عبقرية شعب.. لماذا أصبح شم النسيم اليوم التالى لعيد القيامة؟
تاريخ النشر: 29th, April 2024 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
(لم يجد المسلمون الأوائل غضاضة فى استمرار الاحتفالات الشعبية بشم النسيم، ولم يروا فيه خروجًا على الدين، فقد كانوا أكثر ثقة فى إيمانهم وانفتاحًا على الحياة. هكذا نضع أيدينا على واحد من تجليات العبقرية المصرية التى تتفاعل مع الطبيعة وتعشقها وتدعم بها إيمانها)
هو عيد مصرى بامتياز، بل لعله العيد القومى الوحيد الذى قاوم تقلبات الزمن وتفاعيل السياسة، وبقى حتى اليوم يحمل سر تفاؤل شعب رغم عنت الأيام، وهو يتصالح مع الطبيعة يخرج إليها يرتاد «الجناين» ومفردها «جنينة»، الاسم المصرى للحديقة، يستحضر بها «الجنة» التى حدثته عنها الأديان على تعاقبها، وقبلًا راح يتصور «الإله» وينحت ملامحه، وتأتى الكتب السماوية لتضبط تصوراته التى لم تبتعد عنها كثيرًا.
يمد اليهودية بوصاياها العشر من جداريات المعابد، ويتهذب نبى الله موسى بكل حكمة المصريين، بحسب نصوص التوراة.
ويصون المصرى المسيحية وعقائدها، ويذود ابن الإسكندرية إثناسيوس عن الإيمان ويقف ضد العالم فى القرن الرابع الميلادى ليعبر بالمسيحية نقية من الهرطقات.
ويهدى المصرى العالم تجويد وترتيل القرآن الكريم بقواعد الموسيقى المصرية الرخيمة والشجية والمنضبطة، ويحمله الأثير إلى كل الدنيا بعبقرية أصوات الشيوخ الأجلاء محمد رفعت وعبدالباسط عبدالصمد والشعشاعى ورهط من المقرئين الأفذاذ.
ومن يقترب من التاريخ المصرى القديم يلحظ حرص المصريين على البهجة والفرح فى تحدٍ لمصاعب الحياة وقسوتها ويكتشف كم كانوا متصالحين مع الطبيعة باعتبارها عطية إلهية، وقد سجلت نقوش معابد مدينة «هابو»، غرب الأقصر، طقوس وأحداث ٢٨٢ عيدًا عرفتها مصر القديمة، ومنها عيد الربيع، وقد اختاروا له اليوم الذى يتساوى فيه الليل بالنهار وقت حلول الشمس فى برج الحمل ويقع فى الخامس والعشرين من شهر برمهات.
وكان اسمه «عيد شمو»، أى بعث الحياة، وهو ما انعكس على طبيعة الاحتفالات ومأكولات ذلك اليوم، (البيض والفسيخ والبصل والخس والملانة) وكلها تحمل إشارة إلى الخصب والحياة والديمومة والبقاء.
وعبر الزمن انتقل المصريون من دين إلى آخر، وانتقل معهم تراثهم الاحتفالى بعد أن يلبسوه حلة توافقية جديدة، فعندما انتقل المصريون إلى المسيحية واجهتهم مشكلة أن «عيد شمو» يأتى فى أيام الصوم الكبير، وفيه يمتنعون عن أكل البيض والسمك، فما كان منهم إلا أن رحّلوا الاحتفال بالعيد إلى اليوم التالى لعيد القيامة فى نهاية الصوم، وتحوّل العيد مع اعتماد اللغة العربية إلى «شم النسيم».
فالبيض عند المصريين القدماء كان يرمز لبدء الحياة بحسب أناشيد أخناتون، وتلوين البيض وزخرفته يعودان إلى أن الفراعنة كانوا ينقشون على البيض الدعوات والأمنيات ويجمعونه أو يعلقونه فى أشجار الحدائق حتى تتلقى بركات نور الإله عند شروقه فيحقق دعواتهم، ويبدأون العيد بتبادل التحية (بدقة البيض).
أما الفسيخ فهو أحد رموز البقاء، باعتبار أن التجفيف والتمليح إحدى الطرق القديمة لحفظ الأطعمة، فضلًا عن ارتباط السمك بالنيل.
أما «الخس» فيرمز للخصب والتناسل، وكذلك «الحمص الأخضر الملانة»، فقد كان المصريون يعتبرون نضج الثمرة وامتلاءها إعلانًا عن ميلاد الربيع.
وعندما انتقلت الأغلبية إلى الإسلام لم يجد المسلمون الأوائل غضاضة فى استمرار الاحتفالات الشعبية بشم النسيم، ولم يروا فيه خروجًا على الدين، فقد كانوا أكثر ثقة فى إيمانهم وانفتاحًا على الحياة. هكذا نضع أيدينا على واحد من تجليات العبقرية المصرية التى تتفاعل مع الطبيعة وتعشقها وتدعم بها إيمانها.. إنها عبقرية.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: كمال زاخر شم النسيم العبقرية المصرية المسيحية مع الطبیعة
إقرأ أيضاً:
حصن السنيسلة بولاية صور .. عبقرية المبنى المستدام وذكاء البنّائين القدامى
عندما دخلنا الحصن بصحبة المظلة الشمسية في الظهيرة الحارقة التي لا تشي بليل بارد في صور. بناء مربع وعلى كل واحدة من الزوايا الثلاث يستقر برج دائري وفي الرابعة برج مربع.
في البداية، أوحت لي الباحة الخارجية الواسعة لحصن السنيسلة بولاية صور أن الحصن ممتد لمسافات بعيدة، وتوقعت أن المدخل إليه أيضا بعيد. هذه المرة الأولى التي أدخل فيها حصنا بفناء واسع جدا، ويضم الكثير من مواقف السيارات، وظننت أنه يجب أن أتأهب للمشي لساعات طويلة، لكن ما أبحث عنه كان موجودا أمامي. مدخل حصن على هضبة صخرية ينام أمامه البحر وبينهما تلعب المدينة لعبة الحياة وتتنفس.
«الحصن يتنفس أيضا! أترين البقع على الجدران؟!» هذا أول ما قاله المهندس المعماري أحمد بن محفوظ العلوي المختص في الآثار بمديرية التراث في وزارة التراث والسياحة -الذي كان يقود الجولة-، ألن نبدأ بعمر الحصن على الأقل؟! قلت في نفسي: يقول لورانس فيشبورن في دوره الذي مثله في فيلم «باب القبو»: «المنهدسون المعماريون يكتشفون المشاكل أو يتسببون فيها»، لم يكن «الحصن يتنفس» وصفا مجازيا بل كان حقيقة، والبقع التي يخلّفها هذا التنفس هي «مشكلة» كما قال لي، وتعلمت فيما بعد كيف يمكن أن تُقرأ وتُفهم وتُحل، لأنه وبطريقة ما جعل للحصن عينين ولسانا وشفتين، ساردا قصة المواد الخام التي قام عليها بناء عمره أكثر من 300 عام في واحدة من أقدم الموانئ والمدن البحرية في العالم، وهذا ما يحدث عندما يتحدث عما يحب ويتقن «العمارة».
هندسة الحماية في العمارة التراثية: عبقرية الدفاع والهجوم
كانت الأسوار في الحصن عالية، فإذا كان طولك لا يتجاوز 160 سم، ستضطر إلى الوقوف على أطراف قدمك لتنظر خلف السور، أو من بين الشرفات المسننة كما تسمى، مشيرا إلى أنه ليس علوّا عشوائيا، بل يتجلى من خلال عبقرية التصميم الدفاعي كباقي الحصون والمباني التراثية في عُمان، التي صممت بعناية لتلائم القتال. وقال العلوي: «هذه الشرفات، التي تُشبه الأسنان، توفر حماية كبيرة للمدافعين، وتمنحهم القدرة على التصويب بسهولة. الفتحات المستطيلة والدائرية الموجودة في الجدران ليست مجرد فتحات للتهوية، بل صُممت خصيصًا لتكون صغيرة من الخارج وكبيرة من الداخل، مما يسمح بالتهوية والمراقبة الفعالة، مع تعزيز الدفاع ضد أي هجوم محتمل».
وعن فتحات مائلة تخترق السقف عند المدخل علمت فيما بعد أنها «مصبات الزيت» فكانت أدوات دفاعية حيوية تستخدم لصب المواد الساخنة على المهاجمين. وهذا ما أصر العلوي على تأكيده بقوله: «التفاصيل الصغيرة تعكس استراتيجية متكاملة في التصميم، حيث يتشابك الجانب الدفاعي مع الراحة التشغيلية للمدافعين».
تقنيات التسقيف والبناء: استغلال الموارد المحلية بذكاء
الأبواب في الحصن ضيقة، لم يكن ممكنا أن أدخل والمظلة مفتوحة، وإن كان كذلك فسيلزم أن أدخل قبلها. جمال السقف المعقد بجذوع سوداء جعلني أتساءل: من جاء أولا، فتحة الباب أم السقف؟
أعلمني العلوي أن تلك الجذوع هي أخشاب الكندل وجذوع النخيل التي اعتمد البناؤون القدامى عليها كمواد محلية لتستخدم في التسقيف، حيث يتم تقسيمها إلى قطع صغيرة، لتحديد أبعاد الغرف وفق أطوال هذه الجذوع، ويصل طول خشب الكندل إلى 3.8 متر، مما يجعل عرض الغرف لا يتجاوز 3.6 متر بعد تثبيت الجذوع داخل الجدران.
وأشار إلى أن شبكة التسقيف هذه تُعزز باستخدام طبقات متعددة من المواد الطبيعية لضمان تصريف المياه بكفاءة. وأيضا مثل الارتفاع في الأسوار هذه التقنيات ليست عشوائية، بل هي ثمرة خبرة طويلة تُراعي الظروف البيئية المحلية، مثل درجات الحرارة المرتفعة ومخاطر الأمطار وغيرها من العوامل الطبيعية.
الزوايا المصقولة وغير الحادة كانت سؤالا أيضا، فأوضح أنها صممت كذلك لتجنب الكسر، وهو تصميم يعكس براعة المهندسين القدامى في استخدام مواد البناء المتوفرة بحكمة على حد تعبيره. ولفت إلى أن بلاط الجدران صمم بأسلوب يُشبه «الكوب» لتوجيه مياه الأمطار إلى نقاط تصريف محددة تُعرف بـ«التقطير»، مما يمنع تآكل الجدران ويحميها من الرطوبة.
وأشار إلى أن المواد المستخدمة في البناء التراثي، مثل الطين والصاروج، هي مواد «حية» وتتنفس، مما يسمح للجدران بامتصاص الرطوبة وإطلاقها، وكل هذه الخصائص تحمي المباني من التآكل وتمنحها عمرًا أطول بسبب تكيفها مع البيئة المحيطة، على عكس المواد الحديثة مثل الإسمنت التي قد تؤدي إلى تدهور المباني التراثية إذا لم تُستخدم بحذر.
وقال: «الصاروج، على سبيل المثال، يحتاج إلى أن يُستخرج ويُستخدم من المنطقة نفسها التي يقع فيها الحصن أو القلعة لضمان التكيف مع البيئة. النماذج التجريبية في عمليات الترميم، مثل تلك التي نُفذت في حصن بركاء، أكدت أهمية استخدام مواد محلية لضمان نجاح الترميم واستدامة المباني».
وأضاف: «الهندسة المعمارية الحديثة يمكن أن تستفيد من دروس العمارة التقليدية في تصميم مبانٍ مستدامة تتكيف مع البيئة. فالمهندس المصري أحمد شكري، على سبيل المثال، نجح في تصميم منازل بسيطة تعتمد على التهوية الطبيعية دون الحاجة إلى أجهزة تكييف، من خلال أشكال هندسية خاصة للأسقف، وهكذا يعزز الربط بين الماضي والحاضر في العمارة الهوية المعمارية ويوجد تصاميم مستدامة تتماشى مع الموارد والمناخ المحلي. هذه التفاصيل الصغيرة، التي قد يغفلها البعض، تشكل الأساس لبناء مبانٍ تدوم لقرون، كما أثبتت التجربة في الحصون والمنازل التراثية في الخليج العربي».
النوافذ التراثية: تحكم ذكي بالتهوية والخصوصية
ندخل أحد الأبراج لنستظل من الحرارة المرتفعة، فتنساب النسمات بخفة من النوافذ التي يتسلل معها ضوء الشمس، وأنا ألتقط صورة للأشعة المتسللة، قال العلوي: إن النوافذ في المباني التراثية لم تكن مجرد فتحات للضوء، بل أدوات للتحكم في التهوية والخصوصية. وأنها غالبًا تتكون من أربعة أجزاء يمكن فتحها بشكل مستقل، مما يمنح سكان المنزل تحكمًا كاملًا في تدفق الهواء. وشرح: «في الصيف، تُفتح النوافذ المواجهة للرياح وتُغلق الأخرى لتجنب حرارة الشمس، بينما تُفتح النوافذ الجنوبية في الشتاء لاستقبال أشعة الشمس الدافئة، حتى ارتفاع النوافذ كان مدروسا، حيث تبدأ من مستوى القدم وتصل إلى مستوى الركبة، مما يسمح بتهوية مباشرة للجلوس الأرضي ويوفر الخصوصية دون كشف الأشخاص داخل الغرفة».
التفاعل مع المناخ: فهم حركة الشمس والرياح
لن تعمل النوافذ بشكل صحيح إن لم تُفهم حركة الشمس والرياح، وهذا ما يؤكده العلوي في أن العمارة التقليدية اعتمدت على دراسة حركة الشمس والرياح لتوزيع المرافق داخل المنزل. وأوضح: «في الخليج العربي، كانت الجهة الشمالية تُخصص للمداخل والمرافق المهمة لتجنب حرارة الصيف. أما الجدران الجنوبية فكانت تُستخدم للمطابخ والغرف والمخازن الأقل استخداما، نظرا لتعرضها المباشر للشمس».
وأضاف: «في الحصون، كانت الواجهات تُبنى باتجاه الشمال أو البحر للاستفادة من الرياح الباردة، مع إعطاء الظهر للجهات الحارة. الجدران السميكة، التي يتجاوز سمكها مترا في بعض الأحيان، كانت توفر عزلًا طبيعيًا للحرارة، مما يجعل المباني باردة في الصيف ودافئة في الشتاء، وهكذا تتنفس».