أيا تكن نتيجة الحرب الإسرائيلية المتواصلة منذ سبعة أشهر على قطاع غزة، مترافقة بعمليات عسكرية يومية موضعية في الضفة الغربية، فهي خاسرة بالنسبة لإسرائيل وأميركا، فيما تتراوح نتيجتها فيما يخص كلا من بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية، وجو بايدن الرئيس الأميركي، بين بقاء نتنياهو في الحكم، أو خروجه وسقوط المتطرفين الفاشيين، وبين بقاء بايدن وخروجه من البيت الأبيض، وذلك لأن كلا الرجلين قد علق مستقبله السياسي على هذه الحرب، فيما كان الخلاف بينهما حول إدارتها فقط، ولم يقم كلاهما بإدارتها وفق ما تقتضيه مصلحة بلديهما، وإن بدرجة متفاوتة، ولهذا فإن ما ستسفر عنه الحرب في النهاية، لا تتطابق نتائجه مع مصلحتيهما الشخصية ومصلحة بلديهما، وتلك مفارقة غريبة حقاً، خاصة ونحن كنا نظن بأن كلاً من أميركا وإسرائيل هما بلدان «ديمقراطيان» محكومان بمؤسسات تعلي من شأن مؤسسات الدولة، ولا تشهد استبداداً فردياً، أو تحكماً للأشخاص مهما نالوا من مناصب الدولة العليا.
ولا شك في أن مكانة دولة إسرائيل قد تضررت كثيراً بسبب هذه الحرب، التي ارتكبت فيها جرائم حرب بيّنة، وحيث اتهمت بتنفيذ حرب إبادة جماعية، بدأت المرافعات القضائية الدولية ضدها، ولن تنتهي أو تتوقف، فقد وضعت الحرب إسرائيل في النفق الذي كان فيه نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وعلى الصعيد المباشر، تم تجميد كل محاولات إسرائيل على طريق التطبيع، كذلك تآكلت تماماً قدرتها على الردع، وباتت عدواً مباشراً وبيّناً لأكثر من بلد في الشرق الأوسط، أي أنها أعادت حالة الحرب التي كانت تحيط بها منذ إنشائها، وإلى حين نجحت في إبرام اتفاقيات تطبيع، ويمكن القول ببساطة إن إسرائيل أعادت عقارب الساعة للوراء أكثر من أربعين عاماً، أي إلى أيام حرب أكتوبر من العام 1973، وكأن كل ما تلا تلك الحرب، من اتفاقيات كامب ديفيد، أوسلو، وادي عربة، وحتى أبراهام، لم تكن، مع تغير مواقع دول المواجهة، حيث كانت مصر تتصدر دول الجوار التي في حالة حرب مع إسرائيل فيما تتصدر اليوم طوق المقاومة المواجه لإسرائيل إيران، إضافة لحالة العزلة والإدانة الدولية، وأكثر من ذلك حالة المواجهة القضائية ضدها، حيث ليست فقط جنوب أفريقيا، بل أيضا نيكاراغوا وإيرلندا، وبلجيكا، وحتى منظمات المجتمع المدني في الغرب صارت في حالة مقاضاة ضدها في المحاكم الدولية، فضلاً عن الاصطفاف الدولي ضدها في الأمم المتحدة.
باختصار يمكن القول، إن طموح إسرائيل في أن تكون دولة إقليمية عظمى قد تبدد، وإذا كانت قد أوحت لكل من البحرين والإمارات قبل بضع سنوات بقدرتها على حمايتهما من إيران، ما دفعهما لإبرام اتفاقية أبراهام معها، فقد تأكد لكل دول الشرق الأوسط أن إسرائيل، إنما هي نمر من ورق، فهي لم تستطع حماية نفسها، واحتاجت إلى القوة العسكرية الأميركية والغربية لحمايتها من رشقة صواريخ ومسيّرات إيرانية، ومن صواريخ الحوثي اليمني، وإلى أقوى حاملات الطائرات الأميركية لحمايتها من حرب محتملة مع حزب الله، أما أميركا فهي الأخرى قد خسرت كثيراً جرّاء هذه الحرب، ليس على صعيد ما دفعته من أموال وعتاد وسلاح، أضيف لما ضخّته من أموال وسلاح لأوكرانيا وتايوان، بل إنها انشغلت بالشرق الأوسط طوال سبعة أشهر، ما أتاح المجال لروسيا لتحسم الحرب مع أوكرانيا، وللصين لتواصل نموها وانتشارها وتفوقها الاقتصادي على أميركا، كذلك تضررت مكانة أميركا عالمياً، ولم تعد تقنع الكثيرين خاصة على الصعيد الشعبي بأهليتها كدولة تقود النظام العالمي منفردة، أي أن سياسة بايدن في تعزيز مكانة أميركا قد فشلت تماماً، بعد أن خضعت سياسته تلك للاختبار في الجبهة الروسية الأوكرانية، ولهذا فإن بايدن وحملته الانتخابية يريان في نتنياهو المسبب الأساسي في إلحاق الضرر بفرصة بايدن في البقاء بالبيت الأبيض.
تكفي الإشارة هنا إلى أن الحرب الإسرائيلية على غزة، قد ترافقت مع ردود فعل إقليمية ودولية، لم تشهدها أي حرب أخرى، بدليل ميداني هو فتح جبهات عديدة، أكدت وحدة الساحات، فيما أديرت الحرب من قبل الجبهة المقابلة بحنكة ودهاء، بما أربك حسابات إسرائيل، التي اعتادت شن الحروب الخاطفة طوال العقود الماضية، واعتادت جر من تريده للحرب وفق توقيتها ورؤيتها، وبدليل حجم وردود الفعل إن كان عبر التظاهرات المتواصلة في الشرق الأوسط والعالم، وحتى داخل إسرائيل نفسها، أو في مواقف الدول التي تتواصل تباعاً، ضد الحرب وضد إسرائيل وتأييداً للدولة الفلسطينية وتتابع إعلانات الاعتراف بها خاصة من قبل الدول الأوروبية.
هذا ما ألحقته الحرب حتى الآن من خسائر على دولتي إسرائيل وأميركا، يضاف لها بالطبع الخسائر البشرية في صفوف الإسرائيليين ومن ضمن ذلك عدد المحتجزين، فالرقم 133، بصرف النظر عمن بقي حياً منهم ومن تحول إلى جثة، هو أعلى رقم من أسرى الحرب الإسرائيليين، الذين لم تجرِ بعد عملية تبادلهم مع الجانب الآخر، منذ حرب العام 73، والذين قارب عددهم ثلاثمائة أسير أطلق سراحهم بعد شهرين من وقف إطلاق النار، أما على الصعيد السياسي الشخصي أو الخاص بنتنياهو وأركان حكومته الفاشية، فقد أبقته الحرب وأبقتهم في مناصبهم، وقد تسببت الحرب في تجاوز معضلة إجراءات الإصلاح القضائي، التي أدخلت إسرائيل طوال عام ما بين تشكيل الحكومة الحالية واندلاع حربها على غزة، في نفق لاحت فيه الحرب الأهلية، وذلك وفق وصف رئيس دولة إسرائيل ومعظم الإسرائيليين أنفسهم، كذلك أغلقت الحرب شقوق الخلاف الذي نشأ بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو منذ تشكيل تلك الحكومة، حيث كانت المرة الأولى التي لم يسارع فيها رئيس أميركي للاتصال برئيس الحكومة الإسرائيلي المنتخب مباشرة ولا حتى بعد مرور أشهر طويلة، فيما لم يسبق لإدارة أميركية أن تحفظت على استقبال وزراء إسرائيليين كما فعلت إدارة بايدن مع إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش.
والأدلة على أن مصلحة نتنياهو وشركائه الفاشيين في الحكم على إطلاق الحرب واستمرارها عديدة، وهم الذين يؤكدون ليل نهار على ضرورة مواصلتها، بما في ذلك تنفيذ اجتياح رفح، أي إطلاق العملية البرية على رفح، واحتلالها بدخولها العسكري، رغم كل الرفض الدولي، بما فيه الأميركي، ورغم أن نتنياهو يؤكد ويصر على اجتياح رفح مدعياً أن العملية البرية في المدينة المكتظة بالنازحين، تحقق الانتصار الكامل على حماس، فإننا نعتقد الآن على الأقل، بأن مصلحته باتت في التهديد بتلك العملية أكثر من تنفيذها، ولا نقول ذلك استناداً إلى مرور وقت على ذلك التهديد بما في ذلك إعلانه تحديد موعد انطلاق العملية، وإقراره خطة الاجتياح العسكرية، دون أن يفعل، لا في رمضان ولا بعد مرور أسبوعين على انقضاء شهر رمضان، ولا بناء على أنه يخضع عملياً للرفض الدولي، بما فيه الأميركي والمصري، فهو يواصل قتل المدنيين رغم مطالبة محكمة العدل الدولية لإسرائيل بتقديم ما يثبت أنها لا تقوم بحرب الإبادة الجماعية، ويواصل إعاقة وصول المساعدات الإغاثية، حيث إن بايدن يحاول إرضاء الناخبين الأميركيين المؤيدين لإسرائيل بمواصلة حمايتها سياسياً في المحافل الدولية ومواصلة دعمها عسكرياً بحجة الفصل بين حربها على غزة وحربها على حماس، ولكن لأن اجتياح رفح، يحتمل أيضاً عدم تحقيق أي مظهر انتصار عسكري، من قبيل قتل أو إلقاء القبض على أحد أو كل قيادة المقاومة (السنوار والضيف)، فيما سيضطر حينها ولو بعد أسابيع لإعلان انتهاء الحرب.
واستمرار الحرب بوتيرة أخرى، كما يحدث في الضفة الغربية، وكما تجري حالياً في شمال غزة، حيث الإصرار على بقاء 60% من سكان القطاع في رفح، ومنع عودة سكان الشمال، بما في ذلك إعادة تهجير سكان بيت لاهيا، يعني بقاء نتنياهو في الحكم، ويعني أن هدف الحرب الإسرائيلية في غزة هو تحويل القطاع لمكان غير قابل للحياة، بما يؤدي لإفراغه من السكان في نهاية الأمر، والإسرائيليون باتوا بعد 80 سنة متأكدين من أن المقاومة لا علاقة لها بحماس التي ظهرت قبل أقل من أربعين سنة، بعد 20 سنة من احتلال غزة، وبعد 40 سنة من قيام إسرائيل، وحيث إن اليمين المتطرف يرفض الوجود الفلسطيني ما بين البحر والنهر، ويرى في تلك المساحة أرض دولة إسرائيل، ويرفض في الوقت نفسه الدولة ثنائية القومية، كذلك خشية أن تتحول دولته بشكل صريح لدولة فصل عنصري، مع وجود سبعة ملايين فلسطيني بين البحر والنهر، بما يعادل عدد اليهود الإسرائيليين، لذا لا بديل أمامه سوى تهجير وترحيل الفلسطينيين، بمن في ذلك سكان المثلث والنقب، وليس سكان غزة والضفة فقط، وبروفة التهجير هي غزة.
(الأيام الفلسطينية)
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة نتنياهو بايدن غزة نتنياهو بايدن مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة بما فی فی ذلک
إقرأ أيضاً:
فصول من كتاب «نتنياهو وحلم إسرائيل الكبرى».. (1) سليل الإرهاب
ابتداء من هذا العدد، تنشر بوابة «الأسبوع» فصولًا من كتاب «نتنياهو وحلم إسرائيل الكبرى» للكاتب الصحفي مصطفى بكري رئيس التحرير، والصادر عن دار كنوز للنشر والتوزيع. وفي الحلقة الأولى يرصد المؤلف تاريخ نتنياهو منذ الطفولة وعلاقته بوالده الذي لقنه الأفكار المتطرفة والمعادية للعرب والفلسطينيين، خاصة وأن جده كان من كبار دعاة الحركة الصهيونية. لقد رباه والده على كراهية أي يهودي يقبل بمصافحة العرب، وكان دائم الترديد على مسامعه «أن العربي إذا مد يده بالسلام، فانظر إلى يده الأخرى.. فإنك ستجد خنجرًا ممدودًا إليك».
الحلقة الأولى:-والده رباه على التطرف وكراهية العرب وجده من قادة الحركة الصهيونية
- كان يقول له: العرب أقل من أن تحدثهم أو تنظر إليهم
- المفكر الصهيوني المتطرف «جابوتنسكى» كان مثله الأعلى
في الثالث والعشرين من أكتوبر لعام 1949، ولد بنيامين تسيون نتنياهو في مستشفى “أسونا” بتل أبيب، أي بعد إعلان ولادة دولة الكيان الصهيوني بعام وخمسة أشهر تقريبًا.
كان جد بنيامين خطيبًا مفوهًا.. ومن كبار دعاة الحركة الصهيونية.. وكان يمتلك قدرات هائلة لجذب المزيد من يهود العالم، خاصة اليهود الشرقيين إلى “أرض الميعاد” حسب الوصف الصهيوني، وقد عرف عنه كرهه الشديد للعرب، ومن المؤمنين بضرورة اختفائهم من فوق ظهر الأرض.
وكان “تسيون” يرى ألا يكتفى اليهود بإقامة دولتهم في فلسطين فحسب، بل يجب أن تمتد حدودها في كل الأراضي والمناطق المجاورة لـ “أرض إسرائيل” في فلسطين على حد تعبيره.
وقد طبّع الجد ميليكوفسكي أولاده التسعة، ومن بينهم “تسيون نتنياهو” والد بنيامين بشخصيته القوية والمؤثرة.. حتى أن “تسيون” كان من فرط تأثره بآراء والده.. يردد أمام أولاده بأن العرب.. “دنس.. وأن الكلاب أفضل منهم لو أقاموا فى البلدان المجاورة لنا”.
ومن أقواله كذلك “إنك إذا سرت فى الطريق مع كلب.. أفضل من أن تسير مع عربى”.. وكان يردد على مسامع أولاده بأنه لا مجال للتعامل مع العرب إلا بإبادتهم.. وأنه لا حلول وسط فى هذه المسألة.
ومنذ صغره تشرب “بنيامين” من والده “تسيون نتنياهو” حبه لزعماء الحركة الصهيونية بل وتمجيدهم، حيث كان الأب يتغنى بآباء الحركة.. بينما نجله “بنيامين” ينقل عنه هذه الأغانى ويحفظها عن ظهر قلب.. بل ويرددها أمام أصدقائه بين الحين والآخر.. مبديًا تفاخره بأن والده هو صاحب هذه الأغانى.
وكانت هناك علاقة تربط فى ذلك الوقت بين والد بنيامين و”زئيف جابوتنسكى” مؤسس الحركة التصحيحية المتطرفة، حيث شكلت تلك العلاقة إدراك وعقلية “بنيامين نتنياهو”.. .ذلك أنه كان معروفًا عن المتطرف الصهيونى “جابوتنسكى” ميوله العدوانية الواضحة ضد العرب.. وكرهه الشديد لهم.
لقد كان كل من تسيون وجابوتنسكى يؤمنان بالعنف المطلق مع العرب وحتميته.. فيما كان يسعى “حاييم دايزمان” إلى المرونة فى التعامل معهم.
وفى هذا الجو المشحون بالعداء للعرب.. ولد “بنيامين تسيون نتنياهو”، حيث رباه والده على كراهية أى يهودى يقبل مصافحة العرب.. وكان دائم الترديد على مسامعه ”أن العربى إذا مد يده إليك بالسلام.. فانظر إلى يده الأخرى.. فإنك ستجد خنجرًا ممدودًا إليك”.!!
هذه الأفكار التى آمن بها والد “بنيامين نتنياهو” هى التى دفعت المتطرف الصهيونى جابوتنسكى لأن يعينه رئيسًا لتحرير صحيفة “هايروين” الصهيونية.. والتى من خلالها لمع اسمه وذاع صيته.. حيث تخصصت تلك الصحيفة فى مهاجمة كل يهودى أو مسئول يفكر ولو بشكل غير مباشر فى السلام مع العرب أو أن يجلس معهم على مائدة مفاوضات واحدة.
ومن الكلمات التى كان يرددها “تسيون” على مسامع ولده “بنيامين” قوله “إنك أفضل من أى عربى.. وإذا جلست فاجلس مع من هم نظراؤك.. فالعرب أقل من أن تحدثهم أو تنظر إليهم”.. إلا أن الأكثر تأثيرًا فى عقل “بنيامين نتنياهو” كانت هى تلك الكتب الصغيرة التى ألفها والده وآخرون من خلال دار النشر الصغيرة التى أنشأها.. وهى كتب تدور فى مجملها حول “أسس الحركة الصهيونية” و “كيفية إقامة دولة إسرائيل” و “إسرائيل المستقبل والأمل” و”العرب إلى الهاوية” و “إسرائيل العظمى فى كل البلاد العربية”.
كان “تسيون” حريصًا على تلقين ابنه دروسًا يومية فى السياسة.. شارحًا له بالتفصيل كيفية تفكير “جابوتنسكى” القائد الملهم له.. والذى سيصبح أيضًا القائد الملهم لنجله “بنيامين”!!
لقد عرف جابوتنسكى بكثرة تنقلاته وسفرياته بالاضافة إلى علاقاته الوطيدة بعدد من المسئولين الأمريكيين، والترويج لمقولاته أينما ذهب، فاستطاع بذلك أن يضم إلى جانبه آلاف المتطرفين والذين أمنوا بمقواته
فى العام 1940، شغل “تسيون نتنياهو” منصب السكرتير الشخصى لجابوتنسكى، وبات ملازمًا له فى كل رحلاته وتحركاته.. وأتاح له ذلك الاطلاع على العديد من الأوراق السرية التى كان يتم الإعداد والتخطيط من خلالها لإقامة دولة إسرائيل، وقد ضمت هذه الأوراق وثائق فى غاية الأهمية احتفظ بها “تسيون” وحده بعد وفاة جابوتنسكى.. وكانت هذه الوثائق تحمل عبارة تقول: “إلى كل مخلص.. إلى كل وطنى.. إلى كل شريف فى هذا الكون.. إذا ما وقعت هذه الأوراق فى يدك.. عليك أن تكون أمينًا فى تنفيذ ما بها حتى ترضى الله.. فشعب الله المختار الذى شرد ونهبت ثرواته لابد أن يعود.. وعندما يعود لابد أن يكون سيد العالم.. ومع سيادة العالم لابد من إبادة العرب الأقذار”.
هذه الأوراق السرية لم يتح لأحد الإطلاع عليها سوى “تسيلاه سيجل” والدة “بنيامين نتنياهو”.. ثم شاء القدر أن تشكل تلك الأوراق رؤية “بنيامين” فى المستقبل، حتى أنه من كثرة قراءته لهذه الوثائق حفظها وكان دائم الترديد لها.
وقد كان والده حريصًا على ألا ينسى نجله “بنيامين” ما تحمله تلك الوثائق من أفكار ومعتقدات، حتى أنه كان يطلب منه ترديدها فى إطار حلقات استماع كان يعقدها بحضور بقية اخوته، لدرجة أن والدته “تسيلاه” كانت تشفق عليه من والده الذى كان دائم الإصرار على تلقينه كل دروس الصهيونية.
وكانت “تسيلاه” ذاتها صهيونية متطرفة.. فهى من أسرة ثرية تنتمى لرجل أعمال يهودى، لديه العديد من المشروعات المتعددة والمترامية الأطراف، سواء فى الولايات المتحدة أو إسرائيل.. حيث كان يخصص ريعًا سنويًا من هذه المشروعات، بالإضافة إلى مساهمات كبيرة من أجل تنشيط الحركة الصهيونية.
وكان لدى والد “تسيلاه” تطلع دائم بأن يسخر كل القوى الدعائية لصالح إسرائيل والحركة الصهيونية.. ولذا فقد كان يسعى للسيطرة على وسائل الإعلام المختلفة من أجل دعاية مؤيدة للصهيونية.
وحين اشتد عود “تسيلاه” وأصبحت زميلة لـ”تسيون” فى حركة جابوتنسكى، جمعهما كره مشترك لعائلة وايزمان.. ومن هنا تبرز طبيعة العداء الذى حمله “بنيامين” عن والده ووالدته لرئيس إسرائيل الأسبق عيزرا وايزمان.
كانت والدة “بنيامين” تعشق القانون.. ورأت أن دراستها له يمكن أن تفيد الحركة الصهيونية أكثر بكثير من دراستها لأى فرع من فروع العلم الأخرى، حيث رأت أن القانون سيعلمها المنطق وتفنيد الحجج المضادة التى يمكن استخدامها ضد إسرائيل، خاصة من جانب العرب فى حال إقامة دولة إسرائيل.. وكان ولعها بالقانون وسيلة لتحقيق حلم الصهيونية الكبرى وتنفيذ تعليمات “جابوتنسكى” فى أن دراسة القانون مفيدة لأسس الحركة.. وأنها ستعطيها قوة جديدة تضاف إلى قوة المفكرين للحركة.
كانت “تسيلاه” مؤمنة بأن “جابوتنسكى” على حق حين أدرك أن الخطابة وحدها ليست كافية لدعم أسس الحركة.. وأنه لابد من سفراء لهذه الحركة فى مختلف دول العالم وأن سفراء هذه الحركة لابد أن يكونوا على قدر كبير من العلم والفهم الكامل لمتطلبات الحركة فى العقود القادمة.
وكان جابوتنسكى حريصًا على توجيه تلاميذه إلى دراسة فروع العلم المختلفة.
وقد برز تفوق “تسيلاه سيجل” بشكل واضح لدى دراستها للقانون بالجامعة العبرية بالقدس.. وعرف عنها الصراحة والجدية فى عملها ودراستها.. ودفعتها دراستها للقانون إلى السفر إلى لندن، حيث انضمت هناك إلى الحركات الصهيونية الناشئة فى ذلك الوقت، وأبرزت اهتمامًا ملحوظًا بأنشطتها داخل تلك الحركات، حتى أنها أصبحت واحدة من القيادات المعروفة بتخطيطها الجيد من أجل إقامة دولة إسرائيل.. واستطاعت “تسيلاه” الارتباط فى ذلك الوقت بمن يعرفون بزعماء وآباء الحركة الصهيونية فى إنجلترا.. وتمكنت بفضل تلك الروابط الوثيقة من أن تسافر إلى العديد من البلدان الأوروبية.
فى ذلك الوقت.. كان “جابوتنسكى” المرتبط بآباء وزعماء هذه الحركة يعزز من وضعية “تسيلاه” ولأن “تسيون نتنياهو” كان رئيسًا لتحرير صحيفة “هايروين” ويتابع أنشطة “تسيلاه” رأى أنه من المناسب الارتباط بهذه الفتاة التى تشاركه الفكر والحلم فى إقامة دولة إسرائيل.. وخصوصًا أن العديد من الصفات الأخرى ربطت بينهما.. وفى مقدمتها الكره الشديد للعرب وضرورة العمل على إزالتهم من الوجود.
ولذا.. حين التقى “تسيون” و “تسيلاه” كونا ثنائيًا مشتركًا.. وكانا يكرهان أى شخص يحمل جنسية أية دولة- حتى ولو كان يهوديًا- يتحدث عن العرب بلغة لا يرغبانها.
كل هذه المؤثرات النفسية المعقدة لكل من «تسيون وتسيلاه» ورثها عنهما فيما بعد ابنهما «بنيامين» الذى قدر له فيما بعد تولى رئاسة حكومة إسرائيل لأكثر من مرة.
ومع حدوث الزواج بين “تسيون وتسيلاه” استجابت الزوجة لمطالب زوجها وقررت التفرغ لمعاونته.. ومع وفاة “جابوتنسكى” كان همهما الأول هو كيفية العمل على تنفيذ وصاياه التى يحتفظ بها “تسيون” والذى رأى أن تنفيذها يمكن أن يتم من خلال طبع كتيبات ونشرها على جميع يهوديّ العالم حتى يتجمع اليهود حول الفكرة الصهيونية الأساسية وهى “إسرائيل العظمى”.
وبالفعل بدأت سلسلة كتب “تسيون” فى الظهور بفضل معاونة زوجته والتى تلقت بدورها دعمًا من والدها رجل الأعمال المعروف فى الولايات المتحدة، الذى أخذ على عاتقه نشر كتب “تسيون” بين يهود أمريكا.. ثم انتشرت الكتب فى العديد من الدول الأوروبية عبر اليهود الأمريكان.
وبدأ صيت “تسيون” ينتشر بين اليهود فى العالم.. غير أن والد “تسيلاه” لم يرق له ذوبان شخصية ابنته فى شخصية زوجها.
فى العام 1946 قرر “تسيون” أن يكون أبًا من آباء الصهيونية، رافضًا أن يكون مجرد داعٍ لها.. فنصحته “تسيلاه” بأن يحصل على درجة الدكتوراه باعتبار أن ذلك سوف يسهم فى وضعه العلمى بين صفوف اليهود.. وكانت ترى أن هذا الطموح يمكن أن يجعله على رأس دولة إسرائيل.
وبالفعل حقق “تسيون” طموحه، وحصل على درجة الدكتوراه من كلية “درونس” فى فيلادلفيا بالولايات المتحدة غير أن هذه الدرجة العلمية خلقت له العديد من المشاكل مع الزعامات اليهودية الموجودة فى الولايات المتحدة خصوصًا بعد شعورهم بأنه يسعى إلى تخطيهم فى طريقه للصعود إلى قمة سلم الدولة الوليدة.
فى ذلك الوقت ثار الكثير من الجدل بين القيادات اليهودية فى الولايات المتحدة، حيث كان البعض يرى أن التفاوض مع العرب يمكن أن يمثل إحدى وسائل إقامة دولة إسرائيل، إلا أن “تسيون” كان يرى عكس ذلك معتبرًا أن العنف هو الوسيلة الأساسية لإقامة الدولة.
وحين احتدم الخلاف بين الزعامات الصهيونية فى الولايات المتحدة قرر “تسيون نتنياهو” العودة إلى إسرائيل فى العام 1948وذلك بعد وقت قصير من قيامها على أرض فلسطين المحتلة.
ولم يكن “تسيون” على وفاق مع مسئولى الدولة الإسرائيلية الوليدة معتبرًا أنهم تنكروا لنضاله ودوره فى إقامة دولة إسرائيل.. حيث كان يرى أن كتبه وأبحاثه التى انتشرت فى العديد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة قد أسهمت فى إقامة هذه الدولة.. والحصول على تأييد الأوروبيين والأمريكان.. فى حين كان ساسة إسرائيل ينظرون إليه بازدراء لأنه كان أنانيًا ومحبًا لذاته.
ورغم رفض ساسة إسرائيل التعاون معه إلا أنه كان يسعى إلى مشاركة القيادات الإسرائيلية فى مناظراتهم وندواتهم حول مستقبل الدولة الإسرائيلية.. وكان يردد دائمًا أنه تلميذ لجابوتنسكى، وأنه من أكثر الذين تحملوا العبء الأكبر من أجل إقامة هذه الدولة.
ووسط هذه الأجواء جاء “بنيامين تسيون نتنياهو” إلى الدنيا فى عام 1949.. حيث شهد هذا العام صراعًا مريرًا ومعقدًا بين تسيون ومناحم بيجين الذى تولى فيما بعد رئاسة الوزارة الإسرائيلية وعقد اتفاقية كامب ديفيد مع الرئيس المصرى الراحل أنور السادات.
كان الصراع فى مجمله يدور حول الحركة التصحيحية التى أرسى قواعدها “جابوتنسكى”.. وكان مناحم بيجين يرى أنه أكثر قدرة من تسيون على السيطرة على مقاليد الأمور داخل الحركة المتطرفة.
هذا الصراع الذى نشأ بين تسيون ومناحم بيجين لم يكن ليختفى أبدًا عن ذاكرة الطفل “بنيامين” الذى شب على كراهية “بيجين” منذ صغره، حيث اعتبره السبب الأساسى وراء القضاء على مستقبل والده السياسى.
ومنذ ذلك الحين تملكت “بنيامين نتنياهو” رغبة جامحة فى كيفية الانتقام لوالده وإعادة الاعتبار إليه.. وكان يرى أن ذلك لن يتحقق إلا بوصوله إلى مقعد رئاسة الوزراء فى إسرائيل.
وبالرغم من انضمام “بنيامين نتنياهو” إلى ذات تكتل الليكود الذى أوصل “مناحم بيجين” إلى رئاسة الوزراء فى إسرائيل إلا أنه كان يعتبر أن ما أقدم عليه “بيجين” من توقيع معاهدة للصلح مع مصر بمثابة خطأ إستراتيجى لا يغتفر.. وكان يرى أن “بيجين” تسرع فى التوقيع على هذه المعاهدة.. بينما كان بإمكانه المماطلة لسنوات طويلة يحصل خلالها على السلام دون التفريط فى شبر واحد من الأرض التى احتلتها إسرائيل فى شبه جزيرة سيناء.
لقد شهد “بنيامين” كيف أن بيجين أزاح والده عن طريقه، وكان بيجين يردد دائمًا أن “تسيون نتنياهو” لم يحارب مع منظمة “أتسل” وهى المنظمة العسكرية الإسرائيلية “الوطنية” وأنه لم يقدم أى تضحيات.. ولذا رفض منحه أى منصب.
من جانبه قرر “تسيون” ألا يستسلم لأفكار “بيجين” والقيادات اليمنية الإسرائيلية وأخذ على عاتقه أن يكون زعيمًا لحركة “حيروت” إلا أن الحركة رفضته.. مما فسره بأن هناك مؤامرة على مستقبله السياسى.
لقد نصحه أحد أصدقائه بالتخفيف من أفكاره المتطرفة للغاية إلا أن زوجته “تسيلاه” رفضت أن يقدم تسيون أية تنازلات فى هذا الصدد.. وطالبته بالتمسك بموقفه.. وأن يترك السياسة ويلتحق بالسلك الأكاديمى فى الجامعة العبرية.
اقرأ أيضاً«نتنياهو وحلم إسرائيل الكبرى».. كتاب جديد لـ مصطفى بكري يكشف فيه بالوثائق استراتيجية الكيان الصهيوني للهيمنة على المنطقة
نتنياهو وحلم إسرائيل الكبرى (2)
مصطفى بكري عن كتابه «حلم إسرائيل الكبرى»: يكشف سيناريو ما هو متوقع