الجزيرة:
2025-05-01@18:16:35 GMT

معضلات لا تستطيع القبة الحديدة حلّها

تاريخ النشر: 26th, April 2024 GMT

معضلات لا تستطيع القبة الحديدة حلّها

على كلّ المستويات لا يبدو مشروع الدولة الإسرائيليّة حدثًا طبيعيًا. هذه ليست دعوة لمحو إسرائيل من الوجود، بل ملاحظات حول تناقضات المشروع العصيّة على الحل. منذ مائة عام والمجتمع الإسرائيلي يطلق النار في كل اتجاه، ويومًا ما سيدركه الإعياء وسيضع السلاح أو سيترك البلاد. ما من دولة- أمّة – قاتلت مائة عام، ثم استقرّت.

بعد مائة عام من الحروب تكون الدولة- المشروع- قد نجحت في جعل التحديات الوجودية مستدامة، وراكمت من السرديات المعادية ما لا يمكن القفز عليه من خلال علاقات شكلية مع أنظمة الحكم ونخبه.

القانون الأساسي الإسرائيلي لسنة 1992 يحدد طبيعة الدولة على نحو غير قابل للحياة: إسرائيل دولة يهودية ديمقراطية. تسْخر دوريت بينيش، الرئيس رقْم 9 للمحكمة العليا في إسرائيل، من هذا التعريف قائلة: إنه ما من أحد داخل المجتمعَين؛ العلماني والديني، يفهم ما المقصود، لا أين يقف الدين، ولا من أين تبدأ العلمانية.

يشكل العلمانيون 40% من بنية المجتمع الإسرائيلي، ويعيش حوالي 20% من غير اليهود كمواطنين داخل الدولة (بيو سنتر، 2016). هذه الحقيقة تجعل إسرائيل تراوح في مكانها بين الدين والعلمانية، تقاتل الأعداء بوصفها مشروعًا ديمقراطيًا، يتعرض للعدوان، كما تسيطر على الأراضي الفلسطينية انطلاقًا من دعاوى توراتيّة غير متساوقة مع الادعاء الديمقراطي- الليبرالي.

منذ مائة عام والمجتمع الإسرائيلي يطلق النار في كل اتجاه، ويوماً ما سيدركه الإعياء وسيضع السلاح أو سيترك البلاد. ما من دولة- أمّة قاتلت مائة عام ثم استقرت

تعرّف إسرائيل "الأمة" على أساس إثني محض لا علاقة له بالمدونة الليبرالية للحقوق، كما يجادل يوري رام أستاذ السوسيولوجي في جامعة بن غوريون. على الصعيد الشعبي يبدو الأمر أكثر اختلاطًا في الذهن الإسرائيلي. في الاستطلاع الذي أجراه (بيو سنتر، 2016)، قال 76% من يهود إسرائيل: إنهم يرون تناغمًا بين يهودية الدولة والديمقراطية. في الوقت نفسه رأى 79% منهم أن على الدولة "الديمقراطية" أن تمنح امتيازات تفضيلية للمواطنين اليهود دون غيرهم.

لاحظ شبلي تيلهامي، أستاذ الحوكمة والسياسة في جامعة "ماري لاند"، في مقالة في "فورن بوليسي، 2020″، أن قانون "الدولة- الأمة" الذي أصدرته السلطات الإسرائيلية في العام 2018، يؤكد، على نحو قاطع، أن "اليهودي فقط هو من يملك الحق في أن يحدد مصير هذه الدولة". الدولة التي تصدر مثل هذا القانون لا يمكنها أن تكون ديمقراطية، فهي لا تقسّم مواطنيها على حسب الديانة وحسب، بل تستبعد غير اليهودي من النقاش المتعلق بمستقبل الدولة وماهيتها.

مهمّة المواطن الإسرائيلي غير اليهودي تنحصر في دفع الضرائب والإدلاء بصوته في الانتخابات. طبيعة الدولة في ذهن قادتها وشعبها غير واضحة، ولا يبدو الغرب مستعدًا لقول شيء في هذا الشأن. بدلًا عن ذلك، تستمر صالونات النقاش؛ السياسي والأكاديمي، في الحديث عن المشروع الليبرالي الوحيد جنوب البوسفور؛ عن "أولئك الذين يشبهوننا".

محددات عصية على النضج

المحددات التاريخية لمشروع الدولة الإسرائيلية عصية على النضج: لا تعريف الأمة، ولا من هو اليهودي، لا طبيعتها السياسية، ولا معنى المواطَنة. لا يوجد شيء اعتيادي في المشروع. داخل مبادرة السلام التي قدمها ترامب، الممتدة على 181 صفحة، تقول فقرة مثيرة للجدل: إن إسرائيل تنوي التخلي عن عشر قرى في شمال تل أبيب، أو ما يعرف بالمثلّث، بكل سكانها وإعادتها إلى السلطة الفلسطينية. يسكن في المثلث ما يزيد على 350 ألف مواطن عربي من حملة الجنسية الإسرائيلية. ما يعني أن الدولة "الديمقراطية" ستجردهم من جنسيتهم دون نقاش معهم، وستلقي بهم إلى حوزة سلطة أجنبية، بحسب تقرير لـ "واشنطن بوست" في فبراير/شباط 2020.

كان ديفيد فريدمان، سفير ترامب لدى إسرائيل، أحد أبرز صاغة مشروع السلام، ويعرف عنه ترديده للادعاءات التوراتية حين يتعلق الأمر بمسألة السلام في الشرق الأوسط. لا يمكن فهم ما ورد في مبادرة ترامب للسلام سوى داخل هذين المحددين: الأول: توراتيّة الدولة التي لا تحتمل تحت سقفها مواطنًا من خارج ديانتها. الثاني: نوايا مستمرّة للتطهير العرقي، هذه المرّة في سياق مشروع للسلام في حقيبة دولة ليبرالية عظمى. عرب إسرائيل، الذين سيلقَى بهم إلى الخارج، هم في نهاية الأمر "العدو النهائي للدولة اليهودية"، كما يراهم المفكّر اليهودي- الأميركي دانيال بايبس، أحد أبرز الخبراء في شؤون الشرق الأوسط في الصحافة الأميركية.

لم يتغيّر الشيء الكثير في وضعية الدولة الإسرائيلية منذ وعد بلفور، إذ لا تزال في الشرنقة. قاتلت جيرانها في العام 1967 على ثماني جبهات حول المسألة نفسها: تطهير فلسطين من العرب. هي الآن، 2024، تقاتل على سبع جبهات، وَفقًا لقادة جيشها، حول نفس النار. ترفض إسرائيل أن تعيش كدولة طبيعية، حتى وهي تتنفس في محيط معادٍ يمتد من أذربيجان إلى موريتانيا. تحت مظلة من سفن الغرب وصواريخه تبحث إسرائيل عن استقرار طويل المدى. يغيّر التاريخ موازين القوى، فقد أطاح بالإمبراطورية التي حرست فلسطين خمسة قرون من الزمن، ثم تركتها على قارعة الطريق.

المحددات التاريخية لمشروع الدولة الإسرائيلية عصية على النضج، لا تعريف الأمة، ولا من هو اليهودي، لا طبيعتها السياسية، ولا معنى المواطَنة. لا يوجد شيء اعتيادي في المشروع

بمقدور إسرائيل حماية نفسها من خلال عملية سلام عادلة تتيح لها النمو إلى جوار شعوب وأنظمة المنطقة. منذ ثلثي قرن وهي ترفض الاعتراف بحق الفلسطينيين في دولة مستقلة. الخيارات المتاحة أمامها تبدو مستحيلة أو تدميرية. تحت سقف إسرائيل الكبرى، أو فلسطين التاريخية، تساوى عدد اليهود والعرب لأول مرّة في التاريخ: سبعة ملايين لكلا الطرفين. من المتوقع أن يتجاوز العرب جيرانهم اليهود من حيث العدد في العقد القادم. فبحسب تقرير لليونيسيف، يناير/كانون الثاني الماضي، فإن حوالي 20 ألف طفل فلسطيني وُلدوا في غزة في الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب. استطاع المفكر السياسي الأميركي ميرشايمر أن يلخص الورطة الوجودية لإسرائيل على هذا النحو: إما أن تقبل بالوضعية الديمقراطية، ما سيعني وصول العرب إلى مقاليد الحكم، أو دولة يهودية لاهوتية، ولن يتحقق لها ذلك إلا من خلال الفصل العنصري "الأبارتهايد". مع الأيام ستبدو عاجزة عن التعامل مع العنصر السكاني العربي النامي، وستنهار الجدران كما حدث مع غزة التي انفجرت سكانيًا من 1.3 مليون في العام 2005 إلى 2.3 مليون في العام 2023.

الخيار الثالث، وهو أيضًا غير ممكن؛ أن تبادر إلى تهجير عرب فلسطين إلى خارج الحدود. لا تملك إسرائيل، ولا داعموها الغربيون، إجابة لهذه المعضلة. كل معضلة إسرائيلية هي مسألة غير قابلة للحل، ذلك ما جعلها تقف خلف البندقية منذ مطلع عشرينيات القرن الماضي.

أفقيًا تبدو الدولة عصية التضاريس، ففي فبراير/شباط الماضي احتفل اليمين اليهودي في مدينة القدس بما أسموه "يوم النصر". في الاحتفالية ردّدت الجماهير بصوتٍ عال: "ترانسفير، ترانسفير"، وهو تعبير يقصد به تهجير عرب فلسطين إلى دول أخرى. برّر نتنياهو ما جرى بالقول: إن ديمقراطية بلاده تتسع لكل الآراء بما فيها تلك التي لا يتفق معها. غير أن هآرتس رأت، تحت عنوان "ديمقراطية لليمين فقط"، أن سلطات البلاد فضّت كل التجمعات المنادية بإيقاف إطلاق النار، وأن الديمقراطية رفضت الاستماع لحشود صغيرة من اليسار الإسرائيلي.

لنذهب بعيدًا حتى الأول من مارس/آذار 1920. آنذاك هبط مسلحون شيعة من جنوب لبنان إلى الجليل الأعلى واقتحموا "تل حي"، وكان مستوطنة يهودية صغيرة. حدثت مواجهة دامية بين الطرفين انتهت بأن أحرق المقاتلون الشيعة القرية اليهودية بما فيها. تعيش إسرائيل في ماضيها، ولا يزال المقاتلون الشيعة يطلقون المقذوفات النارية من جنوب لبنان كما فعلوا قبل مائة عام، وكنتيجة لذلك يفر اليهود من قراهم إلى المدن الآمنة.

لم يتغيّر الشيء الكثير، عدا أن العشرات كانوا يفرون من قبل، وهم الآن عشرات الآلاف. كما لو أن أحداث اليوم ليست سوى توسعة لما كان يجري قبل مائة عام. فثورة البراق، أغسطس/آب 1929، هي نفسها معركة "سيف القدس" 2021. في المعركتين قُدحت الشرارة بالقرب من المسجد الأقصى، أو بداخله.

المعضلة الجغرافية

إلقاء نظرة على فلسطين التاريخية يكشف عن معضلة أخرى غير قابلة للحل. لا يعلم الكثيرون، بمن فيهم من يجلسون في صالونات التحليل، أن مساحة الضفة الغربية تعادل مساحة إسرائيل إذا استبعدنا النقب. لتخيّل المعضلة الجغرافية التي تواجهها إسرائيل علينا أن ندرك التالي: تبلغ مساحة فلسطين التاريخية 26 ألف كيلو متر مربع، منها 6 آلاف هي مساحة الضفة وغزة. مدن إسرائيل تمتد على 6 آلاف كيلو متر مربع، بما يتساوى تمامًا مع مساحة الضفة الغربية. يشكل النقب 55% من مساحة البلاد، ويسكن فيه أقل من 10 %من السكّان.

بحسب اتفاقية أوسلو، فالضفة الغربية جرى تقسيمها إلى ثلاث مناطق: أ، الواقعة إداريًا وأمنيًا تحت السلطة الفلسطينية. ب، تقع إداريًا تحت السلطة الفلسطينية وأمنيًا تحت سيطرة فلسطينية- إسرائيلية مشتركة. ج، وهي منطقة واسعة تقع تحت السيطرة الإدارية والأمنية الإسرائيلية.

ثمة أهمية قصوى بالنسبة للمنطقة ج، فهي تشكّل حوالي 61% من مساحة الضفة الغربية، وتحتوي على معظم الموارد الطبيعية. في المنطقة ج تخوض إسرائيل حربًا مسيحانية خاسرة، بحسب تقرير مثير لهآرتس في مارس/ آذار الماضي ترجمته القدس العربي. تأخذ الحرب سباقًا سكانيًا بين الإثنيتين: العربية واليهودية.

بحسب هآرتس فإن عدد الإسرائيليين في المنطقة ج قفز من 311 ألف نسمة، عام 2010، إلى 490 ألفًا في العام 2023 بزيادة قدرها 58%. بينما قفز عدد الفلسطينيين من 77 ألفًا في العام 2010 إلى 354 ألفًا في العام 2023، بزيادة قدرها 504%. ترى هآرتس أن سبب التفوق الفلسطيني في تلك المعركة يعود إلى عزوف الإسرائيليين عن الهجرة إلى المنطقة ج، مقابل هجرة فلسطينية واسعة من المنطقتين: "أ" و"ب" إليها. عوضًا عن ذلك فإن عدد الإسرائيليين الذين يتركون المنطقة ج يفوق عدد الإسرائيليين الذين ينتقلون إليها. يرحل الفلسطينيون إلى المنطقة ج لخوض ذلك النوع النادر من الصراع برغم الحقيقة التي تقول؛ إن إسرائيل هدمت 8 آلاف منزل من منازلهم في الفترة بين 2010-2023.

تخلص هآرتس إلى استنتاج مؤلم يقول؛ "بدلًا من إدارة حرب مسيحانية خاسرة على قطعة أرض مأهولة بالفلسطينيين، وبدلًا من إهدار موارد الدولة في المشروع العقاري الأكثر فشلًا في تاريخها، علينا أن نغيّر الاتجاه".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ترجمات حريات الدولة الإسرائیلی الضفة الغربیة مساحة الضفة ا فی العام المنطقة ج مائة عام ة الدولة مشروع ا

إقرأ أيضاً:

ما علاقة إسرائيل بالأقليات في سوريا؟

في واحد من أقسى مشاهد الخزي الوطني والقومي، انتهكت الطائرات الإسرائيلية أمس سماء سوريا، وهذا امر ليس جديدا، لكن المفارقة الأشد حرجا أن حكومة الاحتلال زعمت أنها تدافع عن الدروز الطائفة السورية التي عرفت طوال تاريخها بأنها من أشد المدافعين عن عروبة سوريا واستقلالها.

إن ما جرى يعكس مفارقة قاسية في تاريخ سوريا الحديث. ولعل هذا يذكر بخزي قديم، ففي صيف عام 1982، اجتاحت القوات الإسرائيلية جنوب لبنان تحت غطاء عملية "سلامة الجليل"، لكن الهدف لم يكن فقط طرد منظمة التحرير الفلسطينية، بل التأسيس لتحالف استراتيجي مع الطائفة المارونية، بوصفها الحليف الأكثر قابلية للتموضع في "شرق أوسط جديد" قائم على كيانات طائفية متناثرة. وقد دعمت إسرائيل حينها صعود بشير الجميل إلى رئاسة الجمهورية، ونسّقت عسكريًا مع ميليشيات "القوات اللبنانية"، التي سرعان ما ارتكبت مجزرتي صبرا وشاتيلا تحت أنظار الجيش الإسرائيلي. لقد مثّلت تلك اللحظة الذروة العلنية لاستراتيجية إسرائيل الأمنية العميقة: تفتيت الكيانات العربية المركزية عبر بوابة الأقليات، وتحويل الطائفة إلى شريك سياسي وظيفي يخدم توازنات الهيمنة.

ورغم أن المشروع الماروني-الإسرائيلي انهار سريعًا تحت ثقل المقاومة والرفض الشعبي، إلا أن أثره ظل حاضرًا في الذاكرة الإسرائيلية كدرس استراتيجي، يُستدعى كلما احتدمت الفوضى في بلد عربي متعدد الطوائف.

إعلان

وهكذا، تعود هذه الرؤية اليوم – في خضم الحالة السورية – بثوب مختلف، لتعيد إنتاج السؤال: ما علاقة إسرائيل بالأقليات في سوريا؟ وهل نحن أمام إعادة تدوير لتحالف الأقليات على نمط لبناني قديم، ولكن بأدوات سورية جديدة؟

"تحالف الأقليات".. الفرضية الأمنية لإسرائيل

منذ بداية الثورة السورية في عام 2011، لم تُخفِ إسرائيل اهتمامها المتزايد بمآلات الصراع السوري، خاصة فيما يتعلق بوضع الأقليات الدينية والإثنية داخل البلاد. ومع تصاعد الفوضى، وانهيار مركزية الدولة، وانكفاء النظام السابق إلى جيوب طائفية ضيقة، بدأت تتبلور استراتيجية إسرائيلية أكثر جرأة تجاه الداخل السوري، عُرفت إعلاميًا واستخباراتيًا باسم "تحالف الأقليات". هذه الاستراتيجية، وإن كانت غير معلنة رسميًا، إلا أنها باتت تتجلى في سلسلة من المبادرات الميدانية، السياسية والإنسانية التي اتخذتها تل أبيب حيال المكونات الأقلوية في سوريا.

منذ بداية الثورة السورية، لم تُخفِ إسرائيل اهتمامها المتزايد بمآلات الصراع السوري، خاصة فيما يتعلق بوضع الأقليات داخل البلاد (الفرنسية)

تروج الاستراتيجية الإسرائيلية مجموعة من المقولات أبرزها أن الأقليات في المشرق العربي (الدروز، العلويون، المسيحيون، الأكراد، والإسماعيليون) تعيش في ظل قلق وجودي مستمر، خاصة في ظل ما تعتبره تل أبيب "تهديد الأغلبية السنية ذات التوجهات الإسلامية". ومن هنا، ترى إسرائيل في هذه الأقليات شركاء محتملين، أو على الأقل أطرافًا قابلة للاستثمار في الصراع طويل الأمد الذي يدور في جوارها. لكن العلاقة ليست متساوية، ولا تُبنى على أسس تحالف صريح، بل غالبًا ما تُدار عبر رسائل غير مباشرة، دعم إنساني انتقائي، وتنسيق لوجستي محدود في مناطق النفوذ. كما أن هذه الطوائف جزء أصيل من مكونات الشعب السوري تاريخيا. فيكف تسعى إسرائيل إلى خلخلة هذا النسيج؟

إعلان الدروز.. العلاقات الشائكة

يُعرف الدروز تاريخيا بأنهم حاملو لواء استقلال الدولة السورية من خلال رمزهم التاريخي سلطان باشا الأطرش الذي يوصف بأنه قائد الثورة السورية الكبرى التي قاتلت الاحتلال الفرنسي.

لكن الأزمة السورية الحالية تباعد بين بعض قياداتها وبين القيادة الجديدة التي تتولى السلطة منذ سقوط نظام الأسد، علاوة على انقسام الدروز أنفسهم بين تيارات وفئات تؤيد التقارب مع السلطة الجديدة بوصفها رمزا للدولة السورية وبين فئات أخرى تناوئ دمشق لاعتبارات فكرية وسياسية معقدة.

ولعل وجود جزء من الطائفة الدرزية المنضوية تحت سلطة إسرائيل في الأراضي المحتلة، يخلق نوعا شائكا من العلاقة بين الدروز وإسرائيل من جهة، وبين الدروز والدولة السورية من جهة أخرى.

ولعل واحدة من أكبر الإشكاليات أن إسرائيل، التي تضم داخلها أقلية درزية واسعة ومندمجة في مؤسسات دولة الاحتلال، تنظر إلى دروز جبل العرب (السويداء) والدروز المنتشرين في جنوب سوريا كامتداد مجتمعي وثقافي. وقد شهد العام 2025 تدخلًا إسرائيليًا غير مسبوق حين شنت غارة جوية في محيط صحنايا قرب دمشق، معلنةً أنها استهدفت مجموعة متطرفة كانت تخطط لمهاجمة مواقع درزية. سبق هذه الضربة إرسال مساعدات إنسانية إلى السويداء شملت 10 آلاف طرد غذائي، في خطوة وُصفت بأنها رسالة مزدوجة: دعم وحماية.

ورغم أن بعض الزعامات الدرزية السورية أعربت عن قلقها من هذا التقارب العلني، خشية أن يُنظر إليهم كعملاء، فإن إسرائيل لا تزال تستثمر في خطاب "الحماية"، وتروّج لنفسها كضامن لوجود الدروز في منطقة تشهد تمدد الجماعات السلفي، حسب الزعم الإسرائيلي.

يُعرف الدروز تاريخيا بأنهم حاملو لواء استقلال الدولة السورية (الفرنسية)

هناك حرج تاريخي يعاني منه الدروز في المنطقة العربية، فزعيم الدروز في إسرائيل موفق طريق يروج سردية نتنياهو، وطائفته نفسها هناك ترتبط مع الإسرائيليين بحلف تاريخي يسمى "حلف الدم". وفيما كانت إسرائيل أمس تقصف أحياء في دمشق، كان طريف يتفاخر أن ثمة تغييرا كبيرا سيحدث في المنطقة.

إعلان العلويون.. من النظام إلى القلق

الطائفة العلوية، التي ارتبطت بمجملها لعقود بالنظام البعثي وبالعائلة الأسدية، وجدت نفسها في موقع هش بعد سقوط النظام. وتشير تقارير إسرائيلية إلى تلقيها رسائل غير رسمية من بعض أبناء الطائفة يطلبون فيها "الدعم أو الحماية". ورغم غياب أي تنسيق علني، فإن مصادر استخباراتية إسرائيلية تتحدث عن استعداد لتقديم مساعدات "غير مباشرة"، تشمل الدعم الإنساني أو المعلوماتي، في حال اندلاع تهديد واسع قد يؤدي إلى إبادة الطائفة في الساحل السوري.

قطعا لا توجد معلومات مؤكدة عن تنسيق رسمي وواسع النطاق بين العلويين وإسرائيل، وتشير مواقع وصحف إلى وجود اتصالات ومناشدات من بعض الأفراد أو المجموعات العلوية تنشد الدعم والحماية.  لكن تظل هذه الاتصالات محدودة وغير معلنة رسميًا، وتعكس تعقيدات المشهد السوري الحالي وتعدد الأطراف الفاعلة فيه.​

وفي الأشهر الأخيرة، ظهرت مناشدات من بعض أفراد الطائفة العلوية تدعو إسرائيل إلى التدخل لحمايتهم مما وصفوه بالاضطهاد والتهديدات التي يتعرضون لها. على سبيل المثال، نشرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية تقارير عن رسائل استغاثة من علويين يطلبون فيها المساعدة من إسرائيل. كما تداولت وسائل التواصل الاجتماعي مناشدات مماثلة تطالب بحماية دولية للعلويين في الساحل السوري.

ويظهر أفراد يصفون أنفسهم بأنهم علويون من الساحل ويدخلون في نقاشات علنية مع رموز إعلامية إسرائيلية في مساحات منصة إكس والتواصل الاجتماعي ويخوضون نقاشات مطولة تدعو إلى تدخل إسرائيلي فوري لحماية العلويين، لكن ذلك لا يقاس عليه ولا يعد أمرا رسميا يعبر عن عموم العلويين.

ووفقًا لتقارير إعلامية، هناك اقتراحات داخل الأوساط الإسرائيلية لدعم العلويين بشكل سري، بهدف تمكينهم من الدفاع عن مناطقهم واستنزاف خصوم مشتركين، مثل "الجماعات الإسلامية المتطرفة".  وتؤكد هذه التقارير على أهمية السرية في أي تنسيق محتمل، لتجنب ردود فعل سلبية من الأطراف الأخرى في المنطقة.

مشهد عام لمدينة اللاذقية في الساحل السوري (الجزيرة) المسيحيون.. الحياد المضطرب

​ لا توجد مؤشرات على وجود علاقات أو تنسيق مباشر بين المسيحيين في سوريا وإسرائيل. وخلال السنوات الماضية، حافظ المسيحيون على موقف محايد نسبيًا، مع ميل إلى دعم النظام السابق بقيادة بشار الأسد، الذي قدم نفسه كحامٍ للأقليات. وبعد سقوط نظام الأسد وتولي هيئة تحرير الشام مقاليد السلطة بقيادة أحمد الشرع، أبدى المسيحيون مخاوفهم من النظام الجديد، رغم تطمينات القادة الجدد بحماية الأقليات. وتشير تقارير إلى أن بعض المسيحيين في حلب شعروا بالخوف في الأيام الأولى بعد استيلاء هيئة تحرير الشام، لكنهم لاحقًا أفادوا بأنهم لا يشعرون بقلق كبير، وأن الكنائس تعمل بشكل طبيعة.

إعلان

ورغم أن إسرائيل تسعى إلى بناء علاقات مع الأقليات في سوريا، بما في ذلك المسيحيين، إلا أن المسيحيين السوريين لم يُظهروا اهتمامًا علنيًا بالتعاون مع إسرائيل.

الطائفة المسيحية في سوريا، والتي تضم تقليديًا الأرثوذكس والكاثوليك والآشوريين والسريان، فضلت غالبًا النأي بنفسها عن كل الاستقطابات.  ولا توجد علاقات رسمية أو تنسيق معلن بين المسيحيين في سوريا وإسرائيل. ورغم محاولات إسرائيل لاستمالة الأقليات ضمن استراتيجيتها الإقليمية، يبدو أن المسيحيين السوريين يفضلون الحفاظ على موقف داخل الدولة السورية، مع التركيز على حماية وجودهم الثقافي والديني في ظل التغيرات السياسية والأمنية المتسارعة في البلاد.​

أما إسرائيل، من جهتها، فإنها تحاول توظيف خطاب حماية المسيحيين إقليميًا، خاصة في المحافل الغربية، لكنها لا تجد فيهم شريكًا مباشرًا. وتُبدي تل أبيب اهتمامًا ضمنيًا بالمسيحيين في سوريا، بوصفهم جزءًا من تراث الشرق، وكمجموعة يمكن استخدامها دبلوماسيًا للضغط على الغرب بشأن الاضطهاد الديني، لكنها لم تتجاوز حدود الخطاب الرمزي والدبلوماسية الإعلامية، دون الدخول في علاقة وظيفية كما تفعل مع الدروز أو كما تدرس مع العلويين.

الإسماعيليون: الحضور الرمزي

الطائفة الإسماعيلية، المتمركزة في مدينة السلمية وبعض نواحي حماة، عُرفت باعتدالها الفكري. واتسمت الطائفة تاريخيًا بموقفها المعارض للنظام السوري، حيث شارك العديد من أبنائها في الاحتجاجات السلمية التي اندلعت في عام 2011.  ومع ذلك، تعرضت الطائفة لضغوط من مختلف الأطراف، بما في ذلك النظام السوري والجماعات المسلحة، مما أدى إلى انقسام داخل الطائفة بين مؤيدين ومعارضين للنظام.​

مدينة السلمية بريف حماة (الجزيرة)

مؤخراً، قام زعيمها الروحي الأمير كريم آغا خان بتقديم دعم مالي للحكومة السورية الجديدة، في خطوة فُسرت كمحاولة لضمان حماية الطائفة، وليس تعبيرًا عن اصطفاف سياسي. ولم يُسجل أي مؤشرات على تقارب أو تواصل مع إسرائيل، ما يجعل الإسماعيليين خارج دائرة "التحالف الوظيفي" الذي تحاول تل أبيب بناؤه في سوريا.

ورغم محاولات إسرائيل للتقرب من الأقليات في سوريا ضمن استراتيجيتها الإقليمية، إلا أن الطائفة الإسماعيلية لم تُظهر أي اهتمام بالتعاون مع إسرائيل. ويظهر أن الطائفة الإسماعيلية تفضل الحفاظ على موقف تحت مظلة الدولة السورية، مع التركيز على حماية وجودها الثقافي والديني في ظل التغيرات السياسية والأمنية المتسارعة في البلاد.​

إسرائيل والأكراد.. استراتيجية التفكيك الإقليمي

منذ ستينيات القرن الماضي، سعت إسرائيل إلى بناء علاقات سرية مع القوى الكردية، خاصة في شمال العراق بقيادة مصطفى البرزاني، وذلك في إطار هدفها الاستراتيجي بإضعاف الدول العربية المركزية. ودعمت تل أبيب الأكراد عسكريًا ولوجستيًا، عبر وساطة إيرانية آنذاك، بهدف استنزاف العراق ومنعه من التحول إلى قوة إقليمية تهدد أمنها. هذه العلاقة لم تكن قائمة على دعم "حق تقرير المصير" بمفهومه التحرري، بل على توظيف الأقليات القومية في خدمة مشروع إسرائيل الأمني، الذي يقوم على تفتيت الدول المحيطة إلى وحدات إثنية قابلة للضبط.

إعلان

ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، رأت إسرائيل في تمدد القوى الكردية المسلحة مثل وحدات حماية الشعب فرصة نادرة لإضعاف سوريا وإزاحة مركزيتها، وربما دعم قيام كيان كردي مستقل بحكم الأمر الواقع. وبالرغم من أن الدعم العلني للأكراد جاء من الولايات المتحدة، فإن إسرائيل رأت فيهم حليفًا "وظيفيًا" في وجه خصومها الإقليميين، دون أن تترجم ذلك إلى اعتراف دبلوماسي أو سياسي. فالأكراد في نظرها "شريك دون دولة"، يمكن الاستفادة منه ما دام يتقاطع مع أهدافها، والتخلي عنه عند تبدّل الظروف. وهكذا، تشكل العلاقة بين الطرفين نموذجًا حيًا لتحالف الأقليات، حيث تُمنح الهوية مقابل الوظيفة، وتُقدّم الحماية مقابل الاستثمار في الفوضى.

تدعم إسرائيل الأكراد كـ"وظيفة استراتيجية"، لا كمبدأ سياسي. فكلما تصادمت مصالحهم مع خصوم إسرائيل، يصبح الأكراد ورقة دعم. وإذا تغيّر السياق، يمكن غضّ الطرف عنهم.

محددات الأمن القومي الإسرائيلي.. الطائفة والتجزئة شرط البقاء

إن فهم الديناميكيات المعقدة داخل سوريا يتطلب إلقاء نظرة معمقة على الأسس النظرية التي توجه تفكير إسرائيل. إذ أن فهم العقل النظري الإسرائيلي شرط أساس لفهم السلوك العدواني والانتهاكات المستمرة التي تقوم بها إسرائيل بحق الدولة السورية.

يستند الأمن القومي الإسرائيلي، منذ تأسيس الدولة، إلى مبدأ جوهري يتمثل في تفتيت المحيط العربي إلى كيانات طائفية وإثنية أصغر من إسرائيل ديموغرافيًا وجغرافيًا، لضمان تفوقها الاستراتيجي والسيطرة على المجال الإقليمي. هذا المبدأ، الذي تكرس بوضوح في "استراتيجية يينون" في ثمانينيات القرن الماضي، يفترض أن استقرار إسرائيل لا يتحقق في ظل دول قومية قوية، بل في بيئة مفككة تتنازعها هويات دينية وعرقية، يسهل التحكم بها عبر الدعم أو الإخضاع أو التحييد. ومن هنا، تنظر إسرائيل إلى الأقليات لا كمجرد مكونات اجتماعية، بل كوكلاء محتملين في معركة الهيمنة على الجوار العربي.

إعلان

ويمكن القول إن إسرائيل ومنذ تأسيسها عام 1948 قد بنت استراتيجيتها الأمنية على جملة من المحددات النظرية والعملية التي لا تتعامل مع الأمن فقط بوصفه مسألة دفاعية، بل بوصفه مشروعًا بنيويًا لتشكيل المجال الجيوسياسي المحيط بها على نحو يخدم وجودها كدولة يهودية في قلب منطقة عربية وإسلامية معادية بطبيعتها التاريخية والثقافية.

وقد تمحورت إحدى هذه المحددات الجوهرية حول ضرورة تفتيت المجتمعات المحيطة إلى كيانات إثنية وطائفية صغيرة، بما يجعل إسرائيل، رغم كونها "دولة أقليّة يهودية"، تبدو "منسجمة" مع محيطٍ ممزّق عرقيًا ودينيًا، ويُسهل عليها إدارة التهديدات واحتواء الطموحات القومية العربية أو الإسلامية.

نتنياهو قال في خطاب رسمي إنه لن يسمح بإقامة خلافة إسلامية (الفرنسية) تفكيك الدولة العربية

يتجلى هذا المنظور بوضوح في الورقة التي نشرها الصحفي الإسرائيلي عوديد يينون عام 1982 بعنوان: "استراتيجية إسرائيل في الثمانينيات"، وهي وثيقة شهيرة ترسم خريطة طريق لمستقبل الشرق الأوسط من وجهة نظر الأمن القومي الإسرائيلي.
وترى هذه الوثيقة أن بقاء إسرائيل مرهون بتحول العالم العربي من دول قومية قوية إلى كيانات طائفية متصارعة، على غرار ما حدث في لبنان، باعتباره نموذجًا قابلًا للتكرار في العراق، وسوريا، ومصر، والسودان.

يقول يينون: "يجب على إسرائيل أن تُعيد رسم الخريطة السياسية للعالم العربي من خلال تفكيك كياناته إلى طوائف دينية ومجموعات إثنية، لأنه لا يمكن التعايش مع دول عربية قوية ومتماسكة".

هذه الرؤية لم تكن معزولة أو هامشية، بل تجد أصداءها في وثائق رسمية وتقارير لمراكز الأبحاث الإسرائيلية الكبرى مثل مركز بيغن-السادات للدراسات الاستراتيجية، ومعهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي INSS.

دولة الطائفة مقابل الطوائف

بما أن إسرائيل تأسست على أساس ديني وإثني (دولة يهودية للشعب اليهودي)، فهي تجد في الدولة الوطنية العربية الحديثة القائمة على الانتماء القومي والهوية الجامعة تهديدًا وجوديًا. ولذلك، فإن خلق محيط مماثل لها، أي ممزّق إلى "هويات فرعية" (دروز، سنة، علويون، أكراد، شيعة، مسيحيون، إسماعيليون…)، يسمح لإسرائيل ألا تبدو استثناءً، بل نموذجًا آخر من "دولة الطائفة"، وسط طوائف متجاورة.

إعلان

وقد سعت إسرائيل، في تطبيق هذا التصور، إلى بناء تحالفات مع الأقليات التي تشعر بالتهديد من محيطها السني، مثلما فعلت مع الميليشيات المارونية في لبنان، ومع الأكراد في العراق، والدروز أيضا. هذه التحالفات لم تكن مبنية على روابط قيمية، بل على وظيفة الأقليات كرافعة لإضعاف الدولة المركزية وتفكيك المجتمعات من داخلها.

لقد شكّل التحالف مع الموارنة في الثمانينيات النموذج التطبيقي الأول، بينما برز التنسيق مع الأكراد في العراق بعد عام 2003، ومع فصائل درزية محلية في جنوب سوريا خلال العقد الأخير، كاستراتيجيات متكاملة تصب في مشروع الإضعاف البنيوي للجوار.

ويرى معظم المنظّرين الإسرائيليين أن التهديد الوجودي لا يتمثل فقط في الجيوش، بل في إمكانية وجود "دولة قومية عربية قوية ومتماسكة وديمقراطية". فمثل هذه الدولة، حتى لو لم تكن معادية، تُفكك من الداخل السردية الصهيونية التي تبرر "خصوصية" إسرائيل، وتشكل منافسًا أخلاقيًا وسياسيًا لها أمام المجتمع الدولي.

المنظّرون الإسرائيليون يرون أن التهديد الوجودي لا يتمثل فقط في الجيوش، بل في إمكانية وجود دولة عربية قوية ومتماسكة وديمقراطية (رويترز)

ولذلك، فإن تفكيك العراق إلى شيعة وسنة وأكراد، وتفكيك سوريا إلى علويين ودروز وسنة، وإضعاف مصر عبر حصارها بالملفات الإقليمية، كلها تدخل في تعريف موسّع للأمن القومي الإسرائيلي.

الهدف النهائي ليس فقط تفكيك الدول، بل خلق بيئة شرق أوسطية يسهل ضبطها. إسرائيل لا تطمح إلى احتلال مباشر، بل إلى محيط يمكنها فيه أن تلعب دور "الضامن الأمني"، أو "العرّاب الطائفي" الذي يوازن بين الفرقاء، ويضرب هذا الطرف أو يرضي ذاك وفقًا لمصالحها.

وفي هذا السياق، يصبح وجود دويلات أو كيانات صغيرة مثل دولة علوية، أو منطقة كردية، أو حكم ذاتي درزي، أكثر ملاءمة من سوريا موحدة، أو عراق مركزي.

إعلان

إن استراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي، كما تتجلى في كتابات المنظّرين والسياسيين والواقع العملي، تقوم على تفكيك المحيط العربي إلى وحدات إثنية وطائفية أصغر منها، بهدف التخلص من الكيانات الكبيرة التي قد تشكل خطرًا سياسيًا أو ثقافيًا أو ديمغرافيًا.
فكلما صغرت الجغرافيا، وكلما تشظّت الهويات، ازدادت قدرة إسرائيل على البقاء بوصفها "الدولة اليهودية الوحيدة"، منسجمة مع محيط طائفي لا يُحرجها سياسيًا، ولا ينافسها استراتيجيًا.

ما بعد التحالف.. ما بعد الدولة

لا تبني إسرائيل علاقاتها مع الأقليات السورية على أسس دبلوماسية أو اعتراف متبادل، بل على معادلات أمنية عابرة، تُستخدم بحسب الحاجة. وهي لا ترى في هذه المجموعات "أقليات" فقط، بل أدوات توازن، وصمامات أمان محتملة في صراع طويل على شكل الدولة والسلطة في سوريا. لكن الرهان على الطائفة قد يكون خادعًا: فالأقليات ليست حلفاء طبيعيين ولا أدوات وظيفية، بل مجتمعات ذات إرادة وتاريخ، يمكنها أن تقاوم أو أن تنسحب، وقد تقلب الطاولة حين يُظن أنها مجرّد تفصيل.

مقالات مشابهة

  • ما علاقة إسرائيل بالأقليات في سوريا؟
  • المنارات التي شيدها أول مايو: النقابة وإنسانيتنا الإسلاموعروبية
  • إسرائيل التي تحترف إشعال الحرائق عاجزة عن إطفاء حرائقها
  • الجيش الإسرائيلي: إجلاء 3 مواطنين سوريين دروز لتلقي العلاج الطبي داخل إسرائيل بعد إصابتهم في سوريا
  • بري: العدوان الإسرائيلي يهدد تعافي الدولة واستقرارها
  • سلام: الانسحاب الإسرائيلي هو المدخل الفعلي لتعزيز سلطة الدولة وتقويتها
  • شروط الاحتلال الإسرائيلي التي أدت لإلغاء مسيرة العودة
  • رئيس الدولة يستقبل الداعمين والشركاء في مبادرة “صندوق البدايات” التي أطلقتها مؤسسة محمد بن زايد للأثر الإنساني
  • رئيس الدولة يستقبل الداعمين والشركاء في مبادرة «صندوق البدايات» التي أطلقتها مؤسسة محمد بن زايد للأثر الإنساني
  • فايننشال تايمز: هكذا تستطيع أوكرانيا أن تفكك التحالف الغربي