عقيدة المحيط الجديدة.. ماذا تخشى إسرائيل؟
تاريخ النشر: 26th, April 2024 GMT
مع استمرار العدوان على غزة، أجرى سلاح الجو الإسرائيلي في مارس/آذار الماضي مناورة تدريبية بأجواء قبرص تحاكي هجوما جويا على إيران، كما وافقت تل أبيب على تدشين خط ملاحة بحري من ميناء لارنكا في قبرص إلى غزة لنقل المساعدات.
ويبدو أن اليونان وإسرائيل لا تزالان تحافظان على علاقتهما، التي لم تتأثر بما يحدث من مجازر في غزة، بخلاف ما حدث مع بولندا وإسبانيا اللتين تتحدثان عن قرب اعترافهما بدولة فلسطينية مستقلة.
وفي آسيا الوسطى، يكتفي النظام الأذربيجاني منذ بدء الحرب بالإدانة السطحية ليس إلا، كما يقول المُتخصص في السياسات الخارجية إلدار محمدوف، في حين أن النفط من أذربيجان لا يزال يتدفق إلى إسرائيل، وفي المقابل تتلقى باكو أسلحة متقدمة تُقدر قيمتها بمليارات الدولارات.
وهو ما يعيد للواجهة علاقة إسرائيل مع قبرص واليونان وأذربيجان التي تندرج ضمن عقيدة "المحيط الإسرائيلية" في نسختها الجديدة.
العلاقات بين باكو وتل أبيب تعززت في السنوات الأخيرة على خلفية مزاعم التهديد الذي تشكّله إيران (الأناضول-أرشيف) عقيدة المحيط القديمةمع تأسيس دولة الاحتلال الإسرائيلي عام 1948، سيطرت عليها مخاوف تتعلق بغياب العُمق الإستراتيجي ومحدودية القوى البشرية، فرسم منظروها، وفي مقدمتهم بن غوريون، إستراتيجية تضمن تفوق إسرائيل على جيرانها عبر بناء قوة عسكرية متفوقة، بالاعتماد على دعم الدول الغربية الكبرى، وتتبنى سياسة خارجية تنظر إلى الدول العربية المجاورة مثل مصر وسوريا ولبنان والأردن والعراق كمصادر تهديد وجودي.
اعتبرت تل أبيب أن مواجهة التهديد، المتمثل في وجود جبهة عربية موحدة، يتطلب إقامة علاقات مع دول غير عربية في المحيط الإقليمي للتغلب على العزلة، واشتهر هذا النهج باسم "عقيدة المحيط"، وظل في طليعة الأجندة الدبلوماسية الإسرائيلية منذ خمسينيات إلى سبعينيات القرن العشرين.
كانت في مقدمة الدول المستهدفة بهذه العقيدة تركيا وإثيوبيا وإيران، فضلا عن بعض الأقليات الدينية والعرقية مثل الأكراد في شمال العراق، والمارونيين في لبنان. لكن نظرًا لأن هؤلاء الشركاء المفترضين سعوا للحفاظ على علاقات مستقرة مع الدول العربية، فإن بناء علاقات إسرائيل معهم اعتمد على الدبلوماسية السرية، وركّز على المجالين العسكري والاستخباراتي.
وبحسب الباحث جان سمعان في كتابه "عقيدة المحيط في السياسة الخارجية الإسرائيلية"، فإن باروخ أوزيل أول من صاغ عقيدة "المحيط" في كتابه "تحالف المحيط: سياسة مقترحة لإسرائيل" المنشور عام 1959، يشير فيه إلى أن تل أبيب قد وظفت سياسة الاحتواء الأميركية للاتحاد السوفيتي آنذاك في بناء علاقات سرية مع إثيوبيا وإيران وتركيا، بحجة مواجهة التمدد الشيوعي في الشرق الأوسط.
يرى أوزيل أنه بدون التعاون العسكري والاستخباراتي مع أنقرة وطهران وأديس أبابا، ستصبح إسرائيل معزولة أمام النفوذ المصري في حقبة القومية العربية التي تبناها الرئيس جمال عبد الناصر، والتي مثلت تهديدا لمصالح العواصم المذكورة.
سفير تركيا لدى إسرائيل سيف الله إيسين (وسط) مع الرئيس وايزمان (يسار) ووزير الخارجية موشيه شاريت عام 1950 (مواقع التواصل)ولذا قامت إسرائيل ببيع أسلحة متطورة للدول الثلاث، بل وساهمت في تدريب جيوشها وأجهزتها الأمنية، كما أتاحت لها قنوات تواصل مفتوحة مع واشنطن، وهو ما تناوله غابرييل شيفر وأورين باراك في كتابهما "شبكات الأمن الإسرائيلية".
واعتمادا على وثائق للخارجية الإسرائيلية رُفعت عنها السرية، يكشف سمعان أن إسرائيل دعمت تركيا في أزمة قبرص مقابل دعم عبد الناصر للانفصاليين من القبارصة اليونانيين بالأسلحة، كما رأت أنقرة وتل أبيب في وحدة مصر وسوريا (1958-1961) تهديدا مشتركا لهما، حيث تواجد الجيش المصري المجهز والمدرب على يد السوفيات على حدودهما.
وواكب ذلك انقلاب عبد الكريم قاسم في العراق عام 1958، وهو ما زاد مخاوف دخول العراق ضمن النفوذ المصري السوفياتي.
انقلاب عبد الكريم قاسم زاد مخاوف إسرائيل من دخول العراق ضمن النفوذ المصري السوفياتي (مواقع التواصل)وبحسب مايكل بيشكو، في دراسته التي نشرها بعنوان "إسرائيل وإثيوبيا: من علاقة خاصة إلى علاقة عملية"، فإن إسرائيل استغلت مخاوف إثيوبيا ذات الأغلبية المسيحية من جيرانها المسلمين، ومن قلقها من نفوذ عبد الناصر في الصومال وإريتريا وجيبوتي، واتخذت من أديس أبابا قاعدة للأعمال السرية الإسرائيلية في القارة الأفريقية، وبالأخص جمع المعلومات عن باب المندب وعن الأنشطة المصرية في القرن الأفريقي والبحر الأحمر.
ويؤكد ضابط الموساد السابق يوسي ألفر في كتابه "المحيط: بحث إسرائيل عن حلفاء في الشرق الأوسط" على أن الموساد نقل بانتظام إلى الإيرانيين تقارير استخباراتية عن أنشطة مصر في الدول العربية، والتطورات في العراق، وساهم مع طهران في دعم التمرد الكردي شمال العراق ضد بغداد.
كما تعاون الموساد والسافاك في الملف اليمني عبر دعم القوات الملكية بالذخيرة في مواجهة مصر الداعمة للجمهوريين، وفي المقابل حصلت تل أبيب على النفط من إيران عبر خط أنابيب إيلات-عسقلان، مما أتاح لها تجنب المرور عبر قناة السويس.
وبحسب كيرستن شولز في كتابه "دبلوماسية إسرائيل السرية في لبنان"، فقد عملت تل أبيب على بناء علاقات سرية مع حزب الكتائب الماروني في لبنان، عبر الزعم بوجود تهديد مشترك يتمثل في وجود أغلبية عربية سنية تهدد الهوية الذاتية لكل منهما.
وهو ما تزايد مع انتقال قيادة منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن إلى لبنان بعد أحداث أيلول الأسود عام 1970، والتخوف الماروني من تغيير البنية الديموغرافية للبنان، ووصلت العلاقة ذروتها إثر غزو لبنان عام 1982، وتتويج بشير الجميل رئيسا للبلاد.
لكن اغتيال الجميل وتورط الكتائب في مجازر صبرا وشاتيلا والانسحاب الإسرائيلي من بيروت جعل تل أبيب تراجع علاقتها بحزب الكتائب لتراه كـ"مليشيا تجر إسرائيل لحروب طائفية مضرة".
تورط الكتائب في مجازر صابرا وشاتيلا والانسحاب الإسرائيلي من بيروت جعل تل أبيب تراجع علاقتها بالحزب (الفرنسية)تراجعت عقيدة المحيط الإسرائيلية إثر تطورات غير متوقعة، بدأت مع وفاة الإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي عام 1974، وتوجه خلَفه نحو موسكو، ثم الإطاحة بشاه إيران في ثورة شعبية ضخمة عام 1979.
ولحق ذلك تدهور العلاقات مع تركيا في عهد حزب العدالة والتنمية، وكذلك ساهم اتفاق السلام مع مصر عام 1979، ثم مع الأردن عام 1994، في إزالة الدول العربية المجاورة من خارطة التهديدات ذات الأولوية في المنظور الإسرائيلي.
النسخة الجديدة من عقيدة المحيطتغيّرت البيئة الأمنية لإسرائيل في العقد الأول من القرن الـ20 إثر سقوط نظام صدام حسين مع غزو العراق عام 2003، ثم دخول سوريا في نفق اقتتال داخلي عقب اندلاع الثورة عام 2011، وبرزت تحديات أخرى من الحليفين السابقين إيران وتركيا.
وتحولت إيران إلى تهديد وجودي لإسرائيل على خلفية مشروعها النووي، بالإضافة لدعمها فصائل المقاومة الفلسطينية، وبالأخص حركة حماس بعد سيطرتها على قطاع غزة عام 2007، وأيضا علاقتها بحزب الله اللبناني.
كما انتكست العلاقات مع تركيا إثر حادث اقتحام السفينة مافي مرمرة، الذي أدى إلى مقتل 10 مواطنين أتراك على يد الجيش الإسرائيلي خلال محاولتهم فك الحصار بحرا عن غزة.
ولموازنة التهديدات المستجدة، بحسب سمعان، برزت عقيدة المحيط مجددا تبحث عن تحالفات جديدة، وهنا جاء دور أذربيجان لمواجهة التهديد الإيراني، واليونان وقبرص في مواجهة تحدي تركيا.
ففي حين كانت اليونان وقبرص صديقتين لمصر، كانت هناك الصداقة التركية الإسرائيلية، لكن دشنت أثينا علاقات دبلوماسية كاملة مع تل أبيب بحلول عام 1990، إثر توسع التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل، ووقعتا اتفاقية تعاون عسكري عام 2009.
ومع تدهور العلاقات التركية الإسرائيلية، توسعت العلاقات الإسرائيلية اليونانية، لتشمل التعاون الأمني والسياحة ومشاريع مشتركة لاستكشاف وتصدير الغاز الطبيعي.
وفي عام 2011، تأسس مجلس وزاري مشترك لتعزيز برامج التعاون المختلفة، ثم انضمت قبرص للجانبين لتأسيس آلية تعاون ثلاثي، وقد صرح وزير الطاقة الإسرائيلي عوزي لانداو عام 2012 قائلا "في الشرق الأوسط، الذي يتعرض حاليا لزلزال هائل يمتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج، فإن محور اليونان وقبرص وإسرائيل سيوفر مرساة بالغة الأهمية للاستقرار".
ويشير سمعان إلى أن إسرائيل اعترفت بأذربيجان عام 1992 إثر استقلالها عن الاتحاد السوفياتي، وساعدتها في تطوير قواتها المسلحة، وقدمت لها طائرات بدون طيار وأنظمة صاروخية، وطورت طائراتها المقاتلة ودباباتها الموروثة منذ الحقبة السوفيتية، مما ساهم لاحقا في استعادتها إقليم قره باغ.
كما عملت إسرائيل عبر لجنة العمل السياسي الأميركي الإسرائيلي "أيباك" على التوسط بين باكو وواشنطن في مواجهة اللوبي الأرميني في الولايات المتحدة، وفي المقابل فازت تل أبيب بحليف مجاور للأراضي الإيرانية، وحصلت من باكو على 40% من استهلاك إسرائيل من النفط.
أوراق ضغطوتسعى إسرائيل بعودتها إلى عقيدة المحيط مجددا إلى تبديد مخاوفها من العزلة، ورغبتها في امتلاك أوراق ضغط تجاه الدول التي ترى فيها تهديدا، ولكن النسخة الجديدة جاءت أضعف من النسخة القديمة، فاليونان تفتقد القوة العسكرية أو النفوذ السياسي الذي تمتلكه تركيا في الشرق الأوسط، كما تعاني أثينا من أزمات مالية متكررة.
أما أذربيجان فتتيح الوصول إلى جنوب القوقاز وحدود إيران، لكنها لا تقدم بديلا لحليف مثل إيران الشاه، فهي دولة صغيرة يصعب أن تحقق توازنا في مواجهة طهران.
لقد تحولت عقيدة المحيط من كونها تحالفا يهدف إلى موازنة تهديد القومية العربية في العهد الناصري، لتصبح بعد اتفاقية السلام مع مصر والأردن، وغرق العراق وسوريا في أزمات داخلية، بمثابة إستراتيجية تحوط تبحث عن حلفاء جدد دون التقيد بحدود جغرافية معينة، وتهدف للتغلب على شعور تل أبيب بالعزلة.
وهنا تبرز خطورة اتفاقيات أبراهام التي تعمل على دمج إسرائيل في محيطها العربي مع تجاهل تام للقضية الفلسطينية.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات فی الشرق الأوسط الدول العربیة فی مواجهة فی کتابه تل أبیب وهو ما
إقرأ أيضاً:
العالم يتعرف إلى السلطة الجديدة في دمشق
كان رئيس جهاز الاستخبارات القومي في تركيا أول الواصلين الأجانب إلى دمشق واللقاء بأحمد الشرع قائد هيئة تحرير الشام. ثم جاء الأوروبيون والأمريكيون والأمميون والقطريون والأردنيون والسعوديون، في حين كانت روسيا حريصة على إعلان أنها “على تواصل” مع السلطة الجديدة، وكذا فعلت إيران التي لم تكتم شعورها بالهزيمة الكبرى التي منيت بها في سوريا. أما إسرائيل ففضلت “اختبارها” باحتلال أراض سورية جديدة وقصف ما تبقى من إمكانات سوريا العسكرية وإطلاق تصريحات عدائية بحق السلطة الجديدة في دمشق.
وقررت الولايات المتحدة إزالة المكافأة الموضوعة على رأس أبي محمد الجولاني، مع “دراسة” إزالة اسم الهيئة التي يقودها من قائمة المنظمات الإرهابية والعقوبات المفروضة على سوريا في عهد النظام الهارب.
هذه إجراءات سالبة وحسب لا تعني إقامة علاقات طبيعية مع سوريا الجديدة، ناهيكم عن مساعدتها على تضميد الجراح والشروع في بناء دولة منهارة أو محاولة لجم حليفها الإسرائيلي، إضافة إلى دور واشنطن في المرحلة الانتقالية بحكم وجود قواتها على جزء من الأراضي السورية يصادف أنها تشتمل مصادر النفط والغاز.
الدول الأوروبية المعنية بسوريا من زاوية موضوع اللاجئين على الأقل ما زالت تتعامل بحذر مع السلطة الجديدة، ولم تطلق وعوداً بشأن المساهمة في إعادة الإعمار، لعلها تنتظر أن تسبقها الدول العربية الغنية المنتجة للنفط. تركيا المزهوة بإنجاز تكاد تنسبه إلى نفسها، أعني إسقاط نظام الأسد، عينها على فرص الاستثمار لشركاتها قبل كل شيء، والعين الأخرى على شمال شرق سوريا حيث تجد أن الفرصة سانحة للتخلص من قوات سوريا الديمقراطية وإدارتها الذاتية في مناطق سيطرتها قبل دخول ترامب إلى البيت الأبيض بعد أسابيع قليلة. ولعل طموحها يصل إلى درجة لعب دور “الأخ الأكبر” للسلطة الجديدة.
ربما كان أبرز المتوجسين بين الدول من سقوط نظام الأسد، مصر والإمارات العربية المتحدة، وسيكون عليهما التأقلم مع الوضع الجديد ولو على مضض. ربما ينطبق ذلك على الصين أيضاً التي ترى في سقوط النظام الذي واظبت على تأييده في مجلس الأمن منذ بداية الثورة مكسباً صافياً للتحالف الغربي الذي يسعى لتطويق طموحاتها.
أحمد الشرع المعروف بقدرته على الاقناع ولا يخفى طموحه السياسي على أحد، حذِرُ في تصريحاته، يتجنب الشراك التي تنصب له، ويقول ما هو مقبول في الداخل كما مع مندوبي الدول الذين يلتقي بهم أو وسائل الإعلام التي تلاحقه. أما في الإجراءات، كتشكيل حكومة تصريف الأعمال أو إعادة العمل في دوائر الإدارة العامة أو تعيين محافظين أو تنظيم العلاقة مع السكان في شؤون الأمن وغيرها، فهو يتصرف بصورة أحادية، ويبدو أنه حاسم في رفضه اعتماد قرار مجلس الأمن رقم 2254 أو التعاون مع أطر المعارضة المعترف بها دولياً في المهجر.
لعل أكثر ما يلفت النظر في “براغماتية” أحمد الشرع هو تعاطيه العاقل مع الاستفزازات الإسرائيلية، وانفتاحه على علاقة طبيعية مع موسكو، وتجنب إطلاق تصريحات استفزازية ضد طهران. هذه من علامات نضج سياسي بعد عمر أمضى الرجل جله في العمل الميداني الجهادي في العراق وسوريا، وفي حكم منطقة إدلب طوال السنوات السابقة والتعامل مع الفصائل الأخرى.
ويكاد يكون الشخص الوحيد الذي يمارس السياسة بمعناها الحقيقي في سوريا اليوم. هذا ما يجعل أكثر التساؤلات يدور حول مقدار سيطرته على هيئة تحرير الشام ومداها الزمني المحتمل، وعن مدى قدرته على ضبط الوضع الأمني بالعديد المحدود لقوات التحالف الذي يقوده، ومدى قدرته في الحفاظ على استقلالية القرار الوطني وسط قوى دولية عاتية تمارس على السلطة الجديدة ضغوطاً متفاوتة تحرّكها روائز مصالحها الخاصة في “الكعكة السورية”، ومدى استمرار حيازته على قبول شعبي يحتاجه في تعزيز شرعيته الثورية. وبقدر ما تتوقف هذه العناصر على استمرار أدائه الحالي، فهي ستتأثر أيضاً بمدى التجاوب المحلي والدولي مع المتطلبات العاجلة لبناء دولة جديدة من الصفر تقريباً تمثل جميع السوريين وتحظى بدعم من دول صديقة.
من مفارقات الأسبوعين الفائتين أن البيئة الموالية لنظام الأسد كانت، لأسباب مفهومة، الأكثر تجاوباً مع سياسة الهيئة تجاهها، وحين تتعرض مناطقهم لانتهاكات فهم ينسبونها إلى فصائل أخرى ويستنجدون بهيئة تحرير الشام لحمايتهم منها، بعد سنوات من شيطنتها والمساهمة الفعالة في الصراع ضدها. هذه أيضاً براغماتية مقابلة أو واقعية سياسية مطلوبة. بالمقابل ثمة أوساط تسعى ما وسعها ذلك إلى التخريب على هذا الوضع، سواء من فلول النظام المخلوع أو من أفراد من الفصائل “المنتصرة”.
وثمة أيضاً من يخلطون بين المتطلبات السياسية العاجلة ومسبقاتهم الإيديولوجية على ما شهدنا في مظاهرة ساحة الأمويين الأسبوع الماضي حين رأينا أصواتاً تنادي “علمانية! علمانية!” وكأنهم يحتجون على إقرار دستور ينص على إسلامية الدولة السورية وتطبيق الشريعة فيها. في السياق الذي ارتفع فيه هذا الشعار لا يمكن أن يعني غير “النضال” ضد السلطة الجديدة ولم يمض عليها أكثر من عشرة أيام، في الوقت الذي تحتاج سوريا فيه إلى كل شيء باستثناء الاستقطابات الداخلية الحادة.
المعارضة السياسية الموجودة خارج سوريا مرتبكة لا تجد لنفسها موقعاً في المشهد السياسي، كما لو أنها مستسلمة لانتهاء دورها بنهاية نظام الأسد. فهي تجني الحصيلة الهزيلة لعملها طوال العقد الماضي، ربما تنتظر أن تمنحها الدول الفاعلة في سوريا اليوم دوراً من خلال القرار 2254، بعدما فشلت في الحصول على أي نفوذ اجتماعي بين السوريين.
يجتهد المحللون في تحديد أبرز الرابحين والخاسرين في سوريا بعد الثامن من الشهر الجاري، فيعدّون تركيا وإسرائيل بين الأوّلين، وإيران وروسيا بين الأخيرين. ولا أحد يذكر النظام المخلوع كخاسر، فهو قد خسر مسبقاً منذ سنوات طويلة، وسقط كثمرة معفنة من تلقاء ذاته. وكذا قلما ينظر أحد إلى سوريا كدولة خسرت كل شيء لتفوز فقط بجائزة ترضية هي نافذة أمل مفتوحة على المستقبل، ويتوقف على السوريين أنفسهم أن يحولوها إلى مستقبل يستحقونه.
القدس العربي