هل هي مصادفة أن يكون احتجاج الطلاب الأميركيين – اعتراضًا على دعم حكومتهم للإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في مواجهة أشرف مقاومة عرفها التاريخ الحديث في غزة – شبيهًا باحتجاجهم منذ خمسين عامًا تجاه سلوك حكوماتهم العدواني في مواجهة الشعب الثائر في فيتنام؟! وهل سيكون له ذات التأثير على السياسة والمجتمع كما كان في السبعينيات؟
وإذا كانت احتجاجات الستينيات قد اختلطت فيها مطالب وقف الحرب في فيتنام بمطالب السود في أميركا، وإدانة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، فإن الاحتجاجات الحالية، وقفت عند غزة وحدها ولم تطالب بغير "الحرية لفلسطين"، فقد انطلقت مظاهرات الطلاب واحتجاجاتهم تطالب بالحق الفلسطيني من البحر إلى النهر، وهو ما لم نعد نسمع به في عالمنا العربي، كما طالبت برحيل الاحتلال الصهيوني والعودة من حيث جاء.
لقد شملت الاحتجاجات إقامة اعتصامات داخل الحرم الجامعي متحدية رفض السلطات التي وقعت في كمين منصوب في قلب المجتمع الأميركي، حيث الطلاب عصب الحياة كما لا يمكن تجاهلهم، ولا طمس مطالبهم، ولا التغطية على احتجاجاتهم التي قد بلغت بالفعل أركان الكرة الأرضية الأربعة، فإذا تم تركها امتدّت وعرضت توجهات الإدارة الداعمة لعمليات الإبادة للحرج، وإذا تم قمعها فإنها تعرض الديمقراطية لمأزق كبير، ولا سيما أن التعدي عليها اليوم ليس خارج الحدود في بلدان العالم الثالث البعيد، بل في قلب المجتمع الأميركي، وخاصة حين يلجأ الحكّام لاستعمال إدارات الجامعات لقمع المحتجين.
لقد عمّت الاحتجاجات طول البلاد وعرضها وامتدت لأكثر من 40 جامعة وكلية، إذا أضفنا إليها احتجاجات الطلاب في كندا أيضًا، علمًا أن أهم الجامعات الأميركية المحتجة، هي :"كولومبيا" و"بنسلفانيا" فضلًا عن "كارولينا الشمالية" و"دالاس" و"سانت أنتونيو" و"أوستين" بولاية تكساس الجنوبية، وبلغت جامعات ولاية "نيو مكسيكو" و"ستانفورد" في ولاية كاليفورنيا في الغرب، ولم تنجُ منها جامعات "مينيسوتا" و"أوهايو" في الوسط.
لم أستطع أن أتحكم في مشاعري، وأنا أراجع في ذاكرتي مشاهد الربيع العربي الذي خرج انتصارًا للحرية والكرامة الإنسانية.. وأنا أشاهد الطلاب في الجامعات الأميركية في ربيع آخر يفترشون الأرض داخل مخيمات الاعتصام التي بنوها خصيصَى؛ انتصارًا لغزة وتأييدًا لفلسطين في وجه آلة الحرب الجَهنمية الأميركية / الصهيونية التي تبيد كل شيء فوق الأرض، علمًا أنّ الأمر لم يقف عند هذا الحد، فالاحتجاجات مستمرة ومتصاعدة وتتسع لتشمل العديد من الجامعات، وتسبب حرجًا بالغًا للإدارة الديمقراطية واللوبي الصهيوني، كما تضع إسرائيل أمام حقيقتها التي ظلت تضلل العالم حولها خلال أكثر من سبعين عامًا، ولهذا انطلق اللوبي الصهيوني الممول بشكل رئيس للعديد من الجامعات الأميركية؛ ليهدد ويتوعد، كما انتفض نتنياهو يهاجمها ويندد بها.
لقد شملت الاحتجاجات جامعات "كولومبيا" و"ييل" و"نيويورك" وجامعة "جورج واشنطن" التي تشهد لأول مرة اعتصامًا في قلب العاصمة، واستطاع طلاب كلية "أيمرسون" نصب الخيام بالقرب من المباني الأكاديمية في وسط مدينة بوسطن، كما نصب طلاب معهد "ماساتشوستس" العديد من الخيام في الحرم الجامعي لجامعة "كامبردح"، وانضمّ إليهم طلاب جامعة "هارفارد" بعد أن منعتهم الشرطة من الوصول لحديقة جامعتهم، ونفس الخيام وربما بشكل أكبر زيّنت الحرم الجامعي لجامعة "ميشيغان"، واضطرت الشرطة لهدم المخيمات من أمام مكتبة جامعة "مينيسوتا" وألقت القبض على عدد من طلابها.
وفي جامعة "تكساس" استخدمت الشرطة الخيول لتفريق المتظاهرين، بل وإلقاء القبض على عدد كبير منهم، وفي جامعة "كاليفورنيا" تم إغلاق الجامعة والطلب من الشرطة فضَّ مظاهراتهم التي كان على رأس مطالبها "إيقاف كل أشكال التمويل لإسرائيل" و"إقامة برنامج للدراسات الفلسطينية"، وفي جامعة "أنديانا" تم اعتقال العديد من الطلاب بعد رفضهم إزالة هيكل مخيمات الاعتصام، ومازال مطلبهم الرئيس "الحرية لفلسطين".. ثم ها هم الأكاديميون ينتفضون؛ غضبًا للتعدي على طلابهم وعلى حريتهم في التعبير، فنالهم ما نال طلابهم من اعتقال.
بايدن المرتبكواللافت للنظر والمهم في ذات الوقت هو أن طلابًا يهودًا يشاركون في الاحتجاجات، في ردّ واضح على من يحاولون تحميل الاحتجاجات الاتهام المعتاد "معاداة السامية"، فضلًا عن أنهم ينفون بشكل صريح أن تكون الاحتجاجات عداء للسامية، بل إنهم احتفلوا بعيد الفَصح في وسط الاحتجاجات وبين المحتجين.
كما أن جمعية يهودية تطلق على نفسها "يهود من أجل السلام" دعت زعيم أغلبية مجلس الشيوخ اليهودي "تشاك شومر" لقيادة حملة لوقف المساعدات العسكرية لإسرائيل، كما احتشد آلاف المتظاهرين اليهود من أنصار الجماعات المدافعة عن السلام في نيويورك في "عيد الفَصح"؛ مطالبين بوقف تسليح إسرائيل.
ولا تزال المظاهرات تتوسع لتصل طلاب المدارس، فيما يشبه مظاهرات الشارع المصري 2008 ـ 2009 إبان العدوان الإسرائيلي على غزة، والتي شملت كل أطياف الشعب وكل شرائحه العمرية حتى امتدت للمدارس الابتدائية، فيما يشبه موجات ثورة يناير/كانون الثاني والربيع العربي الذي اندلع بعد ذلك بعامين ولم يكن بعيدًا عن دعم غزة والانتصار لفلسطين.
المظاهرات تضرب السياسات الأميركية في العمق، ولهذا فقد أصابت بايدن ـ المُحتل صهيونيًا- بحرج بالغ، فجعلته يرتبك أكثر مما هو مرتبك، فيتهم المتظاهرين بمعاداة السامية! فإذا كان الشعب الأميركي الذي لم يرضع غير احترام السامية ولم يُطعم غير الفكر الصهيوني، يُعادي السامية فمن ذا الذي لا يعاديها في منطقهم؟! وهنا ربما لا نجد إلا أن نستحضر كل الأمثال العامية المصرية التي تندد بمن يزايد على المزايد!
إنها ذات التهمة التي طالما ابتزّ بها الكيان الصهيوني كل من يرفض جرائمه ويستنكر تجاوزاته، حتى يخضع ويذعن لمنطق الصهيونية ومصالحها، علمًا أن الطلاب كانوا حريصين كل الحرص على أن يميزوا بين اليهودية وبين الصهيونية، وسياسات حكام إسرائيل، وقد صرحوا فعلًا بذلك لكنه الغرض المرض.
تبريرات واهيةكما لم تجد السلطات الأميركية إلا أن تلجأ لاستخدام "قوات خاصة لمكافحة الشغب" واستعمال ذرائع في غاية الخطورة مثل "مكافحة الإرهاب" و"دعم حماس للمحتجين"، فيما يشبه منطق العالم الثالث، وربما الرابع! كما لجأت جامعة كولومبيا إلى إلغاء الدراسة الحضورية واكتفت بها أونلاين كما تفعل الحكومات عندنا!
ومن الطريف واللافت في آن: أن السلطات استخدمت نفس حجج حكومات العالم الثالث بأن الطلاب لا ينبغي لهم التدخل في السياسة، وعليهم أن ينشغلوا بدروسهم! وهو ما ردّت عليه منظمة العفو الدولية: "أن تكون طالبًا لا يعني ترك حق الاحتجاج على أبواب الجامعة".
الحقيقة أننا أمام مرحلة جديدة يتهشّم فيها جانب آخر من جوانب صورة الديمقراطية الأميركية، كما تتفكك فيها هيمنة اللوبي الصهيوني، الذي ظل طوال عقود الصراع متخللًا كل مسام المجتمع الأميركي، ومحاصرًا لكل تطلعاته الذاتية ما لم ترسمها المخططات الصهيونية واللوبي الصهيوني، ويبدو أنّ ثمن ذلك سيكون كبيرًا، فقد اضطرت السلطات الأميركية إلى التخلي عن كل القيم الديمقراطية، وهي تهدم المعبد على من فيه، ثم وهي تعتدي على الطلاب وتعتقلهم، كما تقتحم الاعتصامات وتهدم مخيماتها.
ليس هناك شكّ أن المجتمع الأميركي على مفترق طرق، وأن أجيالًا شابة جديدة داخل جامعات النخبة ترفض السياسات الإمبريالية القديمة، وأن ثقافة المجتمع السياسية الراسخة عبر عقود طويلة تتعرض لزلزال كبير، وأن "الربيع الأميركي" لم يعد بعيدًا، وهو ما لا يمكن فهم أسبابه وأبعاده إلا من خلال رؤية الصمود الأسطوري لغزة، التي تتعرض للإبادة الجماعية في صبر وشموخ وهي تأبى أن تصرخ أو تئن.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات المجتمع الأمیرکی
إقرأ أيضاً:
الصين الشعبية، مستمعاً سموه للجهود التي تقدمها الجامعة والتعاون بين الطرفين في المجال البحثي.
سلطان بن أحمد القاسمي يزور معهد البحوث للعلوم الإنسانية والاجتماعية في جامعة الشارقة
زار سمو الشيخ سلطان بن أحمد بن سلطان القاسمي نائب حاكم الشارقة، رئيس جامعة الشارقة، صباح اليوم الخميس، معهد البحوث للعلوم الإنسانية والاجتماعية في جامعة الشارقة، الذي يهدف إلى إظهار الدور الحقيقي للعلوم الاجتماعية والإنسانية وتطبيقاتها في الحياة والابتكار الاجتماعي وأهميته في السلوك الإنساني وبناء المجتمع.
واطلع سموه على أقسام المعهد الذي يضم وحدة ترجمة البحوث وبرنامج الزمالة البحثية للشباب الإماراتي، ومركز دراسات الأسرة والطفل ومركز الشارقة لاستطلاع الرأي العام، متجولاً سموه في القاعة الذكية بالمعهد والمزودة بأحدث الأجهزة والتقنيات المتطورة وتتسع لقرابة الـ 40 طالب وطالبة، توفر لهم البيئة الدراسية المناسبة من خلال التواصل مع الآخرين داخل وخارج الجامعة.
والتقى سمو رئيس جامعة الشارقة عدداً من منتسبي المعهد، مستمعاً سموه لشرحٍ حول آلية العمل في المعهد، ويركز مركز دراسات الأسرة والطفل على بناء أسرة قوية ومتماسكة من خلال تطبيق نتائج البحوث في السياسات والممارسات، ومركز دراسات علم الاجتماع التطبيقي الذي يسعى لأن يكون مركزاً للتميز على المستوى المحلي والدولي في مجال الدراسات والأبحاث وخدمة المجتمع.
كما تعرف سموه على برنامج الزمالة البحثية للشباب الإماراتي والذي يُعد الأول من نوعه في الوطن العربي ويهدف لإعطاء الشباب الإماراتي فرصة لاكتساب الخبرة البحثية وتنمية مهاراتهم واستثمار طاقاتهم في خدمة المجتمع، مستمعاً سموه من الباحثين في البرنامج لأهم التجارب والخبرات المكتسبة والتي تعود بالنفع على المؤسسات والجهات الحكومية من خلال نقل التجارب وعقد الشراكات المجتمعية، مطلعاً سموه على جهود مركز الشارقة لاستطلاع الرأي العام الذي يهدف إلى جمع البيانات وتحليلها وتوصيلها لأصحاب القرار لاتخاذ الحلول المناسبة على مستوى الجهات والمؤسسات الحكومية.
وعرج سمو رئيس جامعة الشارقة على وحدة ترجمة البحوث في المعهد التي تعمل على تثمين الجهود التي يبذلها أعضاء هيئة التدريس الذين يكتبون باللغة العربية وينتجون بحوثاً عالية الجودة لتصل إلى مختلف القُراء حول العالم، ملتقياً سموه ممثلي جامعة تسينغهوا الصينية التي تحتل المرتبة العاشرة على العالم والأولى بين الجامعات في جمهورية
وزار سموه القاعة متعددة الأغراض التي توفر لمرتاديها بيئة دراسية مثالية من حيث الأجهزة الذكية والكاميرات المتقدمة والجلسات المريحة والأدوات الحديثة المتطورة، لتخدم منتسبي المعهد.
وشاهد سمو رئيس جامعة الشارقة مادة مصورة استعرضت أبرز الأرقام لمعهد البحوث للعلوم الإنسانية والاجتماعية الذي يضم 170 باحث منتسب، و50 من مساعدي البحث والباحثين ما بعد الدكتوراة و21 مجموعة بحثية، إضافة إلى مختبرات العلوم الاجتماعية ومختبر البحوث الكمية ومختبر البحوث النوعية ومختبر الفن والتصميم ومختبر مسرح الجريمة.