كيف يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل رؤيتنا إلى الحياة والعالم؟
تاريخ النشر: 27th, April 2024 GMT
حاول جورج أوريل في روايته الشهيرة «1984» قبل أكثر من سبعين عاما أن يصوّرَ شكلَ الحياة وتقنياتها المتقدمة في المستقبل في عقل الإنسان الصناعي -فترة أربعينات القرن العشرين-، وتنبأ العالِمُ الروسي إسحق عظيموف في 1983م بشكل الحياة في المستقبل التي سترافق ثورة الذكاء الاصطناعي كما كان عظيموف يتخيل مسارها ويستشفه وفقا لإرهاصات علمية تُبرزها طموحاتُ العلمِ التي ستعيد بنية العالم والحياة ورؤيتنا إليها؛ فغدت تنبؤاتهما -بعد سنوات طويلة- واقعا؛ إذ صارت حياتنا بطابعها الرقمي في عصر الذكاء الاصطناعي مختلفة عما كانت عليه قبل سنوات، وفرض علينا هذا التغيير وعيا آخرَ غيرَ مألوف؛ لينقلنا إلى عوالمَ تتجاوز حدود مداركنا السابقة ومعارفها، فأضحى كلُ شيء من حولنا ذا طابع رقمي ذكي مثل وسائل النقل التي تنقلنا بما فيها السيارات المتصلة بأنظمة رقمية مثل الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء، وتتحول مدننا إلى مدن ذكية تتفاعل مع كل شيء وفق النظام الرقمي الذكي؛ فكلّ شيء فيها متصل بعضه بعضا مشكلا دماغا رقميا كليا، ومثال ذلك أنظمة الكهرباء والماء في المدن الذكية بيوتا وشوارع ومنشآت تعمل من تلقاء نفسها استنادا إلى البيانات التي ترسلها المستشعرات الذكية؛ فتخضع أنظمة التشغيل الكهربائية إلى أوامر خوارزمية الذكاء الاصطناعي؛ لتعمل بتلقائية ذاتية دون تدخل الإنسان، ونرى الشوارع واقعا لا ينفصل عن بنية المدن الذكية عبر ارتباطها بمستشعرات إنترنت الأشياء لتبادل البيانات الكبيرة ومشاركتها خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتحليلها بسرعة عالية؛ فتقلل من مسببات الزحام والحوادث، وتحقيق الرصد الأمني الدقيق.
أما ما هو أكثر دهشة من ما ذكرناه في السطور السابقة ما يخص تناغم أجسادنا مع الذكاء الاصطناعي التي نشهد عبر تطويراتها الصاعدة ميلاد توأمة بين النظام الرقمي والنظام البيولوجي الذي أعاد تشكيل معاييرنا الصحية والمعرفية؛ فتفرض صحة الإنسان بوجود الذكاء الاصطناعي واقعا مغايرا عما كان معهودا؛ فتضاعف متوسط عمر الإنسان بفضل صحته التي تستند إلى نظام وقائي يعمل وفق الأنظمة الرقمية الذكية التي تعمل ليلَ نهارَ كأنها طبيب مخلص لا يكل ولا يمل من ملازمتك فترة يقظتك ونومك وإجازتك؛ فيراقب نبضات قلبك، ومستويات ضغطك، وفحوصات دمك بأنواعها، ويتعدى الأمر إلى مراقبة مشاعرك التي يُعبَّر عنها بواسطة إشارات دماغك العصبية وتعابير وجهك؛ فتقوم الخوارزمية التي تلازمك بتحليلها وتحديد أيّ مؤشرات استباقية تخص نظامك الصحي؛ فتعيد ضبط برامج الغذاء والرياضة والصحة النفسية؛ فتدعوك إلى الذهاب إلى المستشفى عند ملاحظة أيّ تغييرات صحية، وتدعوك إلى تناول دواء أو غذاء معيّن، وتدعوك إلى الحركة وبذل النشاط البدني، وتنصحك بأخذ إجازة لتقليل ضغوط العمل؛ فتقترح لك وجهتك المناسبة استنادا إلى حالتك وميولاتك. هكذا يجعلنا الذكاء الاصطناعي نعيد فهم أنفسنا، ويمنحنا ولوجا غيرَ مسبوق إلى حياة أكثر تقدما. لا تنحصر تطويرات الذكاء الاصطناعي وأدواتها التي تقتحم حياتنا في نطاقنا الصحي فحسب بل تطرق كلَ أبواب حياتنا؛ فتجعلنا نفتح نافذة جديدة نرى بواسطتها الحياة؛ فتشعل في داخلنا -برفقة لحظات الدهشة العلمية الأولى- تساؤلات العقل عن حقيقة واقعنا، وعن ماهية الذكاء الاصطناعي الذي حار البعض في تحديد ماهيته وفهمه؛ فثمّة من يراه كائنا يتطور بسرعة تضاهي كل التوقعات العلمية وقوانينها؛ ليتمكن يوما من بلوغ ذكاء يتجاوز ذكاء البشر الذي نعرّفه -بلغة العلم- بالذكاء العام القادر على مواجهة كل مكنونات الحياة والتفاعل معها ما عزا بالبعض أن يستشف امتلاك هذا الكائن الرقمي الوعي الذي يعبّر عن المشاعر والغائيّة والعقلانية الواعية التي تحرّك الكائنَ العاقلَ إلى التقدم في الحياة وتحقيق أهدافها، وسبق أن بينا في مقالات ومحاضرات سابقة أن هذا النوع من الوعي لا يتجاوز حدوده الرقمية التي لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن ترقى إلى مستويات الوعي الروحية التي تصل العقل الإنساني بالوعي الكوني، ولهذا سرد طويل سبق طرحه من قبل.
لا يمكن الادعاء أن حديثنا في هذا المقال عن مثل هذه التطويرات التي تخص عالم الذكاء الاصطناعي حديث لم يسبقِ التطرق إليه، ولكن نظرتنا إليه كانت -في سابق ما نُشر- من زاوية علمية محضة؛ إذ لم نأخذ كفايتنا في فهم ماذا يعني أن نمتلك الذكاء الاصطناعي، وماذا يعني أن يكون هذا الكائن جزءا من حياتنا، وكيف نرى العالم والحياة في عصر المجتمع الرقمي؟ يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل حياتنا بما في ذلك معارفنا التي لم تعدْ وسائل اكتسابها كما كانت قبل سنوات؛ ففرضت نماذج الذكاء الاصطناعي واقعا معرفيا وثقافيا غير معهود؛ فنرى مثلا نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية التي تقود العقول البشرية إما إلى الإبداع وإما إلى الانتكاسة التي تبدأ بمنح الكائن الرقمي صلاحية صناعة المعرفة والثقافة دون أيّ مبالاة لمخرجات هذا التفويض المطلق، وهذا ما يُولّد القلق بشأن مستقبل العقل البشري ووظائفه التي يفترض أنه يشغلها إلا أن الذكاء الاصطناعي يتجه إلى الاستقلال الذاتي عبر نظامه في التعلم الذاتي، وعبر البيانات التي يلتقطها لتغذيته ومنحه القدرة على التطوير الذي يقوده إلى بلوغ نوع الذكاء العام؛ وحينها يطرح السؤال الآتي: كيف للذكاء الاصطناعي أن يعيد تشكيل حياتنا بعد بلوغه الذكاء العام؟ سبق طرح هذا السؤال مع الإجابة التي لا تحتمل إلا جوابا واضحا وهو أن العلم الذي لا يمتلك حدودا لتطويراته ولا يمتلك الإنسان وسائل كبحه ولا يتصل بأيّ حوكمة تحكم سلوكه وسلوك من يسخّره فإنه يتحول إلى أداة ضررها أكبر من نفعها؛ ولنا في الفيزياء النووية وما آلت إليه من أدوات للقتل عبر تصنيع القنبلة النووية خير مثال على ذلك، وكما سيساهم الذكاء الاصطناعي -رغم كل ما سقناه من منافع- في تغيير شكل حياتنا إلا أنه سيكون أيضا وبالا يضر بمسار الحضارة الإنسانية إن لم تكن هناك ضوابط أخلاقية، وتقرّب لنا الحروب الحالية وما يستعمل فيها من تقنيات رقمية شكلَ المخاطر التي سترافق تطويرات هذا الكائن الرقمي الجانح. لعلنا مع قادم أكثر دهشة مما استشرفه جورج أوريل وإسحق عظيموف قبل زمن غابر لمستقبل بات يخص حاضرنا، ولنا -بإذن الله- لقاءات تتناول مستجدات الذكاء الاصطناعي واستشرافاته في مقالات قادمة.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی
إقرأ أيضاً:
جوجل تعتزم نقل معالجة الذكاء الاصطناعي إلى الفضاء
كشف فريق من باحثي جوجل عن خطة لبناء نظام تعلم آلي في الفضاء. سيتألف نظام معالجة الذكاء الاصطناعي من شبكة من الأقمار الصناعية في مدار أرضي منخفض، مما قد يوفر مساحة كبيرة، لا سيما وأن جوجل تمتلك مراكز بيانات ضخمة مخصصة لاستخدامات الذكاء الاصطناعي.
ومن المتوقع أن تبدأ اختبارات هذا النظام في عام 2027.
إلى جانب تقليل المساحة المادية المطلوبة، سيعتمد نظام الذكاء الاصطناعي الفضائي على الطاقة الشمسية. من المرجح أن يستغرق إطلاق مشروع (Suncatcher) "صائد الشمس" (بمعناه الحرفي والمجازي) سنوات، ولكنه يحمل في طياته إمكانية تغيير طريقة توسيع نطاق مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي.
سيتضمن نظام الذكاء الاصطناعي الفضائي وحدات معالجة Tensor على متن "أساطيل من الأقمار الصناعية المجهزة بألواح شمسية"، وفقًا للورقة البحثية الأولية للفريق.
وقال الفريق "نوضح المنهج الأساسي للطيران التشكيلي باستخدام مجموعة من 81 قمرًا صناعيًا بنصف قطر 1 كيلومتر، ونصف أيضًا منهجًا لاستخدام نماذج التعلم الآلي عالية الدقة للتحكم في مجموعات كبيرة من الأقمار الصناعية".
اقرأ أيضا... الذكاء الاصطناعي يسرّع تصميم أجسام مضادة لمواجهة فيروسات جديدة
تواجه جوجل عددًا من التحديات في سبيل تحويل البنية التحتية للذكاء الاصطناعي في مدار الأرض المنخفض إلى حقيقة واقعة، ولعل أبرزها تكلفة إطلاق شرائح TPU والأجهزة المرتبطة بها إلى الفضاء. ويقدر فريق البحث أن تكاليف الإطلاق قد تصل إلى حوالي 200 دولار أميركي للكيلوغرام الواحد "بحلول منتصف ثلاثينيات القرن الحالي".
من بين التحديات الأخرى، القرب من الشمس. فبينما ستحل الألواح الشمسية مشكلة تزويد نظام الذكاء الاصطناعي الضخم بالطاقة في الفضاء، إلا أن إشعاع الشمس يُعدّ مدمرًا للأجهزة الإلكترونية المعقدة. لكن الباحثين حددوا المدة التي يُرجح أن تدومها شرائح TPU باهظة الثمن هذه على مقربة من الشمس، ويبدو أنهم يتقبلون احتمال قصر عمرها الافتراضي.
يشير الفريق إلى أن "شرائح Trillium TPU خضعت لاختبارات الإشعاع، وهي قادرة على تحمل جرعة تأين إجمالية تعادل عمر مهمة لمدة 5 سنوات دون أعطال دائمة".
وتوفر وحدات معالجة Tensor التابعة لجوجل منافسة لشركة انفيديا (Nvidia) في مجال الذكاء الاصطناعي، على الرغم من أن انفيديا لا تزال تسيطر بقوة على السوق. وعندما أضافت آبل ميزات الذكاء الاصطناعي إلى هواتف iPhone وأجهزة Mac الخاصة بها العام الماضي، كشفت الشركة أنها دربت نظام الذكاء الاصطناعي الخاص بها باستخدام وحدات معالجة Tensor من جوجل بدلاً من أنظمة الذكاء الاصطناعي من انفيديا.
ويمكن لشريحة Tensor الجديدة المقبلة من جوجل، Ironwood، أن تتوسع لتشمل ما يصل إلى 9216 شريحة.
ويُعد مشروع Suncatcher واحدًا من عدة مشاريع في مختبر "إكس" (X) التابع لجوجل، والمعروف أيضًا باسم برنامج Moonshot. ويتولى مختبر "إكس" المشاريع صعبة التطوير، ومن هنا جاء اسم Moonshot.
وقد شارك المختبر في بناء السيارات ذاتية القيادة، بالإضافة إلى شركة Taara، وهي شركة تستخدم محطات إرسال ضوئية أرضية لتوفير خدمة الإنترنت بسرعة 20 جيجابت في الثانية للمناطق النائية.
مصطفى أوفى (أبوظبي)