التَّصميمُ الداخليُّ العاطفيُّ وتأثيرُهُ على السلوكِ الإنسانيِّ
تاريخ النشر: 29th, April 2024 GMT
إن التصميم الداخلي له تأثير مباشر على العقل الباطن، فالتصميم الداخلي والإنسان مرتبطان ارتباطًا شديدًا؛ كل منهما يصنع الآخر، لذلك يجب على المصممين دراسة سلوك الإنسان وتصرفاته ونفسيته بشكل عام قبل البَدْءِ بالتصميم الداخلي والمعماري، حيث أظهرت الكثير من الدراسات أن تصميم الحيز الداخلي يمكن أن يؤثر على شعور الناس وتصرفاتهم.
فمثلا في الغالب تؤثر الحيزات المشرقة والمفتوحة على تعزيز مشاعر الانفتاح والإبداع، في حين أنَّ المساحاتِ المظلمةَ والمزدحمةَ يمكن أن تعزز مشاعر القلق والتوتر، بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يكون للألوان تأثيرٌ قويٌّ على الحالة المزاجية؛ حيث ترتبط بعض الألوان بمشاعرَ مختلفة.
العمارةُ والحياة
أصبحت العمارةُ محركًا لجودة الحياة في الوقت الحاضر، وموضوعًا ذا أهمية يمكن أنْ تُوَفِّرَ العناصر المعمارية تعزيزًا للسلوكيات الإيجابية التي نرغب في تفعيلها في أماكن معينة.
بمعنى آخر، العمارة هي وسطٌ ماديٌّ مؤثر، وعلى المصممين الانتباه إليها، ويشمل ذلك السلامة والترابط الاجتماعي وسهولة الحركة والتحفيز الحسي، وتشمل الضوء، والألوان، من خلال مفردات التصميم كالضوء واللون والخامة، وغيرها.
وعلى سبيل المثال يمكن لبعض مبادئ التصميم التي تشتمل على التوازن والنسبة والتماثل والإيقاع أن تقدمَ إحساسًا بالتناغم، مثال آخر يحفز وجود الضوء الطبيعي على الإنتاج والانتعاش، وخاصة إذا كانت بإيقاع مدروس.
وبشكل عام، يمكن أن يؤثر التصميم الداخلي على السلوك البشري من خلال إنشاء مساحات تعزز المشاعر والأفعال الإيجابية، كما أن التعلم والتربية في السنوات الأولى تؤثر أيضا في تشكيل سلوكه ومهارته، والدوافع والاحتياجات الفردية والجماعية تؤثر في توجهاته وقراراته.
هذه العوامل وغيرها تتفاعل مع بعضها البعض لتشكل السلوك البشري، ولا يمكن فصلها تماما عن بعضها البعض، فمثلا لا يمكن مقارنة الفرد الذي نشأ في بيئة مغلقة كالذي نشأ في مجتمع مفتوح، وأيضًا لا يمكن مقارنة الفرد الذي حظي على اهتمام عائلي ومجتمعي مثل الذي لم يحظَ بهما.
وهنا يأتي دور العمارة والبيئة ومن ثَمَّ التصميم الداخلي في تهيئة فراغات وحيزات تعمل على تحسين السلوك البشري بتحسين سلوك الفرد والجماعة، فالحيزات العمرانية المثمرة التي تميزها الأشجار، وأيضًا ذلك الذي نشأ في صحراءَ ممتدةِ الأبعادِ، والبحرُ المفتوح مترامي الأطراف تثير القدرات الإبداعية عند الفرد، والمصمم الداخلي دائمًا يحاول استخدام التصميم؛ ليقودَهُ إلى نتائج مفضلة من خلال صياغة أفكاره التي تعمل كمثيرات هادفة إلى تغيير السلوك الإنساني، و من المفترض أن يهتم المصمم الداخلي ويأخذ على عاتقه تحسين سلوك الأفراد داخل الحيزات الوظيفية؛ لتحقيق الجمال مع الوظيفة مع متطلبات الحيز وتعديل السلوك البشري مع اعتبارات الأمن والسلامة المهنية.
السلوك والتصميم
إن تعديلُ السلوكِ عن طريق التصميم الداخلي هو نهج للتغيير السلوكي من خلال التمكين أو التشجيع أو تثبيط العزيمة؛ لحدوث ممارسات معينة باستخدام استراتيجيات مختلفة لتوضيح مفهوم تعديل السلوك والمناهج الخاصة بتعديله والتأثير عليه أيضًا، وكيفية تصنيف تعديل السلوك وقياسه، والتطرق إلى بعض المفاهيم التي تتمثل في المواقف والإقناع والسلوك والعلاقة بينهم من خلال المصمم وأهدافه وتأثيره على المستخدم، وتحديد أدوات للتصميم من خلال السلوك التحفيزي والتمكيني والمقيد، وكيفية استخدام كل نوع في التأثير على سلوك المستخدم، وسلوك المستخدم هو المحدد الأساسي الذي يؤثر على المجتمع والبيئة خلال فترة استخدام الخدمة أو المنتج، ويهدف إلى تحقيق التوازن البيئي والاجتماعي والاقتصادي وَفْقًا لاحتياجاته.
فالتصـميم الداخلي الجيد له تأثير مباشر على النفسية؛ حيث إنه يخفف التوتر والاكتئاب، ويساعدك على الاسترخاء، ويعمل –أيضًا- على زيادة التركيز، ويمكن للمصمم أن يقدم أفضل التصاميم بأكثرِ الطرق إبداعية، والتي توافق الاختيارات وتعمل على تنفيذ الصور الذهنية.
التصميمُ الداخليُّ العاطفيُّ
العاطفة داخل التصميم الداخلي ليست فقط استجابة لشيء موضوعي، ولكنها –أيضًا- تحقيقٌ لنوع من الارتباط الوجداني بين الذات الإنسانية والموضوع، ويعتبر التصميم العاطفي أداة يستخدمها المصممون لتوصيل مشاعر وأفكار معينة، ووسيلة للتعبير عن الأفراد وتمثيل هُويتهم وشخصيتهم، فالتصميم الداخلي بعناصر التصميم من لون وخامة وإضاءة وإكسسوارات تؤدي إلى توجيه الشعور وصناعه القرار سواء بالسلام النفسي أو الإثارة والانفعال.
وقد يرجع مصطلح العمارة العاطفية إلى (المهندس المكسيكي لويس بارغان، والرسام ماتياس جويريتز) اللذين نشرا معًا بيانًا بليغًا في (عام 1954م)، وكانا يبحثان عن المباني التي ترفع الروحانيات، والتي كانت بمثابة إحباط لنهج حداثي عقيم إلى حد ما من خلال الألوان والضوء والظلال، والآن وقد سيطر العصر الرقمي على التصميم في جميع مجالاته، أصبح للتصميم العاطفي دورًا في توظيف التصميم العاطفي داخل الحيزات.
الألوانُ في التصميم الداخلي
إن الألوان لها تأثير كبير على الأفكار والشعور الداخلي؛ لذلك فالاستخدام الصحيح للألوان يعكس راحة نفسية كبيرة، وبعض الألوان لها تأثير على الحالة المزاجية.
فاللون الأحمر يشير إلى القوة والجاذبية والعاطفة والإثارة والطاقة، كما يعطي شعورًا بالدفء والطمأنينة، وغالبا ما نجده في الطبيعة في صورة النيران والشمس والدم، ويمكن استخدامه في بعض أماكن الأطفال وستارة المسرح.
واللون الأخضر يمتلك خصائصَ لطيفة ومهدئة، ويكون في الطبيعة في النباتات ومياه البحيرات، ويمكن استخدامه في مداخل الحيزات.
واللون الأزرق يعطي شعور الاسترخاء، وهذا نجده عند رؤية السماء الصافية، أو النظر إلى البحر وهو يضفي طابعًا هادئًا على المنزل بالهدوء.
واللون الأصفر مرتبط بشكل كبير بالسعادة والاسترخاء؛ لذلك يخلق بيئة لطيفة وسليمة، ويعكس الطبيعة الجبلية ونقاء رمال الصحراء، ويمكن استخدامه في الحيزات التي تشجع الأطفال على الذكاء والحركة، وبالطبع يختلف تأثير اللون الواحد حسب درجاته، فتأثير درجة الأخضر الفاتح يختلف عن تأثير الأخضر الملكي.
الخاماتُ في التصميم الداخلي
لا يُحَدِّدُ اختيارُ المواد جودةَ التصميمِ فحسب، بل يؤثر أيضًا على التأثيرات البصرية والحسية للمساحة، وتجلب المواد المختلفة محفزات حسية مختلفة لطبيعة الناس، كما أنَّ خاماتِ المواد ولونها ودرجة حرارتها وما إلى ذلك سوف يحفز الارتباطات المختلفة بين الناس، الزجاج شفاف بشكل عام وله ملمس بلوري يرمز إلى النقاء، ومع تطور التكنولوجيا الداخلية ظهرت في السوق مواد مختلفة مضادة للطبيعة، مثل: الحجر الاصطناعي، والخشب الاصطناعي، وغيرهما، لكن هذه المواد الاصطناعية أصبحت أيضًا المصدر الرئيس لتلوث الهواء فى البيئة الداخلية، ولكن ما زالت المواد الطبيعية لا يمكن الاستغناء عنها في الحياة.
الأمانُ في التصميم
وأيضا شعور الأمان، فغالبا عندما نصعد على سلم بدون طرابزين وحواجز، أو كون الحواجز زجاجية أو شفافة، لا تعطي نفس شعور الأمان إذا كان الطرابزين من الخشب أو المعدن أو أيَّة خامة مصمتة أو معتمة، والأمان لا يقتصر فقط على المساحات الزجاجية والشفافة ووجود طفايات الحريق، ولكنه يمتد ليتطرق إلى معايير الراحة أيضًا، فمثلا وجودك في مكان عملك جالس على كرسي ذي أبعاد تصميمية صحيحة، وإضاءة غير مباشرة جيدة، مع وجود دهانات وتكسيات للحوائط محفزة، ووجود بعض النباتات التي تعمل على الحفاظ على تنقية الهواء، والحفاظ على معدلات درجات الحرارة المنتظمة، بالطبع سيؤثر إيجابًا على المزاج العام، وبالتالي الحالة النفسية وإضافة الإنتاجية، على عكس مكان آخر يخلو من تلك العناصر السابقة.
الثراءُ العاطفي
لا بد من تحقيق الثراء العاطفي في حيزاتنا الداخلية التي نتعايش معها؛ فهي جزء لا يتجزأ من حياتنا اليومية، وذلك من خلال تحقيق معايير ومحددات التصميم الداخلي العاطفي، وبعض الاتجاهات التصميمية المعاصرة وما لها من تأثير على عواطف الإنسان، واتجاه البيئة التي يتعامل معها، وتحفيز تصرفاته وقدرته على تذكر المكان وتوطيد الصلة بين الأشخاص ومساحاتهم الخاصة، فهناك أماكنُ تبقى عالقة في ذاكرة ووجدان كلٍّ منا، فاستخدام الخامات الطبيعية مثل الأخشاب يختلف عن استخدام البورسلين أو السيراميك.
ونجد أن هناك بعض المطاعم التي ندخلها ذات مجموعات لونية وخامات وإضاءة دافئة تعزز من الرغبة في تناول الطعام وطلب المأكولات، بينما ندخل مطعمًا آخر وإضاءة زرقاء ومساحات من السيراميك تعطى إحساسًا بالبرود والشبع وعدم الرغبة في تناول الطعام؛ لذا تعد عناصر التصميم مثيرًا ومحفزًا في التصميم الداخلي .
أيضا عند دخولنا بعض أماكن التراث العتيق تُشبِعُ عندنا الحسَّ التراثي، وَتَشبَعُ روحُنا وتُشعرنا بالجذور والفخر الطيب، ويختلف الأمر عن تلك الأماكن التي تتسم بالحداثة والتطور والحركة.
لذا لا بد عند تصميم الحيزات الداخلية وفراغاتنا التي نقضي فيها معظم أوقاتنا أن تكون مصممة بشكل محترف؛ لتعزز الإنتاجية والسلوك البشري، وترتقي عاطفيُا بأرواحنا وأفكارنا.
وفي الختام يمكننا القول بأن العودة للطبيعة تبعًا لمبادئ التصميم البيوفيلي (التصميم الحيوي والذي يدعو إلى الاتصال بالطبيعة) هي المعلم الأول للإنسان من الألوان الطبيعة: من السماء، والبحار والبحيرات، والخضرة والنباتات، والصحراء برمالها، والإضاءة الطبيعية؛ لذا حالة الاسترخاء والراحة النفسية التي نشعر بها في الحيزات الداخلية التي نشكلها بخرائط بصرية من الطبيعة غالبا ما تعطينا نتائج مبهرة بعد توظيفها في الحيز الداخلي.
* د.دينا أبوشال الأستاذ المساعد بالتصميم الداخلي بكلية الزهراء
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التصمیم الداخلی فی التصمیم یمکن أن من خلال لا یمکن شعور ا
إقرأ أيضاً:
أي أفق للديمقراطية في ظل منظومة الاستعمار الداخلي؟
بحكم هيمنة الصراعات الهوياتية -الحقيقية أو المفتعلة- على مسار الانتقال الديمقراطي في تونس منذ المرحلة التأسيسية، لم يتوجه السجال العمومي نحو تأسيس المشترك بقدر ما توجه نحو تضخيم الفوارق حتى عشنا ما أسماه أمين معلوف صراع "الهويات القاتلة". فأصبح "القتل" المادي أو الرمزي ومنطق النفي المتبادل هو جذر الخطابات التي تهيمن على الساحة العامة وأفق صراعاتها "الوجودية". ولم تستطع كل الأزمات الدورية التي مرت بها الأحزاب الحاكمة والمعارضة -مع غيرها من الفاعلين الاجتماعيين- أن تحمل هؤلاء على البحث عن "الأزمة البنيوية" التي تثوي وراء ذلك كله.
ولا يبدو أن "تصحيح المسار" باعتباره انقلابا على الثورة أو تصحيحا لمسارها -من خلال إزاحة "الخطر الجاثم" المتمثل في الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة ونظامها البرلماني المعدّل- قد غيّر في "روح" تلك الصراعات ومفرداتها ورهاناتها شيئا معتبرا أو دفع بها إلى هامش المشهد العام، حتى فيما يتصل بالعلاقات البينية داخل أطياف المعارضة.
في ظل هذا الواقع الذي لا ينكره إلا مكابر أو واهم، لم يكن للنخب الأكاديمية وللمثقفين دور يتخارج مع منطق السياسي أو النقابي أو الناشط المدني، ذلك المنطق الموجّه نحو إعادة هندسة المشهد العام وتعديل موازين القوى المتحكمة فيه "الآن-وهنا". ورغم وجود بعض الاستثناءات غير المؤثرة، فإن الأغلب الأعم من الشخصيات الاعتبارية "الحداثية" كانوا -منذ المرحلة التأسيسية- في ضرب من التماهي التام أو التطابق مع استراتيجيات مختلف مكوّنات ما يسمى بـ"العائلة الديمقراطية". وهي قوى سياسية غير متجانسة أيديولوجيا في الأصل، ولكنها استطاعت تذويب خلافاتها الأيديولوجية لبناء "تجمّع" ما بعد أيديولوجي لا يختلف في جوهره ولا في دوره عن "التجمع الدستوري الديمقراطي": تجميع كل أعداء الإسلاميين للدفاع عما يسمونه بـ"النمط المجتمعي التونسي". وهو "نمط" تقتضي رهانات الصراع تضخيم "مكاسبه" الحقيقية والمتخيلة (في مستوى حقوق المرأة وبعض الحريات الفردية) وتغييب كل آفاته في المستويين الاقتصادي والاجتماعي (الجهوية، الزبونية، الاقتصاد الريعي، اللاتكافؤ بين الجهات، الفساد القيمي، التبعية الحضارية، تدمير التعليم والأسرة، تدجين النخب وتحول أغلبهم إلى كائنات وظيفية في خدمة منظومة الاستعمار الداخلي.. الخ).
نجاح "تصحيح المسار" هو أعظم تعبير على هشاشة الانتقال الديمقراطي في المستويين السياسي والاقتصادي، وخصوصا من مستوى المَأسسة، وهو ما يجعلنا لا نرى في "تصحيح المسار" انقلابا على الانتقال الديمقراطي بقدر ما نرى فيه تعبيرا عن تناقضاته الداخلية وعطالة العقل السياسي الذي أداره. فـ"تصحيح المسار" هو في وجه من وجوهه الابن الشرعي للانتقال الديمقراطي الفاشل، أو هو محاولة للخروج من أزمة التأسيس (أو الأزمة البنيوية) بطرح تأسيس جديد من خارج الديمقراطية التمثيلية
أما من جهة "حركة النهضة"، فإن رهان "التَّونسة" -سواء كان خيارا حرا أم استجابة لضغط خصومها- مصحوبا بالسعي إلى الاندماج في الدولة بدل مواجهتها، قد دفعا بها، في إطار منطق التوافق منذ أشغال "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة" وليس منذ التحالف مع نداء تونس كما هو سائد في أغلب التحاليل السياسية، إلى التطبيع مع المنظومة القديمة وفق شروط تلك المنظومة، أي وفق شروط منظومة الاستعمار الداخلي. وهو ما يعني أن النهضة قد ربطت نفسها استراتيجيا بمنظومة الاستعمار الداخلي من خلال ما أسمته بالتنازلات "المؤلمة" تحت يافطة "المصلحة الوطنية". فمنذ أعمال هيئة تحقيق أهداف الثورة قبلت النهضة بمنطق "القوة النوعية" أو بوجود شرعية غير مستمدة من التمثيل الشعبي، ومرتبطة في العديد من مكوناتها بالمنظومة القديمة، ثم تواصل تأثير تلك "القوة النوعية" ذات التمثيل المحدود شعبيا في المجلس التأسيسي وفي العديد من المؤسسات الدستورية وغير الدستورية.
لقد كان اتساع الهوة بين "القوة الانتخابية" (المرتبطة بالإرادة الشعبية) وبين "القوة النوعية" (المرتبطة باللوبيات الوظيفية) حركة تراكمية تجسدت مؤقتا في تغوّل "القوة النوعية"، بدعم من الرئيس (قصد نزع الشرعية عن القوة الانتخابية المتمثلة أساسا في البرلمان)، ثم وجدت مستقرّها في انتفاء حاجة الدولة العميقة للديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة كلها، بما فيها تلك "القوة النوعية" ذاتها. وهو ما عبّر عنه "تصحيح المسار" الذي يستمد شرعيته -على الأقل نظريا- من عدم حاجته للقوة النوعية (الأجسام الوظيفية المعارضة للإسلاميين والمساندة للانقلاب عليهم بمنطق الاستئصال الناعم أو الصلب)، الأمر الذي دفع بمنظومة الحكم إلى إقصائها وتهميشها تحجيم دورها التقليدي أو حتى شيطنته في إطار "التأسيس الثوري الجديد".
إذا كان فشل الانتقال الديمقراطي دليلا على بؤس الوعي السياسي لمختلف مكونات المشهد التونسي حكما ومعارضةً (عدم التجاوز الجدلي للبورقيبية والأساطير المؤسسة للكيان الوظيفي المسمى مجازا دولة وطنية، الخضوع لمنطق استمرارية الدولة، العجز عن بناء سردية جماعية مرافقة للثورة، استمرار التبعية لمنظومة الاستعمار الداخلي من خلال دورها "التحكيمي" في آليات الصراع ورهاناته ومخرجاته، حرف الصراع عن مداراته القيمية والاجتماعية والاقتصادية وتضخيم صراع "الهويات القاتلة"، غياب الثقافة الحوارية وغلبة أحادية الصوت، تسفيه الإرادة الشعبية أو التلاعب بها أو إقصاؤها عند صياغة السياسات العامة.. الخ)، فإن نجاح "تصحيح المسار" هو أعظم تعبير على هشاشة الانتقال الديمقراطي في المستويين السياسي والاقتصادي، وخصوصا من مستوى المَأسسة، وهو ما يجعلنا لا نرى في "تصحيح المسار" انقلابا على الانتقال الديمقراطي بقدر ما نرى فيه تعبيرا عن تناقضاته الداخلية وعطالة العقل السياسي الذي أداره. فـ"تصحيح المسار" هو في وجه من وجوهه الابن الشرعي للانتقال الديمقراطي الفاشل، أو هو محاولة للخروج من أزمة التأسيس (أو الأزمة البنيوية) بطرح تأسيس جديد من خارج الديمقراطية التمثيلية ذاتها وبإنهاء الحاجة إلى أجسامها الوسيطة ومنطق لا مركزية السلطة.
نظريا، يطرح "تصحيح المسار" نفسه باعتباره أطروحة مناقضة للتأسيسين أو على الأقل متجاوزة لهما جدليا (التأسيس للدولة الوطنية والتأسيس للثورة التونسية)، وهو يطرح الديمقراطية المباشرة أو المجالسية والنظام الرئاسوي والشركات الأهلية باعتبارها ركائز هذا التأسيس الجديد. وفي إطار هذه السردية، فإن الديمقراطية المباشرة تنهي الحاجة للأحزاب وللمال السياسي الفاسد الذي يحكم علاقتها بالناخب وبأجهزة الدولة، والنظام الرئاسوي يُنهي حالة الفوضى ويُجنّب البلاد التفتت، أما الشركات الأهلية فإنها تبشر بميلاد اقتصاد تضامني يحد من هيمنة الاقتصاد الريعي ويقوم بإنتاج الثروات وتوزيعها على أسس أكثر عدلا وإنصافا.
ولكن بين النظرية وتطبيقاتها (البراكسيس) توجد هوّة لا يمكن ردمها بغياب "النخب البديلة"، وفي إطار علاقة "التعامد" بين الرئيس ومنظومة الاستعمار الداخلي. فالتناقض الأساسي في تصحيح المسار أنه يطرح تأسيسا جديلا دون تصعيد نخب جديدة لإدارتهن ولذلك فإنه يستعمل نخب المنظومة القديمة أو النخب الوظيفية التي ارتبطت بورثتها وحلفائها بعد الثورة، وهو ما يجعله -بصرف النظر عن النيات "الصادقة"- عاجزا عن التحرك خارج الإطار العام الذي ترسمه منظومة الاستعمار الداخلي، بل تجعله -في التحليل الأخير- مجرد واجهة سياسية جديدة لها على الأقل في السياق الحالي.
الشعب التونسي في أغلبه الأعم لا يريد ديمقراطية "شكلية" تجعل الناخب في مركز الشرعية دون أن تكون مصالحه وانتظاراته المشروعة هي مركز القرار السياسي. وهو واقع لا يبدو أن أطياف المعارضة تتعامل معه بالجدية اللازمة؛ بحكم ما أسلفنا من "آفات" العقل السياسي التونسي الذي ما زال يتغنى بالكيان الوظيفي باعتباره دولة، وما زال ممثلوه يطرحون خدماتهم على مع منظومة الاستعمار الداخلي باعتبارها سلطة "ما فوق سياسية" يجب استرضاؤها قبل الإرادة العامة أو حتى ضدها
تعلم المعارضة التونسية بمختلف أطيافها أن قوة "تصحيح المسار" الأساسية ليست مستمدة من الدعم الشعبي، بل من حاجة منظومة الاستعمار الداخلي ونواتها الصلبة له. كما تعلم هذه المعارضة أن انتفاء الحاجة إليها أو إعادة تأهيلها في إطار تسويات ممكنة مع السلطة ليس مجرد شأن داخلي صرف، ولكنه لا ينفصل عن موازين القوى الداخلية، خاصة قوة المعارضة وما تملك من مصداقية لدى عموم المواطنين. ولكنّ هذا الوعي لا يتجلى في أغلب خطابات المعارضة التي ما زالت محكومة بآفتين هما: أولا منطق الصراعات البينية ذات الجذر الهوياتي-الأيديولوجي، وهو منطق يضعفها أمام السلطة ويجعلها غير قادرة على التحرك باعتبارها "كتلة" أو هوية جماعية ذات بديل واضح أمام الرأي العام؛ ثانيا إدارة الصراع السياسي باعتباره صراعا ضد المنظومة الحاكمة وسرديتها السياسية؛ لا ضد منظومة الاستعمار الداخلي وخياراتها التأسيسية منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا.
ختاما، لا شك في أنّ هذا السرديات السياسية التي يضع أصحابها أنفسهم -قصديا أو بصورة غير قصدية- في خدمة منظومة الاستعمار الداخلي (بدعوي استمرارية الدولة أو الوحدة الوطنية أو مواجهة "الخطر الجاثم" المتمثل في الأجسام/المؤسسات الوسيطة المعبّرة عن تعدد الشرعيات التمثيلية)، لا يمكن أن تنتج إلا ديمقراطية "صورية" كما كان الشأن زمن الانتقال الديمقراطي، أو نسفا للديمقراطية بمعناها الليبرالي كما هو الشأن في "تصحيح المسار". وهو ما يعني أن سعي المعارضة للعودة إلى تصدر المشهد العام بمنطق ما قبل 25 تموز/ يوليو 2021 هو سعي محكوم بالفشل، ولا يمكن -حتى في صورة نجاحه المستبعدة- أن يكون حاملا لمشروع ديمقراطي صلب.
فالشعب التونسي في أغلبه الأعم لا يريد ديمقراطية "شكلية" تجعل الناخب في مركز الشرعية دون أن تكون مصالحه وانتظاراته المشروعة هي مركز القرار السياسي. وهو واقع لا يبدو أن أطياف المعارضة تتعامل معه بالجدية اللازمة؛ بحكم ما أسلفنا من "آفات" العقل السياسي التونسي الذي ما زال يتغنى بالكيان الوظيفي باعتباره دولة، وما زال ممثلوه يطرحون خدماتهم على مع منظومة الاستعمار الداخلي باعتبارها سلطة "ما فوق سياسية" يجب استرضاؤها قبل الإرادة العامة أو حتى ضدها.
x.com/adel_arabi21