عندما يكون الفنان مثقّفًا كبيرًا
تاريخ النشر: 27th, April 2024 GMT
يُجمع كل من عرف الفنان المصري الكبير صلاح السعدني (الذي رحل عن عالمنا قبل أسبوع عن ثمانين عامًا ونيّف) أنه كان من أكثر الفنانين العرب ثقافةً واطلاعًا وقراءة، وانعكس ذلك على حواراته الفنية القليلة التي ينبهر المرء بما يسمعه خلالها، من رؤية واضحة في الحياة، ووعي سياسي عالٍ، وحسّ فنّي متقد. ولذا فقد كان الممثل المفضّل لدى عدد غير قليل من المخرجين في أدوار «المثقفين»، من هؤلاء مثلًا المخرج إبراهيم الشقنقيري الذي أسند إليه دور المثقف اليساري في الفيلم التلفزيوني «فوزية البرجوازية»، وأسماء البكري التي اختارته في دور المثقف في فيلمين من إخراجها؛ الأول «شحاتين ونبلاء» وجسّد فيه دور أستاذ الفلسفة الذي يدفعه وعيه الحادّ بمجتمعه وانقلاب موازين النظر إلى الأمور، إلى ترك وظيفته واعتزال العالم مفضّلًا العمل في أحد بيوت المتعة، والثاني «كونشرتو في درب سعادة» في دور الموظف في دار الأوبرا المنجذب لسماع الموسيقى الكلاسيكية.
على أن الممثل المثقف قادر على الأداء المبهِر في كل الأدوار وليس فقط أدوار «المثقفين»، ومنها طبعًا أدوار الفلاحين والناس البسطاء. وما أكثر هذه النوعية من الأدوار التي أدّاها السعدني باقتدار، بدءًا من دوره المبكر في مسلسل «الضحية» سنة 1964 الذي تقمص فيه دور رجل أخرس، وليس انتهاء بدور الفلاح الفقير في فيلم «الأرض» ليوسف شاهين (1970)، وهو أحد أهم الأفلام السينمائية العربية.
لكن أكثر شخصيتين دراميتين للسعدني باقيتين في ذاكرة المشاهد العربي اليوم هما: العمدة سليمان غانم في مسلسل «ليالي الحلمية»، وحسن النعماني في مسلسل «أرابيسك». ورغم أننا لن نجانب الصواب إن قلنا إن سبب نجاحه الكبير في تأديتهما هي الكتابة الدرامية المتقنة لأسامة أنور عكاشة، فإنه ينبغي أن نضيف إلى ذلك اجتهاد الفنان نفسه، بالاشتغال العميق على تقمص الشخصيتين. يؤكد ذلك إجابته على سؤال الناقد طارق الشناوي: «كيف تختار أعمالك؟» حيث يقول: «أقرأ ثلاثين مسلسلًا لأختار دورًا واحدًا، ورغم ذلك كثيرًا ما أضطر لإعادة كتابة دوري بنفسي». إن إعادة كتابة الدور هنا لا تعني الاعتداء على نصّ المؤلف، بل البحث عن مفاتيح الشخصية المكتوبة، والغوص في دواخلها النفسية، وإضافة لمسات إبداعية لها؛ «إنك تحسّ وهو يلعب أمامك شخصية، أو يؤدي مشهدًا منها، أنه يكتب الشخصية في ذهنك مثلما الكاتب يكتبها» كما يصف الروائي المصري خيري شلبي أداءه التمثيلي في كتابه «حديقة المضحكين». يُروى عنه مثلًا أنه قبل أن يدخل تصوير مسلسل «أرابيسك» قضى شهرًا كاملًا في تعلّم صنعة الأرابيسك مع «حسن أرابيسك» الحقيقي. أما أداؤه في «ليالي الحلمية» فيلفتنا إلى أهميته الكاتب العراقي إبراهيم البهرزي في مقال له بعنوان «صلاح السعدني أم سليمان غانم؟» بالقول إنه «في الأعمال ذات الأجزاء المتعددة يراقب الكاتب والمخرج وجِهَةُ الإنتاج تأثير شخصيات العمل على الجمهور في جزئه الأول ليعيدوا تقييم المسار الدرامي للأحداث في الأجزاء التالية»، ويَخْلُص البهرزي بعد هذه المقدمة إلى أن أداء الفنان صلاح السعدني في كل جزء من أجزاء «الليالي» كان يُضيف لعكاشة عدة دسمة تساهم في تطور الشخصية، مؤكِّدًا أن شخصية سليمان غانم لو كان أدّاها ممثلٌ آخر «فربما كان سيدفع أسامة أنور عكاشة إلى أسلوب قتل الشخصية الذي يلجأ إليه مؤلفو الدراما حين تستنفد بعض الشخصيات في الأعمال المطولة قدرتها على النمو، وما كان سيوصِل هذه الشخصية إلى أرذل العمر، وتظل مع ذلك تجسِّد الخرف بأصدق تعابيره المعجزة كما أدّاها السعدني».
بالنظر لحجم موهبته كان يمكن لصلاح السعدني أن يكون اليوم في مكانة فنية أعلى بكثير، لولا العرقلة التي مُنِيَ بها في بداية مشواره في السبعينيات. وشخصيًّا كنتُ أظن مع كثيرين أن السبب الوحيد لهذه العرقلة هو سجن شقيقه الكاتب الساخر محمود السعدني لمواقفه السياسية، وانعكاس ذلك على فرص أخيه، لكن الكاتب بلال فضل روى في برنامجه «الموهوبون في الأرض» أن السبب الحقيقي هو نقدٌ سياسي وجهه صلاح السعدني خلال جلسة بجامعة القاهرة سنة 1972 لمناقشة فيلم «أغنية على الممر»، والذي أدّى فيه واحدًا من أجمل أدواره السينمائية، إضافة إلى أنه -أي صلاح السعدني- كان والفنانة محسنة توفيق الممثلَيْن الوحيدَيْن اللذَيْن وقّعا بيان المطالبة بإنهاء حالة اللا سلم واللا حرب ضد إسرائيل من المثقفين المصريين، ونُشِرَ في جريدة الأنوار اللبنانية في 9 يناير 1973.
إن فنانًا مثقفًا كصلاح السعدني، وملتزمًا تجاه وطنه وفنّه وجمهوره، لا يمكن أن تكون نهايتُه خبرًا حزينًا من سطرين في الصفحة الأخيرة من صحيفة الأهرام، كما كان يتخيّل في حياته نهاية أي فنان. بل سيبقى واحدًا من الفنانين العرب القلائل الذين كتبوا بفنِّهم الجميل ومواقفهم المشرّفة صفحة جميلة في تاريخ الفنّ العربي.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: صلاح السعدنی
إقرأ أيضاً:
الكاتب مايكل يوسف يحقق نجاحا بمعرض الكتاب 2025 برواية إيمونت
حقق الكاتب الروائي مايكل يوسف نجاحا في معرض القاهرة الدولي للكتاب 2025 بروايته الجديدة "إيمونت"، التي نفدت طبعتها الأولى خلال أيام المعرض بفضل حبكتها البوليسية المشوقة والممزوجة بلمسات رومانسية راقية، بعد أن استطاعت أن تجذب القراء بأسلوبها السلس والمثير، حيث نجح الكاتب في تقديم تجربة سردية فريدة تأخذ القارئ في رحلة من الغموض والإثارة حتى الصفحة الأخيرة.
إلى جانب "إيمونت"، فاجأ مايكل يوسف جمهوره بإصدارات متنوعة خلال معرض الكتاب 2025، حيث قدم مجلدًا خاصًا من سلسلة "الوريث" البوليسية، التي تنتمي إلى أدب الجاسوسية، وشهدت متابعة كبيرة على المنصات الرقمية قبل إصدارها ورقيًا، كما طرح رواية "على حافة الزمن.. التجربة"، التي تعد مغامرة جديدة في أدب الخيال العلمي، مما يعكس قدرة الكاتب على التنوع في أساليبه الأدبية.
ولم يتوقف مايكل عند ذلك، بل شارك في العدد الثالث من سلسلة "عوالم" بالتعاون مع كاتب الرعب صابر مرزوق، حيث قدما معًا عملاً أدبيًا يحمل عنوان "كتابات الحطابين"، الذي ينتمي إلى أدب الرعب والمخوف، وجذب اهتمام محبي هذا النوع الأدبي.
ويستقبل معرض القاهرة الدولي للكتاب زواره يوميًا من الساعة العاشرة صباحًا وحتى الثامنة مساءً، مع تمديد ساعات العمل يومي الخميس والجمعة حتى التاسعة مساءً.
تأتي هذه الدورة في إطار خطط التطوير المستمرة التي تتبناها الهيئة العامة للكتاب، بما يتماشى مع رؤية مصر 2030 وإستراتيجية الجمهورية الجديدة، ويُبرز المعرض هذا العام التزام الدولة المصرية بالتحول الرقمي ودعم العدالة الثقافية، ليعكس التوجه نحو المستقبل ومواكبة التحولات العالمية.