ذﻛﺮى اﻷﻳﺎم اﻷﺧﻴﺮة ﻣﻦ ﺣﻴﺎة المسيح
تاريخ النشر: 27th, April 2024 GMT
تلاميذ مخلص العالم.. أحدهم خانه وآخر كتب الإنجيل
من «الشعانين» إلى «القيامة».. قصة خلاص الإنسانية
متحدث الكنيسة يكشف لـ«الوفد» طقوس الأقباط فى أسبوع البصخة المقدسة
القس رفعت فكرى: القيامة رسالة أمل ورجاء متجدد
القس ميشيل ميلاد: فرصة ليعيش الجميع حياة التوبة التى دفع ثمنها المسيح
تدق الكنيسة الارثوكسية، اليوم الأحد، أجراسها فى كافة الإيبارشيات والطوائف بالمحافظات المصرية، إعلاناً ببدء فترة روحية تعتبر هى الأقدس فى حياة الأقباط، وتحمل خصوصية روحية كبيرة تفيض محبتها قلوب المسيحيين لما فيها من معانى تقدير وامتنان للسيد المسيح الذى ضحى وقدم نفسه فداءً للبشرية وكان هو مُخلص العالم من سنوات الظلام والاستبداد.
يأتى هذا الأسبوع السابع من فترة الصوم الكبير الذى بدأ مارس الماضى على مدار 55 يوماً، وينتهى 5 مايو المقبل من خلال احتفالية عيد القيامة المجيد، وشهد الأقباط الجمعة الماضية «ختام الصوم»، بينما استهل أمس أسبوع البصخة المقدسة أو كما يعرف بـ«أسبوع الآلام»، ذكرى آخر أيام فى حياة السيد المسيح.
البصخة المقدسة
تعرف هذ الفترة بـ«أسبوع البصخة المقدسة» وبحسب عظة البابا تواضروس السابقة فى هذه المناسبة، أنها أيام تصلح لجميع البشر وعندما يدخل المُصلى إلى الكنيسة ويجد الرايات السوداء معلقة فهى ليست للكنيسة بل هى للجميع وعندما يشارك المصلون فى ألحان حزينة تكون على النفس الإنسانية فهذا الأسبوع هو ذكرى آخر أيام المسيح على الأرض والتى شهدت آلامه وصلبه وقدم نفسه ذبيحة وفداء وصار مفعول هذه الذبيحة ممتداً فى الزمن إلى نهاية الأجيال، وكلمة «بصخة» هى كلمة معربة ذو أصل يونانى وتعنى بالعبرى «الفصح»، ويقصد بها العبور والاجتياز وهو المعنى الروحى والنفسى خلال أسبوع الآلام.
أحداث أسبوع الآلام
يأتى فى «سبت لعازر» عدة أحداث منها إقامة لعازر وذهاب يسوع المسيح إلى مدينة إفرايم، وذكرى تطييب السيدة العذراء لابنها المسيح بالطيب فى بيت عنيا، ثم يوم الأحد «أحد الشعانين» دخول المسيح أورشليم فى موكب عظيم وطلب اليونانيين أن يروا يسوع، وفى يوم الاثنين، كانت ذكرى «شجرة التين غير المثمرة وتطهير السيد المسيح للهيكل للمرة الثانية»، وخلال يوم الثلاثاء كان تسعة أحداث، تأتى فى مقدمتها قصة الشجرة اليابسة وسؤال الرؤساء عن سلطان المسيح وهناك ذكرى ثلاثة أمثال إنذار وأسئلة اليهود، وذكرى سؤال المسيح الذى لا يرد عليه أحد، وأيضاً شهد اليوم ذاته نطق المسيح بالويلات للكتبة والفريسيين وقصة الأرملة الفقيرة ورفض اليهود للمسيح، وفى يوم الأربعاء كانت قصة سكب الطيب وخيانة يهوذا أحد تلاميذ المسيح.
و يوم الخميس الذى تم خلال العشاء الأخير وخطب المسيح الوداعية وصلاته الشفاعية، ويوم الجمعة هو اليوم الذى شهد تسليم المسيح للقضاء ومحاكمته أمام رؤساء اليهود ومن الوالى بيلاطس وصلبه وتعذيبه بشتى أنواع العذاب ثم دفنه فى القبر، ويأتى يوم سبت النور "واقعة الحراس على القبر" كما ورد فى سفر (مت 26: 72-66)، وأخيراً الأحد قيامة المسيح من بين الأموات.
البابا شنودة عن أسبوع الآلام: فترة اعتكاف وخلوة مع الله
لم تمر هذه المناسبة على الكنيسة عبر السنوات دون أن يترك آباء الأقباط رسالتهم وكثيراً ما يسترجع مركز معلم الأجيال التابع لكنيسة العذراء بالزيتون ذكريات وعظات البابا شنودة الثالث، الغائب الحاضر فى حياة الأقباط، وفى أسبوع الآلام القى عظة بطريرك الأقباط وضع لهم بعض التأملات والتعاليم التى يمكن أن تُحسن الجانب الروحى لأبناء الكنيسة، وتستمر جملته الذى أوصى فيها «أعيدوا ترتيب أنفسكم للتناول فى هذه الأيام المقدسة باعتراف وتوبة صادقة أمام الله وعزيمة قوية على أنكم تسلكوا حسن»، عالقة في الأذهان.
ويوصى ببعض المفاهيم التى يجب أن تكون حاضرة فى نفس المسيحيين وهى الشراكة أى يكون هناك إحساس مشترك بآلام المسيح وأن يكون هذا الأسبوع مخصصاً له لذا أفضل ما يقوم به المسيحى هو الاعتكاف والخلوة مع الله والبعد عن التشتت والأحاديث.
وقائع خالدة فى أذهان الأقباط
بدأت الكنيسة احتفالها أمس، بذكرى معجزة المسيح التى تعتبر ناقوسا يعلن من خلال بدء أسبوع الآلام ويعرف بـ«سبت لعازر»، وتعتبر واحدة من أهم معجزات السيد المسيح وتحتل مكانة كبيرة فى التاريخ المسيحى، حيث تعيد إحياء ذكرى قيامة «لعازر» من القبر بعد موته بأربعة أيام، ويتخذ هذا اليوم عيداً للأطفال، وتحرص الكنائس القبطية على إقامة الصلوات والعظات الروحية.
وعندما ذاعت شهرة السيد المسيح وأنه صاحب هذه المعجزة، كانت حالات الترقب والانتظار لشعب مدينة القدس «أورشليم حسب ما ورد ذكرها فى الكتب المسيحية» الذين وضعوا آمالهم فى هذا البطل صاحب المعجزات، ووقفت الجموع فى جانبى الطرق لاستقبال المسيح الذى كان فى مخيلتهم أنه سيدخل على خيل كبير مرتدياً سيفاً قوياً، ولكنه دخل فى سلام بسيط الهيئة يركب جحشاً وهادئ الوجه ومنيراً يضىء فى طريقهم العتمة التى صنعتها سنوات الظلم والاستبداد فى ذلك الوقت.
وتتزين الكنائس بسعف النخيل والزيتون تشبيهاً لما حدث مع المسيح فى مثل هذا اليوم، وقد دخل المسيح، ومن حوله أهل وأطفال المدينة يحملون أغصان الزيتون وسعف النخيل، دخل المُخلص أرض هذه البلدة التى كانت تحمل خصوصية دينية صارمة وتحت احتلال الإمبراطورية الرومانية التى ُعينت والياً لكى يقود هذه البلاد المحتلة، كان فى هذا الزمن الوالى هو «بيلاطس النبطى»، القادم من بنطس فى آسيا الصغرى، فخرجوا مُهللين بكلمات «أُوصَنَّا هوشعنا» وتعنى أنقذنا وخلصنا حاملين أفرع النخيل والزيتون.
كانت هتافات أهل أورشليم تعلو فى سماء المدينة لأنهم كانوا يعلمون أن المسيح صاحب معجزات وأنه سيخلصهم من الاستعباد الرومانى، ولكن المسيح جاء من أجل تأسيس مملكة روحية ومن أجل الإنسان وتوبة القلوب وأعمال الرحمة والمحبة.
كان ينظر للمسيح فى تلك اللحظة بحسب ما ورد فى عظة «أحد الشعانين» لقداسة البابا تواضروس الثانى بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية العام الماضى، أنه فاتح عظيم فانتشرت الشعوب وعلت الهتافات والتهليل فى الشوارع ولكنها لم تكن خالية من علامات الاستفهام، ولكن حقيقة الأمر أن هذه الجموع التى انتظرت أن ترى بطلاً يحمل سيفاً وفق النظرة البشرية البسيطة للأمور جعلت جميع من هتف فى استقبال المسيح، يهتفون بعد مرور 5 أيام مطالبين حاكمهم الرومانى أن يصلب ويعذب المسيح، ويقول البابا إن المسيح جاء من أجل خلاص الإنسان من الخطية لذا هو المسيح الذى يمسح خطية الإنسان ولا يستطيع غيره فعل ذلك.
يعرف هذا اليوم فى الكنيسة بعدة أسماء، فهو «أحد الشعانين، أحد السعف، يوم الهتاف، يوم التهليل، يوم الزيتونة، يوم النخيل، يوم الأطفال، يوم الفقراء»، ويعتبر الأقباط هذه الذكرى عيداً لأنه يوم فريد فى حياة السيد المسيح والكنيسة، لذا يُعد أحد الأعياد السيدية فى حياة الكنيسة القبطية.
وتُعيد هذه الذكرى دخول المسيح إلى أورشليم قادماً من قرية صغيرة تعرف بـ«بيت عنيا»، وتحمل هذه اللحظة معنى رمزياً فهذه القرية تشبه من حيث الرمز «الأرض»، أما المدينة الكبيرة فهى «السماء»، وهو تعبير الرحلة السماوية الذى يعيشها الإنسان.
«المعاناة والخذلان» صاحبا المسيح فى حياته
يقول البابا تواضروس، فى عظة أسبوع الآلام العام الماضى، أن الحقيقة الجميع يحتفل فى هذا الأسبوع، ولكن فى الحقيقة هذه الأيام كانت حزينة ومؤلمة وجزءا من معاناة وآلام المسيح طيلة حياته والذي عاش فيها مخذول من الناس، ووفق ما جاء عنه فى سفر إشعياء النبى إصحاح (53) «رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحَزَنِ»، وهذا يعنى أنه لم يعذب المسيح أسبوعاً فقط بل كان العذاب والخذلان عنوان سيرته فى الأرض.
وورد فى الكتاب المقدس كثير من المواضع التى أكدت معاناة السيد المسيح وخذلانه من الجميع فقد جاء دليلاً فى الإصحاح «رفضونى أنا الحبيب مثل ميت مرذول» وفى سفر أرميا النبى الإصحاح الثانى «ركونى أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم آبارا آبارا مشققة لا تضبط ماء»، وفى سفر أشعيا النبى «مَاذَا يُصْنَعُ أَيْضاً لِكَرْمِى وَأَنَا لَمْ أَصْنَعْهُ لَهُ؟ لِمَاذَا إِذِ انْتَظَرْتُ أَنْ يَصْنَعَ عِنَباً، صَنَعَ عِنَباً رَدِيئاً؟».
خلال هذا الأسبوع هناك وقائع فارقة فى الإنسانية، مثل «خميس العهد» الذى يتمتع بمكانة كبيرة بسبب ما شهده من أحداث، وهو ذكرى العشاء الأخير للسيد المسيح مع تلاميذه وهو اليوم الذى غسل فيه المسيح أرجل تلاميذه ووعظ فيهم بأن يحبوا بعضهم البعض كما أحبهم هو وترك لهم وصيته، يتفرد بخصوصية روحية فى وجدان الأقباط لعدة أسباب ويمكن السبب أنه اليوم الذى شهد تأسيس أو إنشاء سر التناول (سر الأفخارستيا).
كان هذا اليوم الأخير الذى ألقى فيه المسيح تعاليمه وفى آخر ساعات يوم الخميس صلى صلاته الوداعية فى «بستان جثسيمانى»، وفى تلك الأثناء كان يتم الإعداد لصلبه وخيانته على يد أحد تلاميذه «يهوذا» الذى جاء بالجنود حتى يسلم لهم المسيح وتبدأ محاكمته ليلاً، وتأتى بعد ذلك الجمعة العظيمة كما تعرف فى الكنيسة وهو اليوم الذى صلب وتعذب فيه المسيح.
أنماط تلاميذ المسيح بين خائن وأمين
فسر البابا تواضروس فى عظة خميس العهد منذ عامين، أنواع تلاميذ السيد المسيح والتى تجسد أنماطا متعددة من البشر، هناك التلميذ الخائن «يهوذا» الذى باع المسيح ويمثل الإنسان غير الأمين فى حياته وعمله، والتلميذ المندفع «بطرس» يقول قداسته إنه الذى بعد معالجة ضعفاته بالحب صار يمثل الإيمان الذى يحياه الإنسان، واختتم عظته فى هذا السياق، بشخصية «يوحنا» تلميذ المحبة وهو مثال للمحبة والهدوء وله شروحات لاهوتية عميقة تدعو لها الأمر وكان أميناً فى كتابات الإنجيل.
وفى هذه المناسبة تواصلت «الوفد» مع القمص موسى إبراهيم يعقوب، المتحدث الرسمى باسم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، لتجرى معه حواراً عن أقدس أيام العام فى حياة الأقباط.
المصدر: بوابة الوفد
إقرأ أيضاً:
تحليل سياسي يكتبه محمد مصطفى أبوشامة: وانتصرت «أمريكا أولاً».. وسقطت العولمة
أعلنت وسائل الإعلام الأمريكية تقدماً كبيراً للرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب والمرشح الجمهورى على منافسته كامالا هاريس المرشحة الديمقراطية، وبات ترامب هو الرئيس الـ47 للولايات المتحدة الأمريكية، بحسب قناة «فوكس نيوز» التى استبقت الجميع معلنةً الخبر، قبل أن يطل علينا الرئيس القادم، والعائد إلى البيت الأبيض معلناً انتصاره، فى مفاجأة تؤكد من جديد ضلال استطلاعات الرأى، التى أوحت للعالم فى الأسابيع الأخيرة أن النتيجة أقرب إلى التعادل، ولكن الصناديق أظهرت اكتساح الترامبية للولايات المتحدة الأمريكية.
وحتى يتسنى لنا الاطلاع على النتائج الكاملة فى كافة الولايات الأمريكية، وتحليلها، كى نستطيع فهماً حقيقياً لما حدث فى الخامس من نوفمبر 2024، واتجاهات تصويت الناخبين، والتى عكست قرارهم بشأن ما عرضه عليهم كلا المرشحين من قضايا.
إذن ما الذى يعنيه فوز «ترامب»؟ الرجل الذى تمثل عودته رئيساً سابقةً لم تتكرر فى تاريخ الولايات المتحدة إلا مرة واحدة منذ 132 عاماً، بأن يحكم رئيس دورتين غير متتاليتين، سبقه الرئيس جروفر كليفلاند فى نهاية القرن التاسع عشر، كما سيكون ترامب أول رئيس فى التاريخ يفوز بعد إدانته جنائياً بارتكاب العديد من الجرائم الفيدرالية وعلى مستوى الولايات.
ترامب أولاً وأمريكا أيضاً
«أمريكا أولاً»، ليس شعاراً انتخابياً سينتهى أثره بعد أن يحقق هدفه، لكنه فلسفة حكم تبلورت بها (الترامبية) كظاهرة سياسية، اختبرها الشعب الأمريكى بين عامَى (2017 و2021)، وعاد ليختار صاحبها مجدداً لدواعٍ اقتصادية، بحسب اتفاق عام بين أغلبية المحللين، وإشراكهم الرأى مع عدم إغفال الأثر الكبير لـ«ذكورية» المجتمع الأمريكى كدافع رئيسى للتصويت ضد «هاريس».
والتصويت الذكورى سبق أن حقق لـ«ترامب» ولايته الأولى بعد فوزه أمام هيلارى كلينتون، ولا ننسى أنه عندما ترشح أمامه رجل خسر بالفعل، وفاز بايدن فى الانتخابات السابقة، هذا لا ينفى دور خطته السياسية، من الاقتصاد إلى المهاجرين، مروراً برفضه للإجهاض ودعواته المحافظة التى أيقظت شيئاً ما فى المجتمع الأمريكى، لقد أجاد ترامب اللعب على مشاعر الجماهير، ورسمت حملته صورة متميزة له؛ الرجل القوى المحافظ البارع اقتصادياً، الذى تخشاه دول العالم وتحاول قوى الشر اغتياله، فيما حصد دور البطولة بعد عملية اغتياله الفاشلة، وتحولت صورته بعد النجاة إلى أيقونة ترسخت فى المخيلة الأمريكية، تلك اللقطة التى رصدتها كاميرا مصور عبقرى، عندما نهض «ترامب» ثابتاً وشجاعاً رغم إصابته بعيار نارى، وهى صورة غسلت كل أخطائه وغفرت له ذنوبه أمام غالبية الأمريكيين.
وجاءت الفكرة
ليس استباقاً للحوادث، فالعالم كله بقى معلقاً طوال العام الأخير انتظاراً لهذا اليوم، عندما تنفض أمريكا يدها من مهرجان الانتخابات الرئيسية وتفيق لدورها الإمبراطورى.. كسيدة العالم وأقوى دولة فيه، بعد وصول ترامب، ما مصير هذا الدور فى ظل تراجعه الحاد خلال السنوات الماضية؟
يرى المفكّر الأمريكىّ جورج مودلسكىّ أن مدّة حياة أى «نظام عالمىّ» هى تقريباً 100 سنة، مقسّمة على 4 مراحل، لكلّ منها 25 سنة، المرحلة الأولى هى مرحلة الحرب الكبرى، الثانية هى مرحلة صعود المهيمن، الثالثة هى مرحلة فقدان المهيمن الشرعية والمصداقيّة فى عيون اللاعبين الدوليين. أما المرحلة الأخيرة فهى مرحلة فقدان مركز الثقل «Core» القدرة على إدارة أزمات وشئون النظام الذى أنتجه، وبذلك يصبح العالم «لا مركزيّاً».
وتحت عنوان «عندما تهوى الإمبراطوريات»، كتب فى وقت سابق المحرر العسكرى لصحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، موضحاً أن «تغيير الأمم يعنى تغيير المهيمن، وتغيير المهيمن يعنى مزيداً من الصراعات والحروب. ومزيد من الحروب يعنى أن التحوّلات والتغييرات فى موازين القوى العالميّة أصبحت واضحة ومؤثّرة». واستناداً لرأى مودلسكىّ حول دورة حياة النظام العالمى، يمكن لنا تصور حال النظام العالمى الحالى، فى ظل التراجع الملحوظ للدور الأمريكى (المهيمن)، والتخبط الواضح فى تعامله مع سائر الأزمات حول العالم.
الإمبراطورية الأمريكية!
وفى كتابه المهم «الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق» الصادرة طبعته الأولى عام ٢٠٠٣، عن دار الشروق المصرية، يعدد الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل فى نقاط محددة، مزايا هذه الإمبراطورية والتى جعلتها مختلفة ومحصنة إلى حد الكمال، فيصفها قائلاً: «هذه الإمبراطورية الأمريكية تملك من عوامل القوى الاقتصادية والمالية ما يتفوق على سابقتها طول التاريخ. وتوظف لخدمة أهداف أقوى وأكبر منجزات التقدم الإنسانى فى كافة المجالات. وتملك سطوة فى السلاح لم تتوافر لغيرها.. مع وجود توافق حرج بين التكنولوجيا العسكرية والتكنولوجيا المدنية.
واستطاعت أن تعرض نوعاً من جاذبية النموذج يمهد لتوسعها وانتشارها بغواية فى أساليب الحياة تعزز وسائط القوى. كما تمكنت من أسلوب جديد فى السيطرة.. يقوم على نظام شديد الجرأة والجسارة إلى درجة الاقتحام واختراق خصوصيات الدول والشعوب.. والقدرة على خطف وعى الآخرين وارتهانه.. أسير إعلام مصور وملون.. مكتوب وناطق.. يعطى لنفسه احتكار وضع جدول اهتمامات الرأى العام العالمى وسحب الآخرين وراءه».
ويضيف الأستاذ هيكل أن «هذه الإمبراطورية عاشت حياتها بعيدة عن أى تهديد مباشر لأرضها وسكانها، وراكمت من أسباب القدرة والثروة مدداً وفيراً، وبالتالى قدراً ضخماً من المناعة والثقة بالنفس يزيد أحياناً عن الحد»، وهو ما يصل بنا إلى الحكمة الصوفية المأثورة التى وظفها هيكل فى موضعها بالتمام، مؤكداً: «عند التمام يبدأ النقصان، فكل كائن حى له أجل، ولهذا الأجل مراحل، طفولة وصبا وشباب وكهولة وشيخوخة وموت، وذلك قانون نافذ حتى على الإمبراطوريات باعتبارها كيانات حية».
وهو ما يتوافق مع رأى مودلسكى حول دورة حياة النظام العالمى، فهل تمثل عودة ترامب هذا النقصان؟، وهل ما نعيشه هو لحظة الشيخوخة الإمبراطورية للولايات المتحدة الأمريكية؟، هذا ما سنراه ونعيشه فى السنوات الأربع القادمة التى تمثل مرحلة فارقة فى تاريخ العالم.
الشرق الأوسط أولاً
وُصفت عدم قدرة الرئيس الأمريكى الحالى جو بايدن على إيقاف الحرب فى غزة بالمسألة المهينة لكبرياء بلاده كقوة عظمى، فيما مثَّل انسياقه التام وراء رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو تأكيداً على فقدان الهيبة بسبب توغل نفوذ اللوبى اليهودى وهيمنته على مفاصل الإدارة الأمريكية، فبات صانع القرار الأمريكى لا يملك إلا استرضاء إسرائيل على الدوام.
وبفعل التقارب بين «ترامب ونتنياهو»، سيكون للشرق الأوسط أولوية وبالتوازى معه ستكون الحرب فى أوكرانيا أيضاً مساراً عاجلاً للرئيس «ترامب»، بهما سيطوى صفحة الحروب المشتعلة فى العالم، ويتبقى لديه ملفان هما إيران والصين، وكلاهما سيكون للحصار الاقتصادى دور كبير فى تجحيم قدرات الدولتين، وإن كان من غير المستبعد توجيه ضربة إسرائيلية برعاية أمريكية لإيران، والتى ربما تكون قبل دخول ترامب إلى البيت الأبيض.
أمريكا أولاً، تعنى فى مرحلتها الأولى الانتهاء السريع من ترتيب الأولويات الخارجية، للتركيز الكبير فى الشئون الداخلية وتعزيز القدرات الاقتصادية والتكنولوجية، وهذا ما يعزز وجود شخص مثل إيلون ماسك فى الفريق الرئاسى لترامب، والذى خصه بتحية وتقدير كبير فى خطابه الذى ألقاه «ترامب» فى فلوريدا مقر حملته الرئاسية وهو يعلن انتصاره على «هاريس». أما عن ضحايا الترامبية، ممن يتأهبون لسنوات الخسائر، تأتى فى مقدمتهم أوكرانيا وتزاحمها إيران على المركز الأول، فيما تأتى القضية الفلسطينية ثالثة، وتجاهد دول الاتحاد الأوروبى للهروب من قائمة الضحايا المتوقعين. لا أدرى موقع لبنان على خارطة الضحايا، وإن كنت أتمنى الوصول لوقف إطلاق نار على جبهتها قبل مغادرة بايدن للبيت الأبيض.
أما داخلياً فسيبقى السؤال معلقاً، إلى أى مدى سيكون انتقام «ترامب» من أعدائه والذين لقَّبهم بـ«أعداء الداخل»؟ وقد سربت وسائل إعلام قائمة بالأسماء والمؤسسات ممن اختلفوا مع ترامب وكانوا طرفاً ضده خلال السنوات الأربع الماضية.
وختاماً، فقد فاز «ترامب» بفعل المزاج اليمينى المهيمن على المجتمعات الغربية، وإن كانت أخطاء الحزب الديمقراطى الكبرى هى التى مهدت الطريق له لتحقيق فوز ساحق، زلات ولاية بايدن، والإصرار على بقائه مرشحاً للحزب وتأخر الدفع بـ«هاريس» لمنافسته، حتى اختيار «هاريس» كان فى حد ذاته خطأ مركباً. فاز «ترامب»، لأنه الخيار الأقل ضرراً، كما ذكرت فى مقالى السابق، ويمثل اختياره رسالة واضحة من الشعب الأمريكى للعالم، يجب فهم محتواها جيداً، كى تمر سنوات حكمه بسلام.