من اللافت للنظر الطريقة التي تناول بها المتحدّث باسم كتائب القسام "أبو عبيدة" عمليةَ "الوعد الصادق" الإيرانية في خطابه الأخير؛ بمناسبة مرور مائتي يوم على معركة "طوفان الأقصى"، سواء طريقة الحديث عن هذه العملية، أو موقعها والمساحة التي خصّصها لها في خطاب العشرين دقيقة الذي حمل كمية كبيرة من الرسائل في اتجاهات متعددة.
لقد وضع "أبو عبيدة" تلك العملية في موقعها المناسب جدًا في نهاية خطابه، وخصص لها المساحة التي تستحقّها دون زيادة أو نقصان؛ باعتبارها جزءًا من معركة واسعة تدور في المنطقة مع الاحتلال الإسرائيلي، وينبغي أن تمتدّ وتتصاعد بشكل أكبر.
ولنركّز هنا على هذا النصّ الذي تلاه "أبو عبيدة": "لقد شاهد العالم كيف أصيب الكيان الصهيوني بالذعر قبل وبعد وأثناء عملية الوعد الصادق التي ردت فيها الجمهورية الإسلامية في إيران على العدوان الصهيوني عليها.
رد بحجمه ورسالته وطبيعته وضع قواعد جديدة ورسّخ معادلات مهمة وأربك حسابات العدو ومَن وراءه، وإذا بالكيان يستدعي حلفاءه من بُعد آلاف الأميال ليدافعوا عنه باستماتة، ثم يخرج منتشيًا بقدرات الدفاع بعد أن كان يتبجّح بالهجوم، ويحاول إخفاء آثار ونتائج هذه العملية. إلا أننا راقبنا وندرك جيدًا مدى تأثير هذا الرد وهذه الضربات، إذ تؤكد أنه مضى الزمن الذي يعربد فيه هذا العدو دون حسيب، أو يعتدي دون رد أو عقاب".
قواعد جديدةولعلّ أهم جملة في هذا النص أن الرد الإيراني "وضع قواعد جديدة ورسخ معادلات مهمة وأربك حسابات العدو ومَن وراءه". فهل هناك أوضح من هذه العبارة للتعليق على هجوم المسيرات والصواريخ على الكيان في تلك الليلة الليلاء التي لم ينَم فيه الاحتلال ولا خمس دول أخرى على الأقل، بينها أميركا وبريطانيا هبّت لنجدته واعتراض المسيرات والصواريخ الموجهة إليه، في مشهد سريالي كشف عن هشاشة هذا الاحتلال، وعن سخافة وسذاجة وتملّق من هبوا للدفاع عنه؟
ولا نحتاج لخبرة عسكرية كبيرة لكي نقول بثقة؛ إن كل تلك المسيرات وحتى صواريخ الجيل الأول التي قطعت ساعات من الطيران من قواعد انطلاقها في إيران، لم تكن ذات أهداف عسكرية محددة، بل كانت جزءًا من إعلان إيراني رسمي على شكل عرض عسكري جوي، بأن إيران خرجت من مربع الصبر الإستراتيجي، وانتقلت إلى مثلث الرد المباشر، وهو ما قالته إيران صراحة بعد ذلك كما قاله "أبو عبيدة" أيضًا.
إذن لم تكن العملية عسكرية ذات أهداف تدميرية، ولم يكن هناك حاجة لكل هذه الدول لاعتراض هذه القذائف، ولا ينبغي افتراض أن أعدادًا كبيرة من القتلى والجرحى قد سقطوا نتيجة إطلاق مئات المسيرات والصواريخ. فلقد كانت رسالة سياسية وإعلامية بأنّ إيران ولأول مرة تهاجم الكيان الإسرائيلي بشكل مباشر من الأراضي الإيرانية ودون وسطاء.
ولعلّ هذا هو ما دفع الاحتلال الصهيوني ومن خلفه الإدارة الأميركية إلى ابتلاع السمّ، واستيعاب هذه العملية والمسارعة إلى احتواء الموقف، وعدم الاندفاع نحو ردود جديدة؛ لأنهم أصبحوا على يقين بأن ذلك سيفتح جبهة جديدة لن تكون قطعًا كخمس جبهات سبقتها، لا من حيث نوعية النيران التي ستستخدم فيها، ولا من حيث تأثيرها على المنطقة بأكملها، وما يمكن أن تسببه من أضرار على الاقتصاد العالمي؛ نتيجة فقدان الأمن والاستقرار لفترة غير قليلة، فضلًا عن احتمالات المزيد من التوسع، إذا ما دخلت أطراف أخرى كروسيا والصين لسبب أو لآخر، حيث إنّ مصالح أطراف كثيرة، سوف تتضرّر في حال الصدام المباشر بين إيران وإسرائيل.
هل كانت مسرحيّة؟هذا الرأي يتبنّاه جزء غير بسيط من الجماهير العربية، ومنهم أصحاب مواقف ثابتة تجاه إيران وسياساتها الخارجية؛ لأسباب متنوعة طائفية أو سياسية كما هو الحال في سوريا واليمن والعراق ولبنان، ولكن منهم أيضًا من ينظر بموضوعية أكثر، ويقرأ النتائج ويقارنها بما فعله الاحتلال ضد القنصلية الإيرانية في دمشق، وما أسفر عنه ذلك من قتل سبعة من كبار رجال فيلق القدس التابعين للحرس الثوري، وهم من ذوي التأثير في جبهات المواجهة مع الاحتلال؛ التي لإيران اليد الطولى فيها، وتلك تشمل بين ما تشمل الجبهة اللبنانية الساخنة جدًا منذ انطلاق "طوفان الأقصى"، وهذه خسائر بشرية فادحة، إذا ما قورنت بنتائج الضربة الإيرانية والتي لم يثبت أن إسرائيليًا واحدًا قد قُتل فيها، رغم العدد الهائل من القذائف والمسيرات . لذا فإن من اليسير القول؛ إن ما فعلته إيران كان مجرد مسرحية، أو عملية فاشلة وغير مجدية، وقد خرج كثيرٌ من التعليقات بهذه المعاني، التي قللت من شأن الضربة.
بعض الأصوات كانت أكثر موضوعية، ونظرت للرد الإيراني باعتباره ذا أهداف أخرى غير عسكرية، وأنه تم التفاهم مع الإدارة الأميركية بشكل أو بآخر على هذه الضربة وحجمها للسيطرة على جموح نتنياهو وحكومته المتطرّفة التي تتفلت من سيطرة وتوجيه إدارة بايدن، وتسعى لتوسيع مساحة التوتر في المنطقة؛ لأسباب شخصية أو حزبية، وهؤلاء يقرّون بأن الضربة قد حقّقت هذا الهدف، ولكنّهم يتفقون مع سابقيهم في أن إيران تستخدم أدواتها الخارجية لتحقيق مصالحها، وتحاول أن تبقى هي بعيدة عن صدام مفتوح مع الاحتلال ومن يقفون خلفه، وعلى رأسهم أميركا، وذلك على الرغم من كل الخطابات النارية والتصريحات الهادرة من أعلى الهرم الإيراني: المرشد الأعلى أو رئيس الجمهورية.
ولكن ثمة ما يلفت النظر في خطاب "أبو عبيدة" وهو "أننا راقبنا وندرك جيدًا مدى تأثير هذا الرد وهذه الضربات، إذ تؤكد أنه مضى الزمن الذي يعربد فيه هذا العدو دون حسيب أو يعتدي دون رد أو عقاب".
فهذه العبارة ليست محايدة تمامًا بالنظر لعلاقة التحالف العسكري بين كتائب القسام والحرس الثوري الإيراني، ومع ذلك تتّسم بتوصيف ما حدث ونتائجه دون كيل المدائح لإيران، أو المبالغة في تصوير حجم الرد الإيراني المسمى عملية الوعد الصادق.
ولهذا النص دلالة لا ينبغي تجاهلها بأن كتائب القسام لا ترفع سقف توقعاتها تجاه إيران، وتعرف جيدًا أن حسابات الدول غير حسابات الجماعات والأحزاب والمنظمات المسلحة، وهي مسألة تترك سؤالًا كبيرًا تصعب الإجابة عنه: هل تريد إيران فعلًا تصعيد المواجهة المباشرة مع الاحتلال؟، وهل يتوفر لديها ما يكفي من المبررات، التي تجعل مثل هذا التصعيد مقبولًا من المجتمع الدولي -وليس بالضرورة حلفاء الاحتلال – بحيث لا يترتب على ذلك مصاعب حقيقية جديدة تعطل برامج إيران الكبرى كدولة ذات نفوذ هائل في الشرق الأوسط وذات مشروع نووي يوشك أن يرى النور؟
القاعدة الجويةرغم كل ما سبق فإن هناك زاوية أخرى تتطلب التوثيق في الرد الإيراني وتحمل رسائل من نوع آخر، وقد تناولها الخبراء العسكريون كما تحدث عنها الإسرائيليون والإيرانيون، فقد ثبت أن عددًا قليلًا من الصواريخ الإيرانية في تلك الليلة قد اخترقَ كل منظومات الدفاع الجوي، سواء الإسرائيلية أو تلك التي ساندتها من الدول الكبرى، وقد وصل ثلاثة صواريخ فرط صوتية على الأقل إلى قاعدة نيفاتيم الجوية جنوب إسرائيل.
وأظهرت صور الأقمار الصناعية منخفضة الدقة ما يبدو أنها منطقة تأثير واحدة من ضربة صاروخية إيرانية على تلك القاعدة التي تحتوي على الطائرات المقاتلة من طراز "إف -35″، وهي الطائرات التي هاجمت مقر القنصلية الإيرانية، حسب ما تردد من معلومات والتي لم تتأكد من مصادر موثوقة، ولم تقر بها إسرائيل التي اعترفت بأن عدة صواريخ ضربت القاعدة، أما المصادر الإيرانية فقالت؛ إن 5-7 صواريخ ضربت القاعدة، فيما أظهرت صور أخرى أن مدارج الطائرات قد أصيبت.
وقد قلل الإسرائيليون من أهمية ما حدث في هذه القاعدة- وذاك أمر منطقي ومتوقع- لكن ما يجب الالتفات إليه أن مجرد سقوط صاروخ واحد داخل القاعدة هو اختراق رهيب لأحدث أنواع التكنولوجيا الدفاعية التي تتمتع بها القاعدة ويمتلكها الاحتلال وداعموه.
ويعتقد بعض الخبراء العسكريين أنّه لم تكن لدى إيران الرغبة بإحداث تدمير كبير لهذا الهدف الإستراتيجي وإلا لكانت أطلقت ثلاثين صاروخًا باتجاهها، لكنها كانت تريد أن تختبر قدراتها الصاروخية المتجددة، وقدرات الأنظمة الدفاعية على إسقاطها.
وإذا كان كل هذا دقيقًا فإن هدفًا إيرانيًا إستراتيجيًا وكبيرًا جدًا قد تحقق في تلك الليلة، فلن يكون من المعقول أن يقوم الاحتلال باستخدام طائراته للإغارة على أهداف إيرانية جديدة، لأنه بات على يقين بأن تفوقه الجوي الذي حسم من خلاله كل حروبه السابقة بات هدفًا سائغًا لنوع جديد ودقيق وسريع الوصول من الصواريخ الإيرانية التي تم تجربتها فعليًا، ونجحت في الوصول خلال الوعد الصادق.
تبدأ الصراعات الكبرى بين الدول القوية بالتراشق بالكلمات وتشكيل الرأي العام واستخدام القوة الناعمة، ثم تتطور إلى معارك متنوعة ذات طبيعة خاصة من أجل اختبار القوة ومعرفة حدود قدرات الأطراف. وفي لحظات معينة يحدث الانفجار وتلتهب كل جبهات القتال حتى يتمكن أحد الطرفين من حسم المعركة، وإن لم ينجح أحدهما في ذلك، فقد يمتد الصراع لفترات طويلة ما لم يصل الطرفان إلى صيغة تكفل لهما نوعًا من التعايش والمراهنة على الزمن وتغير موازين القوى، أو توفر ظروف أفضل. ويبدو أن إيران وإسرائيل تفضلان هذه الحالة في الوقت الراهن.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات الوعد الصادق مع الاحتلال أبو عبیدة
إقرأ أيضاً:
إيران التي عرفتها من كتاب “الاتحادية والباستور"
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
وضع الدكتور محمد محسن أبو النور بين أيدينا وثيقة فكرية مهمة تؤرخ لحقب متتابعة للحالة التي بدت عليها العلاقات المصرية الإيرانية منذ شاه إيران محمد رضا بهلوي حتى الآن، ووضع لها عنوانًا جذابًا باسم "الاتحادية والباستور" ثم عنوانًا شارحًا يقول "العلاقات المصرية – الإيرانية من عبد الناصر إلى بزشكيان". وعلى الرغم من أن بزشكيان وهو الرئيس الإيراني الحالي لم تمر على توليه المسؤولية فترة طويلة، إلا أنه بات ثاني رئيس يزور مصر بعد أحمدي نجاد، إذ حضر إلى القاهرة وشارك في قمة الدول الثماني النامية وكان في الصف الأول بجوار الرئيس السيسي في الصورة التذكارية للقمة، وهو أمر له دلالته، وله ما بعده.
لقد عرفت إيران من الدكتور أبو النور، الذي هاتفته في مساء الثامن من مايو من عام 2018 اتساءل عما يفعله الرئيس الأمريكي وقتها دونالد ترامب، وهو التوقيت الذي انسحب فيه ترامب من خطة العمل الشاملة المشتركة المعروفة باسم "الاتفاق النووي". كنت وقتها محررًا سياسيًا لا أعلم الكثير عن الصراع المرتقب بين واشنطن وطهران، وتساءلت عن قصة "نووي إيران" وشيعيتها وعلاقاتنا معها، ففوجئت به يدرجني ضمن مشروعه الخاص "الغرفة الإيرانية" وذراعها الإعلامي والسياسي والبحثي "المنتدى العربي لتحليل السياسات الإيرانية" ومن وقتها بدأت أتحسس خطواتي تجاه ذلك الملف المعقد، حتى حصلت على درجة الماجستير في ذلك الملف وبدأت أتحسس خطواتي تجاه الدكتوراه، وأدركت مدى حساسية ما نبحث فيه وعنه.
وفي كل الأحوال فإن كتاب "الاتحادية والباستور" لا يعد مجرد تأريخ لما كانت عليه حالة العلاقات المصرية الإيرانية في السابق، سواء منذ عهد الشاه محمد رضا بهلوي مرورًا بفترة الخميني وما تلاه من رئاسات لإيران، بل إن الكتاب يبدو من محتواه أنه يضع أجندة لما يجب أن يكون عليه شكل العلاقات بين البلدين، مستندًا إلى تاريخ البلدين العريق وجغرافيتها الممتدة، وجيوشهما المنظمة التي تضرب بأصالتها وقدمها في عمق التاريخ.
يحفل الكتاب بالكثير من الأحاديث التي أجراها أبو النور مع المسؤولين المهمين على مستوى الملف الإيراني، ومع زوجة شاه إيران الإمبراطورة فرح ديبا، التي كنت شاهدًا على أحد لقاءاتها معه، فضلًا عن أحاديث وتحليلات عميقة وتفنيدًا كثيرًا لما ذكره الصحفي المصري الأسطورة الأستاذ محمد حسنين هيكل في كتاباته عن إيران، وهو ما يؤكد على ضرورة أن يحوذ كل باحث في الشؤون الإيرانية لهذا الكتاب الذي تقع بين دفتيه إجابات مستفيضة لكثير من علامات الاستفهام التي تشغل الكثيرين من المتخصصين أو غير المتخصصين، خاصة بعدما شاهد العالم كله صواريخ إيران وهي تعبر الشرق الأوسط كله إلى عمق تل أبيب في صراع متشابك بين قوى إقليمية عقدت المشهد السياسي منذ ما بعد السابع من أكتوبر من عام 2023.
لكن أبرز ما في الكتاب أنه يجيب ضمنيًا عن سؤال طالما شغل بال الكثيرين: "ماذا يعكر صفو العلاقات بين القاهرة وطهران على مر الزمن؟ ويضعنا أمام تفاصيل لأعقد الملفات السياسية والعقائدية على الإطلاق، ويجيب عليها بكل سلاسة ووضوح كأننا نعيش مع شخصيات الحدث.