سودانايل:
2025-03-09@23:30:06 GMT
كتاب: الرقص الشعبي في السودان بحث في إستطيقا الجسد
تاريخ النشر: 25th, April 2024 GMT
المقدمة 1-2
د. محمد عبدالرحمن أبوسبيب
هذا عنوان لكتاب - (قيد النشر) - وهو توأم، من حيث طبيعة الموضوع ومنهج البحث، لكتاب صدر من قبل عن مركز عبدالكريم ميرغني حول أدوات الزينة الشعبية وقيمها الإستطيقية وأصولها الثقافية. والكتابين دراسة في البعد التاريخي الحضاري للتجربة الإستطيقية (الجمالية) للإنسان السوداني وتأصيلها ضمن إستمرارية تاريخية لحضارة ممتدة في مساحة جغرافية واسعة شملت سودان وادي النيل وإمتداد السهول من حوله إلى الشرق والغرب والجنوب.
تسعى هذه الدراسة إلى تحقيق عدة أهداف: تقديم فن الرقص والتأكيد عليه كحقل معرفي أصبح تخصص علمي متميز؛ والتأكيد، نظرياً وعملياً، على الإستطيقا (علم الجمال) كعلم ومنظور لا يمكن تجاوزه في أي بحث أو مقاربة لأي منتوج أو موروث فني، وتعريف هذا العلم في مدارسه المعاصرة؛ والتأكيد على الموروث الشفاهي والغنائي الشعبي كضرورة منهجية في دراسة الرقص الشعبي؛ والتركيز على الدراسات الآثارية والتاريخية واللغوية والفولكلورية، ضمن الدائرة الأوسع للمنهج التكاملي، كمصادر أكثر موثوقية في تاريخ وأصول الفنون السودانية؛ وإستكشاف شبكة العلاقات الإثنية والثقافية التي تجمع بين الشعوب السودانية كما تبدو في نواحي الشبه بين كثير من الرقصات الشعبية من حيث البنية الحركية والموروث الوظيفي المرتبط بالرقص؛ والنظر في التراث كمعطى تاريخي ثقافي معاش، وبذلك يسهم في الإجابة على أسئلة قائمة منذ فجر الوعي القومي والحركة الوطنية في العقود الأولى من القرن الماضي والتي تتمحور في سؤال الهوية الثقافية والإثنية للشعوب السودانية. هذه الأهداف حددت مسارات البحث الثلاث، نظري وميداني وتحليلي، وشكلت فصول الدراسة وموضوعاتها.
تهدف هذه الدراسة، إذن، إلى إشراك الباحثين من ذوي الإهتمام بالتراث ودعوتهم إلى إيلاء الرقص الشعبي ما يستحقه من حضور في مشاريعهم، لأنه مكون ثقافي له أثره وخطره في وعي الإنسان السوداني بهويته وإنتمائه الثقافي، ولأنه رغم تميزه كأروع أساليبنا الفنية في التعبير المباشر عن ما نحسه ونرغبه، إلا أنه لم يسلم من بعض مقولات قاصرة مبعثها في الغالب تقاصر في إدراك البعد الإستطيقي والنفسي والإجتماعي للرقص، أو دافعها حمولة دينية متكلسة. من جانب آخر، ليس التراث، وفيه الرقص، كما يظن البعض موضوعاً يجري البحث فيه كمادة منسوبة دوماً إلى الماضي كما توحي بعض المعانى في كلمة تراث. ذلك أن ما نعيشه في حياتنا اليومية كأفراد وما تتدبره مجتمعاتنا في أفراحها وأتراحها وما تسوس به الطارئ من أحوالها سلماً أو حرباً ما هو إلا الحلقة المعاصرة في جدل مستديم بين ذخيرة الماضي من رؤى وتقاليد ومعتقد وبين مستجدات الحاضر ومطلوباته من حلول تستجيب لما تطرحه هذه المستجدات.
ومن منظور إستطيقي أوسع تتناول الدراسة الرقص الشعبي كتجربة تشمل كل ما هو مرتبط بالرقص من عادات ومعتقدات ووظائف ودلالات إجتماعية وسياسية، إلخ، ورصدها وتفسيرها في لحظة حرجة من التحولات المتسارعة التي أحاطت بحياة المجتمعات السودانية. ومن منظور تاريخي، فهذه التجربة قائمة ضمن سيرورة متصلة من التطور، وكل مراحل التطور السابقة هي، بالطبع، في عداد المجهول، وما هو مطلوب في محاولتنا هذه هو الإمساك بهذه اللحظة الحاضرة من التجربة وما يعتريها من تحول وموضعتها ضمن مسار حركة الوعي والإدراك الثقافي العام وفي متناول مباحث العلم المتخصص. كذلك، الرجعة إلى التراث الشعبي كمنشط ثقافي تاريخي معاش ينهض كضرورة عملية في هذه اللحظة التاريخية التي تتطلب بناء الدولة القومية على أسس من الحقائق التاريخية والثقافية التي تؤسس لهوية الإنسان السوداني ودولته. هذا وقد إشتملت الدراسة على سبعة فصول نوجزها فيما يلي كما ورد في مقدمة الكتاب.
تحت عنوان "الرقص في البحث العلمي" إشتمل الفصل الأول على متابعة المراحل التي إنتقل فيها منشط الرقص إلى دائرة النظر العلمي. يعتمد مؤرخو الفنون، بما فيهم مؤرخي الرقص، على الإكتشافات في علم الآثار وتفسيرها للوصول إلى بدايات ممارسة الإنسان للنوع الفني المعين. فقد إكتشف الآثاريون مثلاً وجود رسومات لأشخاص راقصين في كهوف بهيمبتكا في الهند عمرها 9000 سنة، ورسومات أخرى في مقابر مصرية ترجع إلى 3300 سنة، وكذلك رسومات لراقصين في خزف صيني وجدوها في الصين عمرها 4000 سنة. ويُستخلص من ذلك أن كثيراً من أنواع الرقص المعاصر يمكن إرجاعها إلى أصول في الرقص الطقسي والشعائري والإحتفالي عند الشعوب القديمة. هذا وقد جاءت الإشارة للرقص أيضاً في العديد من المصادر التاريخية القديمة، مثل الحديث عن الرقص الإغريقي في نصوص أفلاطون وأرسطو وبلوتارك ولوسيان، وما ورد في الإنجيل والتلمود حول أحداث مرتبطة بالرقص، وفي الألفية الأولى قبل الميلاد كُتبت عدة نصوص حول الدراما والرقص الهندي منها نص ناتياشاسترا natyashastra باللغة السانسكريتية والمنسوب للحكيم الهندي بهاراتا موني. وقد لاحظ الباحثون في العديد من الرسومات التي وُجدت في أوروبا وأفريقية أشكال لصيادين في أوضاع راقصة وهم متخفون في أشكال حيوانات مفترسة متقمصين روحها وقوتها. وفي الدراسات الحديثة إرتبط النظر إلى الرقص كمنشط ثقافي بالدراسات الآنثروبولوجية وجذورها التاريخية في السياسات الثقافية لأوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وبروز علم الفولكلور كنتاج للتطلعات السياسية في ذلك الوقت حيث أُعتبر التراث الشعبي، وضمنه الرقص الشعبي، نشاطاً ثقافياً يعبّر عن الهوية الوطنية. ومع تبني الإنجليزي وليم توماس William Thomas مصطلح فولكلور في العام 1846 تحولت صيغة التراث الشعبي إلى مصطلح أكاديمي إكتسب مع الوقت مضامين جديدة نتيجةً للتطور الجاري في الدراسات حول الموضوع وتعدد نظرياته ومناهجه.
تعتبر الأمريكية قيرترود بروكوش كوراث Gertrude P. Kurath، المتوفية في 1992، من أوائل دارسي الرقص الذين جمعوا في بحثهم بين الجانب العلمي، كمتخصصة في الموسيقى الشعبية، والعملي الإحترافي، كراقصة، وذلك في ستينيات القرن الماضي؛ ويعود إليها كذلك الإسهام في بروز المصطلح إثنوكوريولوجيا Ethnochoreology، والذي يشير إلى دراسة الرقص الإثني ethnic dance. هذا وقد إتسع معنى هذا المصطلح ليشمل دراسة الرقص من خلال تطبيقات علوم مختلفة في محاولة للإجابة أكاديمياً على السؤال حول دوافع الإنسان لممارسة هذا الفن ومدلولات ذلك. في العام 1962 إعتمد المجلس العالمي للموسيقى التقليدية International Council For Traditional Music (ICTM). هذا المصطلح كمفهوم علمي، ومهد الطريق لأجيال الباحثين في حقول علمية مختلفة لدراسة الرقص.
هذا التطور في دراسة الرقص جذب إليه أيضاً علماء الإستطيقا والباحثين والأكاديميين الذين إنخرطوا في مجال الدراسات الثقافية cultural studies، وهو حقل جديد نشأ في الجامعات البريطانية في الخمسينيات مستنداً في مشروعه على قاعدة من الفكر السياسي والفلسفة والإقتصاد السياسي الماركسي، ثم تطور في إتجاهات نظرية ومنهجية منفتحة على مستوى المؤسسات الأكاديمية حول العالم. هذا الإنفتاح النظري والمنهجي أتاح لدارسي الرقص المبادرة في إستقصاء كل ما بدا لهم من جوانب متعلقة بهذا المنشط الثقافي والذي لم يجد الإهتمام الكافي في الأكاديميا الغربية. في هذا الحقل العلمي بدأ الحماس في دراسات الرقص بطابعه الآيديولوجي في منتصف الثمانينيات عندما شرع عدد من المثقفين، الكثير منهم راقصين، في الإستجابة لموجة التحولات المؤثرة التي أخذت تعيد تشكيل الدراسات الإنسانية والإجتماعية خلال الحقب التالية للحرب العالمية، مثل البنيوية وما بعد البنيوية، وتحت هذا الإسم ظهرت العديد من تيارات ونظريات الجندر والتفكيكية وإتجاهات ماركسية بتأثير غرامشي وألتوسير وغيرهم، إلى جانب دراسات ميشيل فوكو والأعمال المستندة على علم النفس.
من ناحية أخرى، إحتوت موسوعة الإستطيقا Encyclopedia of Aesthetics الصادرة في 1998م على العديد من المقالات حول الرقص، والتي تعكس في مجملها المنطلقات الفكرية والمنهجية التي تبين حدود وآفاق هذا العلم في تناوله للرقص. وتتناول بعض المقالات موضوعات أكثر تحديداً بحسب عناوينها مثل: الرقص والنقد الفني، الرقص الحديث، رقص ما بعد الحداثة، تنويت الرقص Dance notation، المعنى الوجودي للرقص Ontology of dance، إلى جانب مقالات أخرى ناقشت قضايا الأصالة في الفن وأنواع فنون الأداء Performing arts ألقت بدورها مزيداً من الضوء على منشط الرقص.
ومن القضايا الهامة التي عالجها البحث العلمي أصل الرقص ومنشأ إبداعه، وضمن هذا المبحث كان النظر في علاقة الرقص بالحيوان وعلاقته بالإيقاع الموسيقي. والحيوان، في كل أجناسه، ظل كائناً حياً مشاركاً للإنسان في الحياة على هذا الكوكب، ونشأت بينهما علاقة ضرورية إمتدت من العداء والعنف إلى المسالمة والإستخدام، وأصبح الحيوان عنصراً هاماً في الوجود المادي والفكري والروحي للإنسان وطرفاً يستوحيه حتى في ترميزه للصفات والقيم السائدة مثل السلام والحكمة والشجاعة والذكاء والخبث والتحمل والجمال، إلخ. وضمن هذه العلاقة أمكن النظر في الصلة بين الحيوان وأنواع من الفنون ومن بينها الرقص. ومن الدراسات القيمة في هذا الجانب، دراسة ستيفن لونسديل المعنونة (الحيوانات وأصول الرقص Animals and the origins of dance) والتي ربط فيها بين الماضي والحاضر من خلال رصد للأساطير وعلاقتها بأشكال الرقص الذي ما زالت تمارسه جماعات إثنية في كل القارات.
كذلك يقود البحث في أصل الرقص إلى طبيعة العلاقة بين الرقص والموسيقى، وتحديداً بينه وبين عنصر الإيقاع، نظراً للعلاقة العضوية بين حركة الجسد الراقصة وبين شكل من الإيقاع سواءً كان مُنتجاً بآلة ما أو حتى مُستبطن من قبل الشخص الراقص. وإذا كان من من الصعوبة تصور أن راقصاً في ثقافة ما أمكنه أن يبتدع في نفس الوقت رقصة معينة وإيقاعها الملازم لها سيكون من المنطقي طرح التساؤل حول أيهما جرى إبتداعه أولاً، الحركة الراقصة أم الإيقاع ؟ أو بصيغة أخرى، أيهما، بعد إبتداعه، أوحى أو ألهم أو أدّى بطريقة ما إلى إبتداع الآخر؟ يترتب على هذه الأسئلة فرضية هامة وهي أن إبتداع تلك الرقصة ولو في أبسط أشكالها أو إبتداع ذلك الإيقاع مهما كان بسيطاً لا يمكن أن يصدر عن تصور ذهني أو شكل متخيل لا صلة له بالواقع المعاش لذلك الراقص. وقد أدرك الباحثون وثوق الصلة بين الإيقاع الموسيقي وبين الإيقاع الذي تسير عليه حركة الجسم الإنساني، وأن للموسيقى أصلاً عضوياً أو طبيعياً ما دامت الحركة الإيقاعية فيها ترديداً لحركات مناظرة لها داخل الجسم الإنساني، الأمر الذي يؤدي إلى تكوين ما أسموه بالحاسة الإيقاعية لدى الإنسان. ويستدلون على ذلك بشكل الإستجابة العفوية للطفل لدى سماعه للموسيقى والمتمثلة في تمايل إيقاعي مع إيقاع الأنغام. وخلاصة القول هنا أن الجسد الإنساني، كموجود مادي مزوّد بحاسة إيقاعية فطرية، يترجم لغة الآلة الموسيقية، أو أي مصدر معادل لهذه الآلة، إلى لغة مغايرة تماماً هي لغة "آلة" الجسد، وهي حركة الجسد في المكان بحيث تتناظر أشكال هذه اللغة/الحركة في كل مراحلها مع مراحل التنظيم الزمني للموسيقى والتي هي عنصر الإيقاع. كما أن الإدراك الحسي للحركة kinesthesia وبحكم تعريفها العلمي عملية طبيعية تحدث عندما يتلقى الدماغ ردود فعل من العضلات والأربطة والأوتار حول كيفية تحرك الجسد، ووعينا بحركة جسدنا kinesthetic awareness هو شعورنا بعضلات الجسد وأربطته وأوتاره أثناء حركتها أو سكونها. النظر في هذه العلاقة قادت إلى السؤال الأشمل حول أصل الفن كمنشط إنساني، وماهية فعل الإبداع الذي أنتجه بإفتراض أنه نشاط رافق المراحل الأولى لتطور الكائن الإنساني بحسب ما توصلت إليه البحوث العلمية المتأخرة، خاصةً مباحث الإستطيقا Aesthetics والآنثروبولوجيا الثقافية Cultural Anthropology وعلم الإجتماع Sociology وعلم السلوك Ethology والتي تؤسس للإدراك الإستطيقي كملكة لدى الإنسان سابقة ومهيئة لظهور الفن. نواصل.
abusabib51@gmail.com
////////////////////////
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: العدید من النظر فی
إقرأ أيضاً:
قضية الصحراء ومفهوم الحكم الذاتي في المغرب.. القصة الكاملة في كتاب
الكتاب: قضية الصحراء ومفهوم الحكم الذاتي وجهة نظر مغربيةالكاتب: محمد بوبوش
الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية العدد 130، الطبعة الأولى، 2008.
عدد الصفحات: 140 صفحة
ـ 1 ـ
يعود بنا الباحث محمد بوبوش إلى بعض المعطيات التاريخية لنفهم في ضوئها أصل معضلة الصحراء الغربية. فيذكّرنا بتواطؤ الدول الاستعمارية الغربية، خلال مؤتمر الجزيرة الخضراء الذي عقد عام 1906 على اقتسام الأراضي المغربية. فاستأثرت إسبانيا بالشمال المجاور لها وبالجنوب الصحراوي وبجيوب في الوسط (سيدي إيفني وطرفاية). ومُنحت فرنسا مناطق الوسط. أما مدينة طنجة التي تمثل منطقة إستراتيجية بالنظر إلى موقعها المطل على أوروبا فتم إبقاؤها تحت نظام دولي تولت الإشراف عليها كل من المملكة المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإسبانيا. وتمت ترضية ألمانيا التي تم استثناؤها من الأراضي المغربية، بتعويض من مستعمرات فرنسا بأفريقيا جنوب الصحراء.
من الطبيعي إذن أن تشعر إسبانيا صاحبة النصيب الأوفر، بالخطر بعد استقلال المغرب عام 1956. فعززت وجودها العسكري ليبلغ في مجمله ضعف عدد السكان المدنيين آنذاك ووضعت مخططاً لتهجير مواطنيها إلى الصحراء لتذويب الإقليم وفرض هيمنة ثقافية إسبانية. وعينت ممثلين له في البرلمان الإسباني، وكانت حجتها أن الصحراء أرض خلاء لا مالك لها.
ـ 2 ـ
وبالفعل فقد عملت المملكة المغربية على بسط نفوذها على "كامل أراضيها"، من منظور الباحث طبعا. فاعترف الراحل الحسن الثاني بدولة موريتانيا أثناء مؤتمر القمة الإسلامية الذي انعقد بالمغرب في العام 1969، بعد أن كان يعارض استقلالها عن فرنسا، الذي تحقق في العام 1960 وأُعلن المختار ولد داده رئيسا لها، باعتبارها جزءا من التراب المغربي بدورها. وكان يستهدف من وراء ذلك استرجاع الإقليم الصحراوي واقتسامه معها. وكثّف من اتصالاته بإسبانيا وأرسل المبعوثين إلى عدد من دول العالم ثم قرر الاحتكام إلى القانون الدولي. فعرض المشكلة على محكمة العدل الدولية.
الاختصاصات التشريعية لهيئات الحكم الذاتي تظلّ محددة بحدود المصالح الإقليمية التي كلفت بتحقيقها وتنفيذها ذاتياً، وتظل الدولة ببرلمانها المركزي أصلاً في مباشرة اختصاصات الوظيفة التشريعية. ولكن مبدأ السيادة يعني عدم المساس بالمصالح العليا للمجتمع المغربي والمحددة دستورياً. لذلك تبقى مسألة الوحدة الترابية وإبرام الاتفاقيات الدولية والمصادقة عليها من احتكار الدولة المركزية.وأفضت قمة ثلاثية بتلمسان في 7 ماي 1970، جمعت الجزائر والمغرب وموريتانيا، إلى اتفاق يقضي بضبط الحدود بين المغرب والجزائر، تتخلى المملكة عن الأراضي المختلف عليها لفائدة الجزائر. وتمكنها من المرور إلى المحيط الأطلسي عبر سكة حديد لشحن نصيبها من حديد غارة "جبيلات" عبر ميناء مغربي بعد أن تُستغل مناجم الحديد الواقعة داخل المناطق المتنازع عليها بواسطة شركة مختلطة. وكانت كل المؤشرات تدفع نحو الاعتقاد بوجود تفاهم مغاربي من أجل تصفية الاحتلال الإسباني من الصحراء. ولكن إسبانيا أعلنت في تموز / يوليو 1974 خطة موازية تستهدف منح الإقليم الصحراوي الاستقلال الذاتي.
ـ 3 ـ
لسحب لبساط من تحت أقدام إسبانيا الضعيفة بسبب مرض فرانكو الأخير ودفعها إلى التفاوض حول الانسحاب من الإقليم، أعلن الحسن الثاني في 16 أكتوبر 1975 عن تنظيم "مسيرة خضراء" سلمية نحو الإقليم بمشاركة 350 ألف متطوّع. وبالفعل اضطرت إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع المغرب وموريتانيا، وإلى توقيع اتفاقية مدريد الثلاثية بتاريخ 14 نوفمبر 1975. ولكن مقابل هذا الانتصار، اندلعت في شباط 1976 مواجهات لم تهدأ حتى اليوم، لمّا أعلنت جبهة البوليساريو إقامة "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" في منطقة الصحراء بدعم من الجزائر الممتعضة من استبعادها من الاتفاق. وإثر الوساطات العربية انتهت أول مواجهة عسكرية مغربية جزائرية بعد ثلاثة أيام من اندلاعها في يناير 1976. ولكن المواجهة الدبلوماسية لا تزال قائمة حتى اليوم وظلت تعطل مشروع قيام المغرب الكبير.
ـ 4 ـ
على مدار نصف قرن من بداية المشكل طُرح أكثر من حلّ لمشكلة الصحراء منها إجراء "استفتاء تأكيدي" في الصحراء بناءً على مقررات منظمة الوحدة الإفريقية سنة 1981. وهذا ما قبلت به المملكة المغربية. ولكن الجزائر اشترطت أثناء ضبط الترتيبات، الاتفاق مع الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" حول التفاصيل الإجرائية. وكانت جبهة البوليساريو، الجناح العسكري للصحراويين، قد أعلنت قيامها في شباط 1976 ووفرت لها الجزائر الدعم السياسي. فضُمّت إلى منظّمة الوحدة الإفريقية. وبديهي أن يرى المغرب في المفاوضات مع "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" اعترافا ضمنا بوجودها وخطوة حاسمة ستنتهي بالتفريط في الإقليم.
وفي أغسطس 1988 قدم خافيير بيريز دي كويلار مخططا تفصيليا لتسوية مسألة الصحراء. ولكن تعقيدات تقنية في ظاهرها سياسية في جوهرها، عصفت بهذا المخطط. فقد اشترطت الخطة خروج القوات المغربية من الإقليم، ووقف إطلاق النار، وهو ما التزم به المغرب وفق الباحث. وطُرحت قضية المؤهلين في المشاركة في الاستفتاء. فقد اشترط المغرب ضرورة تمكين جميع الأشخاص المنحدرين من أصول صحراوية من المشاركة باعتبارهم جزءا من الهوية الصحراوية ومن المجتمع الصحراوي.
أما جبهة البوليساريو التي تعد طرفاً رئيسياً في النزاع، فاقترحت أن يشكل الإحصاء الإسباني العام 1974 الأساس الحصري للناخبين، وأن يتمّ تجميع الصحراويين الموجودين في مخيمات تندوف" (التي تقع جنوب غربي الجزائر، والتي توجد فيها معسكرات البوليساريو)، في "منطقة محايدة"، وهو ما رفضه المغرب وما جعل منظمة الأمم المتحدة عاجزة عن تنظيم هذا الاستفتاء بالنتيجة.
ـ 5 ـ
في مارس 1997 توصل جيمس بيكر بصفته مبعوثا شخصيا للأمين العام للأمم المتحدة مكلفا بقضية الصحراء إلى معايير تضبط هوية الناخبين الذين يحق لهم المشاركة في الاستفتاء لتقرير مصير إقليم الصحراء لاقت قبول كل من الحكومة المغربية وجبهة البوليساريو، وعُرفت باتفاقية "هيوستن". ولكنّ مجلس الأمن الدولي أصدر في 29 تموز 2000 مبادرة فرنسية ـ أمريكية تستبعد خطة الاستفتاء وتقترح بالمقابل حكما ذاتيا واسعا في الصحراء المتنازع عليها، عن طريق هيئات تنفيذية وتشريعية وقضائية، تدير الشؤون المحلية كافة، فيما تشرف السلطة المركزية في الرباط على الشؤون الخارجية والدفاع والنقد. وبسبب رفض الجزائر وجبهة البوليساريو لهذه الخطة طُرحت فكرة التقسيم بحيث يمارس المغرب سيادته على شمال الصحراء الذي يسمى إقليم الساقية الحمراء، فيما تبسط جبهة البوليساريو سيادتها على إقليم وادي الذهب الجنوبي. وبالمقابل رحب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، بالمقترح عند حضوره احتفالات تخليد ذكرى تأسيس جبهة البوليساريو في تندوف بالجزائر شخصياً قام العاهل المغربي بجولة ميدانية في كبريات مدن الصحراء، وألقى هناك خطاباً أكد فيه "عدم تفريط المغرب في شبر واحد من منطقة الصحراء". ثم رفض لاحقا صيغا معدّلة من هذه الخطة.
ـ 6 ـ
واليوم تصرف المملكة كل جهودها لفرض حل الحكم الذاتي لمعضلة الإقليم. فهو يمثل السبيل الأمثل الذي يحفظ كل مصالحها. فسلطة الحكم الذاتي تنبع من سلطة الدولة المركزية التي هي سلطة أصلية والنظام القانوني في الوحدة المحكومة ذاتياً هو نظام تابع لنظام الدولة المركزية القانوني.
تتضمن رؤية المملكة للحكم الذاتي لجهة الصحراء مؤسسات عديدة. منها مجلس تشريعي ومجلس تنفيذي وهيئة قضائية. فينصب المجلس التشريعي على أساس الانتخاب العام المباشر لأعضائه من الجهة وتضمن فيه النساء نسبة معينة. ووفقا لمبدأ التفويض لصالح السلطة المحلية يمارس جميع الاختصاصات غير الممنوحة للمملكة. ويتولى سن القوانين وإصدار القرارات المحلية في إطار محدد. وعليه يكون مسؤولا عن صياغة جميع القوانين المعمول بها في الصحراء الغربية. وتستثنى من ذلك القوانين المتعلقة بالسلطات المخصصة للمملكة المغربية.
تصرف المملكة كل جهودها لفرض حل الحكم الذاتي لمعضلة الإقليم. فهو يمثل السبيل الأمثل الذي يحفظ كل مصالحها. فسلطة الحكم الذاتي تنبع من سلطة الدولة المركزية التي هي سلطة أصلية والنظام القانوني في الوحدة المحكومة ذاتياً هو نظام تابع لنظام الدولة المركزية القانوني.ويشكل المجلس التشريعي الإقليمي هيئة تنفيذية تتكون من عدد من الأعضاء، ويشرف كل عضو منهم على إدارة من الإدارات الإقليمية. أما السلطة القضائية فتتولاها المحاكم التي تقتضيها الحاجة، ويتم اختيار القضاة من المعهد الوطني للدراسات القضائية على أن يكونوا من أبناء الصحراء.
ـ 7 ـ
هكذا يمارس السكان الحكم الذاتي للصحراء، داخل الحدود الترابية للجهة، عدة اختصاصات ولاسيما عبر هيئات تنفيذية وتشريعية وقضائية، ووفقا لمبادئ الديمقراطية. فبموجب قوانين المركزية يمكن تفويض الإقليم للقيام بمهام تشريعية وتنفيذية سيادية نيابة عن الدولة. ولكنه يظلّ إدارة تكميلية في ممارسة السلطة التشريعية للدولة كتحديد الميزانية والنظام الضريبي الإقليمي أو إنفاذ القوانين والأمن الداخلي أو الإشراف على الرعاية الاجتماعية والثقافية والتعليم والتجارة والنقل والتخطيط الجهوي وتشجيع الاستثمارات، والتجارة والصناعة، والزراعة والتعدين، ومصائد الأسماك، والصناعة، والسياسات البيئية، والإسكان والتنمية الحضرية، والمياه والكهرباء والطرقات والبنية التحتية. والتنمية الثقافية بما في ذلك النهوض بالتراث الثقافي الصحراوي الحساني، والبيئة.
يضمن هذا التصور سلطة العرش على الإقليم الصحراوي. فالاختصاصات التشريعية لهيئات الحكم الذاتي تظلّ محددة بحدود المصالح الإقليمية التي كلفت بتحقيقها وتنفيذها ذاتياً، وتظل الدولة ببرلمانها المركزي أصلاً في مباشرة اختصاصات الوظيفة التشريعية. ولكن مبدأ السيادة يعني عدم المساس بالمصالح العليا للمجتمع المغربي والمحددة دستورياً. لذلك تبقى مسألة الوحدة الترابية وإبرام الاتفاقيات الدولية والمصادقة عليها من احتكار الدولة المركزية.
حقّق هذا المقترح اختراقا دبلوماسيا دوليا وفق الكاتب محمد بوبوش. فقد وصفته فرنسا بأنه خطة "بناءة، وجددت دعمها المشروع الحكم الذاتي مشيرة إلى أنه قاعدة للتفاوض". أما إسبانيا التي تربطها بالمغرب معاهدة مدريد التي وقعها البلدان عام 1975 وظلت حكوماتها تتجاهلها فقد رحّبت عبر رئيس حكومتها، حين انعقدت الدورة الثامنة للجنة العليا المشتركة بين البلدين في ربيع عام 2004، بمشروع الحكم الذاتي الذي عرضنا. واعتبر البيان المشترك الصادر عن اجتماع اللجنة المشتركة مشروع الحكم الذاتي الذي تقدمت به الرباط "نقطة انعطاف داخل المأزق الذي يوجد فيه ملف الصحراء منذ سنين عديدة." ويعتبر هذا الموقف تحولاً كبيراً في الموقف الإسباني.
ـ 8 ـ
يذكر الباحث عديد الوقائع التاريخية الثابتة. وعرضُها على النحو الذي ورد في "قضية الصحراء ومفهوم الحكم الذاتي وجهة نظر مغربية" يدفع إلى التسليم بمغربية الصحراء. ولكنّ الأثر لم يخل من عمل انتقائي. فهو يسكت عن وقائع أخرى قد يدفع عرضُها إلى التسليم بوجهة نظر جبهة البوليساريو أو الجزائر حول تشكيل الإقليم لهوية ثقافية واجتماعية مستقلة. من ذلك أنّ الأمم المتحدة أرسلت بعثات متعددة في أواخر عام 1975 واستندت إلى محكمة العدل الدولية.