لجريدة عمان:
2025-05-01@20:55:04 GMT

عندما يكون الفنان مثقّفًا كبيرًا

تاريخ النشر: 27th, April 2024 GMT

يُجمع كل من عرف الفنان المصري الكبير صلاح السعدني (الذي رحل عن عالمنا قبل أسبوع عن ثمانين عامًا ونيّف) أنه كان من أكثر الفنانين العرب ثقافةً واطلاعًا وقراءة، وانعكس ذلك على حواراته الفنية القليلة التي ينبهر المرء بما يسمعه خلالها، من رؤية واضحة في الحياة، ووعي سياسي عالٍ، وحسّ فنّي متقد. ولذا فقد كان الممثل المفضّل لدى عدد غير قليل من المخرجين في أدوار «المثقفين»، من هؤلاء مثلًا المخرج إبراهيم الشقنقيري الذي أسند إليه دور المثقف اليساري في الفيلم التلفزيوني «فوزية البرجوازية»، وأسماء البكري التي اختارته في دور المثقف في فيلمين من إخراجها؛ الأول «شحاتين ونبلاء» وجسّد فيه دور أستاذ الفلسفة الذي يدفعه وعيه الحادّ بمجتمعه وانقلاب موازين النظر إلى الأمور، إلى ترك وظيفته واعتزال العالم مفضّلًا العمل في أحد بيوت المتعة، والثاني «كونشرتو في درب سعادة» في دور الموظف في دار الأوبرا المنجذب لسماع الموسيقى الكلاسيكية.

وأفتح هنا قوسًا لأقول إن أول دور جذبني لصلاح السعدني كان أيضًا دور مثقف، وتحديدًا كاتب مسرحي شاب، في المسلسل الدرامي الجميل «سفر الأحلام» وما زلت حتى اليوم لا أنسى مشهد تمزيق محمود مرسي مسرحية الكاتب الشاب ورمي قصاصاتها في الشارع من الطابق الثالث أو الرابع؛ بحجة أن نهايتها مأساوية! وأظنني سأحب العناوين الطويلة عندما أصبح كاتبًا بعد سنين من هذا المسلسل بسبب العنوان العجيب لهذه المسرحية: «الخمس دقائق الأخيرة قبل وصول البوليس».

على أن الممثل المثقف قادر على الأداء المبهِر في كل الأدوار وليس فقط أدوار «المثقفين»، ومنها طبعًا أدوار الفلاحين والناس البسطاء. وما أكثر هذه النوعية من الأدوار التي أدّاها السعدني باقتدار، بدءًا من دوره المبكر في مسلسل «الضحية» سنة 1964 الذي تقمص فيه دور رجل أخرس، وليس انتهاء بدور الفلاح الفقير في فيلم «الأرض» ليوسف شاهين (1970)، وهو أحد أهم الأفلام السينمائية العربية.

لكن أكثر شخصيتين دراميتين للسعدني باقيتين في ذاكرة المشاهد العربي اليوم هما: العمدة سليمان غانم في مسلسل «ليالي الحلمية»، وحسن النعماني في مسلسل «أرابيسك». ورغم أننا لن نجانب الصواب إن قلنا إن سبب نجاحه الكبير في تأديتهما هي الكتابة الدرامية المتقنة لأسامة أنور عكاشة، فإنه ينبغي أن نضيف إلى ذلك اجتهاد الفنان نفسه، بالاشتغال العميق على تقمص الشخصيتين. يؤكد ذلك إجابته على سؤال الناقد طارق الشناوي: «كيف تختار أعمالك؟» حيث يقول: «أقرأ ثلاثين مسلسلًا لأختار دورًا واحدًا، ورغم ذلك كثيرًا ما أضطر لإعادة كتابة دوري بنفسي». إن إعادة كتابة الدور هنا لا تعني الاعتداء على نصّ المؤلف، بل البحث عن مفاتيح الشخصية المكتوبة، والغوص في دواخلها النفسية، وإضافة لمسات إبداعية لها؛ «إنك تحسّ وهو يلعب أمامك شخصية، أو يؤدي مشهدًا منها، أنه يكتب الشخصية في ذهنك مثلما الكاتب يكتبها» كما يصف الروائي المصري خيري شلبي أداءه التمثيلي في كتابه «حديقة المضحكين». يُروى عنه مثلًا أنه قبل أن يدخل تصوير مسلسل «أرابيسك» قضى شهرًا كاملًا في تعلّم صنعة الأرابيسك مع «حسن أرابيسك» الحقيقي. أما أداؤه في «ليالي الحلمية» فيلفتنا إلى أهميته الكاتب العراقي إبراهيم البهرزي في مقال له بعنوان «صلاح السعدني أم سليمان غانم؟» بالقول إنه «في الأعمال ذات الأجزاء المتعددة يراقب الكاتب والمخرج وجِهَةُ الإنتاج تأثير شخصيات العمل على الجمهور في جزئه الأول ليعيدوا تقييم المسار الدرامي للأحداث في الأجزاء التالية»، ويَخْلُص البهرزي بعد هذه المقدمة إلى أن أداء الفنان صلاح السعدني في كل جزء من أجزاء «الليالي» كان يُضيف لعكاشة عدة دسمة تساهم في تطور الشخصية، مؤكِّدًا أن شخصية سليمان غانم لو كان أدّاها ممثلٌ آخر «فربما كان سيدفع أسامة أنور عكاشة إلى أسلوب قتل الشخصية الذي يلجأ إليه مؤلفو الدراما حين تستنفد بعض الشخصيات في الأعمال المطولة قدرتها على النمو، وما كان سيوصِل هذه الشخصية إلى أرذل العمر، وتظل مع ذلك تجسِّد الخرف بأصدق تعابيره المعجزة كما أدّاها السعدني».

بالنظر لحجم موهبته كان يمكن لصلاح السعدني أن يكون اليوم في مكانة فنية أعلى بكثير، لولا العرقلة التي مُنِيَ بها في بداية مشواره في السبعينيات. وشخصيًّا كنتُ أظن مع كثيرين أن السبب الوحيد لهذه العرقلة هو سجن شقيقه الكاتب الساخر محمود السعدني لمواقفه السياسية، وانعكاس ذلك على فرص أخيه، لكن الكاتب بلال فضل روى في برنامجه «الموهوبون في الأرض» أن السبب الحقيقي هو نقدٌ سياسي وجهه صلاح السعدني خلال جلسة بجامعة القاهرة سنة 1972 لمناقشة فيلم «أغنية على الممر»، والذي أدّى فيه واحدًا من أجمل أدواره السينمائية، إضافة إلى أنه -أي صلاح السعدني- كان والفنانة محسنة توفيق الممثلَيْن الوحيدَيْن اللذَيْن وقّعا بيان المطالبة بإنهاء حالة اللا سلم واللا حرب ضد إسرائيل من المثقفين المصريين، ونُشِرَ في جريدة الأنوار اللبنانية في 9 يناير 1973.

إن فنانًا مثقفًا كصلاح السعدني، وملتزمًا تجاه وطنه وفنّه وجمهوره، لا يمكن أن تكون نهايتُه خبرًا حزينًا من سطرين في الصفحة الأخيرة من صحيفة الأهرام، كما كان يتخيّل في حياته نهاية أي فنان. بل سيبقى واحدًا من الفنانين العرب القلائل الذين كتبوا بفنِّهم الجميل ومواقفهم المشرّفة صفحة جميلة في تاريخ الفنّ العربي.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: صلاح السعدنی

إقرأ أيضاً:

مفتي الجمهورية: العلم والرحمة أساس بناء الشخصية الإسلامية

أكد الدكتور نظير محمد عياد، مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، أن العلم في مضمونه وجوهره ليس مجرد تكديسٍ للمعلومات أو حفظٍ للمتون، بل هو منظومة متكاملة تهدي العقول إلى الرشاد، وتزكي النفوس، وتدفع الإنسان إلى إدراك الحق وتمييزه عن الباطل، مبينا نه إذا تجرد من أثره الأخلاقي والسلوكي، فقد جوهره وقدرته على البناء والإصلاح، مشيرا إلى أن الرحمة ليست طارئة على مسيرة العلم، بل هي ركن من أركانه، وميزان دقيق يحدد وجهته، إذ بها يستقيم أثره، ويتحقق مقصده، وتسمو غايته، فلا علم نافع ولا فقه سديد بلا قلب رحيم.

جاء ذلك خلال كلمته بالمعهد العالي للحديث النبوي وعلومه، بمدينة سمرقند على هامش مؤتمر «الماتريدية مدرسة التسامح والوسطية والمعرفة» بجمهورية أوزبكستان.

وقال مفتي الجمهورية، إن السيرة النبوية المطهرة تمثل الأنموذج الأكمل لهذا المزج البديع بين العلم والرحمة، وقد تجلى ذلك في مواقف عديدة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم، منها ما رواه الصحابة الكرام عن الرجل الذي جاء يستأذنه في الزنا، فلم يواجهه النبي بالزجر أو التوبيخ، وإنما خاطبه بحكمة ورفق، مستنهضًا مشاعره الإنسانية، حتى عاد عن طلبه وقد امتلأ قلبه إيمانًا ونقاءً، كما تتجلى هذه الرحمة أيضًا في موقفه صلى الله عليه وسلم مع الأعرابي الذي بال في المسجد، فبينما همّ بعض الصحابة بتعنيفه، نهى النبي عن ذلك وتعامل مع الموقف بحكمة بالغة، موضحًا للأعرابي بلطفٍ حرمة الأماكن الطاهرة، ليقدم بذلك درسًا خالدًا في التربية بالرحمة، والتعليم بالحكمة.

وأشار المفتي، إلى أن الكذب من أعظم الآفات التي تفسد على الإنسان دينه وعقله، وتهدم جسور الثقة بينه وبين مجتمعه، وهو من أبشع ما تُبتلى به القلوب، وأشد ما يُفسد به القول والعمل، إذ به تُطمس الحقائق، وتُلبّس المقاصد، وتضيع الحقوق، فهو ليس مجرد انحراف في اللسان، بل هو اعوجاج في الفهم، وخلل في الميزان الأخلاقي، وهو مفتاح لكل شر، كما جاء في الحديث النبوي «وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار» منبهًا إلى خطورة هذا الجرم لمن يشتغل بالسنة النبوية.

وأوضح مفتي الجمهورية، أن الكذب لا يقتصر على اختلاق الأقوال ونسبتها زورًا إلى مقامه الشريف فحسب بل يتسع ليشمل تحريف الفهم، وإخراج النصوص عن سياقها، وتحميلها ما لا تحتمل، وتوظيفها لخدمة أهواء وانحرافات فكرية وسلوكية، مبينًا أن المشتغل بالسنة النبوية يحمل أمانة عظيمة، لا تقف عند حدود الرواية، بل تمتد إلى صدق الفهم، وسداد التأويل، ومراعاة السياق والإخلاص في النقل والمقصد، فكل إساءة في التأويل، أو استدعاء للنصوص في غير موضعها، أو توظيفها في غير غاياتها، هي في حقيقتها صورة من صور الكذب، بل ربما كانت أشد خطرًا، لأن الكذب اللفظي قد يُكشف ويُرد، أما الكذب في الدلالة فقد يُضلَّل به الناس، وتُقلب به الموازين.

وحثَّ طلبة العلم والمشتغلين بالسنة النبوية على الإكثار من الذكر والاستغفار، إذ به تطمئن القلوب وتستنير العقول وتُحصَّن النفس، فهو السلاح الذي يعصم الإنسان من الفتن، ويُمدّه بالقوة الروحية والمعرفية التي تعينه على الحفاظ على الأمانة العلمية في فهم النصوص وتطبيقها، داعيًا إياهم إلى أن يجعلوا من الذكر حصنًا يحميهم من الزلل في القول والعمل.

وقد أعرب مفتي الجمهورية في ختام كلمته، عن خالص شكره وتقديره للقائمين على المعهد العالي للحديث النبوي وعلومه، وسعادته بهذا اللقاء العلمي المبارك، الذي حضره طلاب وأعضاء هيئة التدريس بالمعهد، وعدد من ضيوف المؤتمر، كما ألقى في هذا اللقاء، كل من الأستاذ الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، والأستاذ الدكتور أسامة الأزهري، وزير الأوقاف، والأستاذ الدكتور أحمد الحسنات، مفتي المملكة الأردنية الهاشمية، كلمات علمية أثرت الجلسة وأضافت أبعادًا فكرية ومعرفية عميقة حول مكانة السنة النبوية، وتأكيد منهج الاعتدال والرحمة في التعامل مع النصوص ومقاصدها.

مقالات مشابهة

  • مفتي الجمهورية: العلم والرحمة أساس بناء الشخصية الإسلامية
  • ليس حماية قناة السويس.. محلل استراتيجي: أمريكا عندما ضربت اليمن كان لحماية مصالحها
  • شكوكو.. الفنان ذو القبعة والجلباب الذي حظي باحترام الكتاب والمثقفين
  • وفاة الكاتب الرياضي محمد الشنيفي
  • تعليم مكة يبدأ إجراء المقابلات الشخصية على الوظائف التعليمية
  • الكاتب واليسناريست أحمد فوزي صالح: مسلسل ظلم المصطبة مكتوب من 7 سنوات
  • أحمد صلاح حسني يتصدر التريند بعد شائعة وفاته.. ما القصة؟
  • اختبار بسيط للعين يكشف احتمال الإصابة بـ"انفصام الشخصية"
  • عندما يرسم الكاتب
  • بصبح عليكم.. صلاح عبدالله ينشر صورة جديدة