سامي العريان: أردوغان أخرجني من الولايات المتحدة والقضاء على النفوذ الأجنبي يكون بـتفكيك دولة إسرائيل
تاريخ النشر: 30th, July 2023 GMT
كشف مدير مركز دراسات الإسلام والشؤون الدولية سامي العريان -في الجزء الثاني من حواره لبرنامج "المقابلة"- عن دور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في إخراجه من الولايات المتحدة الأميركية إثر محاكمته الشهيرة، وتحدث عن أفكاره وتصوراته بشأن القضية الفلسطينية، وبشأن خطورة الفكر الصهيوني على المنطقة العربية، بالإضافة إلى تقييمه تجربة الربيع العربي.
وعن تفاصيل القضية التي أُبعد بسببها من الولايات المتحدة، تحدث العريان عن محاكمتين، الأولى انتهت عام 2006 بتسوية، حين عرضوا عليه مغادرة الأراضي الأميركية والتنازل عن كل حقوقه، وتم الاتصال حينها بالحكومة المصرية التي وافقت على استلامه.
وقال إنه وافق على العرض حماية لعائلته التي تضررت كثيرا، بالإضافة إلى أن الدخول في محاكمة أخرى ستكون نتائجها غير مضمونة وستكلفه مليون دولار أميركي.
أما القضية الثانية، فقال إن مدعيا عاما صهيونيا في ولاية أميركية أخرى افتعلها ضده، إذ طلب منه تقديم شهادته في قضية تتعلق بالإرهاب، ووضعه بين أمرين: إذا شهد يُتهم بالكذب وإذا لم يشهد يُتهم بازدراء المحكمة، وفي الحالتين عقوبة القضية 25 سنة سجنا. وسبب رفضه أن يشهد سُجن لعامين، ولكن قاضية أخرى اطلعت على القضية ومنحته كفالة مع وضعه تحت الإقامة الجبرية، ثم تم إسقاط القضية الثانية عام 2014، بعد إهمالها من طرف القاضية لمدة 6 سنوات.
وأكد المفكر الفلسطيني الأصل -في حديثه لحلقة (2023/7/30) من برنامج "المقابلة"- أنه خرج من القضية بدون جواز سفر وبدون أوراق ثبوتية، لأنه تنازل عن جميع حقوقه، وأنه اتصل بدول عربية بينها تونس من أجل استقباله، ولكن لا جواب جاءه من هذه الدول.
وكشف عن أنه راسل صديقا له في جامعة جورج تاون توسط له لدى الرئيس التركي. وقال أردوغان خلال اجتماع له مع جو بايدن (نائب الرئيس الأميركي حينها) "أريد هذا الرجل"، ثم سافر إلى تركيا ومُنح الجنسية التركية.
وربط العريان مسألة إبعاده من الولايات المتحدة بعجز الأميركيين عن إدانته، لأن نشاطه السياسي بين عامي 1997 و2002 أقلق اللوبي الصهيوني، مبرزا دوره في الضغط على الأميركيين من أجل إلغاء قانون استخدام الأدلة السرية في محاكمات الهجرة الصادر عام 1996، إذ تم اختياره ليترأس 40 مؤسسة إسلامية شُكلت من أجل المطالبة بإلغاء هذا القانون، وذلك بدعم أكثر من 130 من أعضاء الكونغرس الأميركي.
وروى قصة تواصله مع الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وكيف أن الجمهوريين طلبوا دعم المسلمين في انتخابات 2000 عندما احتدم السباق الرئاسي بين جورج بوش الابن الجمهوري وآل غور الديمقراطي، وقال إنه طلب من الجمهوريين الذين وجهوا له دعوة بإلغاء قانون استخدام الأدلة السرية، فاستجاب بوش لهذا الطلب، وقال خلال مناظرة ثانية مع آل غور في قضية التعامل مع السود والأقليات: "هناك تعامل خطأ مع المسلمين في استخدام الأدلة السرية".
وأكد المفكر الفلسطيني أنه جمع كل القوى الإسلامية واتفقوا على دعم بوش في الانتخابات، ووجهوا كل تصويت المسلمين في ولاية فلوريدا لصالح بوش الابن، مما جعله يفوز في هذه الولاية بـ537 صوتا، موضحا أن الجمهوريين اتصلوا به وأخبروه أنهم درسوا قانون استخدام الأدلة السرية وسيقومون بإلغائه، وطلبوا منه أن يأتي بكل القيادات الإسلامية إلى البيت الأبيض من أجل الاحتفال بالحدث، ولكن الذي حدث أن اليوم الذي حدد للاحتفال وقعت فيه هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 على الولايات المتحدة.
وأشار إلى أن نشاطه السياسي في الولايات المتحدة، الذي وصل إلى أعلى المستويات، استفز الصهاينة الذين لعبوا دورا في قضية محاكمته، وهو ما أشار إليه موقع ويكيليكس. وكشف عن أن 65 ألف ورقة بالعبرية رفعت إلى المحاكمة التي كان فيها نحو 400 ألف وثيقة. وفي أثناء المحاكمة، اعترف الأميركيون أنهم نزلوا إلى إسرائيل وتعانوا معهم 21 مرة.
الجماهير العربية خُدعتومن جهة أخرى، تعرض الأستاذ والمفكر الفلسطيني الأصل -في حواره لبرنامج "المقابلة"- إلى أفكاره وتصوراته بشأن القضايا العربية والإسلامية، ومواقفه من القضية الفلسطينية وعملية السلام، وقال "إن ممارسة الديمقراطية لن تتاح في المنطقة العربية قبل انتزاع النفوذ الغربي والأجنبي"، وإن ذروة انتزاع هذا النفوذ هو "تفكيك دولة إسرائيل".
وأضاف أن قضية فلسطين متعلقة بالوجود الصهيوني في المنطقة، وأن الهدف الإستراتيجي الأكبر للفلسطينيين والعرب "هو تفكيك دولة إسرائيل وانتزاع الصهيونية من فلسطين"، وذلك سيشكل أكبر ضربة للنفوذ الأجنبي.
ووفق تصوره، فإن الفلسطيني لا يمكنه أن يفكك دولة إسرائيل لوحده، كما أن تفكيكها لا يمكن أن يتم بدونه، ولكن دوره هو أن يحافظ على وجوده وبقائه في أرضه، وأن يشتبك مع العدو الصهيوني والحركة الصهيونية في كل المجالات وتحويل هذا الاشتباك إلى اشتباك عالمي، مبرزا في السياق نفسه أن اتفاق أوسلو أدخل الفلسطينيين في متاهات هم في غنى عنها، وأن السلطة الوطنية الفلسطينية تخدم الوجود الإسرائيلي وتحميه.
وأكد الدكتور العريان أن مركزية قضية فلسطين لها علاقة بطبيعة العدو الذي يريد للمنطقة وللأمة العربية والإسلامية أن تبقى مقسمة وضعيفة، ويبقى هو متفوقا تكنولوجيا وعسكريا على جيرانه، مؤكدا أن العرب مهددون من طرف هذا العدو، بدليل أن فكرة تقسيم السودان بدأت عام 1957، وكانت هناك لجنة داخل جهاز الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) تعمل على ذلك، وأن إقامة دولة للأكراد هي مسألة إستراتيجية في الفكر الصهيوني.
وذكر في السياق ذاته خطة صدرت عام 1982 من مدير مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون، إذ تحدث عنها شارون عام 1983 في المؤتمر السنوي لحلف شمال الأطلسي (الناتو). وتنص الخطة المزودة بخرائط على تقسيم المنطقة العربية إلى 43 دولة، مشيرا إلى أن سوريا والسعودية وليبيا والسودان مهددة بالتقسيم.
وبشأن رؤيته لتجربة الربيع العربي، قال العريان إن نجاح الثورات يتطلب توفر عوامل ضرورية، وعوامل محلية، وعوامل هيكلية، وما شهدته بعض الدول العربية لم تكن ثورات حقيقية، بل احتجاجات وانتفاضات أو عمليات إصلاح، أو استخدام الجماهير في عملية تغيير لا علاقة له بالقوى المعارضة. وأضاف أنه خلال الربيع العربي لم تكن هناك الفكرة الثورية ولا القيادة الثورية، ولم يكن هناك وعي وإدراك لدى الحركات الإسلامية وغيرها بمعنى الثورات.
وفي حين لفت إلى أن التغيير الحقيقي في المنطقة العربية يعتمد على الطرف الذي يريد إحداث التغيير، أشار إلى أن جماعة الإخوان المسلمين "ليست قوة ثورية، وهي غير قادرة على صنع تغيير ثوري".
وفي تصور ضيف برنامج "المقابلة"، فقد خُدعت الجماهير العربية بشأن وجود ثورات وتغييرات جذرية وحقيقية، وأن القوة المضادة للثورة كانت تعلم ذلك ووضعت فيتو: "لن تكون هناك تجربة ديمقراطية ناجحة في المنطقة"، ومن هنا يفهم لماذا أُحبطت التجربة التونسية، حسبما يقول المتحدث الذي يرى أيضا أن الولايات المتحدة أرادات أن تجهض وتفشل التجربة التونسية.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: من الولایات المتحدة المنطقة العربیة دولة إسرائیل فی المنطقة إلى أن من أجل
إقرأ أيضاً:
نحو عالم ما بعد الغرب: الترامبية وإعادة توزيع مناطق النفوذ في العالم
أثناء زيارتي للبرازيل للمشاركة في بعض الأنشطة العلمية، تعرفت على بعض جوانب الفكر السائد هنا والذي يعبر عن تيار معادٍ للمقاربات الكولونيالية الغربية، وذلك من أجل إعادة تشكيل عالم ما بعد الغرب. إنها صيحة من أجل صعود الجنوب العالمي والتي تعبر عنها بعض المؤشرات الجديدة مثل صعود الصين وتوسع مجموعة بريكس وانضمام الاتحاد الأفريقي لمجموعة العشرين وهلم جرا. وفي هذا السياق، جاءت رئاسة دونالد ترامب الثانية للولايات المتحدة، والتي بدأت في عام 2025، لتمثل أحد أعراض التحولات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية العميقة. وربما يمثل هذا العصر الجديد ترسيخاً لإجماع واسع النطاق بين القوى الكبرى والقوى الصاعدة، حيث يعترف الجميع ضمناً أو صراحةً بأن عصر الأحادية القطبية الذي تشكل في أعقاب انهيار الإتحاد السوفيتي قد ولى وراح أوانه.
بيد أن المقلق حقاً أن بعض ملامح الفوضى في النظام الدولي ارتبطت بتراجع نفوذ الولايات المتحدة تحت قيادة ترامب الثانية، وبدعم من كبار رجال الأعمال في شركات التكنولوجيا الكبرى والنظام المالي المهيمن. ينعكس ذلك في شعار “ماجا” أو “جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” استناداً إلى الأسس الإمبريالية في القرن التاسع عشر التي طبقها عدد من رؤساء الولايات المتحدة آنذاك. وعليه، من أجل فهم سياسات إدارة ترامب الثانية ينبغي العودة إلى الوراء عند بداية تشكيل السياسات التوسعية الأمريكية.
استلهام العصر الذهبي للتعددية القطبية
من الواضح أن دونالد ترامب استلهم سياسات أربعة رؤساء أمريكيين من القرنين التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حيث دمج إرثهم في استراتيجيته السياسية. كان الأول هو جيمس مونرو (1817–1825)، الذي عُرف بـ”مبدأ مونرو” الرافض للتدخل الأوروبي في الأمريكتين، ولعل تأثيره واضح على سياسة ترامب الخارجية “أمريكا أولاً”، التي ركزت على السيادة الوطنية ومقاومة العولمة (الانعزالية الجديدة). أما الرئيس الثاني فهو أندرو جاكسون (1829–1837)، الزعيم الشعبوي المدافع عن “الرجل العادي”، والذي روّج لواحدة من أكبر عمليات الإبادة الجماعية للشعوب الأصلية بإصداره قانون إبعاد الهنود عام 1830. لقد ألهم جاكسون خطاب ترامب المناهض للنخبة بحسبانه شخصية من خارج المؤسسة، وبسبب جاذبيته للناخبين من الطبقة العاملة.
ومن جهة ثالثة أصبح ويليام ماكينلي (1897–1901)، المُلقب بـ”رجل التعريفات” بسبب سياساته التجارية الحمائية نموذجاً لاستخدام ترامب العدواني للتعريفات الجمركية لحماية الصناعات الأمريكية. لقد صعد كل من ويليام ماكينلي ودونالد ترامب إلى الصدارة من خلال الدعوة إلى سياسات تجارية حمائية، حيث اشتهر ماكينلي بقوله أنه “رجل التعريفة الجمركية”. رأى كلا الرئيسين أن التعريفات الجمركية أداة لحماية الصناعات والوظائف الأمريكية من المنافسة الأجنبية. لقد فضل ماكينلي، مثل ترامب، في البداية تعريفات عالية على السلع، كما يتضح من قانون تعريفة ماكينلي في 1 أكتوبر 1890، الذي رفع متوسط الرسوم على الواردات إلى 49.5٪. ومع ذلك، تطور نهج ماكينلي عندما أدرك إمكانية المعاملة بالمثل التجارية وحاجة أمريكا إلى أن تصبح دولة تجارية. بحلول الوقت الذي أصبح فيه رئيساً في 1897، دافع ماكينلي عن خفض الحواجز التجارية من خلال اتفاقيات متبادلة، وفي خطابه الأخير في 5 سبتمبر 1901، أكد أن “الحروب التجارية غير مربحة”. من ناحية أخرى، تبنى ترامب موقفاً أكثر صدامية، عندما قرر في وقت سابق من هذا العام تطوير التعريفات الجمركية المتبادلة على الواردات إلى الولايات المتحدة، وذلك في إطار الوفاء بوعده الانتخابي “العين بالعين” بشأن مسائل التجارة العالمية. في حين أن كلا الرئيسين قد اشتركا في تركيز أوّلي على الحمائية، فإن تحول ماكينلي في النهاية نحو المعاملة بالمثل التجارية يقدم درساً مفيداً لترامب، لا سيما في مسالة المرونة والقدرة على التكيف في العلاقات المعقدة مع القوى الاقتصادية مثل الصين. ويقترح روبرت ميري، كاتب سيرة ماكينلي، أن ترامب يجب أن يفكر في تطور سياسات ماكينلي، مع الاعتراف بأنه في حين أن التعريفات يمكن أن تحمي العمال الأمريكيين في البداية، فإن اتباع مقاربة أكثر دقة في التجارة أمر ضروري لتحقيق النمو الاقتصادي المستدام والتعاون الدولي.
أخيراً، أثر الرئيس ثيودور روزفلت (1901–1909)، الذي ركز على القوة الوطنية والقيادة العالمية الحازمة، على خطاب ترامب حول استعادة الهيمنة الأمريكية، وإن كان ترامب قد ابتعد عن الإصلاحات التقدمية لروزفلت. ولاشك أن هذه الشخصيات التاريخية أسهمت في تشكيل التركيبة الشخصية المعقدة للرئيس ترامب والتي تجمع بين الشعبوية والحماية الاقتصادية والنزعة الوطنية، وذلك بما يتناسب مع التحديات السياسية والاقتصادية الحديثة.
نحو تعددية قطبية مغايرة
لقد برزت الولايات المتحدة كقوة عظمى صاعدة خلال القرن التاسع عشر، حيث عززت هيمنتها الإقليمية في الأمريكتين عبر سردية “مبدأ مونرو”، بينما شرعت في الانغماس المتزايد بالشئون العالمية، متحديةً بذلك التقسيمات التقليدية لمناطق النفوذ في الصين التي رسمتها القوى الأوروبية. وفي هذا السياق، أعلنت واشنطن عن ضرورة منح جميع الدول حقوقاً متساوية في التجارة مع الصين، وهو الموقف الذي عُرف لاحقاً باسم سياسة “الباب المفتوح” أواخر القرن ذاته، بهدف إعادة توزيع مناطق النفوذ القائمة والحفاظ على امتيازات متكافئة للقوى الاستعمارية الغربية. وعلى الصعيد الأمريكي، ارتكز “مبدأ مونرو” على فكرة “مناطق النفوذ”، بالادعاء بأحقية الولايات المتحدة في اعتبار القارة الأمريكية بأكملها بمثابة “حديقة خلفية” لها، مع إصرارها على إبعاد القوى الأوروبية وغيرها خارج النصف الغربي من الكرة الأرضية، حيث مثلت أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي النطاق الجغرافي الطبيعي لهذه الهيمنة الصاعدة في إطار التشكيل الاجتماعي الرأسمالي الأمريكي.
ومن جهة ثانية، شكلت حقبة الحرب الباردة النموذج الأكثر وضوحاً لتقسيم العالم إلى مناطق نفوذ بين الكتلة الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة والكتلة الاشتراكية بزعامة الاتحاد السوفييتي، حيث تجسد هذا التقسيم عبر تحالفات عسكرية مثل حلف الناتو وحلف وارسو، مع تهديد دائم بالرعب النووي والدمار المتبادل. وقد خلّف هذا النظام الثنائي القطبية إرثاً من “الحروب بالوكالة” في العالم الثالث، التي تحولت إلى ساحات لتصفية حسابات القوى العظمى، فيما قاومت دول الجنوب هذا الترسيم عبر مبادرات مثل مؤتمر باندونج الأفروآسيوي (1955) وحركة عدم الانحياز، بالإضافة إلى مؤتمر بانكوك لحقوق الإنسان (1993) الذي دافع عن رؤية ثقافية نسبية لحقوق الإنسان مع التركيز على التنمية الاقتصادية والاجتماعية كشرط أساسي لها، مؤكداً على مبادئ السيادة الوطنية وعدم التدخل.
أما في الوقت الراهن وفي مرحلة ما بعد الحرب الباردة، يواجه دونالد ترامب في ولايته الثانية- سيناريو تعددية قطبية مختلفة جذرياً عن نموذج القرن التاسع عشر الإمبريالي، حيث تُعبّر التعددية الحالية عن “تعددية بعيدة عن المركزية الأوروبية” تبرز فيها مراكز قوى جديدة، خاصة في آسيا بقيادة الصين، كواقع تاريخي في ظل الفوضى النظامية العالمية. ولا يخفى أن الغرب يعيش في هذا الإطار أزمات اجتماعية وسياسية متصاعدة، بينما تتصاعد قوة الصين كتحدٍّ للنظام الرأسمالي الاستقطابي، في مشهد يعيد ترتيب التوقعات الجيوسياسية ويسلط الضوء على استحالة استعادة الهيمنة الأمريكية عبر النيوليبرالية. وعلى الرغم من أن إدارة ترامب تسعى إلى إحياء نموذج القرن التاسع عشر في تحديد مناطق النفوذ عبر اتفاقيات صريحة وضمنية مع القوى الكبرى، يظل التساؤل المركزي حول استعداد قوى مثل الصين وروسيا لتقاسم هذه الرؤية القائمة على التقسيم الإمبريالي الجديد.
مرحلة الفوضى أو النظام الذي لم يولد بعد؟
غالباً ما يتم تحليل مشهد النظام الدولي المتحول من خلال أطر مختلفة، مع وجود نموذجين بارزين هما النظام العالمي “جي -صفر” أو (G- 0) ومجلس القوى الجديد. ويتميز النظام العالمي “جي-صفر” الذي اقترحه ايان بريمر بغياب القيادة العالمية، مما يؤدي إلى زيادة عدم الاستقرار وتوفير مزايا لجهات فاعلة معينة. ولاشك أن هذه البيئة تدعم صعود القوى الإقليمية وتشكل تحديات للتعاون الدولي، كما يتضح في الحالات التي تسعى فيها دول أو تكتلات منفردة إلى مصالحها دون وجود استراتيجية عالمية متماسكة. على سبيل المثال، توضح الاختلافات في مقاربات التخفيف من تغير المناخ بين الدول الكبرى هذا النقص في القيادة الموحدة. في المقابل، يتصور مجلس القوى الجديد مجموعة توجيهية تتكون من ستة فاعلين عالميين: ربما يمكن الحديث عن الولايات المتحدة والصين والهند وروسيا واليابان والاتحاد الأوروبي. وتهدف هذه المجموعة إلى التخفيف من حدة التنافس بين القوى الكبرى ومعالجة التهديدات العابرة للحدود الوطنية مع الحفاظ على القيم الأساسية مثل السيادة والسلامة الإقليمية. مثال على ذلك يمكن أن تكون الجهود المشتركة التي تبذلها هذه القوى لمكافحة الأوبئة العالمية أو لوضع معايير للأمن السيبراني، مما يعكس اتباع مقاربة موحدة بشان التنسيق لمواجهة التحديات المشتركة. وربما يعكس هذا النموذج مفهوم مجلس أوروبا في القرن التاسع عشر.
ختاماً، فإن صعود الجنوب العالمي في عصر الترامبية يعكس تحولاً جوهرياً في النظام العالمي، حيث تسعى الدول النامية إلى تعزيز استقلالها السياسي والاقتصادي وسط تراجع الهيمنة الغربية التقليدية. ولعل قيام البرازيل بإعادة فرض التأشيرات على مواطني الولايات المتحدة وكندا وأستراليا يقدم في دلالته الرمزية تعبيراً عن القدرة على الرد. وفي مواجهة السياسات الإمبريالية متعددة الأقطاب التي تتبناها إدارة ترامب، يقدم الجنوب العالمي نموذجاً بديلاً للتعاون الدولي يرتكز على مبادئ باندونج وعدم التدخل واحترام السيادة. وعليه، يصبح الجنوب العالمي مع تصاعد المنافسة بين القوى الكبرى محوراً أساسياً في تشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب، حيث تلعب مبادرات مثل مجموعة بريكس ومبادرة الحزام والطريق دوراً محورياً في تعزيز التعاون بين دول الجنوب. ومع ذلك، فإن هذا التحول لا يخلو من التحديات، إذ يتطلب ذلك تحقيق توازن دقيق بين القوى العالمية المتنافسة وتعزيز التعاون الإقليمي لضمان التنمية المستدامة والحوكمة العادلة.
أ. د. حمدي عبد الرحمن حسن – بوابة الأهرام اليوم
أستاذ العلوم السياسية في جامعتي زايد والقاهرة