مارغريت الشايقية: كمال الوسيلة هو ذاتو برجوازي
تاريخ النشر: 26th, April 2024 GMT
عبد الله علي إبراهيم
(رحم الله محمد هارون كافي الذي ألهمني هذا المقال)
هذا جزء من مقال قديم عرضت فيه لكتاب محمد هارون كافي "نزاع السودان" الذي أصدره بعد خروجه في 1996 على الحركة الشعبية التي انتمى لها في 1986. وفيه بينات على غصته منها. والمرحوم كافي من الكتاب المميزين عن أرث جبال النوبة الذي كان موضوع كتابه "الكجور" الصادر في سلسلة الدراسات السودانية عن معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم.
الفصل الرابع من كتاب نزاع السودان قطعة روائية غراء ضلت سبيلها إلى هذا السفر السياسي. فالفصل عذب جداً لأنه ثمرة خبرة واستثمار روحي شفيف طويل لكاتب مطبوع. فقد خبر الكاتب الحرب الأهلية، وهي أفحش الحروب، عن كثب. فالحرب الأهلية حرب أخوة. وعلى بشاعتها، فهي أيضاً ساحة إلفة وتعارف لهؤلاء الأخوة الأعداء واكتشاف عسير لمسارب هذه الأخوة التي لا تبدو للعيان. والحرب في كتاب كافي هي ما علم وذاق "وما هو عنها بالحديث المرجم ". فمن مفاجآت هذه الأخوة الدفينة ما رواه كافي عن الجنوبي الذي استغرب لوجود شمالي من جند الحركة ذي لون "منقاوي" بين محاربين سود. ولم يجد الجنوبي ما يصف به زميله المحارب الشمالي إلا بقوله "إنه يشبه أسرى الحرب". فلم يعرف هؤلاء المحاربون السود من الشماليين إلا الخصوم في جيش الحكومة. وما كانوا ليقتربوا من هؤلاء الخصوم إلا حين يقع الواحد منهم أسيراً في قبضتهم. وهذه صورة عجيبة في جدل الألفة.
لا أذكر أنني قرأت مؤخراً شيئاً في كثافة وعبثية الصورة الأدبية مثل وصف كافي لنهر الباروا في أثيوبيا الذي عبره "داخل أكمة ملأى بالقرود والظلال". ولم يقع لي قريباً وصفاً في الاستثناء له طرافة وصف كافي لأحد المقاتلين في الحركة الشعبية. كان الرجل من شعب التيوسا الجنوبي. وهذا شعب من العراة لا تخجلهم دون العري فكرة الستر وقد تستهويهم الملابس فيختارون منها ما يروقهم دون اشتراطهم الستر. وكان الرجل رائدا في جيش الحركة الشعبية وقد أرتدى بدلة وضع عليها علامة رتبته العسكرية وبقي في ماعدا ذلك عارياً كما ولدته أمه. قال كافي عن الرجل، وقد رآه يوماً، إنه "ظل يسير عارياً تماماً سوى من غنائه العالي المصاحب مشيته عبر الجو الساخن".
تمط الحرب الواقع مطاً لم يخلق له وتدمجه بالخيال دمجاً لا يتوقعه أحد. وحكاية كلاب مدينة توريت الجنوبية مثل على هذا الهجين المفاجئ من الواقع والخيال. فقد وصف كافي كيف اتفق لهذه الكلاب عادة جديدة من فرط الحرب وطولها. فإذا جاء النهار، وهو موعد قصف طائرات الحكومة للمدينة، تنادت الكلاب واجتمعت وهجرت المدينة ولاذت بالغابة. وكانت تعود إلى البلدة ليلاً حين يتوقف قصف الطائرات. وكان تَنادي الكلاب لهجرة المدينة عويلاً فاجعاً. وكانت تعود في المساء بنفس النشيج الفاجع. فتأمّل!
يستمد هذا الفصل البديع في الكتاب نفسه الروائي من استثمار آخر في مؤسسة الحرب الأهلية. فقد أودع شماليون تقدميون، من الناقمين على استعلاء قومهم وظلمهم للجنوبيين، أملهم في حالة سودانية مستقبلية مُثلى بالانضمام إلى جيش التحرير في الحركة الشعبية. وأخذهم هذا القرار إلى الغابة الجنوبية الاستوائية التي وصفها كافي بأنها "عديمة اللغة العربية". وحمل هذا الرعيل الشمالي عادات التقدميين الشماليين في الزهادة ومحبة الشعر العربي والقراءة إلى "خط تقسيم المياه {الاستوائي} حيث الأدب العربي بعيد". وروى كافي عن أحدهم الذي احتفظ بمقال لكاتب مغربي لسنوات خمس منذ انضمامه للحركة في 1987. وقد أظهره لكافي وآخرين في قلب الغابة عام 1992. وكان هؤلاء النفر من الشماليين المحاربين إذا خلوا تجاذبوا أطراف الشعر وبخاصة شعر الأستاذ محجوب شريف ذي المزاج الثوري الأنيق. وكان كافي يترجم النصوص إلى الإنجليزية لفائدة من لا يحسنون العربية.
نشأت من سانحة هذه الهجرة الشمالية إلى الجنوب نصوص هجين غاية في اللطف والدلالة. وقد عرّف هومي بهابها، الكاتب الهندي، النصوص الهجين، التي تنشأ في خلطة الثقافات، بأنها نصوص "مقردة mimicry " بقرينة المحاكاة. فمفردات ثقافة ما تلتبس بمفردات ثقافة أخرى، يقتحم وأحدها الآخر، وتتوالد بصورة عشوائية يضحك لها الناس. وأكثر ما يضحك الناس ربما هو أن هذه النصوص، لفرط هجنتها، تزهد الناس في الصفاء الثقافي الذي يزعمونه أو يشتهونه. فقد فوجئ كافي يوماً بأن الغابة الاستوائية الوثنية، التي تعبئ الحكومة الطاقات لأسلمتها وتعريبها في زعم الخصوم، قد شهدت بأن لا إله إلا الله حتى قبل أن تحيق بها الهزيمة المرجوة. فقد سمع كافي شجار امرأتين من الجنوب تبادلتا فيه عنف اللغة والنعوت. ثم فجأة قالت إحداهما للأخرى، وهما ما تزالان في عنف الشجار، "بسم الله الرحمن الرحيم". وسيكون مثيراً أن يعرف المرء لماذا احتاجت هذه المرأة غير المسلمة إلى البسملة في السياق والزمان والمكان.
ومن أنماط المقردة في حرب الأخوة ما رواه كافي عن ما جرى لكمال الوسيلة وهو من الشماليين الذين التحقوا بالحركة. فقد سأله يوماً ولسن كوور، الجنوبي الذي درس بالشمال وعمل في الجيش السوداني حتى صار ضابطاً ثم انضم إلى الحركة، قائلاً:
· أنت قلت اسمك منو ؟
· كمال الدين الوسيلة.
· الوسيلة ولا الوسيطة ؟
· الوسيلة.
· أنت عارف اسمك الوسيطة مش الوسيلة.
· لكن أبوي اسمه الوسيلة مش الوسيطة.
· اسم الوسيلة دا ما حصل سمعت بيهو. أنت اسمك كمال الدين الوسيطة مش الوسيلة.
· يا عم ولسن أنت عارف لو أبوي سمع اسمو ذي دا بعدين يزعل.
وضحك الحضور بما فيهم كوور وكمال. لقد احتاج كمال أن يستل الصواب من غمده الشمالي ليرد غائلة هذا التصحيح الجنوبي الجزافي على عقبيه.
وظل كمال الوسيلة، وليس الوسيطة، في مهجره الاستوائي نهباً لهذه النصوص الهجينة. ولم يكن دائماً هدفاً لها. فقد كان هو البادئ أحياناً. من ذلك ما رواه كافي عن حكاية كمال مع مارغريت الشايقية. وهذا الاسم، مارغريت الشايقية، نص مقردة في حد ذاته. فقد نسب النص مارغريت، وهي جنوبية، إلى شعب الشايقية وهم قوم شماليون في أقصى الشمال. وقال كافي أنه لا يدري لماذا نسبت مارغريت إلى الشايقية الذين ينعى عليهم حتى أهل الشمال دهاءهم وطويل حيلتهم في بلوغ المآرب. وتجري قصة مارغريت والوسيلة على هذا النحو. جاءت مارغريت نحو عربة توقفت عند حيّهم وكان بالعربة الوسيلة وصحبه من الحركة الشعبية. وكانت العربة محملة بخيرات الاستوائية من موز ومانجو، قالت مارغريت للوسيلة.
· أدوني موز معاكم.
فرد الوسيلة:
· أنت عندك ولد ؟
· لا. أنا لسه ما ولدت... ليه؟
· الموز دا بدوه للمره العندها ولد.
· ولو ما ولدت ؟
· ولو ما ولدت يونّسوها، يونّسوها لحد ما تلد بعدين يدوها موز.
لقد استدعى الوسيلة هنا كلمة "يونس" التي هي "يؤنس" في لهجة عرب السودان. غير أنها أضحت تعني في مصطلح الجنوبيين، الذين استلفوا الكلمة، الفعل الجنسي أو الجماع. ويبدو أنّ إيحاءات الوسيلة الجنسية أغضبت مارغريت فنادت كافي وسألته عن أصل الوسيلة وفصله فقال كافي:
· هو من { مدينة } شندي {أي جعلي وهم شعب من الشمال} معانا في الحركة.
· الزول دا هو ذاتو برجوازي.
وضحك كافي لما رأى النص الذي استمع إليه قد ازدحم بما فوق طاقته من الثقافات بما في ذلك الثقافة الماركسية التي كانت سادت ثم بادت في الحركة الشعبية كما رأينا فيما تقدم.
إن النصوص التي استعرضناها استثمار سوداني فريد جمع في هجنة تراجيدية أقباس عربية و إسلامية أفريقية وماركسية عبر سد حشائش النيل المعروفة التي حجبت الشمال عن الجنوب حيناً طويلاً، وعبر حبائل الاستعمار الذي عمق الفجوة بين شقي القطر، وعبر عنجهية النظم المركزية السودانية بعد الاستقلال التي زادت الطين بلة. وقد أينعت هذه النصوص في حنايا الغاب الجنوبي بفضل الحركة الشعبية. ولا يتفاءل المرء بأن هذه النصوص الذكية ستفضي بنا إلى الوطن الهجين الجميل. فالحركة الشعبية التي أذنت بميلاد هذه النصوص قد كسدت فيها الحرية التي هي شرط نماء هذه النصوص ووعدها وخيرها. ويكفي أن كافي الذي نقل لنا خبر هذه النصوص قد آثر أن يغادر الحركة من فرط غلظتها وانسداد دروبها في وجه الحق حتى صارت حركة تنزف شجاعة وتغيب عنها الحكمة.
IbrahimA@missouri.edu
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الحرکة الشعبیة هذه النصوص فی الحرکة من الشمال
إقرأ أيضاً:
د.محمد عسكر يكتب: أخطاء الذكاء الإصطناعي في آيات القرآن الكريم: الأسباب والتحديات
يعد الذكاء الاصطناعي (AI) من أبرز التطورات التقنية في العصر الحديث، حيث أصبح يستخدم في العديد من المجالات، بما في ذلك معالجة النصوص الدينية. ومن بين هذه النصوص، يأتي القرآن الكريم كأحد أقدس النصوص التي يتعامل معها الذكاء الاصطناعي في محاولة لتسهيل الوصول إليها ودراستها. ومع ذلك، فإن هناك تحديات تواجه الذكاء الاصطناعي عندما يتعلق الأمر بنصوص القرآن الكريم، خاصة عندما تحدث أخطاء في استرجاع أو تقديم الآيات القراّنيه.
فقد شهدت الفترة الأخيرة انتشاراً واسعاً لإستخدامات الذكاء الإصطناعي وتطبيقاتة المختلفة التى جذبت ملايين المستخدمين حول العالم، وقد شاع إستعمال هذه الأدوات بين المستخدمين بشكل كبير وفي وقت قليل جدًّا؛ نظراً لمجانيتها وسهولة وصولها لجميع المستخدمين، وهوما يثير المخاوف من سوء إستخدامها، أو الإعتماد عليها خاصة إذا كان الأمر متعلق بالأمور الدينية. فمع هذه الطفرة التكنولوجية، برزت تحديات خطيرة تتعلق بإستخدام الذكاء الإصطناعي في الأمور الدينية، وهو ما يثير جدلاً واسعاً خاصةً بعد ما تداولت محادثات تُظهر أخطاءً فى أيات القرآن الكريم.
لذا أُحذّر من الإعتماد على الذكاء الاصطناعي أو غيره من التطبيقات الغير الموثوقة في الأمور الدينية، إذ أن التحريف في نصوص القرآن الكريم يعدّ من أخطر المشكلات التي قد تؤدي إلى فتن دينية وطائفية.
الذكاء الاصطناعي يعتمد بشكل رئيس على دقة البيانات المدخلة، وبالتالى فإن البيانات الغير الصحيحة والغير موثوقة تؤدي بالضرورة إلى نتائج خاطئة. إضافةً إلى ذلك فإن برامج الدردشة الآلية مفتوحة المصدر، أو المجانية تسمح لأي شخص بإدخال البيانات؛ مما يزيد من إحتمالية حدوث أخطاء في النتائج، حتى مع النماذج التي تطورها الشركات العملاقة والشهيرة مثل (شركة جوجل ، ميتا،…وغيرها).
لنفرض أن لديك سؤالاً بسيطاً خطر على بالك وأنت تقرأ القرأن وأنك تريد فهم أو تفسير أيه معينة، ماذا ستفعل ؟ في الماضي وقبل ظهورالإنترنت وتطبيقات الذكاء الإصطناعى كنت ستفتح كتب التفسير أو ستذهب إلى عالمِ جليل وفقيه ذو ثقة لتسأله سؤالك. ولكن الآن وبعد ظهور الإنترنت وإنتشار التطبيقات المدعومة بالذكاء الإصطناعى وربوتات الدردشة المختلفة فإنك قد تلجأ إليها سريعاً لمعرفة الإجابة على سؤالك وغالباً ما ستحصل على إجابة تم تأليفها بالكامل من قبل الذكاء الاصطناعي تتضمن تحريف لآيات القرآن الكريم، وتأليف أحاديث غير صحيحة ونسبها إلى الرسول صلى الله علية وسلم، وقد يختلط الأمر على من لا يحفظ كتاب الله عزَّ وجلَّ عن ملاحظة هذا التحريف، ومن ثمّ قد يعتمد عليه في فهمة لدينه أو تساؤلاته عن أمر ما، الأمر الذي قد يؤدي إلى تشويش عقيدته و إنحرافه عن الدين الصحيح.
لذلك يجب أن ننتبه كمسلمين إلى خطورة الأمر ونعتمد الشريعة الإسلامية السوية منهج حياة لتتوافق مع قيمنا ومبدأنا ومعتقداتنا، كما يجب أن نتذكر دائماً أن الذكاء الاصطناعي ما هو إلا أداة مساعدة، ولكن الفهم العميق للنصوص الدينية يتطلب دائمًا التفسير البشري المبني على العلم والدراية الدينية.
ولكن يبقى السؤال من الناحية التقنية:
لماذا يخطى الذكاء الإصطناعى فى ذكر أيات القرأن الكريم الصحيحة؟
قد يحدث أحيانًا خطأ في ذكر آيات القرآن الكريم لعدة أسباب تتعلق بالطريقة التي يعالج بها الذكاء الإصطناعي اللغة والنصوص. بعض الأسباب المحتملة تشمل:
1. الاسترجاع التلقائي للمعلومات: يتم تدريب نماذج الذكاء الإصطناعى على معلومات ضخمة جدًا من النصوص، وقد يحدث في بعض الأحيان خلط أو خطأ عند إسترجاع آية معينة، خاصة إذا كانت الآيات طويلة أو تحتوي على تشابه مع أيات أخرى.
2. التفسير أو الترجمة الغير دقيقة: رغم أن الذكاء الإصطناعي يحاول أن يذكر الآيات بشكل دقيق، إلا أن الإختلافات الدقيقة في الكتابة أو الترجمة قد تؤدي إلى أخطاء. أيضًا قد يكون هناك تقارب في النصوص بين الآيات التي تحتوي على معانى متشابه وقد لا يستطيع الذكاء الإصطناعى فهمها أو تفسيرها بصورة صحيحة.
3. قيود البرمجة والتدريب: الذكاء الاصطناعي لا يمتلك الفهم الديني العميق الذي يمتلكه الأئمة والفقهاء فى الدين من البشر. فالذكاء الإصطناعى يعتمد على النماذج الرياضية والإحصائية التي قد تكون عرضة للأخطاء في بعض الأحيان. على الرغم من أنه قادر على معالجة النصوص، إلا أن القيم الدينية والعقائدية تتطلب مستوى عميق من الفهم والتفسير.
4. الحدود في قواعد البيانات: يمكن أن تكون بعض النسخ من القرآن الكريم التي تم تدريب نموذج الذكاء الإصطناعى عليها ناقصة أو غير مكتملة في بعض الأحيان.
لذا من الأفضل دائمًا الرجوع إلى النصوص القرآنية الدقيقة أو المصادر الموثوقة. إذا كنت بحاجة إلى آيات دقيقة أو تفسيرصحيح، يمكنك الرجوع إلى المصحف الشريف أو إلى مواقع متخصصة في الشرح والتفسير.