمم المتحدة.

لكن سكان القرية بقوا كما كانوا من قبل، في قرية الغجر غير المقسمة، غافلين تمامًا عن حقيقة أن جميع الخرائط، بما في ذلك خرائط "إسرائيل" بعد 1967، التي أظهرت قريتهم الواحدة كقريتين منفصلتين - الغجر والوزاني - مقسمة بالحدود السورية اللبنانية، ولم يتغير واقعهم المعاش إلا في أيار/ مايو 2000، عندما اتخذت "إسرائيل" القرار الأحادي الجانب بإنهاء وجودها العسكري في جنوب لبنان، ورسمت الأمم المتحدة خط الانسحاب.

وذكرت المجلة أن المواد التي قدمها الإسرائيليون إلى رسامي الخرائط التابعين للأمم المتحدة أوضحت أن قرية الغجر كانت جزءًا لا يتجزأ من مرتفعات الجولان السورية حتى حرب حزيران/ يونيو 1967، والتي انتهت بسيطرة "إسرائيل" على المنطقة، لكن فريق الأمم المتحدة قرر الاعتماد بشكل أساسي على خريطته الخاصة التي نسخت الحدود المرسومة من الخريطة اللبنانية لسنة 1963-1964، والتي أظهرت الغجر مقسمة بين سوريا ولبنان.

رفض سكان القرية، الذين صدموا عندما علموا أن مصير قريتهم كان موضع تساؤل، السماح لفريق الأمم المتحدة بدخول قرية الغجر، ولم يتمكن فريق الأمم المتحدة من أن يدرك أن قرية الغجر كانت مجتمعًا واحدًا غير مقسم، وهكذا رسموا الخط عبر الغجر، مما خلق الأزمة الإنسانية والأمنية التي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا.

تُظهر خرائط "غوغل" حاليًا الخط الأزرق الذي يمر عبر القرية، وتكرّس هذا التقسيم الزائف الذي يقسم القرية إلى مجتمعين منفصلين، مجتمع الوزاني الوهمي في الشمال والغجر في الجنوب.

وقال فريق رسم الخرائط التابع للأمم المتحدة إنهم رسموا الخط الأزرق لأغراض عملية، على أن يتم تحديد القرار النهائي بشأن الحدود الدولية باتفاق بين الدول المعنية.



وبعد أن بدأ الاشتباك العسكري بين "إسرائيل" وحزب الله في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، اقترحت الولايات المتحدة الأمريكية إمكانية استخدام اتفاق وقف إطلاق النار لحل النقاط المتبقية المتنازع عليها على طول الخط الأزرق، وربما يؤدي ذلك إلى إبرام معاهدة رسمية للحدود بين لبنان و"إسرائيل".

ختمت المجلة بأن الوقت قد حان لتحرير سكان الغجر من الصدمة المفروضة عليهم وما يترتب عليها من عواقب، ويبقى أن نرى ما إذا كانت الأمم المتحدة التي كرّست أخطاء الآخرين دون أن تدري ستصحح خطأها، ولعلّ إزالة هذه النقطة الخلافية غير الضرورية على طول الحدود الإسرائيلية اللبنانية يحقق بعض العدالة لسكان القرية، ويخفف من مخاوفهم الوجودية ويساعد في تخفيف التوتر الجيوسياسي.

مقالات مشابهة

  • ارتفاع أسعار النفط بفعل بيانات أمريكية وتوتر الشرق الأوسط
  • ارتفاع أسعار النفط بفعل انخفاض المخزونات الأمريكية وتوترات الشرق الأوسط
  • الشرق الأوسط على صفيح ساخن والعالم يترقب: إيران ترفض التصعيد وواشنطن تتوعد- عاجل
  • الشرق الأوسط على صفيح ساخن والعالم يترقب: إيران ترفض التصعيد وواشنطن تتوعد
  • الخارجية الأمريكية: الولايات المتحدة تقف إلى جانب إسرائيل في كل الظروف
  • تركيا: نهج إسرائيل "العدائي" يهدد مستقبل الشرق الأوسط
  • ما هي الممرات المائية التي تسعى أمريكا للسيطرة عليها بالشرق الأوسط؟
  • ترامب: الرئيس الصيني سيزور الولايات المتحدة قريباً
  • الولايات المتحدة: الطبيبة التي تم ترحيلها إلى لبنان لديها صور للتعاطف مع حزب الله
  • قرية الغجر: كيف أشعل خط على الخريطة نيران الصراع في الشرق الأوسط؟