في روايتها الرابعة "خاتم سليمى، التي صدرت طبعتها الثانية عن دار تنمية المصرية في عام 2024، تكتب الكاتبة السورية، المقيمة في مدريد منذ عام 2015، ريما بالي بطريقتين مختلفتين، رغم أنه من الصعب قطع الشعرة بين هاتين الطريقتين. فهي من جهة تروي حكاية سليمى وحكاية مدينة حلب السورية خلال فترة، أو فترات زمنية مختلفة، جامعة أشياء مكانية وروحية وشخصية تميز مدينة حلب عن غيرها من المدن، وفي الوقت نفسها قد تقربها، تلك الميزات من مدن أخرى في قارة أخرى، ولكن هذه الحكاية ستكون فضاء للحكاية الأساسية الأخرى.

وترشحت الرواية للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية التي تضم 6 روايات من المقرر اختيار واحدة منها في 28 أبريل/نيسان الجاري لنيل الجائزة البالغ قيمتها 50 ألف دولار.

ومن جهة أخرى، تقوم ريم بالي (ولدت في عام 1969) بتأليف حكاية حب، بل حكايات حب، ضمن هذه الحكاية الأولى، ولشخصيات تنتمي إلى أماكن خارج حلب، لكي تقوم بشرح وتفكيك حلب، وكذلك لشرح وتفكيك مدينة أخرى تشبه حلب بطريقة أو بأخرى. وهذا بالذات يطرح سؤالا جوهريا: هل يتشابه الناس روحيا وذوقيا وأخلاقيا وفنيا لو كانوا من مدن متشابهة؟ وما تأثير تلك المدن على مصائر الناس؟

الخاتم ودلالاته

عند ذكر خاتم ما، قوي ومختلف وذي سلطة، لا بد أن يذهب ذهن أحدنا إلى "خاتم سليمان"، فهو الذي منحه الله لسليمان لكي يستطيع السيطرة على البر والبحر والرياح ومخلوقاتها. وشهيرة هي قصة غنى وقوة النبي سليمان مع خاتمه، وعوزه وفقره وضعفه من دونه، ثم استعادة قوته من خلال استعادة الخاتم. وريم بالي منحت عنوان رواياتها ذلك النحت اللغوي من تلك القصة، فالشخصية الأنثوية الأساسية "سليمى" هي التي تعرف قوة ذلك الخاتم وتلك الحكاية، وتؤمن بكلا الأمرين، لذلك تصنع خاتمين متشابهين لكي تحقق نبوءة في زمن خلا من تلك النبوءات.

وهذا ما جعل مفتتح الرواية يكون مع عثور أحد البطلين الذكرين الرئيسيين في العمل على خاتم سليمى في الحمامات الخاصة بالرجال في بيروت. ونكتشف في نهايات الرواية من الذي ترك له الخاتم هناك عمدا، لكي تتحقق نبوءة سليمى مع العاشق الأصغر سنا، بعد أن أخفقت مع المعشوق الأكبر سنا.

تستفيد ريم بالي من سحر حلب، وخاصة حلب القديمة، ببيوتها وبلاطاتها وأسواقها وتراثها وروائحها وأكلاتها، بينما يكون أناسها أصحاب حظ كبير في الانتماء لذلك المكان. وحتى الغرباء الذين يأتون إليها، مثل الموسيقي الإيطالي سيلفيو أو المصور الإسباني لوكاس، يغرقون فيها وينتمون لها في النهاية، غير قادرين بسهولة على الفكاك من ذلك السحر.

الكاتبة السورية المقيمة في مدريد منذ عام 2015 ريما بالي لها 4 أعمال روائية (مواقع التواصل)

ولكن بالي تقدم حلب في زمن حديث، رغم عودتها الاضطرارية للزمن القديم وتراثيته، مازال محافظا على ذلك السحر الذي تنشره حلب في دواخل حياة الناس. وعندما تحصل الثورة، أو الحرب الأهلية أو الأحداث، في سوريا ضد نظام الأسد (في ربيع عام 2011)، وتصل تلك الثورة إلى حلب، يتهدم كل ذلك السحر لتلك المدينة، وتطفو وحشية الناس، المقيمين أو الغرباء المجاهدين، على كل ذلك السحر الذي ينطفئ، سوى في دواخل الناس الخائفين والعاشقين، لتنير القسوة والوحشية المكان.

ولأن بالي تذكر أسماء حقيقية لأشخاص عاشوا وقتلوا خلال تلك الأحداث المستمرة، مثل الصحفية الأميركية ماري كولفن والمصور الفرنسي ريمي أوشليك اللذين قتلا في مدينة حمص في فبراير/شباط 2013، خلال قصف لقوات النظام السوري عليها، سيظن أحدنا أن كل ما هو في الرواية حقيقي وغير متخيل. ولكن هناك جزء جيد من الرواية متخيل، رغم أنه يبدو أقرب إلى الحقيقي، وهي ميزة إيجابية تحسب للرواية في إيهام القارئ بأن ما بين يديه سيرة لشخصيات وأمكنة وعلاقات حقيقية.

فن وفكر وآراء

ولأن الرواية قد تبدو لبعضهم بهذا المعنى، فقد يصدق الرأي الذي فيها بأن "مفاجآت كثيرة تكشفت في تلك الفترة، إذ تبين أن كثيرا ممن كانوا طوال السنوات السابقة يتذمرون علنا من النظام وطريقة حكمه للبلاد، هم من أشد الموالين له في لحظاته الحرجة، تناغما مع مصالحهم التي قد تدمرها فوضى التغيير إن حصلت، وبالمقابل تبين أن كثيرا من الصامتين الخانعين أو المواطنين الصالحين خلال عشرات السنوات السابقة، هم من أشد المعارضين والراغبين بخلع النظام عن كرسي الحكم. كان لكل طرف أسبابه، ولم تكن كل الأسباب نزيهة، إذ كان الكثيرون يعارضون أو يوالون النظام انطلاقا من أسباب طائفية بحتة، أو مصالح اقتصادية" (الصفحة 184-185) وهو رأي فيه تعميم قد يجافي الواقع، خاصة أنه رأي لم يأت في حوار بين شخصيتين، بل يقوله الراوي العالم.

وشيء آخر، يتعلق بهذا الرأي، تكرسه ريما بتحول عازف ومنشد في فرقة سيلفيو الإيطالي عاشق حلب ومعشوق سليمى، إلى مقاتلين طائفيين ضد بعضهما البعض، وهذا ربما يحتاج لنقاش كبير.

وبهذا المعنى تمرر ريما بالي رأيها من خلال الراوي العالم، الذي لا يبقى راويا وحيدا في العمل، بل يتبدل، ولو بشكل قليل، بين عدة شخصيات، مثل سليمى ولوكاس.

وريما بالي تستخدم في كتابتها تقنيات متعددة في السرد في بناء حكايتها هذه، مثل الحوار وكتابة الأحلام وكتابة المذكرات والاستفادة من كتاب "مثنوي" لجلال الدين الرومي، وتاريخ الأمكنة.

ومن خلال تقنية تفكيك المكان، استطاعت ريما أن تأخذ القارئ في رحلات إلى مدينة توليدو الإسبانية، حيث يعيش عاشق حلب وعاشق سليمى، المصور لوكاس، وأن تقوم بتقريب المكانين الرئيسين من بعضهما البعض، في تحليل داخلي لشخصية لوكاس نفسه. حتى يتفق الطرفان على أنه "ما أشبه حلب بتوليدو" (الصفحة 98). وهذه مصادفة غريبة، حيث إن حلب أدرجت في قائمة لليونيسكو لمواقع التراث العالمي في عام 1986، وهو العام نفسه الذي أدرجت فيه توليدو في القائمة ذاتها.

تقدم صاحبة رواية "ميلاجرو" (2016) حلب وناسها بطريقة لافتة، معتنية بالتفاصيل والأحداث والتواريخ، مقدمة العديد من الشخصيات المؤثرة والمنتمية لطبقات فكرية واجتماعية واقتصادية مختلفة، بينما اكتفت بالنسبة لشخصية لوكاس بتقديم زوجته وابنه وعائلاتهم، في قصص وحكايات مثيرة، من خلال اختلاف الدين أو الآراء.

ولوكاس هو إحدى الشخصيتين الذكوريتين الأساسيتين في الرواية. فسيلفيو الإيطالي الذي أسلم وسمى نفسه شمس الدين، أكبر من سليمى بكثير، وهي عشقته ولم تعد تعرف، وكذلك لم تعد تريد، كيف تتخلص من هذا العشق. عشقته لأنه "يعرف كل شيء".

بينما لوكاس، المصور الإسباني الشهير والمتزوج، وقع في حبها، وعاش تجربة الشموع والسجادة السحرية الغريبة، ولكنه بالنسبة لها، وللأخريات في حياته، "لا يعرف أي شيء". أحدهما يعرف كيف يتجنب الانسحاق تحت عجلات الحب، والآخر يغرق فيه، ولو من دون رغبة، بسبب طيبته وخجله، "فهو (أي لوكاس) في كل مرة ومع كل النساء اللاتي مررن في حياته، لا يعرف كيف يوجه دفة العلاقة، ولا يعرف كيف ينهيها حين يشعر في الرغبة في ذلك، فقد تعود أن يتجاهل رغباته خوفا من دموع النساء وخشية إيلامهن" (ص 230)، وربما خجل لوكاس هو السبب الأساسي الذي دفعه ليختار مهنة التصوير الفوتوغرافي ويترك كلية الحقوق، لكي يختبئ خلف الكاميرا، أو لأن الكاميرا تستطيع أن تخفي دواخله عن الآخرين.

زمن الخط الرئيسي للرواية هو تقريبا 20 عاما، ولكن صاحبة رواية "غدي الأزرق" (2018) تأخذ القارئ في رحلات زمنية مختلفة، لتتبع تاريخ عائلات الشخصيات ومدنها، وبالتالي يصبح الزمن فضفاضا في هذا العمل. وبسبب ذلك تتجول الرواية كذلك في أماكن مختلفة مثل حلب وبيروت وفرنسا وإيطاليا وتوليدو ومدريد وسانتاندير.

وفقت صاحبة رواية "ناي" في بناء الشخصيات الأنثوية والرجالية، وفي الحوارات فيما بينها، وتركت الشخصيات، في أغلب الأحيان، تذهب مرتاحة إلى مصائرها المختلفة، وأضفت عليها الكثير من العاطفة التي لم تفلت من بين يديها، فحولت روايتها "خاتم سليمى"، التي تجري في 304 صفحات، والتي قد تبدو خاتمتها غريبة وغير مفهومة وقد تنسف كل شيء، إلى قصص حب واقعية وخيالية يتلبسها عشق المكان وسحره الغريب، وكذلك عنفه.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ترجمات حريات ذلک السحر من خلال

إقرأ أيضاً:

الفكر المركّب لإدغار موران .. ما الذي يمكن أن يضيفه في حقل التعليم؟

ربما ينطبق المثل القائل «لا نبيّ في قومه» على أعمال إدغار موران التي خصّصها لموضوع التعليم. لقد انكبّ عالم الاجتماع الفرنسي على البحث والكتابة في هذا المجال كثيرًا، غير أن إسهاماته كما يبدو لم تحظَ بالاعتراف داخل فرنسا. لا يجد رجل التعقيد والفكر المركّب في هذا الجزء من الأرض الوطن مثيلًا للتجاوب والتكريم اللذان يحظى بهما على مستوى العالم، وخصوصًا في أمريكا اللاتينية على سبيل المثال، والتي قد نسجت معه علاقةً قوية منذ ستينيات القرن الماضي.

في عام 1999، أطلقت منظمة اليونسكو «كرسي إدغار موران المتنقّل حول التعقيد والفكر المركّب»، كما أنها سهرت على نشر كتابه الموسوم «المعارف السبع الضرورية من أجل تعليم المستقبل» على نطاقٍ واسع، وهي دراسة كان موران قد أنجزها بطلبٍ من المدير السابق لليونسكو فيديريكو مايور ساراغوسا (Federico Mayor Zaragoza).

لقد وقف موران منذ أكثر من عشرين عامًا مضت على العديد من القضايا التي تهمّ منظومة التعليم (البيئة، الخطأ، المعارف، عدم اليقين، الرسالة التدريسية...)، ممّا دفع به إلى اقتراح مجموعة من الأفكار للنقاش من أجل مدرسةٍ يُنظر إليها باعتبارها مكانًا للإصلاح الفكري. لا تُطرح هذه المقاربة التي يقترحها موران كعلاج أو كوصفة سحرية من شأنها إنقاذ المدرسة، وإنما كتحدٍّ من أجل إعادة التفكير فيها من خلال منظورٍ معاصر ينتمي إلى القرن الحادي والعشرين.

يبدو هذا التحدّي الذي يدعونا موران إلى رفعه من خلال الفكر المركّب جليًّا إلى درجة أننا قد نتساءل لوهلة كيف أمكننا أن نستمر اليوم في تجاهله في سياقٍ تواجه فيه المدرسة العديد من الرّهانات. فسواء تعلّق الأمر بتحسين مستوى التلاميذ أو بالحاجة إلى الاختلاط الاجتماعي داخل المدارس، أو بإيصال فكرة العلمانية إلى الأجيال الجديدة، أو بالتفكير في توظيف المدرّسين، أو بإعادة تصميم المناهج الدراسية، يبدو أن كل شيء يشير إلى ضرورة إصلاح المدرسة.

وكما يوضح تقرير منظمة اليونسكو الذي نشر تحت عنوان: «إعادة التفكير في مستقبلنا معًا»، فإن الأزمة التي يواجهها التعليم على مستوى العالم ترجع بالأساس إلى المحتويات التعليمية التي لم تعد بتاتًا ملائمة للسّياق الذي نعيش فيه، وإلى أساليب التدريس والمناهج التربوية التي لا تأخذ بعين الاعتبار واقع الشباب، ولا تستجيب لاحتياجات الفئات الأكثر حرمانًا في المجتمعات وانتظاراتهم.

براديغم التعليم المركّب

من خلال إعادة وضعها للإنسان في قلب مجتمعٍ يشترك المصير نفسه، فإن الرؤية الأنثروبولوجية لإدغار موران حول التعليم تندرج في إطار مسعًى مجتمعي يجعل كل واحدٍ منا مواطنًا عالميا يعيش في عالمٍ يتعيّن علينا جميعًا أن نشترك في الحفاظ عليه كما في بنائه. وبالنّظر إلى الإشكاليات التي تواجهها المدرسة اليوم، فإن القيام بإصلاحاتٍ إجرائية لم يعد أمرًا كافيا. إن طريقة التفكير التي تأخذ بعين الاعتبار عالميةَ التحدّيات المعاصرة الكبرى تعدّ ضرورةً من أجل ضمان نقل المعارف إلى الأجيال الجديدة.

لقد كرّس موران نفسه لهذا الفكر التربوي من خلال تأليف ثلاثيةٍ تتشكّل من الأعمال التالية: «العقل المُحكم: إعادة التفكير في الإصلاح وإصلاح الفكر» (1999)، «ربط المعارف» (1999)، «المعارف السّبع الضرورية لتعليم المستقبل» (2000). واستُكملت الثلاثية بكتابٍ آخر صدر بعد حوالي خمسة عشر عامًا بعنوان «التدريب على الحياة: بيانٌ من أجل تعليمٍ آخر» (2014)، وقد اعتمد المخرج أبراهام سيغال (Abraham Ségal) على هذا الأخير في إنجاز فيلم وثائقي تناول تنزيل أفكار موران داخل خمس مؤسسات عامة.

لا ريب أن قضية الإصلاح التربوي ليست جديدة، فقد سبق وإن حاول المتخصصون في مجال التربية، مثل ماريا مونتيسوري (Maria Montessori) وتلاميذها، خلال أوائل القرن العشرين إحداث ثورةٍ في المدرسة في عصرهم. لكن المقاربة الحوارية التي يدعونا إليها موران من خلال الفكر المركّب يسمح لنا بالتفكير في المسألة من خلال النظر إلى جوانبها المتعددة، مثل الجانب المتعلق بانفتاح التخصّصات على بعضها البعض في المناهج الدراسية.

عبور التخصّصات في خدمة فهم الإنسانية

لا بد من توظيف التخصّصات المختلفة معًا وليس بشكل منفصل، من أجل التوصل إلى فهمٍ متقارب للوضع البشري. وعلى هذا الأساس يدعو موران إلى إصلاحٍ فكري يعلن عن كونه إصلاحًا تاريخيا وحيويا لأنه سيسمح لنا في نفس الوقت بالفصل من أجل المعرفة ثم بإعادة ربط ما كان منفصلًا.

وهكذا، فمن خلال إثارة «المفاهيم التي فُتّتت بفعل التجزئة التخصّصية: الإنسان والطبيعة والكون والواقع، على نحوٍ جديد»، فإننا سنحقق ما يعدّه موران شرطًا ضروريا للتعليم، ألا وهو «تنمية «القدرة على وضع المعارف في سياقها وعولمتها». وهذا وحده من شأنه أن يشجّع على بروز تفكيرٍ يجعل من الممكن وضع أي حدثٍ في سياقه، وملاحظة كيف لذلك أن يلقي الضوء عليه بشكل مختلف.

وبشكل ملموس، فإن مهمة المدرّس هي إضفاء المعنى على التعلّمات من خلال الدفع بتلاميذه إلى إنجاز أعمالٍ تنطلق من احتياجاتهم العميقة وتستجيب إلى انتظاراتهم، كما أوصى بذلك في زمنه عالم التربية البلجيكي أوفيد دوكرولي (Ovide Decroly) في بيداغوجية الاهتمام.

يدعو موران إلى تعليمٍ يسمح بدراسة «الخصائص الدماغية والذهنية والثقافية للمعارف الإنسانية، فضلًا عن سيروراتها وطرائق الوصول إليها، والقابليّات النفسية كما الثقافية التي تجعل هذه المعارف عرضةً للخطأ أو الوهم».

إن رؤية موران المركّبة للإنسان باعتباره كائنًا بيولوجيًا وثقافيًا في الوقت نفسه قد قادته إلى تصور علمٍ يصفه بكونه علمًا أنثروبولوجيا اجتماعيا أُعيد تجميع عناصره بشكلٍ يسمح بتصور الإنسانية في وحدتها الأنثروبولوجية وفي تنوّعاتها الفردية كما الثقافية.

إرساء الديمقراطية في المدارس

يدعو إدغار موران أيضًا إلى إرساء نوعٍ من الديمقراطية في المدارس بحيث تُتاح الفرصة أمام التلاميذ بالمشاركة الفعلية في المناقشات والحياة المدرسية اليومية. والهدف من ذلك هو إعادة المدرسة إلى مكانتها باعتبارها فضاءً لتكوين مواطني المستقبل. إننا هنا في صميم تعليمٍ يشيع قيم الإنسانية التي يعدّها موران مبدأً أساسيا يجب أن «يتجذّر في الذّات ويترسّخ في أعماقها، لأن بفضله ندرك أن كل آخرٍ هو إنسان»، مانحًا إيّانا بذلك «الترياق الحقيقي الوحيد القادر على مواجهة إغراءات البربرية، سواء الفردية أو الجماعية» التي يمكن أن تعترض سبيل كل إنسان في حياته.

وبعبارة أخرى، فوفقًا لموران، لا ينبغي أن يقتصر دور التعليم على تعليمنا كيفية العيش، وإنما العيش في تضامنٍ مع بعضنا البعض، وفي تضامنٍ على نطاق عالمي. ومن ثم، فينبغي إعادة النظر في النظام التنافسي الذي تواصل المدرسة تعزيزه في المجتمع، وتحفيز روح التعاون بين التلاميذ بدلًا من ذلك من أجل تأهيلهم لتعلم العمل المشترك، في عالمٍ نتشاركه جميعًا وعلى أساس علاقةٍ ملؤُها الثقة التي تشمل أيضًا المعلِّمين.

ولكي تتحقّق هذه الغاية، فإن موران يرى أن التعليم يجب أن يضطلع برسالة حقيقية لا يمكن اختزالها في وظيفة بسيطة أو في تخصص. إذ يتعلق الأمر بمهمة خلاصٍ عام تفترض الإيمان بالثقافة وبإمكانات الروح الإنسانية. لأن التعليم ينطوي ضمنًا على مبدأ القابلية للتعلّم، والذي يستند إلى فرضية أساسية مفادها أن كل إنسان يملك القدرة على التقدم والتحسن مهما بلغت هشاشته ومكامن ضعفه.

إن هذا الإصلاح التعليمي، والذي يدعو إلى تعميم الإصلاح على كل مسالك التعليم الابتدائي والثانوي والجامعي على حدّ سواء، يمكن أن يتيح إمكانية إحداث تغييرٍ في البراديغم (يمكن تعريف البراديغم بشكل مبسّط على أنه نموذج إرشادي يمكن أن نستعين به من أجل فهم العالم ونقيس عليه الأشياء - المترجم). وفيما يتعلّق بالمدرسة بشكلٍ خاص، يجب أن يأخذ تطور منظومتنا التعليمية في الاعتبار العقل البشري، والذي يخبرنا موران أن لديه استعدادًا قبليا للتعامل مع التعقيد بشكل طبيعي. وذلك من أجل إعداد الناشئة لمواجهة مخاطر الخطأ والوهم التي نتعرّض لها على نحوٍ متزايد، وخاصّة من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، ولكي يتعلموا أيضًا كيفية الإبحار في محيطٍ من عدم اليقين.

ومن ثم فإن مفهوم التعليم المركّب يجعل من الممكن امتلاك رؤيةٍ تأخذ الإنسان بعين الاعتبار، سواء تعلق الأمر برفاهيته وازدهاره كما بمكامن ضعفه وأخطائه. سوف تسمح هذه الرؤية، من خلال وضع الإنسان في صميم المنظومة التعليمية، بمحاولة أن نعلم التلاميذ أن يحيوا وأن يعيشوا بشكل مشترك. إن هذه القضايا، التي أصبح الآن من الضروري استيعابها منذ سن مبكرة، تتطلّب إعادة التفكير في تكوين المدرّسين، الذين ينبغي أن تُسند إليهم، وفقًا لكلمات فيليب ميريو (Philippe Meirieu):

«مهمة إرشاد المتعلّمين من دون حبسهم، ونقل المعارف إليهم من دون إغلاق عقولهم، وجعل كل فردٍ منهم ينخرط في عملية بحثٍ مستمرة لا يمكن لأي عقيدة ظلامية أن توقفها إطلاقًا. إن نجاح مدرستنا يمرّ عبر ذلك، كما أن إمكانية أن يمنح أطفالنا مستقبلًا لقادم أيامهم رهينٌ بذلك».

فابيين سيرينا كارسكي أستاذة محاضرة في علوم التربية بالمعهد الكاثوليكي في باريس

ماريا فرناندا غونزاليس بينيتي أستاذة محاضرة بالمعهد الكاثوليكي في باريس

ترجمة - حافظ إدوخراز

مقالات مشابهة

  • “اللجنة” لصنع الله إبراهيم: كيف تسائل الرواية أنظمة القهر؟
  • فليك: التتويج بـ"التشامبيونز ليغ" من أصعب الأحلام
  • تفاصيل حفل توقيع رواية "هودو" لـ دوللي شاهين بمعرض الكتاب
  • معرض الكتاب يناقش رواية "الخواجاية " للكاتبة فيموني عكاشة
  • رغم أنباء الانفصال.. خاتم الزواج يثير الجدل
  • رئيس الوزراء: تبادل المعلومات الدقيقة يعزز وضع خطط واقعية وقابلة للتنفيذ
  • الفكر المركّب لإدغار موران .. ما الذي يمكن أن يضيفه في حقل التعليم؟
  • الهيمنة المكانيّة من خلال تحوّلات شخصيّة البطل قراءة في رواية «طبول الوادي» لمحمود الرحبي
  • تأخر "نوم الأحلام" علامة مبكرة على الزهايمر
  • الخارجية الروسية: موسكو منفتحة على مقترحات واقعية للوساطة بشأن أوكرانيا