نتفليكس تبرر الإبادة والاحتلال في Testament: The Story of Moses
تاريخ النشر: 29th, April 2024 GMT
متابعة بتجــرد:هناك مشكلة بين الدراما والتاريخ، يمكن أن نراها في المناقشات التي وصلت إلى حدود المشاجرات حول أعمال درامية تاريخية عرضت خلال العام الماضي، من Oppenheimer وNapoleon إلى “الحشاشين” وغيرها.
وسبب هذه المشكلة عادة هو تعامل معظم الناس مع التاريخ، باعتباره علما له أصوله، واعتبارهم أن ما تذكره المصادر التاريخية حقيقة لا لبس فيها، لا ينبغي تشويهها أو التلاعب بها.
ولكن مهما كان صناع الفيلم أو الدراما مخلصين للتاريخ، فإن مجرد تحول القصة التاريخية المجردة، مثل هيكل عظمي، إلى عمل درامي من لحم ودم: حبكة وشخصيات وحوار ودوافع وصراع وممثلين وزاوية كاميرا وحجم لقطة وتكوين وألوان ومونتاج، فإن “الموضوعية التاريخية” تتنحى جانباً، تاركة المجال لوجهة النظر الذاتية، المنحازة، لهذا التاريخ.
بين الديني والدرامي
تزيد الإشكالية حين نتحدث عن النصوص الدينية، التي تحمل، وفقا لأتباع كل دين، “الحق المطلق”، ولا تعترف بالتاريخ أو الجغرافيا أو البيولوجي أو سائر العلوم، إلا بقدر ما تؤكد وتخدم هذا الحق المطلق، ذلك أن الهدف من هذه النصوص ليس المعلومة، بل الدرس الروحي والأخلاقي المستخلص من القصة.
هنا تفعل الدراما شيئاً في غاية الغرابة، هو عكس ما تفعله مع النصوص التاريخية، إذ تحول النص الديني الرمزي الميتافيزيقي إلى “تاريخ”، وتزداد الخطورة خطراً حين تطلب من المشاهدين أن يتعاملوا مع هذا النص باعتباره “تاريخاً” مطلقاً!
المسلسل الأكثر خبثاً
وعلى حد مشاهداتي وعلمي لا يوجد عمل روائي أو وثائقي قام بخلط الأوراق بين الدراما والدين والتاريخ، وتلاعب بهم جميعاً، من أجل أغراض سياسية خبيثة، مثلما فعل هذا العمل المسمى بـ Testament: The Story of Moses أو “العهد: قصة موسى”، الذي أنتجته وتعرضه منصة “نتفليكس” حالياً.
هذا عمل شائه، مشوه، يمثل أسوأ ما يمكن أن يصل إليه “التهجين” الفني، الذي أصبح “موضة” وإتجاها في عصرنا، حيث يختلط الروائي والوثائقي والتحريك وحتى برامج الكاميرا الخفية، بحجة الحرية والتجريب والابتكار، وأحياناً بدافع الخيبة والتشوش، وأحيانا، كما في حالة Testament: The Story of Moses، بهدف التزييف وتبرير السرقة والإبادة والاحتلال.
عادة ما يسبق مثل هذه الأعمال الهجينة، التي تخلط الروائي بالوثائقي، والتاريخي بالدرامي، تنويه أحيانا ما يقصد به تنبيه المشاهد إلى التعامل مع العمل بحذر، وغالباً ما يقصد به التهرب من المسئولية والمراوغة من تبعات خلط الوثائقي بالتخيلي. وهكذا يستهل مسلسل Testament: The Story of Moses حلقاته الثلاثة بالعبارة التالية:
“هذا المسلسل استكشاف درامي لقصة موسى والخروج، مدموجاً بوجهات نظر عدد من علماء دين ومؤرخين من ديانات وثقافات مختلفة، والهدف من مساهمتهم هو إثراء السرد، ولكن لا يجب اعتبارها شيئا عليه إجماع”.
أجندة التعصب
في حوالي 4 ساعات يمزج المسلسل بين الروائي التمثيلي، وآراء عدد ممن يطلق عليهم رجال دين ومؤرخين، المختارين بعناية، ليس وفقا لكفاءتهم، ولكن لخدمة “الأجندة” السياسية والدينية المتعصبة التي يعتمدها المسلسل، مستغلاً قصة النبي موسى، المذكورة في الأديان الإبراهيمية الثلاثة، لا ليشيع نوعاً من الحوار والمحبة المتبادلة أو الدعوة للتعايش، ولكن ليبرر لبني “إسرائيل” كراهية جيرانهم وقتلهم واغتصاب أراضيهم وأموالهم وحياتهم.
يزعم المسلسل أن فرعون الكتب الدينية هو رمسيس الثاني، أعظم ملوك مصر، بالرغم من أنه لا يوجد مصدر “ديني” واحد يشير إلى اسم الفرعون، أو إلى وقائع أو تفاصيل تشير إلى عهد رمسيس الثاني، كما لا يوجد مصدر تاريخي واحد يشير إلى أي وقائع من قصة موسى حدثت في زمن رمسيس، وأبسط شئ، فقد قتل فرعون موسى في البحر الذي انشق ثم انغلق على الفرعون وجيشه، أما رمسيس الثاني فجثته دفنت في وادي الملوك مع بقية عظماء الملوك المصريين، ثم تم نقله إلى مكان أكثر أماناً، وجثته موجودة حالياً في المتحف الكبير.
ولكن كل هذا ليس مهما بالنسبة لهوليوود، واللوبي الصهيوني، الذين يروجون أكذوبة أن رمسيس هو فرعون موسى في أفلام ومسلسلات وروايات وكتب تفيض بالأكاذيب.
يقارن أحد الحاخامات، الذين يستعين بهم المسلسل كشهود عدل، بين رمسيس وهتلر.
المقارنة ليست فقط فاسدة تاريخياً، ولكنها أيضا تلوح بلافتة إضطهاد النازي لليهود، التي تستغل منذ أكثر من 80 عاماً لتبرير الجرائم والمظالم التي ترتكبها الآلة الحربية الصهيونية، وهذا التلاعب الدعائي الفج، من قبل المسلسل وضيفه، هو الذي يذكر بما كانت تفعله الآلة الإعلامية للنازي.
أكاذيب بالجملة
يحفل المسلسل بكثير من هذه الإشارات الخبيثة، اليهود كانوا مستعبدين في مصر لمدة 400 سنة، بالرغم من أن التاريخ والوثائق والصور المصرية لا تذكر شيئاً عن ذلك، وعندما تسأل إحدى شخصيات المسلسل (الخيالية) عن سبب إصرار الفرعون على عدم تحرير بني إسرائيل، يجيبه موسى (المسلسل)، لأن ذلك سيعني تحرير بقية العبيد مثل النوبيين والحثيين.
وهكذا يحاول صناع العمل الإيقاع بين المصريين وبعضهم، ويذكر جنساً آخر اسمه الحثيين، ليس معروفاً من هم، علما بأن الحيثيين، وهم شعب آسيوي تنافس مع الإمبراطورية المصرية على أراض في آسيا، لم يكن لهم وجود في مصر، صحيح أن الكتب الدينية تذكرهم، ولكن قد يكون هذا برهاناً على النظرية التي تقول بأن الأحداث التي تشير إليها التوراة جرت في أرض آسيوية، وليس مصر الحالية، حيث أنه كان للإمبراطورية المصرية امتدادات في جنوب وشمال آسيا.
لا يمانع المسلسل، مثل كثير من الأعمال “التاريخية” التي تصدرها هوليوود و”نتفليكس” مؤخراً، باستخدام مواقف وشخصيات “عصرية” (على طريقة مسلسل Bridgerton، الهزلي عن عمد)، مثل وجود عبيد أفارقة بين بني إسرائيل (ربما لتبرير سردية ما يطلق عليهم الفلاشا الإثيوبيين، الذين أدعت إسرائيل أنهم يهود لتغريهم بالهجرة إليها، والذين ثاروا في 2015 ضد الممارسات العنصرية ضدهم في إسرائيل!).
لا يمانع المسلسل أيضاً من تصوير الطفل موسى وهو يتعرض للتنمر من أصحابه، أبناء النبلاء المصريين، لإنه لا يشبههم، ولا يمانع من تصوير نساء مثل زوجة موسى وأخته وأمه وهن يخطبن في الرجال، أو يتخذن قرارات وأفعال، لم يكن لإمرأة في ذلك العصر أن تتخذها، وإليك مثلا الجملة التي ترد بها أخت موسى عليه حين يتحدث التسامح والحب: “لم يكن الحب ليخرجنا من مصر”. تقول ذلك وهي تمسك بالسكين استعدادا لقتل “الأعداء”.
وهذا نموذج آخر على الترويج للقتل والكراهية اللذين يبثهما العمل، لا يمانع المسلسل أيضاً من تصوير قبلة فرنسية في عرس موسى وزوجته الميدانية، وقصة هذه الزوجة غريبة بعض الشئ، إذ يعني ذلك أن أبناء موسى لديهم دماء مختلطة سامية وحامية (إفريقية)، وهو أمر يحتاج إلى علماء الجينات، كما يدحض فكرة النقاء اليهودي والعداء للسامية.
أسئلة معلقة
النصوص الدينية هي روحية ورمزية بالأساس، وتحويلها إلى قصص روائية أو تاريخية يتسبب في بلبلة وأسئلة لا إجابات منطقية لها، علما بأننا هنا نسائل المسلسل لا النص الديني. ومن الأسئلة التي يثيرها المسلسل، دون أن يجيب عليها، هل اسم “موسى” عبري أم مصري؟ من المعروف أن أميرة فرعونية تبنته وأطلقت عليه هذا الاسم المصري، ولكن ما هو اسمه العبري؟ علما بأن الاسم يعني بالعبري “ابن الماء”. وما هو اسم الأميرة التي تبنته؟ يعتمد المسلسل اسم “بيتيا” (التي تعني بالعبرية ابنة الفرعون أو الرب) المذكور في التوراة، ولكن ما هو اسمها المصري؟ يجب الإشارة أيضا إلى هناك أسماء أخرى لها، وكذلك عدة أسماء لأم موسى اليهودية “الأصلية”، في المراجع الدينية المختلفة. هناك أيضا قصة إصدار الفرعون أوامر بقتل كل أبناء اليهود لتبرير القاء موسى في الماء ووصوله إلى يد الأميرة التي تتبناه، ونجدها تتكرر في تبرير هرب السيدة مريم وزوجها يوسف بالنبي عيسى من بيت لحم إلى مصر.
ولا يوجد أي مرجع تاريخي يقول إن ذلك حدث في زمن الفراعنة أو في عهد الحاكم الروماني هيرودس على فلسطين، كما لا يوجد أي مرجع يشير إلى الضربات العشر أو انشقاق البحر الأحمر، والمشكلة أن هذه القصص التي قد تكون رمزية وروحية أكثر منها حرفية، تضعنا أمام عدد من المشكلات الدرامية في المسلسل، وعندما يحاول صناع العمل حلها، يقعون في مشاكل أكبر.
تعاني دراما المسلسل من خلل في البناء وكثير من الأحداث غير المنطقية، من ضمنها مثلا: يتساءل أحد “الخبراء” الذين يستعين بهم المسلسل كيف يمكن أن تستغرق رحلة بني إسرائيل من سيناء إلى “الأرض الموعودة” أربعين عاما من التيه، في حين أنها لا تستغرق سيرا على الأقدام سوى عشرة أيام؟!
على المستوى الروائي يعاني “العهد: قصة موسى” من ثغرات ونقاط ضعف كثيرة، بجانب التمثيل والإخراج السيئين، أما على المستوى الوثائقي، فثغراته ونقاط ضعفه تصل إلى درجة الجريمة المقصودة!
main 2024-04-29 Bitajarodالمصدر: بتجرد
كلمات دلالية: قصة موسى لا یمانع لا یوجد
إقرأ أيضاً:
إبراهيم عثمان يكتب: نعم .. ولكن
• نعم أعوان الميليشيا السياسيين جرًَموا، بصريح العبارة، التعاون مع الجيش، ولم يجرموا التعاون مع الميليشيا. وجرَّموا مقاومة المواطنين للميليشيا عندما تعتدي عليهم، ولم يجرموا “مقاومة” المتعاونين مع الميليشيا للجيش عندما يهجم على الميليشيا.
• نعم تحدثوا كثيراً عن أذى يصيب المواطنين بشبهة التعاون مع الميليشيا، وامتنعوا تماماً عن الحديث عن أي أذى أصاب المواطنين من الميليشيا بشبهة الانتماء السياسي أو العسكري أو الجهوي أو القبلي.
• نعم ظلوا منذ بداية التمرد يمتنعون تماماً عن الحديث عن الأذى الذي يصيب المواطنين من المتعاونين مع الميليشيا الذين يدلونها على أقصر طرق الأذى، ويشاركونها في إيقاعه بالضحايا الذين يعدون بعشرات الآلاف.
•نعم امتنعوا عن التعليق على فيديوهات الأسرى الذين كانوا على حافة الموت جوعاً وتعذيباً، وامتنعوا عن التعليق على تدمير الميليشيا لمحول كهرباء رئيسي في سد مروي.
• نعم طبيعي، بحكم الزمالة، أن يكون انفعال أعوان الميليشيا السياسيين بأي أذى يصيب زملاءهم المتعاونين في الميدان كبيراً.
• نعم كل حملاتهم الإعلامية تكون جزءاً من حملات الميليشيا ولذات الأهداف، ولا يقومون بحملة ضد الميليشيا، ولا يشتركون في حملة قائمة ضدها.
• نعم أصابهم الخرس يوم تحرير مدني، وكانوا تماماً كالميليشيا، ينتظرون أي أخطاء تعيد لهم النطق، وتخفف عنهم وقع الاحتفالات التي مست كبرياءهم السياسي.
• نعم سعوا بكل الطرق أن تشمل حصانة المدنيين الميليشيا وأعوانها، وتساهلوا في حصانة المدنيين من عدوان الميليشيا.
• نعم لا يملكون، بسبب كل هذا وغيره، أهلية محاضرة الآخرين في رفض التجاوزات.
• لكــــــــــن:
• التجاوزات مدانة، والتشديد على عدم تكرارها، وعلى المحاسبة على ما وقع منها واجب، ويجب ألا يؤثر استهبال هؤلاء المستهبلين على التمسك بهذا المبدأ.
• كما هو متوقع أصدر الجيش بياناً يدين التجاوزات الفردية التي حدثت، ويؤكد على تقيده الصارم بالقانون الدولي، وحرصه على محاسبة كل من يتورط في التجاوزات، وهذا هو المرجو منه.
إبراهيم عثمان
إنضم لقناة النيلين على واتساب