عفوا.. القوات المسلحة ليست صمام أمان السودان!
تاريخ النشر: 27th, April 2024 GMT
رشا عوض
بما ان السودان خضع للحكم العسكري اكثر من نصف قرن، فان من الطبيعي جدا ان تستوطن ثقافة تقديس الحكم العسكري واسطرة القوات المسلحة واختزال الوطن فيها واختزال الوطنية في عبادة المؤسسة العسكرية، ولان الالة الاعلامية للاستبداد العسكري لديها قدرة فائقة على تغييب العقول وتحويل كثير من البشر الى ببغاوات عقلها في أذنيها فتردد ما يتم تلقينه لها دون ادنى تفكير، تجد في ظل الحرب القذرة الدائرة حاليا من يردد : القوات المسلحة صمام امان السودان! ( بأمارة ايه يعني!!!!) بل ويراهن على العسكر ويستنجد بهم في حسم فوضى الساسة المدنيين!
هل يعقل ان يجرؤ شخص عاقل على ترديد هذا الكلام المقرف في هذا التوقيت بالذات!! بينما الدانات ووابل الرصاص يمزق اجساد السودانيين! وبينما الطيران يدك المنازل والمصانع والمستشفيات والاسواق والجسور دكا! وبينما عصابات الدعم السريع تنهب ممتلكات الناس وتبدد محصول اعمارهم وتطردهم جماعيا من مدنهم وقراهم وتقتل وتعتقل وتعذب وتغتصب وتذل الاسرى وتوثق اذلالهم امام الكاميرات! وبينما عساكر الجيش والحركات المسلحة المتحالفة معه يسرقون وينهبون ويروعون، وبينما تفرق اكثر من عشرة مليون سوداني بين نازح ولاجئ ومتسلل بالتهريب الى مصر وغيرها بعد ان تحولت مدنهم الى مدن اشباح!! وبينما الجثث تغطي الشوارع والاحياء السكنية تتحول الى مقابر ! والفتح المبين الذي يفاخر به الجيش هو انتصاره في موقعة “ذات تحرير الطريق الى مقابر احمد شرفي” بعد مرور عام كامل على الحرب!!! اغلقوا طرق الحياة ويفاخرون بفتح الطريق الى المقابر! وكل هذه الويلات ليست في حرب ضد عدو اجنبي بل في صراع سلطة بين جناحي القوات المسلحة! مهما بلغت فوضى الساسة المدنيين فهل هناك اساس للمقارنة بين فوضاهم المزعومة هذه وبين الاقتتال بالمدفعية الثقيلة والطيران داخل الاحياء المكتظة بالسكان ووسط المستشفيات والمدارس والمصانع! معقول في الوقت الذي تتحطم فيه بلادنا وتتهاوى جدرانها حجرا حجرا في صراع عسكري عسكري (عريان) على السلطة لا يخجل البعض من لعق البوت العسكري وتلميعه بترديد اسطوانات سمجة وغبية عن ان العسكر هم الجهة المسؤولة والمؤتمنة على الوطن ومفتاح الاستقرار ويجب ان تكون وصية على المدنيين القُصَّر! بالله عليكم من القاصر الذي يستحق الحجر والوصاية؟ ومن المجرم في حق الشعب السوداني؟
هل الكارثة التي نحن فيها الان تسمح لشخص لديه الحد الادنى من الاحترام لنفسه ولعقول الاخرين ان يقول القوات المسلحة صمام امان السودان!! اين هو الامان بل اخشى ان نتساءل قريبا اين هو السودان نفسه!!
كل المآسي التي نحن فيها الان حدثت ببركات هذه القوات المسلحة المعطوبة والمأزومة التي تستهلك ثلاثة ارباع ميزانية الدولة، وللتوضيح هذه القوات تشمل الجيش والدعم السريع وهيئة عمليات جهاز الامن والاحتياطي المركزي وبالتوازي معها كتائب الكيزان ( البراء بن مالك وامثالها) ، فانا لا اشتري مطلقا اسطوانة التضليل الفاجر التي تحاول عبر منهجية “الغرس المستمر” ان ترسخ في وعي السودانيين كذبة بلقاء خلاصتها ان قوات الدعم السريع هبطت على السودان من السماء صباح السبت الموافق الخامس عشر من ابريل ٢٠٢٣ والقوات المسلحة غير مسؤولة او مساءلة عن هذه القوات تكوينا وتسليحا وتدريبا! بل القوات المسلحة هي البطل الذي يجب ان نسانده دون قيد او شرط للقضاء على الخائن الذي هبط علينا من السماء! وان هناك مسافة اخلاقية كبيرة تفصل بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، كل هذا محض تضليل سياسي يعكف على ترويجه الكيزان وسدنة الحكم العسكري الذين يرغبون في تحويل هذه الحرب القذرة الى وسيلة ترفيع اخلاقي وسياسي للجيش والهدف هو رغبة هذه الجهات السياسية المشبوهة في استغلال الجيش مجددا كحصان طروادة يحملهم في طريق عودتهم الى السلطة، ولذلك يستميتون في طمس الحقائق الواضحة وضوح الشمس وعلى رأسها ان الجيش والدعم السريع وجهان لعملة الاستبداد العسكري ، يتشاركان الخوف من الديمقراطية، وقد تشاركا الانقلاب على الثورة مرتين، مرة بعد فض اعتصام القيادة العامة ومرة في انقلاب 25 اكتوبر 2021 الذي تراجع عنه الدعم السريع واستمر فيه الجيش، كما تشاركا الانتهاكات المروعة لحقوق الانسان في دارفور ، وان تاريخ الانتهاكات في السودان من قتل للمدنيين وترويع لهم لم يبدأ في حرب الخامس عشر من أبريل، وان الجنجويد لم يهبطوا من السماء بل صنعهم الجيش المسيطر عليه كيزانيا ، صنعهم خصيصا للبطش باهل دارفور وكان شريكا لهم في جرائمهم ضد سكانها وكان طيرانه غطاء لكل التجريدات الدفتردارية بقيادة مؤسس الجنجويد الاصلي موسى هلال، كما كان ذات الطيران غطاء وسندا لتجريدات قوات الدعم السريع، الحرب الدائرة حاليا لا جديد فيها على الصعيد الاجرامي ومفارقة الاخلاق! الجديد فقط هو عبقرية المكان! فقد وجد اهل الخرطوم وبحري وامدرمان ومدني أنفسهم وجها لوجه مع وحشية حروب قواتنا المسلحة الباسلة! إذ كانت حروبها على مدى عشرات السنين تدور في الجنوب ودارفور وجبال النوبة والنيل الازرق بذات الإزدراء لحياة المواطنين وبذات الاستخفاف بكرامتهم واستسهال تشريدهم واقتلاعهم من ديارهم ! وكان هناك تعتيما اعلاميا على الانتهاكات المروعة ضد مواطني الجنوب ودارفور وجنوب كردفان بل كان هناك تجريما وتخوينا لكل من يسلط الضوء على تلك الانتهاكات بواسطة نفس الآلة الاعلامية الفاجرة للكيزان التي ترفع عقيرتها الان بتخوين وتجريم الناس تحت دعاوى انهم لم يدينوا انتهاكات الدعم السريع كما يجب! في حين ان هؤلاء الفجرة كانوا ينكرون جرائم الدعم السريع ومن قبله جرائم جنجويد موسى هلال اصحاب السجل الاجرامي الابشع من الدعم السريع حين كانت تلك البنادق جميعها في خدمة سلطتهم! لم يكتفوا بالتستر على الانتهاكات وتحصين مرتكبيها بل كانوا يعاقبون من يتحدث عنها ويزجرونه ويصنفونه كجزء من مؤامرة صهيو نية وامبريالية ضد الوطن!!! (متلازمة البجاحة والوقاحة وانعدام الحياء السياسي) !!!
ما هو صمام امان السودان الحقيقي؟!
هذه الحرب تجربة قاسية وباهظة الكلفة الوطنية، ولذلك يجب ان نستخلص منها الدروس الصحيحة كي لا تكون كل خسائرنا هذه مقابل لا شيء، اهم دروس هذه الحرب هي:
أولا: صمام امان السودان هو الحكم المدني الديمقراطي الفيدرالي، فبعيدا عن اي مرافعة نظرية عن أفضلية الخيار الديمقراطي، معطيات الواقع تقول باستحالة نجاح الدكتاتورية العسكرية في السودان على بؤسها! نتيجة لغياب اهم شروطها وهو وجود مؤسسة عسكرية واحدة بقيادة واحدة لتفرض هذا الخيار البائس، حاول البرهان وحميدتي الحكم انقلابيا ففشل الانقلاب، حاول الكيزان إزاحة الدعم السريع من المشهد للتخلص من فكرة الاصلاح الامني والعسكري و لاستعادة وضعية المؤسسة العسكرية الواحدة المهيمنة ومن ثم استئناف استبدادهم العسكري فكانت النتيجة هي اندلاع هذه الحرب التي فاجأتهم بأن الامر ليس بهذه البساطة! فلا يمكن ان تشتغل على مدى ثلاثين عاما على تفريخ المليشيات وإضعاف الجيش عبر حزبنته وادلجته وافساد عقيدته القتالية ثم تتوهم انك ستعيد الامور الى ما كانت عليه في ظرف سويعات او ايام او “ازبوع إزبوعين”! هذه رغائبية طفولية اوردتنا موارد الهلاك! ولو استمرت الحرب طويلا فسوف تقود لتقسيم البلاد لا لعودة الدكتاتورية الكيزانية لكامل السودان كما يتوهمون.
ثانيا: اي مشروع سلام لا يقترن بالتحول الديمقراطي ومخاطبة جذور ازمة الدولة السودانية سيكون مجرد استراحة محاربين، كل اتفاقيات السلام في السودان ينطبق عليها ذلك، وبالتالي إذا اردنا ان تكون هذه الحرب هي آخر حروب السودان فلابد من مشروع سياسي يؤسس لانتقال تأسيسي للدولة السودانية يتجاوز صفقات تقاسم السلطة بين جنرالات الحرب.
ثالثا: رفض الحكم العسكري ونقد المؤسسة العسكرية وممارساتها مشروع بل واجب في سياق اصلاح الدولة السودانية ونقد كل مؤسساتها من خدمة مدنية ومنظومة عدلية واحزاب سياسية ومنظمات مجتمع مدني، فالنقد أفضل وسيلة بناء وهو في مصلحة الجميع، ولو تأملنا في هذا العالم سنجد ان اقوى الجيوش وأكثرها تحقيقا للانتصارات هي الجيوش الخاضعة للنقد والمساءلة والسلطة المدنية في الدول الديمقراطية بينما افشل الجيوش واكثرها عرضة للهزائم هي الجيوش الحاكمة و المحاطة بهالة من التقديس ولا يجرؤ احد على مساءلتها.
رابعا: رغم التجني على المدنيين واتهامهم زورا باشعال الحرب تظل الحقيقة الموضوعية هي ان جذر الحرب الرئيس هو رهان الكيزان على العودة الى السلطة بالقوة العسكرية، ورغبة فصيل في الجيش في الحكم العسكري ورغبة الدعم السريع كذلك في الحكم استنادا للقوة العسكرية، السباق الانقلابي على السلطة في ظل تعدد الجيوش هو ما جعل اندلاع هذه الحرب امرا حتميا، ولذلك فإن شرط تحقيق السلام المستدام في السودان هو طي صفحة الحكم العسكري ولكن السؤال: هل سيقتنع الجنرالات الذين يتجالدون على السلطة الان بالدبابات والتاتشرات والطائرات بذلك؟ كم من الوقت والدماء والدموع والدمار يحتاجون كي يلجموا اطماعهم؟
خامسا واخيرا :
تحت وطأة هذا الزلزال الذي اصاب بلادنا يجب ان نضبط بوصلتنا الفكرية والسياسية والاخلاقية في اتجاه الضفة الصحيحة من التاريخ(الدولة المدنية الديمقراطية ذات المؤسسة العسكرية والامنية الخاضعة لامرة الحكومة المنتخبة انتخابا حرا ونزيها، دولة التنمية المتوازنة والعدالة الاجتماعية والحريات، دولة المساواة في حقوق المواطنة ونبذ العنصرية، دولة المصالحة الوطنية على اساس الحقيقة والعدالة الانتقالية، وفي سياقنا السوداني يتطلب ذلك إعادة بناء الجيش والامن والشرطة على اسس جديدة ضمن مشروع ديمقراطي متوافق عليه وطنيا لاعادة بناء الدولة ككل )، ضبط البوصلة في هذا الاتجاه في حد ذاته قيمة وطنية مضافة واستثمار مستقبلي مقدس ومصدر إلهام للأجيال، بمعنى اخر بذور صالحة لا بد من الحرص على اكتنازها في الوعي والذاكرة الوطنية الى ان تتهيأ الظروف لانباتها نباتا حسنا وحصاد ثمارها، نحن لا نعرف متى وكيف ستنتهي هذه الحرب، ولا نعرف شكل النظام الذي سيعقبها ، ولا تفاصيل مشروع السلام الذي ستتوقف بموجبه واقعيا ، كما لا نعرف على نحو كامل ومفصل ما تخطط له الايدي الخفية الخارجية النافذة في هندسة الاوضاع الاقليمية في منطقتنا تبعا لتعقيدات دولية كثيفة، فضلا عن المؤامرات الاقليمية صغيرها وكبيرها في محيطنا المعادي للديمقراطية، فدايناميات الحرب في الميدان العسكري وفي مطابخ السياسة الدولية والاقليمية ليست فقط خارج سيطرتنا نحن كدعاة سلام وتحول ديمقراطي، بل ان بعضها خارج سيطرة اطراف القتال انفسهم، واجبنا هو تقوية الاصطفاف المدني الديمقراطي والمثابرة على جعله عاملا فاعلا ومتفاعلا بوعي ووطنية ومؤثرا في الدفع باتجاه “الضفة الصحيحة من التاريخ” مهما بدت بعيدة .
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: المؤسسة العسکریة القوات المسلحة الحکم العسکری الدعم السریع ان السودان فی السودان هذه الحرب یجب ان
إقرأ أيضاً:
لماذا تحمي أوروبا الدعم السريع؟
لم يفلح السودان حتى الآن في حمل العالم على تصنيف مليشيا الدعم السريع المتمردة منظمةً إرهابية على الرغم من جرائم الإبادة الجماعية، والفظائع التي ظلت ترتكبها ضد المدنيين في وضح النهار، ودون مواربة. ولكون هذه المليشيا بدت نموذجًا صارخًا، ومثاليًا لما عرف اصطلاحًا بـ "البنادق المأجورة"، وهو مصطلح يُستخدم لوصف المرتزقة الذين يقدمون خدماتهم القتالية مقابل المال دون اعتبار للأيديولوجيا أو القيم.
فهؤلاء المرتزقة لا يهمهم سوى العائد المادي، ويعملون بشكل رئيسي لخدمة أهداف من يدفع لهم، سواء كان طرفًا على المستوى الداخلي، أو الإقليمي، أو الدولي.
فقد جعلت هذه "الميزة" الأطراف المستفيدة من خدمات مليشيا الدعم السريع أطرافًا ممانعة لتصنيفها منظمةً إرهابية، كما يجب. لقد بدأت هذه المليشيا قوة شبه عسكرية من "الجنجويد" – مجموعات مسلحة غير نظامية في دارفور -، وتطورت إلى قوة بقانون تشارك في النزاعات الداخلية.
وعلى الرغم من التقارير الحقوقية التي توثق انتهاكاتها، فإن العوامل السياسية، والاقتصادية الإقليمية، والدولية ظلت مؤثرة جدًا في تأخير تصنيفها منظمة إرهابية. ويعكس ذلك التردد تناقض المجتمع الدولي، حيث يتم تغليب المصالح السياسية، والأمنية، والاقتصادية على حساب العدالة الدولية المزعومة.
وتجدر الإشارة هنا إلى قول الموظف السابق في البيت الأبيض المختص بشؤون القرن الأفريقي، والسودان في لقائه مع الجزيرة مؤخرًا بعد أن تحرر من الموقع الرسمي: إن "مليشيا الدعم السريع يجب أن تصنف منظمة إرهابية؛ لأنها تقوم بأعمال إرهابية ضد الشعب السوداني".
فمن الجلي أن هناك أولويات تتعلق بمصالح الدول الكبرى، والإقليمية التي تخشى أن يؤدي هذا التصنيف إلى فقدان شريك أمني أو "بندقية مأجورة". وما قد يتعارض مع مصالح بعض القوى الدولية هو أن تصنيف هذه المليشيا منظمة إرهابية، سيؤدي إلى انعكاسات إيجابية على الأوضاع الداخلية في السودان، من إنهاء النزاع المسلح، وتقليل الانقسامات الاجتماعية، إلى التأثير الإيجابي على الاقتصاد، وخفض معاناة المدنيين.
فبالإضافة إلى ذلك فإن هذا التصنيف سيحلحل تعقيدات العملية السياسية، ويمكن الدبلوماسية السودانية من المزيد من النشاط، مما يجعل من السهل إيجاد حلول سلمية، واستقرار طويل الأمد.
نشأة رغائبية شائهةبدأ التفكير في إنشاء مليشيا الدعم السريع في 2003، لأغراض أمنية بحتة تتعلق باضطراب الأوضاع في إقليم دارفور مع بداية التمرد هناك، لكن سرعان ما تم استغلالها رغائبيًا في إطار حالة عدم اليقين، واهتزاز الثقة بين أركان السلطة، لا سيما بعد انشقاق الحزب الحاكم آنذاك في العام 1999.
وفي إطار طبيعة النزاع المتوارثة في دارفور بين القبائل الرعوية، والزراعية، ومع تأثر السودان بالحرب الأهلية في تشاد المجاورة التي تربطها به حدود مفتوحة، وقبائل مشتركة اتخذت النزاعات بين القبائل أشكالًا مسلحة تتطور طرديًا مع زيادة تدفق السلاح من تشاد.
وقامت مجموعات من القبائل المحلية بتنظيم قوات مسلحة عرفت باسم "الجنجويد"، وأجادت فنون القتال، والكر، والفر في مناطق ذات طبيعة سهلية شاسعة تجد أقوى الجيوش صعوبة في الانتشار فيها، والسيطرة عليها.
هذه الميزات جعلت السلطة المركزية في حقب عديدة، لا سيما نظام الرئيس السابق عمر البشير، تسعى لاستغلالها وتجنيدها لصالح السيطرة على المجموعات المتمردة ذات الأهداف السياسية، وربما المرتبطة بالخارج.
بيد أن حكومة البشير غضت الطرف عن السمعة السيئة للجنجويد؛ نتيجة الاتهامات بانتهاكات حقوق الإنسان، والجرائم ضد المدنيين. والحقيقة أن السلطة المركزية كانت كمن يحاول عبثًا ترويض ذئبٍ ليجعله أليفًا يُؤلَف يعيش بين الناس، لكن الذئب يظل ذئبًا، ولن يغلب الطبع التطبّع.
في عام 2013، قررت حكومة البشير إعادة تنظيم هذه المليشيا في هيكل رسمي رغم اعتراضات ضباط من الجيش، وأطلقت عليها اسم "قوات الدعم السريع"، ومنحتها وضعًا قانونيًا ضمن الجيش القومي، ولكن بصيغة مرتبكة. وتم تعيين محمد حمدان دقلو، المعروف بـ "حميدتي"، قائدًا لهذه القوات.
غير أن هذه القوات بقيت – لشيء في نفس البشير – تابعة له مباشرة، ولم تتبع لهيئة أركان الجيش، كما كان يفترض، وهذا الأمر كان سيمنع لاحقًا تفلّتها، ومحاولة بناء نفسها باعتبارها جيشًا موازيًا بعقيدة غير عقيدة الجيش الوطني القومي. وقد ساعد هذا الوضع الشائه في تعزيز قدرات المليشيا، وتسليحها بشكل كبير بعيدًا عن خطط وسيطرة الجيش، لا سيما بعد سقوط نظام البشير في أبريل/ نيسان 2019.
وبعد الإطاحة بالبشير برزت مليشيا الدعم السريع قوة رئيسية في المرحلة الانتقالية، ووقّعت على اتفاق مع القوى السياسية للمشاركة في السلطة الانتقالية بجانب الجيش، وشغل حميدتي منصب نائب رئيس المجلس السيادي، الأمر الذي جعل المليشيا لاعبًا رئيسيًا في السياسة السودانية، بل إنها تطلّعت لاحقًا للاستيلاء على السلطة بالتعاون، والتخابر مع قوى إقليمية، ودولية، وهذا كان السبب الرئيسي في اندلاع الحرب الحالية التي تكاد تذهب بالدولة السودانية من القواعد.
إن هذا الوضع الشاذ لم يمكنها سياسيًا، وعسكريًا فحسب، وإنما سيطرت على أهم الموارد الاقتصادية في البلاد، وهي مناجم الذهب في دارفور. وكانت عوائد هذا المورد عاملًا حاسمًا في بناء نفوذها العسكري والسياسي، ولعب دور الوكيل المعتمد للقوى الإقليمية الطامعة في الذهب السوداني.
ولذلك كان هدف الاستيلاء على السلطة هو تعزيز هذه الأوضاع الآثمة لتتحول من خانة "البنادق المأجورة" إلى خانة "الأنظمة المأجورة"، ومن ثم تحويل كامل الدولة السودانية لدولة وظيفية خادمة مطيعة للإمبريالية العالمية.
تجاهل رغم التوثيق والاعتراف
إن سلوك هذه المليشيا أصبح محيرًا، ويدلُّ على خلل نفسي ما، وهو سلوك ناتج عن فقدان التوازن العقلي؛ فلا يتوانى عناصر المليشيا في تسجيل، وتوثيق جرائمهم بأنفسهم، وهم يبدون سعادتهم بذلك دون مواربة. وأظهرت مقاطع مبثوثة من جانبهم إجبار مواطنين اختطفتهم على تقليد نباح الكلاب، ومرة أخرى صوت القطط. ومن قبل وثّقوا عمليات اغتصاب ارتكبوها، وقد تناوبوا على الضحية.
إن الجرائم التي ترتكبها هذه المليشيا ليست أقل بأي حال من جرائم مخزية تندرج في إطار الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، وهذه كلها جرائم تتعارض مع القوانين الدولية في المجال الإنساني.
وقامَ العديد من المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية بإصدار تقارير تفصيلية عن الجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع في السودان، وتناولت هذه التقارير قضايا القتل الجماعي، والاعتقالات التعسفية، والانتهاكات ضد المدنيين، إضافة إلى استخدام العنف المفرط خلال النزاعات. وهنا نعرض ملخصًا لأبرز هذه التقارير ودور الإعلام العالمي في توثيقها.
في أوائل هذا العام أصدرت الأمم المتحدة تقريرًا أمميًا بشأن ارتكاب مجازر في إقليم دارفور، كان قد قطع قول كل خطيب، وأفاد التقرير المقدم إلى مجلس الأمن الدولي بأن نحو 15 ألف شخص قتلوا في مدينة واحدة في منطقة غرب دارفور منذ اندلاع التمرد، في أعمال عنف عرقية نفذتها مليشيا الدعم السريع.
ونقلت مقاطع مصورة، دفن أبرياء أحياءً وذبح آخرين في مشاهد هزت الضمير الإنساني هزًا عنيفًا. كما أصدرت "هيومن رايتس ووتش" عدة تقارير تركز على الانتهاكات التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع، خاصة في دارفور.
أما منظمة العفو الدولية، فقد أشارت في تقاريرها إلى انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها المليشيا، مع التركيز على حالات القتل خارج إطار القانون، والتعذيب، والاعتداء على النساء، والأطفال.
وتزامنت تقارير المنظمات المعنية مع تقارير صادمة بثتها وسائل إعلام دولية، حيث قامت وكالات مثل: (رويترز)، و(بي بي سي)، و(سي إن إن) بنشر، وبث تقارير ميدانية مصورة حول اعتداءات المليشيا على المدنيين، في مناطق تسيطر عليها، أو تلك التي استعادها الجيش السوداني من قبضتها.
هذا بالإضافة إلى تحقيقات صحفية استقصائية كشفت جوانب أخرى من هذه الانتهاكات، مثل: تجنيد الأطفال، والعنف ضد النساء. كما تمكّنت العديد من وسائل الإعلام من نشر شهادات الضحايا، والوصول إلى الشهود، وإبراز مقابلات، وتقارير، وثائقية تُظهر الظروف الصعبة التي يواجهها السكان الواقعون تحت جحيم هذه الجرائم.
لماذا يتأخر دمغ المليشيا بالإرهاب؟هناك كثير من العوامل السياسية التي تمنع ما يعرف بالمجتمع الدولي من اتخاذ خطوة تصنيف مليشيا الدعم السريع منظمة إرهابية، هناك مصالح إقليمية، ودولية في السودان تتأسس على الموقع الإستراتيجي للسودان، لا سيما في القرن الأفريقي.
وهناك قوى إقليمية ترى أن مصالحها أو بالأحرى مطامعها لن تحصل عليها إلا عبر "البندقية المأجورة" المتمثلة في المليشيا، وأن تصنيفها منظمة إرهابية لن يمكنها من استعمالها لأهدافها.
ليس هذا فحسب، بل إن هناك تنسيقًا سياسيًا مع بعض الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة الأميركية التي تجد في المليشيا "بندقية مأجورة" غير مباشرة يمكن استخدامها في تحقيق أهداف معينة في السودان، والمنطقة، مما يدفعها إلى عدم السعي لتصنيفها منظمة إرهابية. فضلًا عن أن واشنطن هي وحدها صاحبة "حق الملكية" لمصطلح الإرهاب تستخدمه سياسيًا متى تشاء، وكيفما تشاء.
كذلك سبق للاتحاد الأوروبي استعمال هذه المليشيات "بندقية مأجورة" للحد من الهجرة غير الشرعية من القرن الأفريقي نحو أوروبا عبر السودان. هذا التعاون الأمني جعل بعض الدول الأوروبية تتردد في تصنيفها منظمة إرهابية؛ خشية فقدان شريك محوري في مكافحة الهجرة.
ففي 2016 عقد معها الاتحاد الأوروبي اتفاقًا تحت جنح الظلام؛ لوقف تدفق اللاجئين من أفريقيا عبر السودان بقيمة (110) ملايين يورو، حسب تأكيدات الخارجية السودانية حينذاك. وردت منظمة "هيومن رايتس ووتش" غاضبة في بيان لها: إن "من السخرية تعاون الاتحاد الأوروبي الذي تأسس على قاعدة من القيم، مع حكومات مستبدة تحتقر الحقوق الإنسانية، لمجرد الرغبة في منع اللاجئين من الوصول إلى أوروبا".
إن القوى الدولية، والإقليمية الممانعة لتصنيف المليشيا منظمة إرهابية سخّرت آلتها الإعلامية لتبني سردية متعلقة بالدور العسكري، والسياسي داخليًا؛ بغرض دفع الآخرين للوقوف في صفّ الممانعة أو على الأقلّ تأخير، ومماطلة تحقيق تلك الخطوة المهمة.
وتقول تلك السردية التي تغلف باطلًا بحق إن المليشيا أصبحت جزءًا من البنية السياسية، والعسكرية في السودان، ولها نفوذ في البلاد. لذا، يُخشى من أن يؤدي تصنيفها منظمة إرهابية إلى تفاقم الأزمة السياسية، والأمنية في السودان، وإضعاف الحكومة المركزية.
كذلك يشيع الممانعون، ويخوفون من التبعات الاقتصادية للتصنيف الإرهابي للمليشيا، إذ سيؤدي إلى زيادة المخاطر على شركات التعدين، والنفط في المناطق التقليدية للمليشيا، وحواضنها الاجتماعية.
ويقولون إن فرض عقوبات أو تصنيفها منظمة إرهابية، سيؤدي إلى تعقيدات قانونية بالنسبة للشركات الدولية التي تعمل في هذه المناطق، مما يضر بالمصالح الاقتصادية لهذه الشركات، والدول التي تقف خلفها.
لعلّ الممانعين لو اكتفوا بالقول إن تصنيف المليشيا منظمة إرهابية، سيؤدي إلى تفككها إلى مجموعات إرهابية صغيرة كما يبدو عليه حالها اليوم بعد الضربات القوية التي سببها لها الجيش، فإن ذلك كان سيبدو منطقيًا، ومقبولًا ويبعد عنهم شبهة النوايا السيئة التي تقف حجر عثرة في إقرار تصنيف دولي للمليشيا باعتبارها منظمة إرهابية، يسهم في القضاء المبرم عليها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية