الموسيقى العُمانية.. التطور البنيوي من اللحن الخطي الواحد إلى عالم الأوركسترا الهارمونية
تاريخ النشر: 28th, April 2024 GMT
د. ناصر الطائي
منذ انطلاقة النهضة العُمانية الحديثة، منذ أكثر من نصف قرن من الزمن، أولت عُمان اهتمامًا متميزًا وخاصًا بالفنون، وأشرف السلطان الراحل قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- على تأسيس مركز عُمان للفنون التقليدية لحفظ وصون الموسيقى العُمانية، وتأسيس الفرق الشرقية الأولى والثانية والأوركسترا السيمفونية السلطانية العُمانية والجمعية العُمانية لهواة العود؛ لترسم خرائط واضحة للنهوض بالفنون العُمانية والعربية والعالمية، ويتواصل هذا الاهتمام السامي بالفنون تحت رعاية حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- حيث تكتسب الفنون أهمية خاصة في رؤية "عُمان 2040"، والتي تنص على أهمية الحفاظ على الهوية العُمانية من أجل تأسيس شخصيات عُمانية تعتز بماضيها وتاريخها التليد وفي نفس الوقت منفتحة على ثقافات العالم.
وجاء افتتاح دار الأوبرا السلطانية مسقط في 2011 لتكون الحاضنة الأساسية لتقديم الفنون الراقية ولتكون جسرًا للحوار بين الثقافات. كما أُعلن عن تأسيس مجمع عمان الثقافي الذي تفضّل حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المعظّم -حفظهُ الله ورعاهُ- بوضع حجر أساسه بمرتفعات المطار في محافظة مسقط، كإضافة جديدة وإنجازحضاري وثقافي وعلمي وفكري عُماني، وكيان مؤسسي ليكون صرحًا من صروح عُمان الحديثة. وسيحتوي المجمع على ثلاث مؤسسات وطنية مهمة في منشأة واحدة، وسيكون بمثابة مساحة حيوية مخصصة لجمع وحفظ وعرض الفنون والثقافة الحية والتاريخية والمعاصرة في سلطنة عُمان.
ويتكون مبنى مجمع عُمان الثقافي من 3 مبانٍ رئيسة (المسرح الوطني، والمكتبة الوطنية، وهيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية)، إضافةً إلى 8 مبانٍ لمرافق المجمع بمساحة إجمالية لأرض المشروع تبلغ 400 ألف متر مربع، فيما تبلغ مساحة البناء الإجمالية لمكونات المشروع 80 ألفًا و200 متر مربع.
وسيُسهم المجمع في النهوض بالعمل الثقافي والأدبي والمسرحي والبحثي وتعزيز الأنشطة والفعاليات والبرامج وتطوير مجالات العمل وحفظ الذاكرة الوطنية لتاريخ وإنجازات سلطنة عُمان، ويشتمل على عددٍ من المكونات وهي: المسرح الوطني والمكتبة الوطنية ومكتبة الأطفال ودار الفنون ودار السينما والمنتدى الأدبي وهيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية وقاعات للفنون التشكيلية، إضافةً إلى توفر خدمات المطاعم والمقاهي والحديقة العامة.
وسيكون لكل هذه المنجزات دور مُهم في إثراء الحراك الثقافي والفني في سلطنة عمان ونقل المخزون الثقافي والذاكرة الثقافية بين الأجيال، وإبداع المستحدث من الأنماط الفكرية والسلوكية.
وتؤدي هذه المؤسسات الثقافية والفنية دورا بارزًا في حماية التراث الفكري والثقافي العربي ونشره؛ حيث إن للمؤسسات الثقافية والفكرية العربية دورًا أساسيًا في حفظ التواصل بين الأجيال دون التعارض بين ما هو مستحدث وبين الفنون المتوارثة للوطن.
المواهب العمانية
في الآونة الأخيرة وضع الفنانون العمانيون بصمتهم على الساحة الفنية والثقافية العالمية؛ حيث فازت الروائية جوخة الحارثي بجائزة مان بوكر العالمية لعام 2019عن روايتها "سيدات القمر" في نسختها المترجمة" الأجرام السماوية" وفق ما أعلنت لجنة الجائزة في وقت متأخر من ليل الثلاثاء، وبذلك تكون الحارثي أول عربية تفوز بهذه الجائزة الدولية المهمة.
وفاز الفنان مسلم الكثيري بأحد الجوائز التكريمية القيمة للأغا خان، كما حقق الفنان العماني أمير بن عوض جائزة المسابقة الدولية في التأليف الموسيقي العربي لعام 2023؛ إذ أعلن المجمع العربي للموسيقى التابع لجامعة الدول العربية عن العمل الذي فاز بالمسابقة الدولية التي نظمها في التأليف الموسيقي العربي للعام 2023، عن عمل "اشتياق".
ولا يفوتنا في هذا السياق أن نسجل تألق المرأة العمانية إلى جنب مع أخيها الرجل في الدفع بعجلة الحركة الثقافية في السلطنة. وكانت قد اتسعت مشاركة المرأة العُمانية في الحياة السياسية والتي تمثلت مشاركتها في انتخاب أعضاء مجلس الشورى للفترة العاشرة نقطة محورية من أجل تنمية هذا الوطن ومواكبة الرؤى والتوجهات الداعمة للنهوض بالمرأة في سلطنة عُمان. وفي مجال الثقافة والفنون تعد المرأة العمانية سباقه في إثراء الحوار الثقافي حيث تشارك المرأة في كافة المجالات كشاعرة وأديبة وقاصة وكاتبة وعازفة. وإنه لمن دواعي الفخر في عمان وجود أفضل عازفات على الآلات الموسيقية كالعود والناي والقانون والكمان والتشيلو والفلوت والبوق الفرنسي والتيمباني وغيرها والتي تعد ثروة وطنية لا تضاهى في البلدان العربية.
"أناشيد الحب والانتصار"
في يناير الماضي وبدعم من جريدة "الرؤية" وبالتعاون مع النادي الثقافي، أطلقنا مبادرة "أناشيد الحب والانتصار"؛ وهي مجموعة من الأعمال الموسيقية التي قمت بتلحينها من أجل التضامن والتعبير عن دعمنا وتلاحمنا للصمود الفلسطيني ولأشقائنا في غزة الأبية التي تواجه هجمة وحشية من كيان صهيوني مغتصب يكسر كل الأعراف والقيم الأخلاقية والإنسانية.
ويهدف المشروع إلى تسليط الضوء على الدور الفعال للفنون في المقاومة وهو وجه تميزت به الأغنية العربية طوال فتراتها التاريخية المعاصرة؛ فكانت هناك أغاني سيد درويش والشيخ إمام في مصر، ومارسيل خليفة وفيروز واحمد قعبور وجوليا بطرس في لبنان وأغاني جيل جلاله والناس الغيوان في المغرب. وهناك أيضا تاريخ كبير من الفنون الفلسطينية التي تساند وتدعم المقاومة من أمثال فرقة "دام" وصابرين والمطرب محمد عساف. ولا ننسى الأغاني الشعبية للمرأة الفلسطينية الباسلة والتي تعرفنا عليها في "طوفان الأقصى" مثل "شدو بعضكم" و"يا طالعين الجبل" وجورج توتاري "تحيا فلسطين".
وركز مشروع "أناشيد الحب والانتصار" أيضا على رسم خارطة طريق جديدة للأغنية العمانية وشددنا على أن تكون هذه الخارطة واضحة المعالم وذات رؤية طلائعية تكسر الحواجز اللغوية واللحنية الأدائية وتنطلق إلى آفاق أكثر حرية وأوسع رحابة من الناحية الجغرافية والفنية مستندين على موروث عماني تليد وثري.
فقمنا بتقديم نشيد "فلتسمحي بالرحيل" وهو من كلمات هند الحمدانية، وترنيمة "رحال المجدلية" والتي جاءت في قالب المالد العُماني، وأغنية "غزة حبيبتي" والتي استوحيناها من فن التعويب العُماني القديم، وأغنية "غزة يا بنت عمي" والتي جمعت بين فن الدبكة الفلسطينية وفن الربوبة العُماني. والأعمال الثلاثة الأخيرة هي من كلمات الشاعر العماني سماء عيسى.
وفي مارس الماضي أضفنا أيضا "عازي غزة"، واستوحيناه من فن العازي العُماني والذي يركز على مواضيع الفخر والشجاعة والولاء والمديح ليظهر في قالب جديد يتفاعل مع معطيات الواقع ويساند القضية الفلسطينية في مسيرتها الأبية نحو الحرية والاستقلال والكرامة.
وقمنا في الفترة الماضية أيضا بتقديم أعمال أوركسترالية تفتح صفحات جديدة للموسيقى العُمانية وتتحدث بمنظور عالمي ومكتوب وتستخدم لغة هارمونية معقدة ومبنية على تعدد الألحان فقدمنا: سيمفونية الأمل، والسيمفونية الشرقية، وسيمفونية أحمد بن ماجد، وافتتاحية "ثلج" و"عمان 2020"، وسيمفونية "حفار القبور" والمبنية على قصيدة بدر شاكر السياب، وسيمفونية "طائر النار". وهي أعمال ونتاج شغف الفنون والموسيقى على مدى اكثر من ربع قرن من الزمان والبحث المتواصل وتشكل الأعمال اللبنة الأولى لنتاجات عُمانية مكتوبة خارج نطاق الواجبات والأعمال التجريبية، وبالإمكان تقديمها والمشاركة بها في المحافل العالمية.
وتهدف هذه الأعمال للارتقاء بالموسيقى العُمانية من حيز الارتجال واللحن الخطي الواحد إلى عالم الأوركسترا الغني بتنقلاته المقامية والهارمونية الثرية بتعددها اللحني ولغتها العالمية التي يفهمها كل عازف محترف في العالم من الصين شرقًا إلى البرازيل غربًا، وبالتالي فهي تخرج بالموسيقى العُمانية إلى آفاق رحبة من التألق والرقي.
وتهدف هذه الأعمال العالمية وبروح شرقية إلى تشكيل بوتقة جديدة تشدد على التواصل مع الموروث الانفتاح على ثقافات العالم وتبرز التقدم والاهتمام الفني والثقافي للسلطنة في تقديم موسيقى راقية وسامية مبشرة لحضور الثقافة وتفعيل الثقافة الدبلوماسية. ولنا في الحفلات العالمية للأوركسترا السيمفونية السلطانية العمانية في باريس وبرلين ولندن وأبوظبي وغيرها من المحطات العالمية، خير دليل على الخط المتميز الذي رسمته السلطنة، وبجهود محلية وعمانية نفخر بها، كمؤسسة وطنية وعربية رائدة للخروج عن النزعة الاستهلاكية التي طغت على حياتنا اليومية وقدمت مثالا رائعا للإرتقاء بالفنون العالمية فكانت خير سفير لسلطنة عمان تنشر مبادئ المحبة والسلام والانفتاح على ثقافات الشعوب.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
السيمفوني يعزف الموسيقى الغنائية بمناسبة الكريسماس في الأوبرا.. هذا الموعد
ضمن أنشطة الثقافة المصرية الإبداعية وبمناسبة الكريسماس، تقيم دار الأوبرا برئاسة الدكتورة لمياء زايد حفلاً لأوركسترا القاهرة السيمفوني ضمن سلسلة "الموسيقى الغنائية" ويقوده المايسترو الأرمني جيفورج سرجسيان بمشاركة الباريتون رضا الوكيل والتينور عمرو مدحت، ومصاحبة كورال أكابيلا تدريب وقيادة مايا چيڤينريا، وذلك في الثامنة مساء السبت 21 ديسمبر علي المسرح الكبير.
يتضمن البرنامج متتابعة الحفل التنكرى لآرام خاتشاتوريان، دانزون رقم ٢ لآرتورو ماركويز نافارو بإلإضافة إلى قداس المجد لبوتشيني.
يشار إلى أن دار الأوبرا المصرية، أعدت مجموعة من الأنشطة المميزة بمناسبة الكريسماس وإحتفالا بالعام الميلادى الجديد، وتشمل مختلف ألوان الفنون العالمية والأعمال الإبداعية الجادة.
أنشطة دار الأوبرادار الأوبرا المصرية، أو الهيئة العامة للمركز الثقافي القومي افتتحت في عام 1988 وتقع في مبناها الجديد والذي شُيد بمنحة من الحكومة اليابانية لنظيرتها المصرية بأرض الجزيرة بالقاهرة وقد بنيت الدار على الطراز الإسلامي.
ويعتبر هذا الصرح الثقافي الكبير الذي افتتح يوم 10 أكتوبر عام 1988 هو البديل عن دار الأوبرا الخديوية التي بناها الخديوي إسماعيل العام 1869، واحترقت في 28 أكتوبر العام 1971 بعد أن ظلت منارة ثقافية لمدة 102 عاما.
ويرجع تاريخ بناء دار الأوبرا القديمة إلى فترة الازدهار التي شهدها عصر الخديوي إسماعيل في كافة المجالات، وقد أمر الخديوي إسماعيل ببناء دار الأوبرا الخديوية بحي الأزبكية بوسط القاهرة بمناسبة افتتاح قناة السويس، حيث اعتزم أن يدعو إليه عدداً كبيراً من ملوك وملكات أوروبا.
وتم بناء الأوبرا خلال ستة أشهر فقط بعد أن وضع تصميمها المهندسان الإيطاليان أفوسكانى وروس، وكانت رغبة الخديوي إسماعيل متجهة نحو أوبرا مصرية يفتتح بها دار الأوبرا الخديوية، وهي أوبرا عايدة وقد وضع موسيقاها الموسيقار الإيطالي فيردي لكن الظروف حالت دون تقديمها في وقت افتتاح الحفل.
وفقدمت أوبرا ريجوليتو في الافتتاح الرسمي الذي حضره الخديوي إسماعيل والإمبراطورة أوجيني زوجة نابليون الثالث وملك النمسا وولى عهد بروسيا.