دائما ما يكون للحقيقة وجهان، أحدهما معلن ظاهر والآخر خفي مستتر، يعلو أحدهما على الآخر، وحسب الصوت الأعلى وتصدر المشهد يبرز أحد الوجهين ليصبح هو العنوان الأهم للمشهد والصورة.
يقول عالم الإيرانيات ريتشارد نلسون فراي "كان مجد إيران دوماً في ثقافتها"، فقد تميزت الثقافة الإيرانية رغم مرورها بالعديد من المؤثرات الثقافية سواء في العصر القديم أو الحديث بتمسكها بهويتها القومية، فاستفادت من الثقافات المختلفة، ولذلك أقامت لنفسها صرحاً ثقافياً يتماشى مع هويتها القومية.


ولأن نظرتنا كثيرا ما تتأثر للتراث الثقافي والحضاري للدول بالوضع السياسي وتكون منطلقاً للحكم على ممارساتها السياسية، فقد تجلى هذا الأمر على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لكن بصرف النظر عن الممارسات السياسية والحكم عليها فإن إيران تتمتع بتاريخ حضاري وثقافي قلما يوجد للكثير من الدول في العالم، وهو ما يجعلنا نتساءل عنه، عن ذلك الجانب الخفي من المشهد، إيران ثقافيا وحضاريا، من هو الإيراني، الفارسي الجديد، أهو ذلك المشاكس الذي لا يملك من القوة سوى نوويتها، ويفتح دوما صدره للعالم متباهيا بما يملك، أم أن له وجها ثقافيا وحضاريا لا يعرفه الكثيرون، حتى ناء واستتر تحت وطأة الوجه الأعلى صوتا والذي فرضه عليه التوجه السياسي؟

يجيبنا عن ذلك التساؤل الدكتور أحمد سامي، استاذ اللغة الفارسية والدراسات الإيرانية بكلية الآداب جامعة عين شمس، حيث يقول:
إن النظر إلى الثقافة الفارسية يجب أن يأخذ بعين الاعتبار التراث الثقافي الفارسي، حيث إن إيران دولة صاحبة حضارة تمتد لآلاف السنين قبل الميلاد، وقد خضعت لحكم إمبراطوريات عظيمة كالإمبراطورية الهخامنشية والأشكانيين والبارثيين والساسانيين، وقد كان الملك كوروش الهخامنشي صاحب أول ميثاق لحقوق الإنسان منذ عام 539قبل الميلاد بعد أن استولى على مدينة بابل عام 539 قبل الميلاد، وتشجع تلك الاسطوانة المكتوبة بالنقوش المسمارية على حرية العبادة في جميع أنحاء الامبراطورية الفارسية، وتسمح للسكان الذين تم تهجيرهم بالعودة إلى أوطانهم.
وقد كانت هناك إمبراطوريتان عظميان سيطرتا على العالم فيما قبل الإسلام هما إمبراطوريتا الفرس والروم، وبالرغم من أن كلتيهما قد تم فتحهما على يد المسلمين، فإن الثقافة والحضارة الإسلامية قد انتشرت في العالم الإسلامي آنذاك وتولت الفرس إدارة شئون الإسلام وساهمت في نهضته التي كانت أساساً للنهضة الأوروبية فيما بعد، بينما لم تضطلع الحضارة الرومانية بمثل هذا الدور الذي أحرزه الفرس.. وأما منذ ما بعد الإسلام وحتى الوقت الحاضر فقد كان ولازال لدى إيران إرثٌ حضاري كبير في الأدب والشعر والفنون والعمارة والخط والموسيقى، وأضيف إليه في العصر الحديث السينما الإيرانية.

حُكمت إيران بعد الإسلام من قبل العديد من الدول وقامت في العديد من الحركات والدويلات بدءً من الطاهرية والصفارية والسامانية والغزنوية والسلجوقية مروراً بالتيموريين والصفويين والقاجاريين والبهلويين ثم الجمهورية الإسلامية.
وعن ذلك المزيج الذي يميز الحضارة  والثقافة الإيرانية يضيف "سامي":
امتزجت الحضارة الفارسية بالإسلام عند دخولها تحت رايته وأنجب هذا الامتزاج علماء وفلاسفة أثروا الحضارة الإسلامية، ولازالت آثارهم باقية إلى الوقت الحالي، ومن بين علماء الفرس في الدولة الإسلامية نذكر منهم في الطب ابن سينا وأبو بكر الرازي.. في الرياضيات الخوارزمي.. في الحديث البخاري ومسلم والنسائي.. في الفلك: الخيام.. في النحو: سيبويه. في الفلك والرياضة أبو الريحان البيروني.. والكثير غيرهم.. وفي الأدب حافظ وسعدي والعطار والخيام وغيرهم.. كل هؤلاء أثروا الحضارة والثقافة الإسلامية.
إن التراث الثقافي الإيراني مزيج بين التراث الإسلامي الإيراني وتراث ما قبل الإسلام، ويتضح ذلك في الأسماء التي ترتبط بتاريخ ما قبل الإسلام مثل بهرام، رستم، جمشيد، والإسلام التي ترتبط بالإسلام الشيعي مثل علي، حسن، حسين، مهدي وغيرها.. كما تتضح الإزدواجية التراثية كذلك في الأعياد التي تتنوع ما بين أعياد قومية إيرانية مثل "شب يلد" أو ليلة الميلاد، وعيد النيروز، وما بين الأعياد الإسلامية مثل عيد الأضحى وذكرى عاشوراء وغيرها..
ويتابع "سامي": وأما في العصر الحديث فإن إيران تعرف جيداً قيمة القوة الناعمة والتراث الحضاري، وهي تقوم على رعايته جيداً، حتى وإن كانت تستخدمه لصالح تصدير ثورتها الإسلامية والتغلغل في الدول المجاورة، وهناك العديد من المؤسسات التي تتولى رعاية الأنشطة الثقافية نذكر منها على سبيل المثال في مجال اللغة مركز نشر اللغة الفارسية، بنياد سعدي، مجمع اللغة والأدب الفارسي.
وفي مجال العمارة، فقد شيد الإيرانيون في العصر الإسلامي كثيرًا من المساجد والأضرحة والمدارس والأسواق والخانات والقصور.
وفي مجال الموسيقى فقد كانت الموسيقى جزءًا من تراث الإيرانيين قبل الإسلام وخاصة في عهد الساسانيين لأنها كانت تستخدم في الطقوس الدينية الزرادشتية. ومن بين الآلات الموسيقة الفارسية التار والسه تار والطنبور وغيرها.. وتخافظ الموسيقى الإيرانية على هويتها، رغم أنها لم ترفض التأثر بالروافد الأخرى الشرقية منها أو الغربية.
وأما السينما الإيرانية، فقد دخلت إيران مع بدايات القرن العشرين منذ عهد الشاه مظفر الدين القاجاري، وخضعت لتحديات وتأثيرات فيما بعد كان من أهمها الثورة الإسلامية الإيرانية، ولكن السينما الإيرانية اليوم تحظى بشهرة عالمية، وحصدت عدة أفلام إيرانية وأفلام لمخرجين إيرانيين جوائز عالمية من بينها فيلم "جدایی نادر از سیمین" (انفصال نادر وسيمين) للمخرج أصغر فرهادي، وفيلم "لاک پشت ها هم پرواز میکنند" (السلاحف تسطيع الطيران) للمخرج بهمن قبادي وغيرها.
فرغم حصول الأفلام الإيرانية على جوائز عالمية، لكنها التزمت بالضوابط الموجودة في البلاد.

د.أحمد سامي

 

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: إيران الجمهورية الإسلامية الإيرانية قبل الإسلام فی العصر

إقرأ أيضاً:

«تطاولت على الحضارة».. دعوى لحظر صفحات فدوى مواهب ومنعها من التدريس

تقدم الدكتور هاني سامح، المحامي، بدعوى أمام محكمة القضاء الإداري تحمل رقم 45788 لسنة 79 قضائية، يطالب فيها بحظر ومنع صفحات فدوى مواهب على وسائل التواصل الاجتماعي، ومنعها من التدريس في المدارس، واتخاذ الإجراءات القانونية لمعاقبتها على ممارسة الدعوة الدينية والفتوى دون ترخيص واستغلال الدين لأغراض تجارية، وذلك في إطار مواجهة الفكر الرجعي الذي يسيء للحضارة الفرعونية الخالدة.

في دعواه، أكد الدكتور هاني سامح أن الحضارة الفرعونية تمثل معلمًا إنسانيًا خالدًا تقف أمامه البشرية بإجلال، وتعد من أهم ركائز الاقتصاد المصري ومصدرًا لجذب السياحة الدولية. وأوضح أن الحضارة المصرية كانت ولا تزال رمزًا للحداثة والعلم، وقدمت للبشرية إنجازات لا تزال مبهرة للعلماء والمتخصصين في مختلف المجالات.

وأشار إلى أن فدوى مواهب، بعد اعتزالها العمل الفني، حولت نشاطها إلى ما أسماه "السبوبة الدينية"، حيث اتخذت من صفحاتها على وسائل التواصل الاجتماعي منصة لنشر الأفكار الرجعية والمتطرفة المسيئة للفنون المصرية والفكر الحداثي، مع التعدي على الحضارة الفرعونية العظيمة، كما مارست الدعوة الدينية والتدريس في بعض المدارس دون الحصول على ترخيص رسمي من الجهات المختصة، مما يشكل مخالفة صريحة لقانون تنظيم ممارسة الخطابة والدروس الدينية.

اتهم الدكتور هاني سامح فدوى مواهب بنشر التطرف الفكري عبر وسائل التواصل الاجتماعي واستغلال المدارس المتعاقدة معها كمنصات لترويج أفكارها الهدامة، مما يهدد مدنية الدولة المصرية ويخالف القوانين المنظمة للإعلام والدعوة الدينية.

وأشار إلى أن تلك التصرفات تتنافى مع مبادئ الجمهورية الجديدة، التي تسعى إلى إرساء قيم التنوير والحداثة على غرار رواد النهضة المصرية من قاسم أمين إلى نجيب محفوظ.

استندت الدعوى إلى عدة مواد قانونية من بينها قانون تنظيم الصحافة والإعلام رقم 180 لسنة 2018، الذي يحظر نشر أو بث أي مواد إعلامية تدعو إلى الكراهية أو العنف أو التمييز الديني. كما استند إلى قانون 51 لسنة 2014 الذي ينظم ممارسة الخطابة والدروس الدينية، ويشترط حصول الدعاة على ترخيص رسمي من وزارة الأوقاف أو الأزهر الشريف.

وأكد الدكتور هاني سامح في دعواه أن نشاط فدوى مواهب يخالف الدستور والقوانين التي تمنع تأسيس مواقع إلكترونية أو وسائل إعلامية ذات طابع ديني متطرف أو محرض على الكراهية. وطالب بحظر صفحاتها على منصات التواصل الاجتماعي مثل "إنستاجرام" وغيرها، ومنعها من التدريس في المدارس لتورطها في استغلال الدين لأغراض تجارية وترويجها لأفكار رجعية تتنافى مع الهوية الحضارية المصرية.

جاءت الدعوى بطلبين رئيسيين اولهما حظر صفحات فدوى مواهب على وسائل التواصل الاجتماعي وذلك بسبب نشرها لمحتوى ديني متطرف يستغل الدين لأغراض تجارية ويخالف قيم الدولة المدنية، والثاني منعها من التدريس في المدارس وحظر ممارستها الدعوة الدينية دون ترخيص لما يشكله ذلك من انتهاك للقوانين المنظمة لممارسة الخطابة والدعوة الدينية.

وجه الدكتور هاني سامح الدعوى ضد كل من رئيس المجلس الأعلى للإعلا ووزيري التعليم و الأوقاف ورئيس الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات والمستشار النائب العام، وأكد في دعواه أن الدولة المصرية تلتزم بضمان مدنيتها وحماية هويتها الحضارية من محاولات تشويه التاريخ والترويج لأفكار ظلامية. وأضاف أن الدعوى تأتي في إطار الحفاظ على التراث المصري وصون السياحة الثقافية من حملات التشويه المتعمدة.

من المقرر أن تنظر محكمة القضاء الإداري الدعوى في جلساتها المقبلة، حيث يأمل مقدم الدعوى في أن تصدر المحكمة حكمًا يرسخ مبادئ الدولة المدنية ويحمي الحضارة الفرعونية من محاولات التشويه واستغلال الدين لتحقيق مكاسب تجارية.

اقرأ أيضاًمقتل طالب في شبين القناطر بعد الاعتداء عليه من 3 أشخاص

«قتيل و4 مصابين».. تفاصيل ليلة الرعب في مشاجرة البساتين

كواليس مصرع سائق تحت عجلات سيارة في المرج

مقالات مشابهة

  • الإدارة الأمريكية تتوعد بإستهداف السفن الإيرانية التي تحاول تقديم الدعم للحوثيين
  • الصدر بشأن عمليات تجميل الوجه: لا إشكال فيها ما لم تستلزم الحرام
  • البيت الأبيض: أخطرنا إيران بإنهاء دعمها للحوثيين بعد الضربات التي تلقتها
  • ضمن برنامج هدية خادم الحرمين.. “الشؤون الإسلامية” توزع 4 أطنان من التمور الفاخرة في البرتغال وألمانيا 
  • «تطاولت على الحضارة».. دعوى لحظر صفحات فدوى مواهب ومنعها من التدريس
  • مجمع البحوث الإسلامية: مشهد مائدة المطرية صورة حية للوحدة والتسامح في مصر
  • رئيس الجمهورية يخالف الحقيقة التي تؤكد “إن إيران من قصفت حلبجة بالكيمياوي وليس العراق”
  • أهانت الحضارة المصرية.. بلاغ للنائب العام ضد المخرجة فدوى مواهب
  • FP: هل يتمكن حكام سوريا الجدد من مواجهة المشاكل التي زرعها الاستعمار الغربي
  • أستاذة مقارنة الأديان بجامعة الزقازيق لـ "البوابة نيوز": الحضارة الإسلامية قدمت نموذجًا مبكرًا لاحترام التعددية الثقافية.. ورمضان فرصة للتقارب والتسامح