كيف يعيش ربع سكان الشرق الأوسط تحت سيطرة المليشيات المسلحة؟
تاريخ النشر: 27th, April 2024 GMT
نشرت مجلة "إيكونوميست" مقالا، قالت فيه إن الأشهر الأخيرة وفّرت سببا كافيا للقلق. ففي آذار/ مارس، واجه سكان قرية رميش المسيحية في الجنوب، أعضاء من حزب الله، وهي مليشيا شيعية وحزب سياسي، أثناء محاولتهم إنشاء منصة إطلاق صواريخ في وسط المدينة. ثم في 7 نيسان/ أبريل، تم اختطاف باسكال سليمان، المسؤول في القوات اللبنانية، وهو حزب مسيحي يميني، بالقرب من مدينة جبيل الشمالية وقتله.
وأثار كلا الحادثين مخاوف من نشوب قتال بين المسيحيين والشيعة. كما أبرز نفس المشكلة الأساسية: عدم قدرة الدولة على السيطرة على المليشيات، وتحديدا حزب الله. ولم يتمكن القرويون في رميش من طلب المساعدة من الجيش الذي يتمتع بسلطة قليلة في الجنوب. وإذا كان حزب الله وراء جريمة القتل في جبيل، فلن تتم محاسبته أبدا: فقد تمتعت الجماعة بالإفلات من العقاب على مدى عقود من عمليات القتل.
وتابع المقال نفسه، بأن الشرق الأوسط يعاني من مشكلة "المليشيات". من بين 400 مليون شخص في العالم العربي، يعيش أكثر من ربعهم في بلدان حيث الدولة أضعف من أن تتمكن من كبح جماح الجماعات المسلحة. لبنان فيه حزب الله، واليمن فيه الحوثيون، وهم فصيل شيعي يسيطر على المناطق الأكثر اكتظاظا بالسكان في البلاد، والعراق لديه كوكبة من المليشيات، وكذلك ليبيا وسوريا.
مثل هذه المجموعات ليست فريدة من نوعها في الشرق الأوسط. وما يجعل مليشياتها متميزة هو تعايشها مع الدولة. من الناحية النظرية، حزب الله مثل أي حزب آخر في الديمقراطية الطائفية في لبنان: أعضاؤه يجلسون في البرلمان ويديرون الوزارات. وهو أيضا الطرف الوحيد الأفضل تجهيزا من الجيش، ويتمتع بالقدرة على اتخاذ القرار بشأن جر البلاد إلى حرب خارجية.
النتائج بليغة حيث تجلب "المليشيات" حربا داخلية ضروسا. لكن منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، ساعدوا أيضا في جر أربع دول عربية إلى معركة متصاعدة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، حيث عملوا كوكلاء لإيران، التي امتنعت حتى وقت قريب عن القتال بشكل مباشر.
وأضاف المقال نفسه، أن "المليشيات، تقوم بقتل وترهيب مواطنيها، وتنهب مليارات الدولارات من سندات الخزانة، وتخيف المستثمرين الأجانب. إنهم مكروهون بشكل متزايد، ولكن من الصعب للغاية اقتلاعها من جذورها".
وأردف بأن "استخدام العنف أو التهديد به هو العامل الأول. ويُلقى اللوم على حزب الله على نطاق واسع في سلسلة من الاغتيالات التي طالت خصومه، من رفيق الحريري، رئيس الوزراء الأسبق، في عام 2005، إلى محمد شطح، وزير المالية السابق، في عام 2013. ويقول قريب أحد الضحايا: "لقد عرفوا بالضبط من يقتلون.. معارضتهم لم تتعاف أبدا".
ويلعب المال دورا أيضا؛ إذ تسيطر العديد من "المليشيات" على إمبراطوريات اقتصادية واسعة. قال علي علاوي، وزير المالية العراقي السابق، ذات مرة إن الخزانة تلقت أقل من مليار دولار من الرسوم الجمركية البالغة 7 مليارات دولار والتي يتم فرضها كل عام.
واستولت المليشيات على معظم ما تبقى. وفي عام 2022، شكلوا تكتلا للبناء وأقنعوا الدولة بمنحها مساحة تبلغ نصف مساحة قبرص. إنهم يصدرون قروضا للمتقاعدين ويجمعون مئات الآلاف من الدولارات يوميا من فرض ضرائب على الشاحنات عند نقاط التفتيش.
هناك العديد من الجماعات المتمردة العنيفة والفاسدة في مختلف أنحاء العالم، ولكن قِلة منها تسيطر على 12 في المئة من مقاعد البرلمان وتدير وزارة العمل، كما يفعل حزب الله في لبنان. هناك عوامل أخرى تفسر تفوقهم في الشرق الأوسط. إن الدول الضعيفة وغير الشرعية هي العنصر الأول.
وتستمد "مليشيات" المنطقة من آبار عميقة من الغضب الشعبي. وكان الشيعة في لبنان، الذين يشكلون قاعدة حزب الله، لقرون عديدة من الطبقة الدنيا الفقيرة؛ أما أولئك الذين يعيشون في العراق فقد تعرضوا للقمع الوحشي خلال حكم صدام حسين الذي دام 24 عاما. تفتقر ليبيا إلى انقسامات طائفية عميقة، لكن هناك انقسامات إقليمية تنبع من سوء حكم معمر القذافي، الدكتاتور الذي أطيح به في عام 2011.
أضف بعد ذلك الحرب التي تكون بمثابة سبب وجود المليشيات وتجعلها مفيدة للدولة. لعقود من الزمن، سيطر نظام الأسد على سوريا بإحكام. ثم جاءت الانتفاضة الشعبية في عام 2011 والتي تحولت إلى حرب أهلية عندما بدأت القوات في قتل المتظاهرين. وكان الجيش السوري بحاجة إلى المساعدة من العديد من المليشيات لسحق الثورة.
وبالمثل، فقد ظهرت العديد من المليشيات العراقية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وهي تقاتل ضد المحتلين بقيادة الولايات المتحدة. وعززت دورها في عام 2014 في الصراع ضد تنظيم الدولة الإسلامية عندما فر الجيش العراقي واستسلم لمدينة الموصل.
وهذا يشير إلى عنصر ثالث.. فالمتمردون بحكم تعريفهم يقاتلون الدولة. لكن في الشرق الأوسط، تمنح الدولة في كثير من الأحيان درجة من الشرعية لمثل هذه الجماعات، ثم تجد أنه من المستحيل التراجع عنها. ودعا الاتفاق الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان عام 1989، جميع المليشيات إلى نزع سلاحها. لكنها استثنت حزب الله الذي قال إنه جماعة مقاومة تقاتل دولة الاحتلال الإسرائيلي.
كان الحوثيون يمارسون التمرد منذ فترة طويلة في شمال اليمن، وهي أفقر منطقة في بلد فقير. وفي عام 2014، وسط الفوضى التي أعقبت الثورة، اجتاحوا الجنوب واستولوا على العاصمة والمدن الكبرى الأخرى. ولم يعترضهم الجيش اليمني، واصفا الحوثيين بالثوار. وكانت المكونات الثلاثة جميعها موجودة: دولة ضعيفة، وصراع، وقليل من المصداقية.
وهنا تنقسم مليشيات الشرق الأوسط إلى فئتين. اليوم هم الدولة في معظم أنحاء اليمن. لكن باستيلائهم على السلطة، حشد الحوثيون المعارضة. ويلومهم العديد من اليمنيين الآن على الفقر والمجاعة والمرض. بصفتهم متمردين، هاجم الحوثيون الفساد الرسمي وعندما أصبحوا في السلطة، تبنوا الفساد.
أما مليشيات العراق ولبنان وسوريا فقد اتبعت سيناريو مختلفا. وبدلا من الاستيلاء على الحكومة، فإنها سعت إلى استمالتها. ويوزع حزب الله العقود عبر الوزارات، ويستأجر مؤيدين لوظائف الخدمة المدنية، ويسرق الأموال من الجمارك. ومعظم الأحزاب اللبنانية تفعل الشيء نفسه.
لكن حزب الله يسيطر أيضا على حدوده البرية مع سوريا والعديد من الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، وهو ما لا تفعله الأطراف الأخرى. وتمنحه ترسانته الهائلة حق النقض: فقد احتل مسلحوه بيروت عام 2008 لإجبار مجلس الوزراء على التراجع عن القرارات التي اختلف معها الحزب. وهي في الوقت نفسه جزء من الدولة وفوقها. وتصفها لينا الخطيب من تشاتام هاوس، وهي مؤسسة بحثية بريطانية، بأنها "نفوذ بدون مسؤولية".
خلال الحرب الأهلية في لبنان، طلبت معظم مليشياته الطائفية المساعدة من الخارج. وكانت الجبهة تتلقى الأسلحة والتمويل من دولة الاحتلال الإسرائيلي، إلى جانب عدد من الدول الغربية والعربية. ولكن عندما انتهت الحرب، جف الدعم الرسمي. حزب الله وحده هو الذي ما زال يحصل على مساعدة قوية من دولة أجنبية: إيران، التي أرسلت عشرات المليارات من الدولارات وترسانة من الأسلحة الحديثة على مدى أكثر من أربعين عاما.
وهذا يساعد على تفسير التحول الذي طرأ على زعيم جبهة التحرير سمير جعجع. وهو أحد أكثر القادة شراسة في الحرب الأهلية، وبدا في السنوات الأخيرة عازما على الصراع مع حزب الله. لكن في 22 نيسان/ أبريل، وبعد أسبوعين من التلميح إلى دور الحزب في مقتل سليمان، أعلن جعجع أنه لا يوجد دليل يشير إلى تورط المجموعة. قد يرغب في معركة، لكنه ليس في وضع يسمح له بخوضها.
وأكثر من أي شيء آخر، فإن الدعم الخارجي هو الذي يفسر القوة العنيدة التي تتمتع بها "مليشيات الشرق الأوسط". وكانت إيران هي المذنب الرئيسي، إذ لم تدعم حزب الله فحسب، بل دعمت أيضا جماعات في العراق وسوريا واليمن (تقوم جهات مانحة أخرى بهذه المهمة في ليبيا).
وقد حاولت أمريكا منع مثل هذه المساعدات من خلال العقوبات، ولكن دون نجاح يذكر. وقد اتبع صناع السياسة الغربيون والأمم المتحدة مخططات لإقناع المليشيات بنزع سلاحها. لكن طالما أن لديهم تدفقات من الأموال والأسلحة من الخارج، فلن يكون لديهم حافز كبير لفعل ذلك.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة إسرائيلية اللبنانية الشرق الأوسط الدعم الخارجي لبنان الشرق الأوسط الدعم الخارجي سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الشرق الأوسط العدید من حزب الله فی لبنان فی عام
إقرأ أيضاً:
غزة بين أنياب الجغرافيا والمصالح: حربُ الإبادة لُعبة “نتنياهو” و”ترامب” في معركة الشرق الأوسط الجديد
يمانيون../
لم تكن فلسطين يومًا سوى قلب جريح في خارطة الصراع الكبرى، إلا أن ما يشهده قطاع غزة اليوم من حرب إبادة جماعيةٍ يخرج عن حدود المألوف، في ظل تداخل معقد بين الهروب السياسي الداخلي لقادة الكيان، والترتيبات الأمريكية، مع تقاطع أجندات إقليمية ودولية لا مكان فيها للدم الفلسطيني؛ سوى أنه وقود لمعادلات النفوذ.
حرب الإبادة الجماعية هذه ليست مُجَـرّد عدوان عسكري، بل هي مشهد معقد تتحكم به خيوط السياسة العمياء التي نسجتها “تل أبيب وواشنطن” وعواصم إقليمية أُخرى، والتي تتجاهل التدبير والعدل الإلهي الذي يتفوق على كُـلّ مخطّط وظلم، فغزة ورغم احتضارها تحت وطأة القصف والحصار؛ تذكر العالم أجمع بأن العدالة لن تسقط أبدًا.
نتنياهو بين الملاحقة والدم: الهروب الكبير عبر غزة
في الداخل الإسرائيلي، يقف مجرم الحرب “نتنياهو” في زاوية حرجة، يطارده شبح المحاكمات بتهم الفساد والاختلاس وخيانة الثقة، فيما تتفاقم حدة الانقسام السياسي بين أقطاب اليمين الصهيوني المتطرف والعلمانيين.
حيث يرى كثير من المراقبين أن الحرب على غزة باتت أدَاة ناجعة بيد “نتنياهو” وبدعمٍ من “ترامب” للهروب من ورطته الداخلية، وتوحيد الرأي العام الإسرائيلي خلفه، مستغلًا مشاعر الخوف والتطرف، ويفتح عبر الدم الفلسطيني نافذة نجاة من أسوار السجن المحتملة.
لقد دأب “نتنياهو” تاريخيًّا على تصدير أزماته إلى الخارج، مستثمرًا في الحروب على غزة كرافعةٍ سياسية، لكنها هذه المرة تأتي في ظل صراع داخلي أكثر شراسة بين أحزاب اليمين ذاته، بين من يدفع نحو تصعيد مستدام ومن يرى في المفاوضات والتهدئة ورقة لتحقيق مكاسب انتخابية.
الظل الأمريكي: واشنطن تعيد رسم الخرائط بالنار
الولايات المتحدة الأمريكية ليست بعيدة عن هذا المشهد الدموي؛ فإدارة “ترامب” تجد نفسها أمام مفترق طرق بين الحفاظ على تفوق “إسرائيل” الإقليمي، وبين استرضاء حلفاءها في العالم العربي والإسلامي ضمن سياق إعادة ترتيب التحالفات بعد تراجع الدور الأمريكي في بعض مناطق العالم.
الحرب على غزة تمنح “واشنطن” فرصة لإعادة توجيه دفة المنطقة، من خلال تصعيد يبرّر المزيد من التدخل العسكري، ويُعيد تثبيت “إسرائيل” كعنصر حاسم في معادلات الشرق الأوسط، ويرجح كفة الدور الأمريكي وضرورته في خفض هذا التصعيد وتوجّـهات السياسة الأمريكية في إعادة ترتيب الأوليات في المنطقة.
كما أن مِلف التطبيع الإسرائيلي مع بعض الأنظمة العربية، والذي تعثر في الشهور الماضية، يجد في هذه الحرب أرضية جديدة لإعادة إحياء مشروعات “السلام” الأمريكي المزعوم، ولو على حساب تدمير غزة بالكامل، ولو على حساب الدم الفلسطيني المسفوك في شوارعها.
ولأن هذا الدم ليس مُجَـرّد ضحية لصراعٍ محلي، بل هو جزء من لعبةٍ جيوسياسية أكبر، فهناك دول وقوى تراقب عن كثب مسار الحرب، وتحاول دفع المشهد بكل الطرق والوسائل لتحقيق مكاسب ميدانية لصالح فصائل الجهاد والمقاومة والشعب الفلسطيني ككل، بالمقابل، تجد دول أُخرى في هذه الحرب مناسبة لتعزيز أوراق التفاوض والتحالف مع “واشنطن وتل أبيب”، بينما تبقى بعض العواصم العربية في موقع المتفرج أَو بالأصح المتواطئ من تحت الطاولة.
الرواية الصهيونية.. صناعة العدوّ واستثمار الدم:
في جوهر هذه الحرب، يتكرس مفهوم صناعة العدوّ، حَيثُ تُختزل غزة في خطاب المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية ككيان مهدّد للوجود الصهيوني، رغم فارق القوة الهائل، وتسويق هذا العدوّ يخدم مصالح منظومة الحكم في الكيان الصهيوني داخليًّا وخارجيًّا، مع تحول سكان القطاع إلى ورقة مساومةٍ دمويةٍ في يد اللاعبين الدوليين والإقليميين.
اللافت أن حجم التدمير والقتل الممنهج يعكس استراتيجية واضحة لإخراج غزة من المشهد السياسي والجغرافي، وتحويلها إلى نموذجٍ مدمّـر لكل من يفكر في تحدي التفوق العسكري الإسرائيلي، أَو يخرج عن بيت الطاعة الأمريكية.
ما يحدث في غزة، هو انعكاس لمعادلاتٍ معقدة يتحكم بها ساسة يبحثون عن المصالح والمطامح على حساب الأبرياء، فغزة اليوم تُحرق تحت أقدام حسابات “تل أبيب وواشنطن” والعواصم الإقليمية والمنظمات الأممية المتواطئة، في معادلةٍ لم تعد ترى في الفلسطيني سوى ضحيةٍ دائمة.
غير أن التاريخ لطالما أثبت أن الدم لا يكتب إلا رواية الثبات والصمود، وغزة وأهلها ومقاومتها، رغم الكارثة، تبقى شوكةً في حلق هذه التحالفات، وجرحًا مفتوحًا يعري صفقات السلاح والدم في سوق السياسة العالمية، ويفضح صفقات التطبيع والعار في سوق النخاسة والخيانة العربية والإقليمية.
المسيرة | عبد القوي السباعي