الدرس المستفاد لكل المسلمين من جهاد الجزائر إلى فلسطين (1)
تاريخ النشر: 26th, April 2024 GMT
إذا كان الزمان غير الزمان فالإنسان هو الإنسان وفريضة الدفاع عن النفس والأرض والعرض لا تسقط عنه إلى يوم الدين. وسنة التدافع بين الناس والحضارات والقيم تجعل دوام الحال من المحال ولو دامت للأولين لما دانت للآخرين!؟ وأن الكيل بمكيالين في حقوق الإنسان من القائمين على مجلس الأمن المخيف هو سبب كل الخلل في المعايير والموازين وهذا الدمار المبين.
وفي تاريخ الحروب والثورات التحريرية العظمى دروس للمعتبرين وأن الذكرى قد تنفع حتى البغاة والعصاة والطغاة فضلا عن المؤمنين!!
وبمناسبة إحياء الجزائر للذكرى التاسعة والستين لثورة القرن العشرين بدون منازع في الفاتح من تشرين الثاني (نوفمبر 1954) وربطا بما تصادفه إحياء هذه الذكرى من أحداث جسام جارية في الساحة والساعة الدولية عرفنا إرهاصات بدايتها ولا نعرف نهايتها بعد.. نود أن نذكر المعتبرين بدروس التاريخ الحي الذي عشناه في هذه الثورة لحما ودما وجهادا و"استشهادا" لما يزيد عن السبع سنين مماثلة لما يراه العالم على المباشر يوميا من أهوال الحرب غير المتكافئة بين الحق والباطل في معركة الأحزاب الثانية في فلسطين الحالية والتاريخ بيننا يبقى دائما الشاهد الأمين على المحسنين والمسيئين والظلمة والمجرمين وأصحاب الحق المغتصب الذي لا يسترجع إلا غلابا وافتكاكا باليمين وتلك هي سنة الله في الأولين والآخرين.
تأتي ذكرى هذا العام مشحونة بكثير من الآلام المبرحة والآمال العريضة في الوقت ذاته وهي تصادف قمة الثورة الجهادية الوريثة الشرعية لها في معركة الأقصى بشقيقتها الصغرى فلسطين.
لقد عايشت تلك الثورة الجهادية كابن شهيد ومجاهد في صفوف جيش تحريرها حتى توقيف القتال وتقرير المصير والاستقلال وكنت شاهدا على كثير من مجرياتها المفرحة والمقرحة بورودها وأشواكها؛ بأفراحها بانتصاراتها وأقراحها بالإحباطات والتقلبات والخيانات التي اعترضت مسيرتها الطولية إلى النصر المبين!
ومن مميزاتها أن يوم انتصارها وتحقيق الاستقلال سنة 1962 كان هو يوم ذكرى الغزو والاحتلال سنة 1830 مما يعني أن كل استقلال قد يحمل بذور احتلال كما أن كل احتلال يحمل بذور استقلال إذا بقي عزم الرجال كما كان واقع الحال.
وإدراكا مني بما للثورة الجزائية من أوجه شبه وتطابق أحيانإ مع ما يجري في فلسطين هذه الأيام، إلى درجة التوأمة (السيام) بين الثورتين وخاصة من جهة نوعية الاستيطان وفصيلة المستوطنين أنفسهم خلفا عن سلف.. والدليل على ذلك هي آلاف القوافل من شهداء المغرب العربي الكبير المدفونين في القدس الشريف على مر التاريخ الإسلامي للأمة عندما كانت أمة حرة حتى تحت الاحتلال الأجنبي الخارجي (الأرحم مع الأسف من الاستحلال الداخلي الراهن!!!!)، حيث ذهب أكثر من 4000 مجاهد سنة 1948 ودخلوا من أرض الكنانة سابقا لنجدة الأشقاء في الأرض المباركة التي لم تتغير في وجدان كل مسلم من المحكومين لاحقا في أمة المليارين من أصحاب العين البصيرة واليد القصيرة على امتداد سماع الآذان وتلاوة القرآن من جاكارتا إلى داكار ونواكشوط والرباط وتطوان مرورا بقسنطينة ووهران!؟!
وإني لهذا السبب وغيره أعيد نشر بعض فصول كتابي (جهاد الجزائر: حقائق التاريخ ومغالطات الجغرافيا)، هنا في صحيفة "عربي21"، وهو صورة حية عن جوانب مشرقة من ثورة القرن العشرين التي جسدت أمجاد الحرية والكرامة، تماما كما هو حال غزة وفلسطين هذه الأيام.. لما بين الثورتين من تطابق وتشابه كما قلنا وعشنا في الثورة الاولى مقارنة بما نراه على المباشر في الثورة الفلسطينية العظيمة الثانية التي اختصرت أمة المليارين (من غثاء السيل) في المليونين من أبناء الشعب الفلسطيني في غزة والقدس وجنين.
وإنني أدرك تمام الإدراك الصلة الوثيقة بينهما في حجم التضحيات ومعارك التحرير التي يخوضها الأشقاء الفلسطينيون هناك (كما كان أشقاؤهم هنا لأكثر من سبع سنين دون انقطاع.) في مواجهة أعتى احتلال وأشده شراسة، لا سيما وأنه احتلال يلتف حوله قادة العالم الغربي الاستعماري كله ويدعمونه انتقاما من عدوهم اللدود على هزائمهم السابقة وإحياء لخلافات وأحقاد تاريخية دفينة..
كنا نعتقد، وأن بعض الظن ليس إثما، أن ثورات الحرية والكرامة والسيادة والاستقلال التي عرفتها مختلف أنحاء المعمورة قد تجاوزتها الوحوش البشرية المسلحة بالنووي والحقد الأعمى في معاداة حقوق الإنسان الفلسطيني خارج حقوق الإنسان التي يحميها حق الفيتو الظالم أمام كل أنظار العالم الأعور الأصم الواجم.
إن الإسلام والاستعمار ضدان لا يلتقيان في مبدأ ولا في غاية، فالإسلام دين الحرية والتحرير، والاستعمار دين العبودية والاستعباد، والإسلام شرع الرحمة والرفق، وأمر بالعدل والإحسان، والاستعمار قِوامه على الشدة والقسوة والطغيان، والإسلام يدعو إلى السلام والاستقرار، والاستعمار يدعو إلى الحرب والتقتيل والتدمير والاضطراب، والإسلام يثبت الأديان السماوية ويحميها ويقرّ ما فيها من خير ويحترم أنبياءها وكتبها، بل يجعل الإيمان بتلك الكتب وأولئك الرسل قاعدة من قواعده وأصلا من أصوله، والاستعمار يكفر بكل ذلك ويعمل على هدمه خصوصا الإسلام ونبيه وقرآنه ومعتنقيه.وهذا المكيال العجيب الغريب بين إنسانين لا يثير القلق فقط حول مصير البشرية في هذا العالم (وحيد القرن) وإنما يعيد السؤال أيضا وبالحاح عما إذا كان للمعارك الحضارية الكبرى التي سعت لتوحيد البشرية على أساس العدل والمساواة تتراجع إلى ما تحت الصفر كما نراها في مجازر المغول الجدد بالصوت والصورة في غزة العزة والإنسانية التي تحتضر في مستشفياتها المنكوبة كلها اليوم والمقطوعة عن الحياة أمام أعين دعاة حقوق الإنسان (الحجري) وليس الإنسان البشري المتحضر المتعلم والمتقدم!!
وما يفيد في هذه الصفحات من ثورة الجزائر (فلسطين الأولى) الأشقاء في الجزائر الثانية ( فلسطين الحالية)، سأسرده ليس من باب تقديم الدروس، وإنما من باب قراءة التاريخ والاتعاظ به وأخذ العبرة منه..
الدكتور أحمد بن نعمان بعد شهر ونصف من الاستقلال (اغسطس 1962).
مراجعات مطلوبة
إذا كان من الطبيعي، بل ومن المطلوب أن تفتخر الأمم والشعوب بأمجادها الخالدة، وتحيي ذكراها السنوية والمائوية عبر الزمان والمكان، لنقل مفاخر الآباء والأجداد، لأعيان الأولاد والأحفاد ووصل خلفهم العتيد بسلفهم المجيد!
فإنه لا ينبغي أن يكتفى المخلدون والمحتفلون في مثل تلك المناسبات السنوية والمئوية والأعياد الوطنية المجيدة السعيدة بتنظيف الشوارع وإنارة الطرقات، وزركشة الميادين بأشكال وألوان من الأعلام واللافتات... لتزول تلك المظاهر والمناظر بعد أيام، وتعود الشوارع إلى عتمتها، وتظل القلوب والعقول على غفلتها، بل الواجب على الأمة الخليقة بتلك الأمجاد والمآثر، أن تتخذ من مثل هذه الأعياد الوطنية عبرة للاقتداء، ومناسبة للتذكر والتدبر، فمن هنا كانت المراجعة في مثل هذه المناسبات والمحطات التقويمية أكثر من واجبة، لأن العامل متعرض دوما للخطأ، لكن الخطأ المضر والقاتل، هو الذي لا يصحح، ولا يتدارك قبل فوات الأوان. والضلال المضيع هو الذي لا يراجع صاحبه خط سيره على ضوء مبدأ المراجعة، وليس التراجع، لأن التراجع قد يعني أن البداية لم تكن صحيحة، أما المراجعة فتعني أن البداية سليمة ومبدئية، غير أن احتمال ما يمكن أن يتخلل الإنجاز من انحرافات استوجب ظهور مبدأ المراجعة، وهو المنهج القويم الذي يقرّه العقل السليم!
فمن هذه الحيثيات سيكون تقويمنا واستخلاصنا للدرس المستفاد من ثورة الجهاد منصبا على المراجعة وليس على التراجع، خاصة وأن حكامنا المتعاقبين يرفعون إلى الآن شعار الثورة المستمرة،ويحكموننا باسم الشرعية الثورية منذ نصف قرن أو يزيد، وإننا نؤكد بأن لنا بداية صحيحة كما هي مسطرة في البيان النوفمبري الخالد الذي حللنا أهم أهدافه ومعانيه في الفصل الأول نظريا، وأثبتناه في فصول الكتاب جهاديا وعمليا، وهو ما يجعلنا ملتزمين أكثر بمراجعة الحاضر المتطور في ضوء الماضي الذي نعتز بذكراه، ونحاول أن نعي مغزاه، ونصل عراه، لأن الزمان إذا كان غير الزمان، فالإنسان بجوهره الخلاق هو الإنسان.
وإذا كان لنا أن نقف عند أبرز وأهم ما يتعين علينا مراجعة حاضرنا فيه على ضوء ثورة الجهاد، فهو: ضرورة توفر الإيمـان بالمبدأ وتلازمه مع العمل في الواقع.
فالإيمان والعمل من التكامل في الحياة بحيث يكونان وجهين لعملة واحدة، وهما أشبه في ضرورة التلازم بالقطب السالب والقطب الموجب في الطاقة الكهربائية، حيث أن ملايين الأقطاب السالبة أو الموجبة (منعزلة بعضها عن بعض)، لا تحدث طاقة تذكر، بينما يحدثها التقاء قطبين اثنين فقط من الأقطاب السالبة والموجبة...
فكذلك بالضبط يكون الإيمان مع العمل، والقرار مع التطبيق إلا أننا نلاحظ في الواقع أنهما يذهبان ضحية تباين الإدراك، وضعفه أحيانا، أو فقدان الإرادة لدى الأفراد والجماعات، حيث يهتم بعضهم بالعمل وحده، وَيُعَدُّ الإيمان من الغيبيات، ويهتم البعض الآخر بالإيمان وحده، ويترك العمل للآلات والعضلات، ولا يهتم الفريق الثالث لا بهذا ولا بذاك. في حين أن العلم يثبت لنا أن الإيمان عملية وجدانية فكرية تحدث داخل العقل بفعل عوامل نفسية وفزيولوجية معينة... والعمل هو الشكل الخارجي لذلك الإيمان الباطني المتجسد في السلوك.
ولذلك كان الإيمان بدون عمل هو أشبه بنفط موجود في باطن أرض يطبخ أهلها بفضلات الحيوانات، وينيرون خيامهم بالشموع والفوانيس السحرية، أو الزيتية!!
وإذا كان العلم يثبت لنا العلاقة العضوية عند الأسوياء بين العقل والعضلات، فكذلك تكون العلاقة في حياة الأسوياء بين الإيمان والعمل، حيث أن العضلات مجرد آلة إنسانها هو العقل، باعتباره الآمر الناهي، والعقل السليم لا يستمد القدرة على إعطاء الأوامر، إلا بقدر ما يكون مقتنعا بفائدة العمل الذي يأمر به العضلات...
وانطلاقا من هذه البديهة المسَلَّمة، نأتي إلى التطبيق في حياتنا العملية الجماعية والفردية التي يهمنا أن تسير في توازن دقيق بين جميع عناصرها دون إفراط ولا تفريط...
ولعل أقوى دليل (نصي) لنا في ذلك هو الحديث النبوي الشريف القائل: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى..." حيث نستنتج بالضرورة أن الأساس في كل عمل هو النية التي تكون لدينا في أذهاننا (بقطع النظر عن نوعيتها أو مضمونها) والتي تكون الدافع للقيام بذلك العمل...
ولئن كانت النية أو الفكرة سابقة بالضرورة عن العمل الإرادي، أيا كان نوعه، فإن الإيمان (والمقصود هنا هو الاقتناع بالمبدإ أو الفكرة...) سابق بالضرورة على النية ذاتها، لأنه هو مولدها في النفوس، ومفجرها في العضلات..
إذا كان الإيمان روحي المحتوى فالعمل مادي المحتوى، ومن ثم يكون كلاهما ضروريا للآخر من أجل تكوين الفرد المتزن السوي وخلق المجتمع القوي، لأن الفرد (كما سبق تأكيده في الفصل الحادي عشر) هو مادة وروح، وعقل وعضلات، وفكر وعمل، ولذلك وجب التكامل والاعتدال ومراجعة خط السير إلى تحقيق المآل!فالإيمان هو الذي يولد النية لدى الشخص ليستشهد في سبيل الله والوطن، أو يموت من أجل الخير والحق والحرية، وهو الذي يدفع الفرد ليعمل بجد ومثابرة في المصنع والمزرعة، والمدرسة، والإدارة، ويشيد الحضارات، ويغزو الفضاء، والمحيطات، ويسبر أغوار الأرض، ويخترع الآلات لاكتشاف أعماق المحيطات...
ومن هنا يمكن القول بأن أي خلل يصيب سير الحياة المثلى لأي مجتمع، أو أمة، يعود في بعضه، أوكله، إلى عدم التوازن بين الإيمان والعمل، فإما أن يوجد إيمان ينقصه العمل، وهو جمود وركود وإجحاف لحق الجسد على الروح، وإما عمل (آلي- لا إرادي) مفروض على الأفراد لتلبية الضرورات الحيوية والجسدية للجانب الحيواني في الكائن الإنساني، وهو عمل ذو دافع أو طابع غريزي صرف أشبه بإنتاج الحيوانات السائمة أو الآلات الجامدة، التي تحتاج إلى إنسان يصونها ويصلحها عندما تتعطل!!
وأقصد بالإيمان هنا: الاقتناع بمبدأ أو فكرة، مستمدة من وحي سماوي، (أو حتى من عقيدة وضعية) كما أقصد بالعمل: الحركة الهادفة الملتزمة التي تدخل في نطاق المنظور الإسلامي للعمل (كقيمة) في الدنيا، كالعيش أبدا، ووسيلة للتزود إلى الآخرة كالموت غدا...
وكأني بالذين يكتفون بالإيمان دون تجسيده بالعمل لصالح للدنيا والآخرة... قد فهموا من الحديث القائل بأن الأعمال بالنيات... أنه يكفي أن ينوي المرء الاستقلال والتحرر...ليستقلَّ ويتحرَّر... أو ينوي بناء مسجد أو معمل أو مسكن، ليُصلّي ويعمل ويسكن، أو ينوي التعلم ليُصبح عالـمـا(!)
فهذا الفهم لسنة الحياة المثلى يخطئه الواقع المعيش لثورة الجهاد التي نحاول أن نراجع واقعنا على ضوء حقائقها الثابتة.. كما يخطىء واقعها ـ أيضا ـ من يفرغ الإنسان من بعده الخلاق، البعد الروحي، والطاقة المعنوية الجبارة.. وينتظر منه الاخلاص والتفاني في العمل من أجل تحقيق الاستقلال التام عن سيطرة الأعداء السابقين والحاليين المتربصين بنا للانقضاض علينا في أية لحظة من الضعف أو الغفلة. والتاريخ يذكرنا دوما بأنه لا يوجد استقلال دائم ولا احتلال دائم، وإنما يوجد جهاد قائم وموقف صارم ضد عدو متربص غير نادم وغير واهم!!.
فمن واقع ثورة الجهاد ـ إذا ـ نقول بأنه لا الأول يجعل من إيمانه واقعا ملموسا دون جهاد باليد قبل اللسان والنيات الطيبة، ولا الثاني يضمن لأعماله (الآلية واللاإرادية) مقومات الاستمرارية والفعالية والنجاح، لأن العمل بدون دافع إيماني هو سلوك حيواني لا يتعدى إشباع الحاجات الحيوانية للإنسان، في حين أن الإنسان كما نعتقد هو جسد وروح، وعقل وعضلات وقوام حياته المثلى هو الإيمان (غذاء الروح) والعمل (قوام الجسد). وهذا هو ديدن الحياة الآدمية السوية والمتوازنة إلى الأبد (كما سبق التطرق إلى ذلك في الفصل الحادي عشر)!
صورة للدكتور احمد بن عمان (على اليمين) مع مجاهدين اثنين
في غمرة الفرحة بتوقيف القتال (يوم 19 مارس سنة 1962).
وما دمنا نتحدث عن تلازم الإيمان مع العمل والقرار مع التطبيق في ثورة الجهاد، فلا نجد بدا من الوفاء بحق القارئ علينا في الاستشهاد ببعض النماذج المعيشية في تلك الليالي المضيئة بنور الجهاد والمجاهدين!.
ولعل أبرز ما يفرض نفسه على الذاكرة بقوة، هو ذلك التكامل والتلازم بين الإيمان والعمل، الذي يصعب على أبرع الكتاب قلما أن يصفه لأبناء اليوم، كما يعسر على أخصب أبناء هذا الجيل خيالا أن يتصور حقيقة ذلك الواقع المثالي.
فهل يمكن لشخص اليوم أن يصدق بسهولة أن مجاهدا (وعددهم بالعشرات والمئات) يتطوع لتنفيذ حكم الإعدام في أقرب وأعز الناس إليه كما أسلفنا، ونعتقد أن من يتأكد من هذا الجيل بأن ذلك الإجراء كان يحصل بكيفية اعتيادية على طول مراحل ثورة الجهاد... لا يتردد في أن يصف هؤلاء المجاهدين بأنهم قساة، أو غير أسوياء عقليا!
والحقيقة أنهم كانوا قمة في الاعتدال والتقوى والشفقة والتواضع أمام ما آمنوا به، واعتقدوا أنه الحق! وليس إلا ذلك الإيمان الراسخ في نفوسهم والملموس في سلوكهم هو الذي جعلهم يحكمون العقل والمبدأ، قبل العواطف الذاتية والمصالح الآنية!
وصورة أخرى للإيمان والعمل، هي تلك المتمثلة فيما يشبه الانتحار في يومنا الحاضر، وهو اقتحام المجاهدين العزل لوطيس المعارك، والقلاع المحصنة... من أجل الحصول على قطعة سلاح أو نيل الشهادة. وكم كانت رائعة ودالة تلك التسمية التي كان يتندر بها المجاهدون الذين يمتلكون قطع السلاح، من زملائهم (المسبلين) الذين كانوا يجابهون نيران الطائرات والمدافع بأيديهم البيضاء العزلاء، إذ يسمونهم (أصحاب الإيمان) ويبقى المجاهد من هؤلاء (العزل) مصنفا في عداد أصحاب الإيمان... إلى أن يفتك قطعة سلاح في المعارك التي يخوضها الزملاء المسلحون، أو يستشهد دونها... وكم من نفس راضية رجعت إلى ربها في مثل هذه الأعمال الجهادية الرائعة والفدائية النادرة!
كأني بالذين يكتفون بالإيمان دون تجسيده بالعمل لصالح للدنيا والآخرة.. قد فهموا من الحديث القائل بأن الأعمال بالنيات.. أنه يكفي أن ينوي المرء الاستقلال والتحرر.. ليستقلَّ ويتحرَّر.. أو ينوي بناء مسجد أو معمل أو مسكن، ليُصلّي ويعمل ويسكن، أو ينوي التعلم ليُصبح عالـمـا(!)وعندما أتأمل اليوم تلك التسمية التي كان يطلقها الزملاء بكيفية عفوية على من لا سلاح له (إلا الإيمان) أجد أن لها دلالة أعمق من الفهم السطحي الفكاهي الذي كنا نفهمه في ذلك الوقت، وقد عشت أنا شخصيا هذه التجربة عندما فررت من قبضة الموت في المعتقل سنة 1959، ولم أكن أملك من سلاح سوى الإيمان بالله الذي لا يخلف وعده في نصر عباده المؤمنين، الذين كنت أعتقد أنني منهم، وهو أعلم بخفايا الشعور وأصدق النيات في الصدور(...) وأولى الحقائق المستنتجة من ذلك الواقع المعيش جسدا وروحا في ثورة الجهاد، هو أن الإيمان القوي المقرون بالعمل، هو الذي يخلق السلاح المادي، وليس المادة هي التي تخلق الإيمان، لأن الإيمان شيء معنوي شعوري مرتبط بالجانب الروحي في الإنسان، والمادة مسألة مرتبطة بالجانب المادي في الإنسان، والروح هي التي تحرك المادة الجسدية، وليس المادة الجسدية هي التي تحرك الروح، بدليل أن الإنسان عندما يفارق الحياة (نتيجة سكتة قلبية مثلا) لا ينقص جسده شيء إلا طاقة الروح المحركة الخفية ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾[سورة الإسراء:85] بينما قد يفقد الجسد العديد من أعضائه وأجزائه، ولا يفقد الحياة، لأن الروح لم تفارقه، وإذا فارقته الروح توقف كل شيء، فالإيمان إذن هو المحرك الأول، والعمل عنصر ضروري مكمل لهذه الحركة. وإذا كان الإيمان روحي المحتوى فالعمل مادي المحتوى، ومن ثم يكون كلاهما ضروريا للآخر من أجل تكوين الفرد المتزن السوي وخلق المجتمع القوي، لأن الفرد (كما سبق تأكيده في الفصل الحادي عشر) هو مادة وروح، وعقل وعضلات، وفكر وعمل، ولذلك وجب التكامل والاعتدال ومراجعة خط السير إلى تحقيق المآل!
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير دروس الجزائر الاستعماري فرنسا الجزائر استعمار دروس أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة حقوق الإنسان فی الفصل الذی لا هو الذی إذا کان من أجل
إقرأ أيضاً:
جدل حقوقي بشأن عقوبة الإعدام.. حفنة توصيات لإصلاح المنظومة الجنائية والعقابية
عقدت المنظمة العربية لحقوق الإنسان، بالشراكة مع صندوق الأمم المتحدة لدعم تفعيل توصيات الاستعراض الدوري الشامل، ورشة العمل الوطنية حول "الحد من عقوبة الإعدام في جمهورية مصر العربية"، خلال الفترة من 12 إلى 14 نوفمبر 2024، بأحد فنادق القاهرة.
وتهدف ورشة العمل إلى إطلاق منصة للحوار بين مختلف أصحاب المصلحة المعنيين لاستشراف وتبني مقترحات من شأنها تفعيل وتكريس الالتزام الوطني بالحد من عقوبة الإعدام، وقصرها على أشد الجرائم غلطة، فضلًا عن استشراف توصيات عملية قابلة للتطبيق على أرض الواقع لتطوير المنظومة الجنائية والعقابية في مصر، وتتواكب مع التزامات مصر الدولية في مجال حقوق الإنسان، وتلبي التطلعات الشعبية في تعزيز حقوق الإنسان في البلاد، وتسهم كلك في تفعيل أهداف الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان 2021 – 2026، وخاصًة الهدف المتعلق بـ"وضع إطار لمراجعة الجرائم المعاقب عليها بعقوبة الإعدام".
وتكتسب أهمية خاصة لأنها تأتي على مقربة 10 أسابيع من مناقشة مصر تقريرها الوطني أمام الدورة الرابعة لآلية الاستعراض الدوري الشامل لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة.
واستمرت أعمال ورشة العمل لثلاثة أيام متصلة شهدت وقائع 7 جلسات عمل مكثفة بحضور مقدر لممثلين عن السلطة التنفيذية ممثلة في وزارة الشؤون القانونية والنيابية والتواصل السياسي واللجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان برئاسة وزارة الخارجية، وعضوية 20 وزارة وهيئة رسمية، ونواب عن البرلمان المصري بغرفتيه النواب والشيوخ، وقضاة وخبراء قانونيون وصحفيين ورقيادات منظمات حقوقية وممثلين لمجالس القومية المتخصصة وخبراء العلوم السياسية والاجتماع ورجال الدين.
إصلاح المنظومة الجنائية والعقابيةوركزت جلسات اليوم الأول على"استعراض ما تتضمنه البنية التشريعية الوطنية وتوجهات الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، بينما تناولت جلسات اليوم الثاني "استعراض المعايير الدولية لحقوق الإنسان التي صادقت عليها مصر وأولويات المواءمة التشريعية"، فيما شهدت جلسات اليوم الثالث إجراء عصف ذهني حول السبل العملية المناسبة للحد من عقوبة الإعدام في التشريع والممارسة".
ولقد أكدت اتجاهات النقاش على ما يلي:
مكانة مصر القانونية ونفوذها الأدبي يتفوق على المنظومات القانونية في عدد كبير من الدول وهو ما يدفع إلى أهمية السعي إلى تطوير التشريعات وفي مقدمتها قانون العقوبات.تبادل النقاشات بين مؤيد ومعارض لاستمرار استخدام عقوبة الإعدام، وأهمية فتح حوار مجتمعي ممتد للإجابة على التساؤلات المشروعة في كيف نوازن بين شدة وجسامة العقوبة وحماية الحق في الحياة وبين منظور وحقوق الضحايا واطمئنان المجتمع وموروثاته الثقافية المتراكمة.التوافق مرحليا على أهمية المراجعة لتقليل عدد المواد وحصر الجرائم التي تفضي إلى عقوبة الإعدام لقصى ما يمكن، بالتوازي مع الاستمرار في خفض معدلات التنفيذ.الخلاف والانقسام إذا التوجه في مراحل لاحقة نحو الإلغاء، فقد توجه رأي بعض المشاركين إلى أهمية الإبقاء على العقوبة في مختلف الظروف، وتوجه رأي أخر نحو تبني استراتيجية لبلوغ غايات إلغاء العقوبة عندما تتهيئ الظروف الثقافية الاقتصادية والاجتماعية.أهمية النظر في مراجعة منظومة العدالة الجنائية بشقيها الإجرئي والعقابي.التأكيد أن تحديث منظومات التشريعات هي عملية مستمرة ومتواصله وهي مجموعة كبيرة على الخطوات والإجراءات تعبر عن إرادة الدولة بسلطاتها وبمشاركة واسعة مع جميع أصحاب المصلحة المعنيين.الكثافة التشريعية التي تفضي إلى عقوبة الإعدام تؤدي بالضرورة إلى إسراف في الأحكام ويضع السلطة التنفيذية في أزمة التجاوب مع التنفيذ المفرط أو الارجاء لمدد غير محددة تُحملها أعباء متعددة ابزها أعباء أمنية واقتصادية وأعباء مواجهة التزاماتها التعاقدية والإنسانية أمام المجتمع الدولي.أهمية النظر في بعث رسائل طمأنة إلى الداخل وإلى المجتمع الدولي في سياق ضمان الثقة في العدالة والسعي إلى حصر عقوبة الإعدام في أشد الجرائم خطورة مع تقليص عمليات التنفيذ إلى أقصى قدر ممكن.حث الدولة المصرية على تعليق العمل بعقوبة الإعدام متى تهيأت الظروف استنادا إلى قبول توصية النمسا رقم 106 في الجولة الثالثة للاستعراض الدوري الشامل أمام 2019.العمل على تعزيز نظام العدالة الجنائية من خلال التركيز على تطوير إجراءات التحقيق والمحاكمة، وتوفير دفاع قانوني فعال للمتهمين، وتقليل نسبة الأخطاء القضائية.التأكيد على مدى التطور على المستوى الدولي في نظم العدالة والاتجاه بوتيرة سريعة نحو الحد من العقوبات القاسية، واعتبار تقييد الحرية هو الملاذ الأخير نظرا لخطورته اجتماعيا ونفسيا واقتصاديا، والسعي إلى استخدام بدائل تقييد الحرية.تعزيز برامج بناء القدرات لمرفق العدالة بوجه عام والخدمات المعاونة وموظفي القضاء بوجه خاص ومن بينهم الطب العدلي.العمل على مكافحة الجريمة من خلال دراسات الجنائية والاجتماعية والاقتصادية لأسباب الجريمة من بينها الفقر والبطالة والتعليم وكذلك وتطوير برامج الوقاية من الجريمة وإعادة تأهيل المجرمين.تطبيق منظومة جديدة للعقوبات بديلة أكثر إنسانية وفعالية، مثل السجن المؤبد أو العقوبات المجتمعية.تعزيز دولة سيادة القانون وسبل المسائلة والمحاسبة والإنصاف الفعالة لتمتع المجتمع لكافة حقوق الإنسان، وضمانات المعاملة الإنسانية، وحقوق المحكوم عليهم وخاصة الذين يواجهون عقوبة الإعدام.التركيز على بناء مجتمع أكثر عدالة وأمانًا، بما يتضمن من احترام وحماية حقوق الإنسان والتمتع الكامل لجميع الحقوق وجميع الأفراد دون تمييز.التأكيد أن عقوبة الإعدام مسألة معقدة تتجاوز الجانب القانوني وتشمل جوانب أخلاقية وإنسانية واجتماعية واقتصادية متعددة.المنظمة على استعداد بالمساهمة بالرأي والتفاعل القانوني والحقوقي في أي من القضايا الشائكة المطروحة على مائدة النقاش داخل الدولة المصرية لمواجهة حاجز التخوف والتردد (التعذيب، الاختفاء القسري، عقوبة الإعدام، قضايا الفساد، مكافحة التمييز، جرائم الأموال العامة).إشكالية فجوة الأرقام وغياب المعلومات وصعوبات اتاحتها (عدد المحكوم عليهم نهائيا، عدد الأحكام النهائية) والحث على تلبية الاستحقاق الدستوري "قانون حرية تداول المعلومات".الحث على سن تشريع وإنشاء مفوضية مناهضة التمييز، والحث على سرعة تعديل قانون المجلس القومي لحقوق الإنسان بما يشمل تصحيح كافة الإشكاليات، حتى يتجاوز أزمته الحالية وحتى ينهض مسؤولياته الدستورية والحقوقية.إشكالية عدم الشجاعة على مواجهة التخوفات (الأولويات- التبرع بالتخوفات- التراجع عن التعديلات التشريعية العاجلة- التراجع عن تنفيذ برامج التوعية الحقوقية في المجتمعات الريفية) .تأكيد أهمية مبدأ التوسع في التشاور المجتمعي خلال إعداد التشريعات ذات الأهمية، وفي مقدمتهم أصحاب المصلحة بمختلف تنوعهم، لتحقيق أقصى قدر ممكن من التوافق وتجاوز الأزمات الفئوية، وضمان الرضاء والثقة الشعبية في الأبعاد القانونية والاطمئنان المجتمعي.التوسع في دراسة مدى جدوى عقوبة الإعدام بالنسبة لردع العام والردع الخاص وتأثيرها على انخفاض الجريمة.أهمية الإجابة على بعض التساؤلات في (هل يمكن تحقيق الردع العام بتكلفة اقتصادية عالية؟، هل عقوبة الإعدام تتسبب في كلفة اجتماعية واقتصادية؟، ما هو الضرر من استمرار العمل بعقوبة الإعدام؟، وما هي المنافع في عدم استخدام عقوبة الإعدام؟)