د. صالح الفهدي
من يظنَّ أَنَّ الأمنَ اللُّغوي يقلُّ أهميّةً عن الأَمن الاجتماعي، والأمن الاقتصادي، والأمن البيئي، والأمن الغذائي، والأمن المائي فهو مخطئ؛ فالأمن اللغوي جزءٌ لا يتجزَّأ من الأَمن القومي، وتأتي أهميَّتهُ من ارتباطهِ بالهوية الوطنية إذ أنَّ اللغة هي مركزُ الهوية لأيِّ شعب، فإن فقَدَ اللُّغةَ فقدَ هُويَّتهُ، وفقدَ أمنهُ.
يقول د. محمود السيِّد في دراسةٍ له عن الأمن اللغوي ودوره في الحفاظ على هوية الأُمة: "الهوية في مفهومها الشامل ما هي إِلَّا قيمة جوهرية في حياة الإنسان بوصفه كائنًا ثقافيًا قبل أن يكون كائنًا بيولوجيًا، وجوهر الهوية الانتماء الذي يفارقُ الإنسانُ فيه آدمَّيته الغريزية، ويرتفعُ به إلى آدميَّته المتسامية، والانتماء مضمونٌ وإبلاغ؛ فأما المضمون فعقيدةٌ تكفلُ له الإيمان، وتقيه شرَّ الضياع في الوجود، وأمَّا الإبلاغ فلغةٌ تؤمِّنُ له التواصل الإنساني الخلَّاق، ذلك لأن اللغة هي أحد المكونات الأساسية لهوية المجتمع التي تميِّزهُ عن غيره، لا بل هي الهوية، فاللغة والهوية شيءٌ واحد".
ولهذا تشترطُ بعض الدول- مثل سلطنةِ عُمان- لمن يطلبُ الجنسية العُمانية أن يكون مُلمًّا باللغةِ العربية كتابةً وقراءةً، ذلك لأنَّ اللغة هي مفتاحُ الثقافة، فإِن ألمَّ بها إِنسانٌ ولَجَ بها إلى ساحات المجتمع، وسلكَ بها دروبه، وطرقَ بها أبوابه، فهي المفتاحُ الأصيلُ لمعرفةِ التاريخِ، والقيم، والعادات، والمشاعر لأيِّ مجتمع.
فإذا فَتَر الاهتمام بالأمن اللغوي ضعفت الهُوية، وبالتالي ضعف الانتماء ذلك لأن الأخير معقودٌ أصلهُ بالجذور التاريخية والثقافية للأمَّة فإن انقطعت أو ضعفت لم يعد للانتماء من صِلةٍ بالماضي، وعلى إِثرِ ذلك سيتشكَّلُ الانتماءُ بحسب اللغةِ الغالبة على اللِّسان، وستنتجُ عن هذا المسلك هُوية جديدة دخيلةٌ على الهُوية الأصيلة للمجتمع، ومن هنا تشكِّلُ هذه الهوية الجديدة إحدى مهدِّدات الأمن القومي، يقول د. عبدالوهاب المسيري في كتابه "الثقافة والمنهج": "اللغة هي الوعاء الثقافي لكل منتجات الأمة وتراثها، وإن فقدنا هذا الوعاء، وأصبح تراثنا مغلقًا بالنسبة إلينا، فسنقطع صِلتنا به؛ أي تراثنا الفكري والأدبي والاجتماعي والعلمي والديني".
لقد أتاحت بعض الدول مثل فرنسا تعلُّم لغتها دون مقابلٍ ماديٍّ في فترةٍ من الفترات لأنها تدركُ أن اللُّغة هي الوجه الآخر للهوية، فإِن كسبت اللغة فقد كسبت الرهان على الهوية وبذلك تستطيع أن تواصل احتلالها للعقول الذي هو أخطرُ وأقلُّ تكلفةً من احتلال الأرض!
ويعرِّف د. أبو أوس الشمسان الأمن اللغوي بقوله: "الأمن اللغوي هو أن تحفظ الأمة على نفسها لغتها الخاصة، فلا تستبدل بها غيرها، وأن تذود عن مكوناتها وطرائقها في التعبير وأن تحرص على سلامتها، وبخاصة أصواتها وصرفها وتراكيبها" وحيث أن لساننا مهدَّدٌ بجملةٍ من الأدوات منها المدارس الخاصَّة وعلى رأسها الأجنبية التي يتمُّ التواصلُ اللغويُّ فيها باللغات الأجنبية، فإن ذلك يعني نشوء جيلٍ منقطعٍ عن الجذور اللغوية، وهو ما يعني ضعف الانتماء، وهزالة الشعور بالهوية القومية.
علاوةً على ذلك، التواصل بغير اللسان العربي بين أبناء العربية في بعض بيئات العمل، بحجَّةِ قدرتهم على التواصل بسلاسةٍ باللغة الأعجمية، وما يشعرون به من تلقائية وأريحية في ذلك التواصل، وهو ما يعني جرَّهم شيئًا فشيئًا عن المحيط الثقافي لمجتمعهم، وإعادة توجيه بوصلتهم نحو ثقافةٍ أُخرى دون شعورٍ منهم، إذ هم يظنُّون أن الأمر مقتصرٌ على مجرَّد التحدُّث بلغةٍ ممكِّنةٍ لهم بألفاظها ومصطلحاتها في إيصال الأفكار والرسائل، ومحققةً لهم الأهداف، لكن الأمر أعمقُ من ذلك إذ أنه يتَّصلُ بجوهرهم النفسي الذي يصوغُ مشاعرهم، ويرتبطُ بالعقل الباطنِ الذي ينسجُ لهم أفكارهم، ويحدِّدُ لهم اتجاهاتهم.
لقد بات الأمن اللغوي اليوم من أهم ما يفترضُ أن توليه أيَّة دولة اهتمامها لأن التحديات الجسيمة بالغةُ الخطورة، فهي تضربُ الجذور العميقة لمجتمعاتها بما تحملهُ لغاتها من أفكارٍ وشعاراتٍ فتنت بعض الدول التي انتبهت إلى أنها بالفعل واقعةٌ تحت وطأةِ الاحتلالِ الأجنبي وإن كان غير مرئي فإذا بها تنتفضُ بعد أن فقدت لغتها وأضاعت أمنها اللغوي ففقدت انتمائها لتاريخها، وانفصلت عن مكوِّنات هويتها، لكنَّ لدى دولنا ما تستطيعُ به اليوم الحفاظ على أمنها اللغوي وذلك عبر تطبيق العديد من السياسات ومنها:
أولًا: أن تكون لدى الدولة مؤسسة تُعنى بهويتها تضعُ البرامج والخطط العملية للحفاظ على الأمن اللغوي إلى جانب المكونات الأخرى للأمن القومي.
ثانيًا: ترسيخ الاعتزاز باللغة -العامية والفصحى- بين أبنائها عبر وسائل مختلفة وفي أطر متنوعة.
ثالثًا: تيسير تعليم اللغة العربية بأساليب مشوِّقة وجاذبة وسلسلة في مؤسسات التعليم المدرسي والجامعي سماعًا وقراءة، فهمًا وكتابةً.
رابعًا: توعية الأُسر بالأمن اللغوي وما ينتجُ عنه من حفاظ على الهوية أو تضييعها.
خامسًا: فرض التحدث والتواصل باللغة العربية في عاميتها وفصيحها في مؤسسات العمل واقتصار استخدام الأجنبية مع المتحدثين بها.
أُؤكِّد على القول إنَّ علينا أن نُدرك قيمة الأمن اللغوي على هويتنا وانتمائنا، فالاعتناءُ بهِ اعتناءٌ بالحضارةِ، والتاريخ، والوجودِ، والمصير، وهذه هي أُسس استمرار الأمة، ومعقدِ مصيرها.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
«طاقة أبوظبي» تكشف عن الهوية المرئية لمنصّة AD.WE الرقمية
دبي (الاتحاد)
كشفت دائرة الطاقة في أبوظبي، خلال مشاركتها في فعاليات معرض «جيتكس جلوبال» 2025، عن الهوية المرئية لمنصّتها الرقمية الرائدة AD.WE المدعومة بقدرات الذكاء الاصطناعي، والتي تعكس قدراتها المبتكرة ومرونتها، إضافة إلى الكشف عن الجدول الزمني المحدد لخطوات تطوير المنصّة بالشراكة مع شركة «بريسايت».
كما عرضت الدائرة خمسة تطبيقات ذكاء اصطناعي مبتكرة لإدارة الموارد، ولتعزيز ريادة أبوظبي في مجال الابتكار في مجال الطاقة والمياه.
شهد حفل الإطلاق كل من معالي الدكتور عبدالله حميد الجروان، رئيس دائرة الطاقة في أبوظبي، ومعالي منصور المنصوري، نائب رئيس مجلس إدارة شركة بريسايت، وتوماس براموتيدهام، الرئيس التنفيذي لشركة بريسايت.
وتُعرض منصّة AD.WE كإحدى أبرز المبتكرات في «جيتكس جلوبال»، حيث يتم تقديمها عبر لوحة تحكم تفاعلية مباشرة ضمن جناح حكومة أبوظبي.
ويُظهر عرض AD.WE ريادة أبوظبي العالمية في تبنّي وتطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي للارتقاء بالخدمات الحكومية في الإمارة وتعزيز رفاه المجتمع.
وتُعد منصّة AD.WE الأولى من نوعها على مستوى العالم في مجال إدارة الطاقة والمياه المدعومة بالذكاء الاصطناعي، إذ تُمكّن من تحسين كفاءة استخدام كلّ قطرة ماء، وكل واط من الكهرباء، من خلال جمع مليارات السجلات التشغيلية الفورية والمسجلة ضمن سحابة رقمية آمنة تستضيفها دولة الإمارات، ما يتيح لمشغّلي المنظومة رؤية موحّدة وموثوقة لكل ما يمر عبر شبكات أبوظبي.
وتعمل تقنيات الذكاء الاصطناعي في الزمن الحقيقي على رصد فرص تعزيز كفاءة الطاقة في مراحلها المبكرة، بما يتيح توفيراً يصل إلى 30% في استهلاك المياه و20% في استهلاك الطاقة وتحقيق وفورات مالية تتجاوز 100 مليون درهم، كما تسهم في تقليل الانقطاعات وتحقيق أهداف الاستدامة ضمن الممارسات التشغيلية اليومية.
وبفضل اعتمادها الكامل على مصادر الطاقة المستدامة والمحايدة كربونياً للحصول على المياه والكهرباء، ستعمل منصة AD.WE على توسيع نطاق تكاملها لتشمل موارد أخرى من بينها التبريد المركزي والمنتجات البترولية.
وعند دخولها مرحلة التشغيل بكامل طاقتها، من المتوقع أن تحقق المنصة وفورات تصل إلى نحو 160 مليون متر مكعب من المياه سنوياً، بما يعادل أكثر من 64 ألف مسبح أولمبي، بالإضافة إلى ترشيد 1.9 تيراواط/ساعة من الكهرباء سنوياً، بما يكفي لتزويد أكثر من 37 ألف منزل بالطاقة بحلول عام 2035.
وخلال مشاركتها في معرض «جيتكس جلوبال» الحالي، سلّطت دائرة الطاقة الضوء على حالات الاستخدام المبكرة مثل، تحسين ري المزارع والكشف الذكي عن التسربات وتحليلات الاستهلاك والتخطيط الشبكي.
وقد أثبتت هذه التطبيقات الدور المحوري لقدرات الذكاء الاصطناعي في تعزيز خفض استهلاك المياه والكهرباء بما يصل إلى 10%، وتخفيف الضغط على الشبكة، وتسريع الاستجابة لحالات التسرب، بالإضافة إلى تمكين عمليات التخطيط على المدى الطويل بأسلوب أكثر كفاءة.
كما تم الكشف عن الجدول الزمني المكوَّن من ثلاث مراحل لتطوير هذه المنصّة، والذي يعكس قابلية التوسّع والرؤية طويلة المدى لمنصة AD.WE في القطاع.
وقال معالي الدكتور عبد الله حميد الجروان، رئيس دائرة الطاقة في أبوظبي: من موقعها الرائد في قطاع الطاقة والمياه ومن خلال منصة AD.WE، تقدّم أبوظبي حلاً رائداً، سيسهم في تعزيز عوامل الاستدامة وكفاءة استخدام الطاقة والتحول الرقمي، وبالاعتماد على قدرات الذكاء الاصطناعي ومصادر الكهرباء المحايدة كربونياً، ستعمل المنصة على تعزيز مرونة منظومتي المياه والطاقة، ودعم الإطار الاستراتيجي لإمارة أبوظبي في قطاع الخدمات، بما يضع مسارًا واضحًا نحو مستقبل أكثر أماناً واستدامة.
ومن جانبه، قال توماس براموتيدهام، الرئيس التنفيذي لشركة بريسايت: تمثّل منصة AD.WE خطوة جريئة نحو مستقبل تُسهم فيه البيانات وتقنيات الذكاء الاصطناعي في تحويل قطاع المرافق والخدمات، ونفخر في «بريسايت» بالتعاون مع دائرة الطاقة في أبوظبي للمشاركة في تطوير هذه المنصّة الرائدة عالمياً، والتي تُجسّد قوّة الذكاء الاصطناعي في تعزيز الاستدامة والكفاءة والمرونة.
وفي هذا السياق، أعلنت دائرة الطاقة خلال مشاركتها في معرض جيتكس جلوبال عن إطلاق خدمة «مختبر الذكاء الاصطناعي» على منصّة AD.WE التي ستتيح إمكانية تنفيذ مشاريع متقدّمة تشمل: التنبؤ بالطاقة الشمسية والطلب ورصد واكتشاف مواطن الخلل وتحسين الري وتعزيز عمليات المحاكاة الذكية بالإضافة إلى «وكيل محادثة» شامل ومتعدد الاستخدامات.
وتعزز خدمة «مختبر الذكاء الاصطناعي» مهمة منصّة AD.WE في دفع الابتكار المستند إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي والارتقاء بتبني وتطبيق مبادئ الاستدامة ضمن منظومة المرافق العامة في أبوظبي، بما يدعم «استراتيجية الإمارات للحياد المناخي 2050» و«استراتيجية أبوظبي لكفاءة الطاقة والمياه 2030».