حاول جورج أوريل في روايته الشهيرة «1984» قبل أكثر من سبعين عاما أن يصوّرَ شكلَ الحياة وتقنياتها المتقدمة في المستقبل في عقل الإنسان الصناعي -فترة أربعينات القرن العشرين-، وتنبأ العالِمُ الروسي إسحق عظيموف في 1983م بشكل الحياة في المستقبل التي سترافق ثورة الذكاء الاصطناعي كما كان عظيموف يتخيل مسارها ويستشفه وفقا لإرهاصات علمية تُبرزها طموحاتُ العلمِ التي ستعيد بنية العالم والحياة ورؤيتنا إليها؛ فغدت تنبؤاتهما -بعد سنوات طويلة- واقعا؛ إذ صارت حياتنا بطابعها الرقمي في عصر الذكاء الاصطناعي مختلفة عما كانت عليه قبل سنوات، وفرض علينا هذا التغيير وعيا آخرَ غيرَ مألوف؛ لينقلنا إلى عوالمَ تتجاوز حدود مداركنا السابقة ومعارفها، فأضحى كلُ شيء من حولنا ذا طابع رقمي ذكي مثل وسائل النقل التي تنقلنا بما فيها السيارات المتصلة بأنظمة رقمية مثل الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء، وتتحول مدننا إلى مدن ذكية تتفاعل مع كل شيء وفق النظام الرقمي الذكي؛ فكلّ شيء فيها متصل بعضه بعضا مشكلا دماغا رقميا كليا، ومثال ذلك أنظمة الكهرباء والماء في المدن الذكية بيوتا وشوارع ومنشآت تعمل من تلقاء نفسها استنادا إلى البيانات التي ترسلها المستشعرات الذكية؛ فتخضع أنظمة التشغيل الكهربائية إلى أوامر خوارزمية الذكاء الاصطناعي؛ لتعمل بتلقائية ذاتية دون تدخل الإنسان، ونرى الشوارع واقعا لا ينفصل عن بنية المدن الذكية عبر ارتباطها بمستشعرات إنترنت الأشياء لتبادل البيانات الكبيرة ومشاركتها خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتحليلها بسرعة عالية؛ فتقلل من مسببات الزحام والحوادث، وتحقيق الرصد الأمني الدقيق.

أما ما هو أكثر دهشة من ما ذكرناه في السطور السابقة ما يخص تناغم أجسادنا مع الذكاء الاصطناعي التي نشهد عبر تطويراتها الصاعدة ميلاد توأمة بين النظام الرقمي والنظام البيولوجي الذي أعاد تشكيل معاييرنا الصحية والمعرفية؛ فتفرض صحة الإنسان بوجود الذكاء الاصطناعي واقعا مغايرا عما كان معهودا؛ فتضاعف متوسط عمر الإنسان بفضل صحته التي تستند إلى نظام وقائي يعمل وفق الأنظمة الرقمية الذكية التي تعمل ليلَ نهارَ كأنها طبيب مخلص لا يكل ولا يمل من ملازمتك فترة يقظتك ونومك وإجازتك؛ فيراقب نبضات قلبك، ومستويات ضغطك، وفحوصات دمك بأنواعها، ويتعدى الأمر إلى مراقبة مشاعرك التي يُعبَّر عنها بواسطة إشارات دماغك العصبية وتعابير وجهك؛ فتقوم الخوارزمية التي تلازمك بتحليلها وتحديد أيّ مؤشرات استباقية تخص نظامك الصحي؛ فتعيد ضبط برامج الغذاء والرياضة والصحة النفسية؛ فتدعوك إلى الذهاب إلى المستشفى عند ملاحظة أيّ تغييرات صحية، وتدعوك إلى تناول دواء أو غذاء معيّن، وتدعوك إلى الحركة وبذل النشاط البدني، وتنصحك بأخذ إجازة لتقليل ضغوط العمل؛ فتقترح لك وجهتك المناسبة استنادا إلى حالتك وميولاتك. هكذا يجعلنا الذكاء الاصطناعي نعيد فهم أنفسنا، ويمنحنا ولوجا غيرَ مسبوق إلى حياة أكثر تقدما. لا تنحصر تطويرات الذكاء الاصطناعي وأدواتها التي تقتحم حياتنا في نطاقنا الصحي فحسب بل تطرق كلَ أبواب حياتنا؛ فتجعلنا نفتح نافذة جديدة نرى بواسطتها الحياة؛ فتشعل في داخلنا -برفقة لحظات الدهشة العلمية الأولى- تساؤلات العقل عن حقيقة واقعنا، وعن ماهية الذكاء الاصطناعي الذي حار البعض في تحديد ماهيته وفهمه؛ فثمّة من يراه كائنا يتطور بسرعة تضاهي كل التوقعات العلمية وقوانينها؛ ليتمكن يوما من بلوغ ذكاء يتجاوز ذكاء البشر الذي نعرّفه -بلغة العلم- بالذكاء العام القادر على مواجهة كل مكنونات الحياة والتفاعل معها ما عزا بالبعض أن يستشف امتلاك هذا الكائن الرقمي الوعي الذي يعبّر عن المشاعر والغائيّة والعقلانية الواعية التي تحرّك الكائنَ العاقلَ إلى التقدم في الحياة وتحقيق أهدافها، وسبق أن بينا في مقالات ومحاضرات سابقة أن هذا النوع من الوعي لا يتجاوز حدوده الرقمية التي لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن ترقى إلى مستويات الوعي الروحية التي تصل العقل الإنساني بالوعي الكوني، ولهذا سرد طويل سبق طرحه من قبل.

لا يمكن الادعاء أن حديثنا في هذا المقال عن مثل هذه التطويرات التي تخص عالم الذكاء الاصطناعي حديث لم يسبقِ التطرق إليه، ولكن نظرتنا إليه كانت -في سابق ما نُشر- من زاوية علمية محضة؛ إذ لم نأخذ كفايتنا في فهم ماذا يعني أن نمتلك الذكاء الاصطناعي، وماذا يعني أن يكون هذا الكائن جزءا من حياتنا، وكيف نرى العالم والحياة في عصر المجتمع الرقمي؟ يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل حياتنا بما في ذلك معارفنا التي لم تعدْ وسائل اكتسابها كما كانت قبل سنوات؛ ففرضت نماذج الذكاء الاصطناعي واقعا معرفيا وثقافيا غير معهود؛ فنرى مثلا نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية التي تقود العقول البشرية إما إلى الإبداع وإما إلى الانتكاسة التي تبدأ بمنح الكائن الرقمي صلاحية صناعة المعرفة والثقافة دون أيّ مبالاة لمخرجات هذا التفويض المطلق، وهذا ما يُولّد القلق بشأن مستقبل العقل البشري ووظائفه التي يفترض أنه يشغلها إلا أن الذكاء الاصطناعي يتجه إلى الاستقلال الذاتي عبر نظامه في التعلم الذاتي، وعبر البيانات التي يلتقطها لتغذيته ومنحه القدرة على التطوير الذي يقوده إلى بلوغ نوع الذكاء العام؛ وحينها يطرح السؤال الآتي: كيف للذكاء الاصطناعي أن يعيد تشكيل حياتنا بعد بلوغه الذكاء العام؟ سبق طرح هذا السؤال مع الإجابة التي لا تحتمل إلا جوابا واضحا وهو أن العلم الذي لا يمتلك حدودا لتطويراته ولا يمتلك الإنسان وسائل كبحه ولا يتصل بأيّ حوكمة تحكم سلوكه وسلوك من يسخّره فإنه يتحول إلى أداة ضررها أكبر من نفعها؛ ولنا في الفيزياء النووية وما آلت إليه من أدوات للقتل عبر تصنيع القنبلة النووية خير مثال على ذلك، وكما سيساهم الذكاء الاصطناعي -رغم كل ما سقناه من منافع- في تغيير شكل حياتنا إلا أنه سيكون أيضا وبالا يضر بمسار الحضارة الإنسانية إن لم تكن هناك ضوابط أخلاقية، وتقرّب لنا الحروب الحالية وما يستعمل فيها من تقنيات رقمية شكلَ المخاطر التي سترافق تطويرات هذا الكائن الرقمي الجانح. لعلنا مع قادم أكثر دهشة مما استشرفه جورج أوريل وإسحق عظيموف قبل زمن غابر لمستقبل بات يخص حاضرنا، ولنا -بإذن الله- لقاءات تتناول مستجدات الذكاء الاصطناعي واستشرافاته في مقالات قادمة.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی

إقرأ أيضاً:

هل يغير الذكاء الاصطناعي مستقبل أطفالنا؟

شمسان بوست / متابعات:

الذكاء الاصطناعي حديث الساعة على صفحات الجرائد والمجلات، وبات يشكل حيزًا كبيرًا على مواقع التواصل الاجتماعي المتعددة، ولديه القدرة على المساعدة في حل المشاكل المعقدة، ولكننا عرفنا أيضًا مخاوف جدية عنه، خصوصاً الطرق التي قد يغير بها حياة الأطفال والمراهقين.



فعلى الرغم من أن الذكاء الاصطناعي يتقدم بشكل أسرع مما يتوقعه أي شخص، فإننا لم نفكر بعد في تأثيره على الرفاهية الاجتماعية والعاطفية للأطفال، الذين لديهم قابلية كبيرة للارتباط بالألعاب- وحتى قبل مرحلة الإنترنت والأجهزة المحمولة-!


من هنا يتبادر إلى الذهن سؤال واحد هو: كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي بين السلبيات والإيجابيات في حياة أطفالنا؟ اللقاء والدكتور محمود حسن أستاذ الحاسب الآلي والبرمجة الإلكترونية للشرح والتفسير.



*فوائد الذكاء الاصطناعي للأطفال

أشار خبراء صحة الأطفال في منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسيف” إلى أن الأطفال في جميع أنحاء العالم أصبحوا يستخدمون الذكاء الاصطناعي بشكل يومي تقريبًا، ويمكن للذكاء الاصطناعي والمراقبة الأبوية الجيدة أن تحسن حياة الأطفال بطرق إيجابية وعصرية ومنها:



*تحسين الخبرات التعليمية


مع تقدم الذكاء الصناعي، تسابقت الشركات المهتمة بالتعليم لإنشاء نماذج ذكاء اصطناعي تلبي احتياجات الأطفال، الذين تتراوح أعمارهم بين 7 و12 سنة، ويولّد ردودًا مناسبة بحسب العمر فقط.

لقد أنشأ الذكاء الاصطناعي قوته وإمكاناته المثيرة، طريقة تعليمية وممتعة للأطفال؛ للوصول إلى المعلومات على الإنترنت، ولكن مع مراعاة الحماية والأمان المناسبين للعمر.

كما يمكنه مساعدة الأطفال في تحسين مهاراتهم اللغوية وحتى تعلم لغات جديدة، مع تقدم الذكاء الصناعي تسابقت الشركات المهتمة بالتعليم لإنشاء نماذج ذكاء اصطناعي تلبي احتياجات الأطفال.


* الذكاء الاصطناعي يعزز الإبداع:

نحن نعيش في عالم مرئي، لذا يحتاج الأطفال إلى طرق للتعبير عن أفكارهم من خلال الصور والتصوير والرسوم البيانية وغيرها،

لهذا يعد الذكاء الاصطناعي ذا قيمة للفنانين الناشئين، وأيضًا للأطفال الذين يرغبون في إنشاء عروض بيانية ومخططات، ورسوم متحركة.

وقد يكون الذكاء الاصطناعي قادرًا على تحفيز الأطفال والتفاعل معهم بطرق جديدة؛ حيث يوفر طرقًا جديدة للاستمتاع واكتشاف عالمهم.

الذكاء الاصطناعي يساعد في حل المشكلات:

من خلال التفاعل مع الروبوتات الاجتماعية، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحسن الطريقة التي يعبر بها الأطفال عن أفكارهم وتحليلهم للمواقف، ويمكنه أيضاً تحسين قدرات فهمهم بشكل نقدي.

كما أظهرت الدراسات أن الأطفال الذين يتفاعلون مع هذه الروبوتات الاجتماعية عرضة لأن يعاملوها كشريك بشري، كما يساعد التفكير النقدي الأطفال في التعاون والتواصل مع الروبوتات بشكل إنتاجي.

الذكاء الاصطناعي يجهز الأطفال لفرص الوظائف في المستقبل:

الذكاء الاصطناعي يمكن أن يُعِد الأطفال في سن مبكرة للفرص المستقبلية في سوق العمل المتطور بسرعة، كما يمكن أن يوفر للأطفال الكفاءات والمعرفة اللازمة للنجاح في عالم التكنولوجيا.

مثل برمجة الحاسوب وتحليل البيانات، وذلك من خلال فهم إمكانيات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته، كما يمكن للأطفال أن يحظوا ببداية جيدة في الاستكشاف والتحضير لحياة مهنية في مجالات التكنولوجيا والابتكار.


* مخاطر الذكاء الاصطناعي على الأطفال


على الآباء إدراك أن الذكاء الاصطناعي سلاح ذو حدين بالنسبة للأطفال، والعامل الحاسم هو الأبوان اللذان عليهما توجيه أطفالهما ومراقبتهم كي ينعموا بأكبر فائدة، وأقل ضرر من الذكاء الاصطناعي ؛ فالذكاء الاصطناعي يمكن أن يلحق الضرر بالأطفال والأسر، خاصة أن عالم الإنترنت كبير ومفتوح، ومن طبيعة الطفل أنه فضولي ويحب الاكتشاف، وهذا ما يفتح الأبواب نحو المخاطر.


* قد ينشر الكراهية والتحيز والصور النمطية:

بما أن الذكاء الاصطناعي “يتعلم” من كل ما يجده على الإنترنت، فقد تعكس منصات الذكاء الاصطناعي نفس المتحيزات التي تهدد بتقسيمنا وعزلتنا، وبالتالي فإن المحتوى الذي يُنشأ بواسطة الذكاء الاصطناعي يعزز الصور النمطية والأكاذيب، وعلى البالغين أن يكونوا جاهزين للحديث مع الأطفال عما يرونه عبر الإنترنت.


* الشخصيات الوهمية وراء محتالي الإنترنت:

المخاطر المقلقة للغاية للأطفال عبر الإنترنت تتمثل في: تهديد المعتدين والمحتالين، حيث يمكن للذكاء الاصطناعي على وجه التحديد أن يُمكّن المحتالين عبر الإنترنت الاختباء وراء شخصيات وهمية.

وهؤلاء المحتالون يمكنهم استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي لإنشاء روايات تحاكي قصص الأطفال، مما يزيد من خطر استمالة الأطفال واستغلالهم.

كما أن الألعاب والعوالم الافتراضية التي يُنشئها الذكاء الاصطناعي تقدم فرصًا كبيرة للتفاعل الاجتماعي، ولكنها يمكن أيضًا أن تعرّض الأطفال لسلوك عدواني.


* انتهاك خصوصية الأطفال وذويهم:

يجمع الذكاء الاصطناعي كمية هائلة من البيانات، فعلى سبيل المثال، عُثر على لعبة واحدة تسجل المحادثات بين الآباء والأطفال وأي شخص آخر قريب، مع إمكانية نقل البيانات من هذه المحادثات إلى أطراف ثالثة.

ومن الصعب متابعة التقارير المتعلقة بالألعاب والأجهزة التي قد تنتهك خصوصية عائلتك، ولكن قد يرغب الآباء في تجنب الألعاب التفاعلية التي يمكنها التحدث مع الأطفال.


* دعم العزلة الاجتماعية في المجتمع:

يواجه الأطفال والمراهقون حالياً وباء العزلة الاجتماعية، ويمكن أن تقلل الأنظمة المستندة إلى الذكاء الاصطناعي من الوقت الذي يقضونه في التفاعل مع الآخرين.

مقالات مشابهة

  • قيمة أبل تقارب 4 تريليونات دولار بفضل الذكاء الاصطناعي
  • مترجمون يناقشون مستقبل الترجمة في عصر الذكاء الاصطناعي
  • خبير: الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي أدوات استراتيجية للنهوض بالوطن 
  • الشيف ChatGPT..وصفات من الذكاء الاصطناعي
  • د. ندى عصام تكتب: العبادات في عصر الذكاء الاصطناعي
  • موظفو البنوك.. أين أنتم من الذكاء الاصطناعي؟
  • سوريا بعد الأسد.. زلزال سياسي يعيد تشكيل موازين القوى في الشرق الأوسط
  • داليان جينتشو باي.. طموح صيني يعيد تشكيل مستقبل المطارات العالمية
  • الذكاء الاصطناعي يختار الملاعب الأكثر رعبا في العالم
  • هل يغير الذكاء الاصطناعي مستقبل أطفالنا؟