كتابا قرأته وتمنيت لو كنت كاتبه.. لماذا؟
تاريخ النشر: 26th, April 2024 GMT
من منا لم تراوده هذه الأمنية وهو يضم بين يديه كتابه ويغوص بين كلماته بكل ما يحمله من شغف، ويقول هذه الفكرة تمثلني، وهذا البطل يشبهني، وهذا الوجع ينتابني، وهذا الفرح ليته مر بي، بل ويتعمق في الأمنية ويقول ياليتني أنا الذي كتبت هذه الرواية، وصنعت شخوصها، وجعلتهم يسيرون في الدروب التي أشتهيها، وياليتني جعلت هذا البطل يحقق أمنياته، ولم يهرب وحيدا بعيدا، وياليتني أبدعت بهذا السرد العميق وتجولت في ذات الأمكنة، وياليتني أنا من صاغ خيوط هذا الحكاية وأبدع في حبكتها.
كتاب أخرجني من النفق الأعمى لنور الشعر
يقول الشاعر د. محمد سعيد العتيق: «كل كتاب أو ورقة أو سطر يمر من أمام عيني العقل واللاوعي يعتبر وسيلة للمعرفة، وله أهميته القصوى باتجاه المعنى سواء كان سلبا أم إيجابا، لأنه من خلال الفجوتين تتشكل معرفة المرء والشاعر والعالِم.
من هنا وأنا صاحب ربما ما يزيد عن الألف كتاب المخزنة في الذاكرة بدءًا من القصص والروايات البسيطة إلى كتب الفلسفة والطب والتصوف والوجود والأساطير والفنون وصولا إلى الشعر، كنت شغوفا بالمئات منها متمنيا أن أكون صاحبها أو كاتبها ولو لسطر منها.
ولكن لربما يكون الكتاب الذي قرأته بنسخته الإنجليزية حتى لا يفقد روحه بالترجمة هو الأفضل والأميز والذي أعتبره نقطة مفصلية ومحورا لعالم جديد وخروجا من عنق الزجاجة وولادة من الخاصرة وهو الكتاب الأسمى للروح والذي نقل تجربتي الشعرية من مكان أرضي لمكان سماوي فراغي ألا وهو كتاب «الشعر والتجربة» للكاتب الأمريكي أرشيبالد مكليش وهو من رواد الشعر العالمي المعاصر كان محاضرا في جامعة هارفارد وحفلت حياته بالعديد من التجارب والاختبارات، مما أهله للخوض بشكل متفرد في مواضيع الشعر الذي كان سجالا بينه وبين طلابه في محاضراته التي كان يطمح جاهدا في الوصول إلى كنه الشعر ومدلوله الأعلى.
كنت قبل هذا الكتاب شاعرا تقليديا كلاسيكيا على خطى الأولين وعلى هدى التراث المطلق والمعلقات والمتنبي ولكن كنت مغمض العينين عما يدور حولي من الحداثة في هذا العالم الرحب وعندما عثرت عليه وهضمت معانيه ودلالاته خرجت من عنق الزجاجة ومن النفق الأعمى لنور الشعر وكنهه ومن ثم أدركت تماما ما الشعر وكيف لي أن أميز بين الشعر واللاشعر وأصبحت ناقدا فذا لنفسي ونصي ولربما لنصوص الآخرين.
ولربما لعشقي للمدرسة الوجودية بعد قراءتي المتفحصة لكتاب «الوجود والعدم» لسارتر ولكتاب «التجربة والشعر» أصبح لي منهج وبصمة شعرية متفردة تدور في هذا الفلك المتسع اللامحدود، فجر في داخلي الوسائل المؤدية للمعنى ومعرفة كيف تكون للشعر والكلمات أصوات، وكيف تكون رموز وكيف تكون صور واستعارات، وكيف تحولت الكلمات اللا معنى لها، إلى شعر ومعنى ودلالات مفتوحة.
كور هذا الكتاب في عالمي الفراغي الخاص والعام شكل المعنى.
أخذتني لمتاهات جميلة وللتاريخ
يسرد الروائي محمد أحمد طاهر قصة تأثره ببعض الكتب التي قرأها وتمنى في لحظة أن يكون كاتبها إذ يقول: «كثيرة هي الكتب التي قرأتها وعشت أحداثها وربما عشت في أدق تفاصيلها، وكنت في لحظة ما أعيش حالة الكاتب في حينه، في بداياتي تأثرت برواية «باسمة بين الدموع» للروائي الراحل عبد السلام العجيلي، ربما لقرب البيئة من نفسي، ولربما معرفتي عن قرب بالكاتب جعلني أغرق في التفاصيل، وكان لهذا تأثير حتى في أسلوب وطريقة كتابتي.
رواية «الجريمة والعقاب» لعملاق الأدب الروسي ديستوفيسكي أخذتني من تلابيبي وتخيلت في لحظة ما أكتب الكثير من أحداثها، ربما طبعي الميل للأدب البوليسي في كثير من رواياتي نتيجة تأثري بهذه الرواية الرائعة وظروف كتابتها.
كما أن رواية «عزازيل» ليوسف زيدان ورواية «دروز بلغراد» لربيع جابر، والإسقاطات التاريخية النابعة عن معرفة عميقة بالتاريخ التي استندت إليه تفاصيل الرواية، فجعلها رواية تتسم بالواقعية التاريخية، وقد أخذتني في متاهات جميلة لاحدود لها، ولا أنكر أنها جعلتني أميل كثيرا إلى الكتابة التاريخية على الرغم من صعوبتها. كل تلك الأعمال الجميلة تمنيت لو كنت أنا كاتبها».
لهذا تمنيت لو كتبت «مائة عام من العزلة»
الروائي سامي البدري يقول: «تمنيت لو كنت كاتب رواية «مائة عام من العزلة»، تلك الرواية التي اقترحت علينا الكثير من المخارج والمقترحات الثقافية من أجل تخفيف عبء الحياة عن كواهلنا وجعلها أكثر معقولية وانسجاما مع الطبيعة.
لعل مقترح الطفو على الواقع كان من بين أهم طرق الهروب التي قدمها ماركيز في تلك الرواية، عبر واقعيته السحرية؛ فلطالما آمنت أنا شخصيا بالحاجة لهروبات سحرية، تدحض رتابة ميكانيكية الواقع وتثبت بلاهتها، كأن نرتفع بوصات أو حتى أمتارا عن الأرض بكوب من الشوكولاته الساخنة، وأن نطير لنتبدد في الفضاء، عندما تثبت لنا الحياة أنها ليست أكثر من مزحة سخيفة، بركوب شرشف أبيض من حبل الغسيل... أو حتى باعتلاء ظهر سلحفاة ملت سنواتها الخمسمائة، وقررت هي الأخرى الاختفاء والتبدد في الفراغ لأنها ملت التكرار هي الأخرى.
نعم تمنيت أن أكون أنا كاتب رواية «مائة عام من العزلة»، ليس بسبب تعبي من العزلة، إنما من أجل فتح أبواب «لهروبات» تفتح المزيد من فضاءات العزلة المشتهاة... ومن أجل اختراع المزيد من (ماكندوات) العزلة التي تكون أرفق بسعادتنا الحيوانية/ البدائية التي ننتمي إليها بموتنا الفوضوي لا بحياة حضارة الاستهلاك المنظمة، لأن الأساس في الحياة هو نصاعة الطبيعة ونظام فوضاها، وليس نظام جدران الآجر وكتل الخرسانة التي حجبت عنا نور الشمس، والتي هي جزء من ثقافة السجون وعزلتها المزمنة (تحت يا فطة النظام). لكن لو كنت أنا من كتب تلك الرواية لكنت نصرت جوزيه اركاديو الأول على محافظ السلطة المحافظة ومندوبي الحزب المحافظ، ولو على الورق، ليس من أجل شيء سوى تعبير عن الرفض ونصرة للطبيعة التي قرضها النظام من تحت أقدامنا...وتركنا في عراء الفراغ وبلا سماء تظللنا...أعني السماء الزرقاء وليس سماء الأعلام السياسية التي تنضح باللون الأحمر وتبرقع جلدها بنجوم لا تشبه نجوم سماء الله!»
«طبل الصفيح» بإيقاعي
يبرر الروائي عماد البليك أمنيته بكتابة هذه الرواية لتكون بإيقاعه الخاص فيقول: «تمنيت أن أكون كاتب رواية «طبل الصفيح» لغونتر غراس، حيث رأيتها ملحمية، وحتى لو أنها مملة. لكن بعض الأعمال تحتاج إلى صبر في القراءة.. وغراس يعمل على نسيج أو حياكة هادئة.. كما ماركيز في «مائة عام من العزلة» لكنني لا أحب الواقعية السحرية أو مثل «البحث عن الزمن المفقود» لمارسيل بروست.. أن «طبل الصفيح» رواية ملهمة على أي حال، بحيث يمكن اختصار الأمكنة والأزمنة والتاريخ في نص. كما أن مثل هذا النوع من الكتابة يكون قادرا على احتواء تضاريس السياسة في ثنايا الأدب بطريقة ذكية. وبحيث يكون ممكنا توظيف اللغة بشكل جديد، وإعادة اختراع العالم. قطعا لا يمكن التوصيف التام والدقيق لشيء يمكن أن يعجبك، لأن الإحساس فيه النهاية هو أمر ذاتي. لكن حتى لو أنني كتبت «طبل صفيح»، فسوف يكون مختلفا ليس كالطبل الغراسي، سيكون طبعا له إيقاعي أنا. لا يمكن للذات الكاتبة إن رغبت في الأصالة أن تستنسخ لكنها يمكن أن تأخذ الإلهام من أعمال أخرى. ولهذا فالإعجاب لا يعني التمني المطلق إنما يدل على أن هذا العمل المعين له القدرة على الإلهام والتحفيز. مرات ثمة أعمال تحفزنا لكي نقرأ أو نكتب أو نحب الحياة».
أحلام التي سحرتني بأسلوبها
تكشف الروائية إيمان الدرع عن إعجابها برواية «ذاكرة الجسد» للروائية الجزائرية أحلام مستغانمي التي خلّدت فيها معاناة أبطال الكفاح الجزائري بلون مختلف وهو لون الحب الجميل والموجع واختزلت واقع الجرح الجزائري في فترة مقارعة الاستعمار الفرنسي وتقديم الشهيد تلو الشهيد في سبيل ذلك.
أعجبني فيها تدفق المشاعر بانسيابية تامة، والغوص في أعماق النفس البشرية، سرد الأحداث الرومانسية في سياق تاريخي عميق جسدت معاناة الشاب الجزائري خالد بن طوبال الذي فقد ذراعه أثناء مقاومة المستعمر ولكنه لم يفقد إبداعه، إذ أصبح من أشهر رسامي عصره بعد أن هاجر إلى فرنسا ليقيم فيها أروع المعارض الفنية.
أحببت هذه الرواية واندمجت بتفاصيلها حتى اللحظة لأنها تجسد العصر المعاش الذي واكبته وقد دمجت فيه الروائية أحلام الواقع بالخيال بطريقة سردية جميلة جدا وبتعابير رشيقة جمعت فيها زخما من المعاني المتناغمة المتضاد، التعقل والجنون، والتوتر والتوحش والحب والخيانة، والصدق والانتهازية، واليأس والأمل.
لقد أحببت في أفكارها المطروحة الخروج على القانون بمعنى أنها حركت قلمها في كل الاتجاهات بلا تردد وبلا خوف من دخول التابلوهات التي يخشى ولوجها الكثير من الأدباء والأديبات فتحدثت عن الإرهاب الديني في الجماعات المتأسلمة التي نهشت قلب البلد، تحدثت عن النضال بقدر ما تحدثت عن الفساد الذي نخر عظم الأمة وتركت العنان لقلمها في رصد لحظات تأجج العاطفة بما يخدم المشهد، وهذا ما يبتغيه الكاتب ألا يخاف من مقص الرقيب والمساءلة والمحاسبة، وقمع الفكر والأحاسيس وبتر الخطوات التراتبية التي تمسك بتلابيب القارئ حتى آخر حرف.
أحببت أسلوبها في الكتابة وطريقة تناولها الحدث بشكل أعتقد بأنه يتقاطع مع أسلوبي الذي أتبعه في رواياتي ومجموعاتي القصصية، فلاقت بنفسي ما لاقت من إعجاب واهتمام.
هذه الأعمال غبطت كتَّابها
يقول الشاعر جمعة الفاخري: «أنا مفتونٌ بالقراءة.. تلبَّستني الحيرة إزاءَ اختيار أيِّ الكتب الأكثر سطوةً على قلبي وذاكرتي.. يا الله..! ما أكثرها..!!
قطيع كتبٍ اقتحم أعماقي.. احتلَّها ولم يغادرْها.. كيف لي أن أختار منها...؟
في الشعر ديوان المتنبِّي.. ديوان شوقي.. ودواوين نزارٍ قبَّاني جميعها.. في القصَّة: مجموعة «موسم الحكايات» للقاصِّ الليبي الراحل خليفة الفاخري.
في الرواية: من الروايات العالميَّة «مائة عام من العزلة» و«الحُبّ في زمن الكوليرا» لجبرائيل غارسيا ماركيز، و«كوخ العم توم» لهرييت بيتر ستاو.
من الروايات العربيَّة: «موسم الهجرة إلى الشمال» للروائي السوداني الراحل الطيِّب صالح، وثلاثيَّة الروائي الليبيّ د. أحمد إبراهيم الفقيه: «هذه تخوم مملكتي، سأهبك مدينة أخرى، نفق تضيئه امرأة واحدة».
لكلِّ هذه الأعمال الإبداعيَّة الخالدة تأثيرُهَا العميق فيّ لدرجة أنني غبطت كتَّابها.. وتمنَّيت أنني من كتبها».
سحرتني «الإخوة كارامازوف»
لا يخفي الكاتب محمد بن مانع الشهري إعجابه وسحره بهذه الرواية فيقول: «فورا لمعت في ذهني رواية «الإخوة كارامازوف» لفيودور دوستويفسكي، كم تمنيت أن أكون مؤلفها وصاحب سبق في تعدد الأصوات الروائية إضافة إلى الحبكة التي لا أبالغ إن قلت إنها كاملة الجوانب من وجهة نظري الخاصة، في الرواية تشويق لم أتلذذ به في أي رواية أخرى إضافة إلى الجانب «البوليسي» الذي أضفى إلى الرواية سكاكر بطعم السؤال.
كل ما ذكرته أضعه في كفة وتلك الأسئلة الوجودية المطعمة في صفحات الرواية أضعها في كفة أخرى وخاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار تلك الحقبة المتضادة فكريا وتلك الأكوام الثورية على أكتاف الناس.
صاحب الرواية ألم بكل أنواعه سواء كان فكريا أو عضويا أو حتى اجتماعيا، الألم الذي يشعرك بالأشياء الجامدة وكأنها بشر بلحم ودم، وكأن ذلك الألم شعاع بوهج فكري، يجعل من فكرك لسانا يصرخ بكلمة «آه».
لقد سبق دوستويفيسكي أجيالنا الحالية حتى، وضع المدماك ولم يجرؤ أحد على البناء على ذات النسق ولذلك فهو فريد من نوعه ولهذا السبب بالذات وددت لو أني كتبت «الإخوة كارامازوف».
جذبتني «في مدرستي لص» لبساطتها
تذكر الكاتبة إيمان بازرباشي في هذا السياق رواية «في مدرستي لص» للكاتبة المبدعة ماريا دعدوش، ضمن سلسلتها المميزة «كرمة كرميلا» التي حظيت بشهرة واسعة وقبول محبب لدى الأطفال وتقول: «إنها رواية قصيرة مكتوبة بأسلوب شيق وبسيط وجذاب، ولا تخلو من شقاوة البطلة كرمة كراميلا. ما يميز كتابات دعدوش بشكل عام وسلسلة كرة كراميلا بشكل خاص هو الحبكة المحكمة مع أسلوب الفكاهة الذي تحاول دوما أن تضفيه على رواياتها الموجهة للصغار، وكذلك الخوض في تفاصيل صغيرة لا يمكن أن ينتبه لها إلا الأطفال، في داخلها طفلة صغيرة تتولى دفة القيادة في الكتابة الموجهة للطفل، وهذه الطفلة بارعة في وصف أدق التفاصيل، الألوان الروائح وما إلى ذلك، وهذا شيء أغبطها عليه حقيقة.
رواية تغص بالتفاصيل الصغيرة التي تذكرها البطلة بأسلوبها البريء الطفولي، تخطئ مع صديقها رغيد ثم تحاول تصحيح خطأها فتكبر المشكلة أكثر وتتعقد لدرجة تجعلك كقارئ تصل إلى طريق مسدود وتتساءل كيف ستتمكن البطلة الخروج من الورطة التي وضعت نفسها بها؟ ثم جاءت النهاية مقنعة ومتناسبة مع شخصية البطلة المشاكسة والبريئة فنراها تحذو حذو صديقها رغيد الذي اعترف بخطئه الصغير فصفق له الجميع، فنراها تعترف بخطئها وتطالب الجميع بالتصفيق لها، رواية لطيفة ومحببة وشيقة ومرحة في آن، تمنيت لو أنني كاتبتها».
مجرد أمنيات
هي مداعبة للذائقة الإبداعية للأدباء، ويبقى ما كتبوه بأنفسهم ومما سردت أرواحهم نصوصا ممتعة نفتخر ويفتخرون بها بلا شك.
وحتى نحن كقراء ومتابعين لنا أمنياتنا عندما نمسك بين دفتي رواية أو ديوان شعري، ونبحر بين سطوره، ونطلق لخيالنا الأمنيات، نصرخ في دواخلنا، لو كنت كاتب هذا الكتاب لأخذت بيد هذه الشخصية ولجعلت البطل يفعل كذا، ولناصرت هذه المرأة، ولأوقفت الظلم، ولذكرت الأماكن بتفاصيلها، وشربت القهوة على ذاك الرصيف مع من أحب.
تمنيت لو أنني كتبت أحدب نوتردام والبؤساء بقلمي، وتمنيت لو أنني صاحب روايات غادة السمان التي فتحت من خلالها عيناي على دفء القلوب، وكم سعدت بما سرد واسيني الأعرج، وكم لامست روحي أشعار القباني وبدر شاكر السياب.
بحور الأدب واسعة وتفتح بوابة الأماني لنعبر من خلالها، حيث يأخذنا الحلم الجميل لمنارات بعيدة، لاشيء يَوقف مسير سفننا المشرعة نحو الجمال الذي نتمناه.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذه الروایة لو أننی أن أکون من أجل
إقرأ أيضاً:
ثنائية الماء والتاريخ في رواية «عروس الغرقة» للكاتبة أمل الصخبورية
منذ ظهور أولى الروايات التي اعتمدت جانب التأريخ في سرديتها والتي يعتقد أنها رواية "وايفرلي" لوالتر سكوت والرواية التاريخية تحظى بقبول وشعبية، سيما أنها ارتبطت في أذهان القراء والمتلقين بروائع عالمية تناولت الشأن التاريخي بقلم الإبداع الأدبي المحافظ على روح الأدبية ومزج التاريخ ببعض الخيال. وهذا ما فعله ليف تولستوي في "الحرب والسلم" عندما قدم حالة اجتماعية صاخبة بالحياة وقصص الحب والخيانة واللهو والسعي وراء المال والمكانة الاجتماعية. وهذا ما فعله "ألكسندر دوما" وما فعله أيضا جرجي زيدان بإفراط شديد في إعمال الخيال في التأريخ، فهل هذا ما حاولت الكاتبة أمل بنت عبدالله الصخبورية من سلطنة عمان مجاراته وتجريبه في روايتها "عروس الغرقة" الصادرة عن دار "الآن ناشرون وموزعون" الأردنية؟
وإذا كان تولستوي قد حرص على التفريق بين عمل الكاتب وعمل المؤرخ فجعل ما ينقله الأديب المبدع بقلمه أهم مما يدونه المؤرخ لأسباب تتعلق بنظرته إلى دور كل منهما في نقل التاريخ وتوثيق الإنسان، وما يكتنفه من مشاعر تلازم كل مرحلة حاسمة تمر بها البشرية في بقعة ما من الكرة الأرضية، فإن أمل عبدالله تضع نفسها في خضم مواجهة مع التاريخ من زاوية معينة، وكأنها تعلم أن كتابة التاريخ وحده كما هو لا يسمى أدبا، فكان المحك كبيرا وحساسا ذلك الذي امتحنت فيه قدرة قلمها وخيالها على إحاطة المادة التوثيقية التي تسجل فيها أحداثا ومواقف مرت على بلدها سلطنة عمان بسردية أدبية فيها من الخيال الذي يغذّي حوارات الشخصيات وينمي المشاعر التي تحملها كل شخصية ويمتلئ بها كل موقف، غازلة لخيوط رفيعة تربط الحكاية وتمسك بيد السرد سائرة به قُدما في زمنين متوازيين، لتبدو رواية "عروس الغرقة" نصين لا نصا وسيرتين لا سيرة واحدة وعالمين مختلفين في الظاهر: عالم غدق الشابة العمانية "العروس" وحياتها الجديدة في منزل سعود "الزوج" والذي حددته الكاتبة بعام 2007م، وعالم زيانة حمد المولودة في زنجبار لوالد عماني وأم زنجبارية. وهذه إحالة تاريخية ذكية من الكاتبة التي فتحت نصًا موازيًا على تاريخ غير معلن في الرواية وهو العلاقات التاريخية بين سلطنة عمان وزنجبار التي كانت ذات يوم مرتبطة بسلطنة عمان ارتباطا وثيقا.
"رغم أننا لم نلتق إلا على الورق، إلا أنها زارتني في المنام بلباس تقليدي أخضر تسحب شالها مثل عروس شامخة.. وبقربها طبق فخاري مملوء بالحلوى العمانية حفر على سطحها اسم زنجبار وبجانبه رسمة هلال".
هكذا تبدأ أمل منذ العتبات الأولى للرواية بشحن عقل القارئ وتهيئته للجرعة المكثفة والمختزلة التي سيمتلئ به نصها لعرض الموروث العماني الفكري والاجتماعي، واستخدامه كمؤثث لنص يصلح للمحاكمة الثقافية التي تحدث عنها عبد الله الغذامي في "إشكاليات النقد الثقافي".
لقد اعتمدت الكاتبة على التأثيث الثقافي المستند إلى الموروث العماني اعتمادا واضحا، وهذا يفسره الطبيعة التاريخية للحكائية التي تسردها عن "سيرة انتفاضة الماء". وثيمة الماء تكاد تكون مؤثثًا حاضرًا في كثير من الروايات العمانية ومن أشهرها بلا شك رواية الكاتب زهران القاسمي "تغريبة القافر" التي وصِفت أنها رواية مائية فهل يمكننا إطلاق ذات الوصف على رواية "عروسة الغرقة"؟
الماء حاضر في كل تفاصيل حياة الإنسان وممارساته ولكنه في الموروث العماني يأخذ خصوصية متفردة، فهو من جهة يتصف بالشح والندرة وما يتبعه من سرديات البحث والتنقيب ومتابعة جريانه في الأرض، ومن جهة أخرى يرتبط بالكوارث الطبيعية والأعاصير الناجمة عن غزارة الأمطار والتي أحدثت أضرارا بالغة وخلّفت مآسي كثيرة. وربما ارتبط عنصر الماء روائيا بمفردات البيئة العمانية المليئة بالعيون المتفجرة مثل عين غلا وعين الحمام وعين الفج والمسفاة وعين وضاح وغيرها، التي أضفى عليها العقل الشعبي هالة من القداسة والتبرك وجعلها أسبابا للاستشفاء والعلاج.
وإذا كان دور الحكايات الشعبية استخدام هذا الموروث بطريقة تلائم المتلقي البسيط الذي يرى في توفر الماء نوعا من الأمل بالخير والبركة فإن الروائي له أدوات أكثر صرامة وليونة في ذات الوقت. ومن أهم هذه الأدوات الوصف الذي يشكل مع السرد علاقة عكسية من حيث التأثير على الإيقاع. فالسرد يسرع إيقاع النص والوصف يعرقل مسيرته ويخضعه لمجموعة من الإحالات التي تتناص على تلك المؤثثات التي أشرت إليها. تقول زيانة حمد الشخصية القادمة من 1874م من زنجبار: "أكتب رسالتي الأولى في فناء بيتنا تحت شجرة البيذام" وتقول أيضا: "عملت أمي من باب التسلية وتحسن الدخل مربية لأحد الأمراء في قصر بيت الساحل". وتقول غدق "العروس": "حين تأملت الخالة زيانة الصندوق كانت كمن يغوص في البحر" وتقول في موضع آخر من الرواية: "فبيوت القرية أغلب بنائها الأساسي من الطين ومكوثها تحت الماء لساعات يجعلها عرضة للانهيار بلا سابق إنذار". ولكن سمة الاعتدال بين المتعاكسين: السرد والوصف مكنت الكاتبة من السير بأمان والتنقل بين عالمين راغبة في الوصول إلى نهاية منطقة ومبررة لولوجها خطين من الزمن والتاريخ..فعالم غدق المليء بحكايات القرية وعادات أهلها الاجتماعية التي أظهرتها الكاتبة بوضوح تام في وصف الطعام واللباس والأمكنة التي تتنقل فيها الشخصيات،أما عالم زيانة حمد فيعكس صورة لحقبة تاريخية احتاجت معها الكاتبة إلى العودة إلى بعض المراجع، تلك الحقبة التي قد لا نعرف عنها الكثير ولو لم يحمل الأدب على عاتقه مهمة الإضاءة على المظلمات لظلت غارقة في غياهب الجهل والنسيان.
"عروس الغرقة" للكاتبة أمل بنت عبدالله الصخبورية نموذج من نماذج الأدب العماني الحديث الذي لم يتخلَّ رواده عن هاجس التاريخ العماني الذي ارتبط وثيقا بالماء وسردياته المتنوعة وهي نموذج روائي مكتمل العناصر اتصف بلغة سامقة وتمكن واضح من المكون اللغوي وتوظيف للأداة الوصفية بشكل يساهم في رسم صورة متخيلة لعناصر الرواية.