لطالما كانت صناعة النفط ركيزة أساسية من ركائز اقتصادنا الوطني في ليبيا، أو لقول أكثر إنصافًا وموضوعية؛ فهي العمود الفقري، والمنبع المموِل لمختلف القطاعات الأخرى.

وفي هذا الصدد، فلا فرار من الإقرار بأن تأخر ليبيا في التحرر من الاعتماد الكلي على النفط؛ كان له الأثر البالغ في هشاشة بنيتها الاقتصادية، بجانب عديد العوامل الأخرى بالتأكيد، التي على الرغم من تأثيرها الجسيم، فهي لا تتعارض مع صحة التوجه الداعي للتنوع الاقتصادي، الذي يهدف إلى تقليل المخاطر، وضمان الصلابة والمرونة في مواجهة التقلبات والاضطرابات، التي عانى الوطن الليبي من الكثير منها فيما مضى من سنوات، وما زال يخوض معها معارك شديدة الشراسة والحدة.

وبمد الخط على استقامته، فمثلما ليبيا في حاجة ماسة إلى تسريع وتيرة تحررها من الاتكال الكامل على الذهب الأسود الطافي في باطن أراضيها، فكذلك الصناعة النفطية الليبية بحد ذاتها في حاجة إلى التخلص من الاعتمادية، وذلك عبر التحرك الجاد نحو إدارة شاملة لملف تلك الصناعة؛ تضمن تحكمًا كاملاً من الجذور، وتتكفل بتوطين مختلف المراحل.

ويمكن القول إن مصلح التوطين لا يُعد بجديد على المسامع الليبية، بل هو مُقترح طُرح عدة مرات على طاولات النقاش في دوائر أهل الرأي والقرار، وهو الأمر نفسه مع عدة دول عربية تتشابه مع ليبيا في امتلاك مخزون مرتفع من احتياطي النفط الخام، وتقديم إسهامات ضخمة في مختلف قطاعات الطاقة بوجهٍ عام؛ كدولة قطر، وكذلك المملكة العربية السعودية، اللتين اتخذتا عدة خطوات جادة في سبيل إرساء قواعد توطين شامل، ويعد النموذج الكويتي هو الآخر بمنزلة نموذج رائد، تمكن من تحقيق نتائج مُقنعة في مشروع “تكويت” الصناعة النفطية بالأراضي الكويتية.

وبالعودة إلى ليبيا، فيُمكن اعتبار خطوة اعتماد مفهوم شامل للتوطين هي ضرورة مُلحة تفرضها الظروف الراهنة؛ التي تتطلب استغلالاً أمثل لكافة ما بين أيدينا من ثروات، كما تقتضي الكف عن تحمل أعباء قيدت قطاع النفط والغاز لسنوات، وحالت دون تأديته للدور المنوط به.

ومن الخطأ الاعتقاد بكون التوطين يُشكل دعوة إلى تطبيق إقصاء فوري للكادر الأجنبي، وفرض تضييق على الاستثمارات غير الليبية فيما يتعلق بالصناعات النفطية، بالتأكيد لا، إنما يشير هذا المفهوم إلى عملية تخطيطية تتم وفقًا لاستراتيجيات طويلة المدى تستهدف التأسيس لتحكم وطني في مفاصل تلك الصناعة، مع التركيز بوجه خاص على تأهيل الكادر الوظيفي الوطني لمنحه القيادة عن جدارة واستحقاق، كما أن أحد أبرز مظاهره هو التكثيف من طرح فرص استثمارية متعددة ودورية للقطاع الخاص المحلي تحفيزًا للإسهام بمشاركات أكثر فاعلية في دعم الصناعة. لذا؛ فكما أسلفنا الذكر، فهو لا يرمز إلى سياسة إقصائية تعسفية، بل على النقيض تمامًا؛ فالتوطين توجه يرمي إلى خلق بيئة استثمارات تحكمها المصلحة الوطنية، مما يعني إكساب تلك البيئة الصلابة والاستقرار والوضوح، وهو ما يعود بالنفع على المستثمر الأجنبي الراغب في الطمأنة على مستقبل استثماراته، بالإضافة إلى أنه نهج يظل على الدوام داعيًا إلى التعاونات الداعمة لتبادل المعرفة والمهارات، ومُشجعًا باستمرار على السعي تجاه الاستفادة من خبرات الكوادر الأجنبية لأغراض التعلم والتأهيل.

وللحديث بصورة أكثر وضوحًا وتمحيصًا عن توطين الصناعة النفطية في الوطن الليبي، فعلينا بتناول يفصل بين ركائز تلك الصناعة؛ والتي يأتي على رأسها العنصر البشري الذي أسلفنا الحديث عنه، لكن نعود ونؤكد أن الكادر الوطني هو عماد التوطين، لذلك؛ فلا جدال على منح الأولوية لبرامج التأهيل والتدريب الطامحة لرفع الكفاءة على كلا الجانبين الفني والإداري، شريطة امتثال جاد لمبادئ الشفافية والنزاهة من كافة الجهات المعنية، وذلك ما يعني الاحتياج لرقابة صارمة؛ تجابه الفساد المستشري، وتحفز من الفرز العادل للكوادر المُستحِقة الصدارة.

وبنظرة على مختلف العناصر الأخرى المُرتكزة عليها تلك الصناعة، فلا مناص من التعامل بصورة أكثر جدية مع الخدمات التكميلية الداعمة لبيئة عمل أكثر إيجابية وإنتاجية؛ مثل الدعم الصحي، والعمليات الفنية الفرعية، وكذلك اللوجستية، والتي إدراجها تحت مظلة المفهوم الواسع للتوطين، سيمنح القدرة على خلق حيز صناعي ذكي، يتسم بمعدلات عالية من مهارات التواصل والانسجام، علاوةً على الإسهام في خفض التكاليف، على أن تحقيق النجاح هنا يتوقف على السعي الدؤوب تجاه معالجة ثغرات البيروقراطية المُعرقلة لتطور منظومات العمل الليبية.

وبذكر التطور، فلا فكاك من توطين الوسائل التكنولوجية المتوغلة في الصناعة النفطية، وهو الأمر نفسه مع المعدات والمواد اللازمة، وقد تم اتخاذ خطوة أولية جادة في سبيل تحويل تلك الغاية إلى واقع ملموس؛ عبر اتفاق مُبرم بالعام المنصرم بين وزارة النفط والغاز ووزارة الصناعة والمعادن بحكومة الوحدة الوطنية، وقد شمل نشاط اللجنة المُشكلة بين الوزارتين البحث عن تعاونات مُثمرة مع الجهات البحثية القومية، وهو الأمر الذي نأمل استمراره، وندعو إلى إدارته باستراتيجية تسمح بالتوسع والتحسين.

وبعد الحديث الخاطف عن مظاهر توطين الدعائم الأساسية للصناعات النفطية، يحين الدور على استعراض مُقتضب لمُخرجات تلك الصناعة، والتي يقتصر تناول الكثير لها على الوقود ومواد التشحيم، دون ذكر للبتروكيماويات، التي تمتد أذرعها في مختلف الصناعات المُغطية لعديد الاحتياجات البشرية، لذلك؛ فمن الواجب تسليط الضوء على الخطوة المحورية التي اتخذتها محفظة ليبيا أفريقيا للاستثمار لتغطية القصور في توطين المُشتقات النفطية المُهمشة بالداخل؛ حيث أتمت المحفظة في يناير الماضي التأسيس لشركة ليبية تركية لإنتاج الصناعات البتروكيماوية داخل ليبيا، وذلك بموجب اتفاقية مُبرمة مع اتحاد الشركات التركية المستثمرة في إفريقيا، ويُعد مشروع تشييد مصنع لإنتاج مادة البيتومين ترجمة عملية سريعة لجدية ذلك الاتفاق؛ حيث قد تم البدء الفوري في أعمال إنشاء المصنع، الذي يستهدف تقديم الدعم للبنية التحتية الليبية، وذلك عبر إنتاجه كميات ضخمة قُدرت بما يُعادل 500 طن في اليوم من البيتومين، المعروف بكونه الخيار الأمثل لرصف الطرق، علاوةً على ما له من استخدامات صناعية أخرى، وبحسب ما ورد على لسان مسؤولي مجلس الإدارة؛ فمساندة المحفظة لمساعي التوطين تأتي ضمن استراتيجيتها الراغبة في توجيه دفتها الاستثمارية بصورة متزنة نحو الداخل، مع تنظيم لما تمتلكه بالخارج، لتقديم دعم مباشر للهيكل الاقتصادي الوطني، استنادًا إلى دراسة مُتعمقة للأوضاع الراهنة.

وبالنظر إلى الشراكة التي أبرمتها ليبيا أفريقيا للاستثمار؛ فإلزامًا علينا الالتفات لحتمية السعي نحو عقد تعاونات استراتيجية مع خبرات عالمية، وهو ما أشرنا إليه بالسابق، وذلك لمؤازرة إرساء قواعد توطين متزن وفعال في تشعبه، مع ضرورة الوفاء بتوجيه جهود تلك التحالفات نحو الداخل؛ طلبًا لتوفير بيئات تعج بالفرص الغنية بالخبرة والمعرفة اللازمتين لدفع كادرنا الوطني تدريجيًا نحو التحكم الشامل، وكذلك لوضع حجر الأساس لنواقص الصناعات النفطية بليبيا، تمهيدًا لإتقان إدارتها، وتوطينها بالشكل المرغوب.

ختامًا، نعود إلى التأكيد على أن توطين الصناعات النفطية في ليبيا ليس مجرد خيار، بل هو مسار إجباري، لا بديل عن اتخاذه، وضمان إتمامه بالشكل الأمثل يتوقف على جدية التكاتف بين مختلف الأطراف المعنية، وواقعية الخطوات المُتخذة وفقًا لخطة وطنية شاملة واضحة الملامح والأهداف، ونسأل المولى -جل جلاله- السداد والتوفيق لكافة المساعي المُخلصة.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

المصدر: عين ليبيا

كلمات دلالية: الصناعة النفطیة تلک الصناعة

إقرأ أيضاً:

ليبيا.. إسدال الستار على أزمة المصرف المركزي

الاقتصاد نيوز - متابعة

وافق مجلس النواب الليبي، الإثنين، على تعيين محافظ للمصرف المركزي ونائب له بهدف حل الأزمة التي أدت إلى انخفاض إنتاج النفط في البلاد.

مجلس النواب وافق على تعيين ناجي محمد عيسى بلقاسم محافظا جديدا لمصرف ليبيا المركزي وتعيين مرعي رحيل البرعصي نائبا له، وفق ما ذكرت وكالة رويترز.

وتم ترشيح الاسمين خلال اجتماع نظمته الأمم المتحدة في الآونة الأخيرة.

وكان بلقاسم يشغل في السابق منصب مدير إدارة الرقابة على النقد والمصارف بالمصرف المركزي.

كانت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا قد أعلنت، الأربعاء، التوصل إلى تسوية بين الأطراف الليبيين لمعالجة أزمة إدارة المصرف المركزي الذي يشهد تنازعا على السلطة منذ أكثر من شهر.

وذكرت البعثة في بيان: "في ختام جولة جديدة من المشاورات لمعالجة أزمة المصرف المركزي في ليبيا، توصل ممثلا مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة إلى تسوية بشأن تعيين قيادة جديدة للمصرف".

واوضحت أن الطرفين "وقعا بالأحرف الأولى على اتفاق بشأن الإجراءات والمعايير والجداول الزمنية لتعيين محافظ ونائبه ومجلس إدارة لمصرف ليبيا المركزي".

ومن المقرر توقيع الاتفاق الخميس في حضور ممثلين للمجتمع الدولي.

وبدأت أزمة المصرف المركزي بعد قيام المجلس الرئاسي للدولة منتصف الشهر الماضي بإصدار قرار بإعفاء المحافظ السابق للمصرف الصديق الكبير من مهماته، على خلفية اعتراضات وتحفظات عن طريقة إدارته.

وعلى الأثر، أغلق المصرف أبوابه عقب تهديد تعرض له عدد من مسؤوليه واختطاف أحدهم من قبل مجموعة مسلحة.

ورفضت الأمم المتحدة والولايات المتحدة ودول غربية ما وصفته بـ"قرار أحادي" من طرف المجلس الرئاسي لتغيير مجلس إدارة المصرف وتعيين مجلس إدارة موقت برئاسة عبد الفتاح غفار، باعتبار أنه يضر بسمعة ليبيا المالية.

كما عمدت سلطات شرق ليبيا إلى وقف إنتاج النفط وتصديره احتجاجا على قيام السلطات في طرابلس(غرب) بالسيطرة على مقر المصرف المعني بإدارة عائدات النفط.

ويشرف المركزي الليبي على إدارة إيرادات النفط وموازنة الدولة وتوزيعها بين المناطق المختلفة.

تعاني ليبيا انقسامات منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011، وتدير شؤون البلاد حكومتان الأولى في طرابلس معترف بها دوليا وانتهت ولايتها برئاسة عبد الحميد الدبيبة، والثانية في شرق البلاد يترأسها أسامة حمّاد وتحظى بدعم البرلمان.

مقالات مشابهة

  • ليبيا تستعد لاستئناف إنتاج النفط بعد انتهاء أزمة «المركزي»
  • رئيس الوزراء يلتقي مسئولي الشركة المصرية العالمية للسيارات لمتابعة توطين الصناعة
  • وزير الصناعة يبحث مع «نستله» استراتيجية توطين مدخلات الإنتاج محليا لزيادة الصادرات
  • نورلاند: كل يوم من التأخير سيضر ليبيا
  • كامل الوزير يبحث مع «نستله مصر» توطين تصنيع مدخلات الإنتاج محليا
  • الوزير يبحث مع "سكاتك النرويجية" وتحالف 3 شركات أوروبية توطين صناعة المحللات الكهربائية بمصر
  • هل تنهي الوساطة الخارجية أزمة البنك المركزي في ليبيا التي أدت إلى خفض إنتاج البلاد من النفط؟
  • ليبيا.. إسدال الستار على أزمة المصرف المركزي
  • "شركة النفط" تحذر من أي افتعال لأزمة المشتقات النفطية اثر الغارات الإسرائيلية وتقول إن الوضع التمويني مستقر
  • وزير النفط يناقش مع شركة محروقات واقع العمل وتزويد آليات النقل العام بالمشتقات النفطية