خطبتا الجمعة بالحرمين: ذكر الله للقلب كالقُوت.. ومَنْ هجرَه فهو المخذولُ الممقوت
تاريخ النشر: 26th, April 2024 GMT
ألقى ياسر بن راشد الدوسري خطبة الجمعة بالمسجد الحرام اليوم، وافتتحها بتوصية المسلمين بتقوى الله وعبادته، والتقرب إليه بطاعته بما يرضيه، وتجنب مساخطه ومناهيه.
وقال فضيلته: إِنّ ذِكرَ الله تعالى هو أزكى الأعمال، وخيرُ الخصالِ، وأحبُّها إلى الله ذي الجلالِ؛ ولقد تضافرتْ نصوصُ الوحيين واستفاضتْ في بيانِ فضلِ الذكرِ، وما يترتبُ عليه مِنْ عظيمِ الثوابِ والأجرِ، وما أعِدَّ لأهله مِنَ العواقبِ الحميدةِ، والدرجاتِ الرفيعةِ، في الدنيا وفي الآخرةِ، قالَ تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّه كثيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّه لَهُمْ مَغْفِرَة وَأَجْرًا}.
وأشار إلى أنّ ذِكرَ الله تعالى يُرضِي الرّحمَنَ، وَيَزِيدُ الإِيمَانَ، ويَطرُدُ الشَّيطَانَ، وَيجتثُّ الهمومَ والأحزانَ، وَيَملَأُ النفسَ بِالسُّرُورِ وَالرّضوَانِ، فَيَحيَى القَلبُ مِنْ مَوَاتِهِ، ويحولُ بينَ الإنسان وبينِ فواتِهِ، وَيُفِيقُ مِنْ سُبَاتِهِ، فيكونُ سَبَباً لِنَشَاطِ البدن وَقُوَّتِهِ، وَنضارة الوَجه وَهَيبَتِهِ. والذكرُ يُوصلُ الذاكرَ إلى المذكورِ، حتى يصبحَ الذاكرُ مذكورًا، قالَ جلَّ ذكرُهُ: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونَ} [البقرة: 152]. ولو لم يكنْ في فضلِ الذكرِ إلا هذه وحدهَا لكفَى به فضلاً وشرفاً. وإنَّ ذكرَ الله أكبر مِنْ كلِّ شيءٍ، وقدْ أمرَ ربُّنا جلَّ وعلا بالإكثارِ منْ ذكرِهِ، ولقدْ توعَّدَ الله بالخسـرانِ مَنْ غَفلَ عنْ ذكرِهِ.
وأكد فضيلته أن العباداتِ لم تُشـرعْ إلا لإقامة ذكرِ الله تعالى، قالَ جلَّ وعلا: {وَأَقِمِ الصَّلاَة لِذِكْرِي}، وقالَ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: «إِنَّمَا جُعِلَ رَمْي الجِمَارِ، وَالسَّعْي بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَة لِإِقَامَة ذِكْرِ اللهِ»، وجعلَ الله الذكرَ خاتمة للأعمال الصالحةِ، فخَتَمَ بِه الصلاة عامة في قولِهِ: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاَة فَاذْكُرُوا الله قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ}، وخَتَمَ بِه صلاة الجمعة خاصة في قولِهِ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَة فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ الله وَاذْكُرُوا الله كثيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وخَتَمَ بِه الصيامَ في قولِهِ: {ولِتُكْمِلُوا العِدَّة وَلِتُكَبِّرُوا الله عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، وخَتَمَ بِه الحجَّ في قولِهِ: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكَمْ فَاذْكُرُوا الله كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكَمْ أوأَشَدَّ ذِكْراً}.
وذكر أن للذكرِ فوائد كثيرة عظيمة، ومنافع جليلة جسيمة، يعجزُ العقلُ عنْ إدراكِ نعمائِهَا، وينقطعُ النظرُ دونَ أفقِ سمائِهَا، ويضيقُ المقامُ عنْ إحصائِهَا، والإحاطة بهَا أو استقصائِهَا، فالذكر جالبٌ للنِّعمِ المفقودةِ، وحافظٌ للنِّعمِ الموجودةِ. فمنْ منافعِ الذكرِ وفوائدِه: أنَّه يُورثُ القلبَ حياةً، فهو له كالقُوتِ، ومَنْ هجرَه فهو المخذولُ الممقوتُ، فإذا فقدَه العبدُ صارَ بمنـزلة الجسمِ الهامِدِ، أو الرمادِ الخامدِ، وصارَ بناؤُه كالخرابِ، وإقباله على مَرامِه كالسـرابِ. ومنها: أنَّه يُورثُ الذاكرَ الاقترابَ، وبدونِه يَشعرُ بالوحشة والاغترابِ، فعلى قدرِ ذكرِه لله عزَّ وجلَّ يكونُ قُربُ العبدِ منهُ. كما أنَّ الذكرَ يُورثُ العبدَ المراقبة لله حتى يبلغَ بذلكَ درجة الإحسانِ، فيعبدَ الله كأنَّه يراهُ. ومنها: أنَّ الذكرَ طمأنينة للقلوبِ، وصلة وثيقة بعلَّامِ الغيوبِ. ومنها: أنَّه سببٌ لتنزّلِ السكينةِ، وغِشيانِ الرحمةِ، وحضورِ الملائكةِ؛ فمجالسُ الذكرِ مجالسُ الملائكة الكرامِ، وميادينُ بلوغِ المرامِ. ومنها: أنَّ الله يُباهي بالذاكرينَ ملائكتَهُ. ومنها: أنَّه سببٌ لاشتغالِ اللسانِ عنِ الغيبة والنميمةِ، والفحشِ وسَيّئ الكلامِ؛ فمَنْ عوَّدَ لسانَه ذكرَ الله صانَ لسانَه عنِ اللغو والآثامِ. ومنها: أنَّ الذكرَ مكفِّرٌ للذنوبِ والسيئاتِ. ومنها: أنَّ دوامَ ذكرِ الله يُوجبُ السعادة للعبدِ في أوانه ومآلِهِ، فلا يشقى في معاشه ولا في معادِهِ. ومنها: أنَّ ذكرَ الله في الخلوة مع انحدارِ الدمعةِ، سببٌ ليكونَ العبدُ يومَ القيامة في منازلِ الرفعةِ، فيكونُ في ظلِ الله يومَ القيامة مِنَ السبعةِ. والكيس مَنْ دانَ نفسَه وعمِلَ لما بعدَ الموتِ، والعاجزُ مَنْ أتبعَ نفسَه هواهَا، وتمنَّى على الله الأماني.
* وفي المدينة المنورة أوصى فضيلة إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ الدكتور علي بن عبدالرحمن الحذيفي المسلمين بتقوى الله تعالى، والاستقامة على طاعته، بأداء الفرائض والواجبات، واجتناب المعاصي والمحرمات، لينالوا رضوان الله ورحمته ومغفرته، والفوز بجناته.
وأوضح الشيخ الدكتور علي الحذيفي في خطبة الجمعة اليوم أن الاستقامة أمرٌ عظيم، وأعلاها القيام بالفرائض والواجبات والمستحبات، ومجانبة المحرمات والمكروهات، والثبات على ذلك، كما أمر الله بذلك رسوله – صلى الله عليه وسلم – بقوله جلّ وعلا: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
وبيّن فضيلته أن المؤمنين في الاستقامة درجات كما قال سبحانه: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِه وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوالْفَضْلُ الْكَبِيرُ. جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَأسهم فِيهَا حَرِيرٌ}.
وقول الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وقت قولهم ذلك عند انقطاع الدنيا والدخول في الآخرة، فتقول للمؤمنين جزاءً لهم على الاستقامة لا تخافوا. والخوف لا يكون إلا من مستقبل، أي: لا تخافوا على من خلفتم وراءكم من الذرية، فالله يتولاهم وهو يتولى الصالحين.
واستطرد موضحًا: ولا تحزنوا على ما مضى. معناه أن الحزن انتهى ولن يعود. وهذه بشرى على الاستقامة بالأمن من المستقبل، وأن الحزن لن يعود. وتقول لهم الملائكة وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون. مستشهداً بقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّه لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}. والجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وأضاف: الملائكة تُطمئن المؤمن ليصدق بوعد الله، وتطرد وساوس الشيطان عن المسلم، فالملائكة أولياء المؤمنين بالحفظ في الدنيا من الشياطين، والملائكة أولياء المؤمنين في الدنيا بالصحبة الدائمة بكل خير وبرّ، والملائكة أولياء المؤمنين في الآخرة، قال تعالى: {وَالْمَلَائِكَة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ. فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}.
وتابع فضيلته مبيناً أن البشائر من الملائكة للمؤمنين بأمر الله تتوالى، وكل بشارة أعظم من الأخرى، وآخر بشارة لهم في هذه الآية قولهم: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}، أي لكم في الجنة كل ما تتمنون وفوق الأماني، ولكم كل طلب تدعون به، نزلاً من غفور للذنوب، رحيم بالمؤمن. مبيناً أن النزُل في لغة العرب ما يعدُّ للضيف.
وحضْ فضيلته كل مسلم على تذكّر هذه الآيات العظيمة بعد أن يقوم بصالحات الأعمال راغباً راجياً لله تعالى، راهباً خائفاً من ربه ليرحمه ويجيره من عذابه. مبيناً أن المسلمين بالعمل بالاستقامة درجات، فأعلاهم درجة وأحسنهم حالاً هم الذين يتبعون الحسنات بالحسنات، ويتركون المحرمات، فأولئك السابقون، قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}. ودون هذه الدرجة درجة قوم عملوا الحسنات، وقارفوا بعض السيئات، وأتبعوا السيئات الحسنات، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاة طَرَفَي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ. إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ. ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}.
وأوضح إمام وخطيب المسجد النبوي أن المسلم إذا نزل عن هذه الدرجة الثانية من درجات الاستقامة خلَط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وهو لما غلب عليه منهما، فهو تحت رحمة الله ومشيئته، قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَه مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}.
واختتم الشيخ الدكتور علي بن عبدالرحمن الحذيفي الخطبة مبيناً أن من جاء بالحسنة محافظاً عليها من المبطلات فله عشر أمثالها، داعياً إلى الحرص على عمل الخيرات، واجتناب المحرّمات، والعمل بوصية الرسول -صلى الله عليه وسلم-: “اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن” رواه أحمد والترمذي.
المصدر: صحيفة الجزيرة
كلمات دلالية: كورونا بريطانيا أمريكا حوادث السعودية الله تعالى ر وا الله فی قول ه الله ع ى الله الله ی
إقرأ أيضاً:
هل يجوز بيع القطة وتملكها في الشرع؟ دار الإفتاء تجيب
ورد إلى دار الإفتاء المصرية، سؤال يقول (اشتريت قطة من قطط الزينة باهظة الثمن لأقوم بتربيتها، وهذا منذ فترة، وأريد الآن أن أبيعها لشدة انشغالي وعدم قدرتي على الاعتناء بها جيدًا، لكن بعض أصدقائي المتدينين أخبرني بأن هناك نهيًا شرعيًّا عن بيع القطط، وأن أخذ ثمنها حرام، ونصحني بأن أعطيها هدية لمن يمكنه الاعتناء بها، فهل هذا هو الحكم الشرعي الصحيح في مثل هذه الحالة؟
هل القيمة المضافة على البيع بالتقسيط ربا محرم؟.. دار الإفتاء تحسم الجدل بول القطط وحكم الصلاة في المكان الذي تلوث به .. الافتاء تكشفواستشهدت دار الإفتاء في إجابتها على السؤال، بقول الله عز وجل: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275]؛ فبين سبحانه وتعالى أن جنس البيع حلال، ويؤيد أصالة الحل في البيوع قوله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُم﴾ [النساء: 29].
وأضافت دار الإفتاء أن مما يشترط في صحة عقد البيع أن تتوفر في المبيع شرائط خمسة، وهي: أن يكون المبيع معلومًا، طاهرًا، منتفعًا به، مملوكًا للعاقد، مقدورًا على تسليمه، فلا بد أن يكون المبيع مما ينتفع به حسًّا وشرعًا، وبيع ما لا نفع فيه يكون بيعًا باطلًا سواء لم تكن فيه منفعة أصلًا أو كانت فيه منفعة لكن غير معتبرة شرعًا؛ لأنه حينئذ لا يعتبر مالًا، وذلك كما أسقط الشرع مالية الخمر وإن كان يمكن الانتفاع بها ببعض الصور إلا أن أضرارها لما كانت أكثر من منافعها سقطت ماليتها؛ قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة: 219].
وذكرت أن الأصل في الحيوانات الطاهرة المنتفع بها هو جواز اقتنائها والانتفاع بها وتداولها بعقود البيع والشراء ونحوها؛ وذلك لكونها بعضًا مما سخره الله تعالى لمنفعة الإنسان وخدمته وتنعمه؛ قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ [لقمان: 20]، وقال سبحانه: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: 13].
وأوضحت أن الانتفاع بالحيوان كما يكون بالأكل والحلب والركوب وحراثة الأرض، يكون أيضًا بجمال صوته كما في البلابل، وبجمال صورته ولونه كما في الطواويس، فالتنعم بمثل هذا يُعدُّ من الأمور التحسينية المباحة، فهو ضرب من الانتفاع بنعم الله سبحانه وتعالى وباب لتدبر جليل آياته في إبداع الخلق وإتقان الصنع؛ قال تعالى: ﴿ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ۞ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ﴾ [السجدة: 6-7]، وقال سبحانه: ﴿صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [النمل: 88].
وقد جاء في آيات القرآن الكريم ما يدل على جواز اقتناء الحيوانات وغيرها بقصد الانتفاع بحسنها والتحلي بها؛ طلبًا لإدخال السرور على النفس، قال تعالى: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 8]، وقال جل شأنه: ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا﴾ [النحل: 14].
وقد روى البخاري ومسلم في "صحيحيهما" أن الصحابيَّ الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه كان له أخُ صغير يقال له: أبو عمير رضي الله عنه، وكان له نُغَرٌ يلعب به -أي طائر صغير يشبه العصفور، أحمر المنقار، وقيل: هو البلبل- فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا جاء فرأى أبا عمير لاطفه وقال له: «أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ».
وفي الحديث دلالة ظاهرة على: جواز لعب الصغير بالطير، وجواز ترك الأبوين ولدهما الصغير يلعب بما أبيح اللعب به، وجواز إنفاق المال فيما يتلهى به الصغير من المباحات، وجواز إمساك الطير في القفص ونحوه وقص جناح الطير؛ إذ لا يخلو حال طير أبي عمير من واحد منهما، وأيهما كان الواقع التحق به الآخر في الحكم.
كما أن القط الأليف أو الهرة الأهلية "المستأنسة" ينطبق عليها ما سبق ذكره بحكم الأصل؛ إذ هي حيوان طاهر يجوز حيازته واقتنائه وتملكه، ويقدر على تسليمه وعلى العلم به وبحاله وصفته، كما أنه يُنتفع بجمال خلقته وبحصول الاستئناس به، وكذلك يُنتفع به في الخدمة؛ لأنها تصطاد الفأرة والهوام المؤذية. انظر: "البحر الرائق شرح كنز الدقائق" (6/ 187، ط. دار الكتاب الإسلامي).
ومما يدل على طهارة الهرة ما رواه أصحاب السنن الأربعة: عَنْ كَبْشَةَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَكَانَتْ عِنْدَ ابْنِ أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ دَخَلَ عَلَيْهَا، قَالَتْ: فَسَكَبْتُ لَهُ وَضُوءًا. قَالَتْ: فَجَاءَتْ هِرَّةٌ تَشْرَبُ، فَأَصْغَى لَهَا الإِنَاءَ حَتَّى شَرِبَتْ، قَالَتْ كَبْشَةُ: فَرَآنِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَتَعْجَبِينَ يَا بِنْتَ أَخِي؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، إِنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ، أَوِ الطَّوَّافَاتِ» رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح، وهو قول أكثر العلماء من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتابعين ومن بعدهم مثل الشافعي، وأحمد، وإسحاق: لم يروا بسؤر الهرة بأسًا، وهذا أحسن شيء في هذا الباب. انظر: "قوت المغتذي على جامع الترمذي" (1/ 80).
ويدل على صحة تملُّك الهرَّة ما رواه الإمامان البخاري ومسلم واللفظ له عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ مِنْ جَرَّاءِ هِرَّةٍ لَهَا -أَوْ هِرٍّ- رَبَطَتْهَا فَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا، وَلَا هِيَ أَرْسَلَتْهَا تُرَمْرِمُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ هَزلًا»؛ فاللام في قوله: «هِرَّةٍ لَهَا»، تدل بظاهرها على ثبوت ملكية المرأة للهرة؛ لأن الأصل في اللام الملك.
وأجاب جمهور العلماء عن احتجاج المانعين بالحديث بأن المراد بالهرة هنا هي: الهرة الوحشية؛ لعدم الانتفاع بها بخلاف الهرة الأهلية، وأيضًا أجابوا بأن النهي الوارد في الحديث نهي تنزيه لا نهي حرمة؛ فالغاية من هذا النهي هو أن يتسامح في تداول الهرة الأهلية، وإعارته بلا مقابل مالي كما هي عادة الناس فيه.