عام على الحرب العبثية: ويل لأمة الغضب هو مولد طاقتها الوحيد (2-2)
تاريخ النشر: 25th, April 2024 GMT
مضي الـ15 من أبريل (نسيان) الجاري يكون مر عام على اندلاع الحرب في السودان بين القوات المسلحة وقوات “الدعم السريع”، وهو عام ليس طويلاً كما لا تكون الأعوام في غير مثله فحسب، بل مضرجاً مضنياً أيضاً. واحتاج منا إلى وقفة نحيط بها بهذه الحرب لمعرفة بواعثها واللواحق منها على بناء الدولة في السودان.
ومن الصعب التفاؤل مع ذلك إن كان فكرنا السياسي يتمتع بالمروءة التي سينهض بها بمثل هذه الوقفة المستحقة.
وزاد من خمول الفكر عندنا غلب الاشمئزاز من الحرب في أوساط الحداثيين، الذين يجتمعون في تنسيقية القوى الديمقراطية والمدنية (تقدم) على طلب المعرفة عنها. فلا يذكرها الواحد منهم إلا واكتفى بوصفها بـ”الملعونة” أو “الخبيثة” ونادى بوقفها معجلاً. وهذه شهامة روحية مقدرة. ولكنهم أطفأوا بها تلمسهم النور للمعرفة بفقه الحرب التي تهلك الحرث والنسل. فمن خطايا الحرب الذميمة في نظرهم التضحية بالسودانيين جمعاء لـ”طموح جنرالين”، كما جرت العبارة، للحكم. فهما يجران البلاد للخراب في حرب تأذى منها المواطنون، الذين لا ناقة لهم ولا بعير، بزعازع احتلال البيوت ونهبها، والتهجير القسري الذي يقارب التطهير العرقي، والقصف المدفعي والجوي.
يخطئ الحداثيون في عزلتهم عن فقه الحرب خطأ بيناً في تعريف الدولة وما يتوقعونه منها. فجرت محاكمتهم الماثلة للقوات المسلحة واعتزالها، بل الدعوة أخيراً إلى حلها في كيان جيش وطني على قدم واحد مع “الدعم السريع” وحركات الكفاح المسلح، على بينة أنها كانت من وراء الديكتاتوريات التي أثقلت على السودان 53 عاماً من أعوام استقلاله الـ68.
ولعل هذه القوات، في قول رشا عوض القيادية البارزة في “تقدم”، “كانت أداة لوأد الديمقراطية لأكثر من نصف قرن”. ولا تكون الحداثة، في رأيها، إلا بالديمقراطية. وفي واقع الأمر أن العنف الذي شكت منه رشا هو المحك في تعريف الدولة. وهو في مركز دائرة دراسة الدولة منذ ساد تعريف ماكس فيبر لها بأنها هي التي تحتكر استخدام العنف شرعاً. وهو تعريف هجر العلماء به نظريات سلفت ركزت على الهدف من الدولة مثل أنها مما ينهض لسعادة الدنيا أو الآخرة أو سعادة الدارين. وهكذا فربط رشا للحداثة بالديمقراطية خطأ بين. فالديمقراطية ليست سوى واحدة من ضروب التعاقد السياسي في الدولة الحديثة. فتكون الدولة الحديثة على حداثتها كيفما تعاقد الناس فيها على التقليد مثل أن تكون فيهم الملكية مثلاً، أو بالشعبوية والكريزما، أو بالديمقراطية الليبرالية، أو حتى بالاستبداد الصرف مثل النازية.
وبدا أن لعقيدة الحداثيين في عبثية الحرب جذر في قناعتهم أن السودان لم يتكون كأمة بعد. فهو عندهم لا يزال قبائل وجهات وأعراق تنتظر أن تتعارف في وقت لا معروف ولا مقطوع. وهذا سوء ظن عظيم بعملية بناء الدولة في السودان التي بدأت بنهوض الحركة الوطنية بصورها التقليدية والحديثة منذ وطأ الاستعمار أرض السودان. ولا يطعن في هذا المسعى إلى بناء الدولة الوطنية أن من نهضت به صفوة من الشمال النيلي استردت به الإرادة الوطنية. ولم يمنع التظلم من سياساتها من نهوض الهامش نفسه بالسلاح وغيره لبناء وطن يسع الجميع لا وطناً موزع الدم بين القبائل والأعراق.
ودعوة السودان الجديد التي سعت إلى إعادة توزيع السلطة والثروة خرجت من جنوب السودان الذي كان الانفصال عن السودان هو أول بداية لمطلب القوميين الجنوبيين منذ 1955. فالتعذر بأننا لم نبلغ مبلغ الأمة بعد جهل مطبق ببناء الأمة الحديثة. فمعلوم أن أول خروج هذه الأمة للوجود كان من رحم مثل هذه الجماعات الشتى التي يتعلل بها الحداثيون ويسوفون في استيلاد الدولة منها بعزيمة ومكر. فمعروف أن الدولة الحديثة تولدت من رحم أوروبا الإقطاعية التي كانت سادت فيها ثلاثة كيانات لكل منها سلطاته وامتيازاته يلجم بها الحكام الأمراء. وكانت تلك الكيانات هي الكنيسة والنبلاء والفلاحون، وحظي كل منها بنظم معينة نسيقة من الحقوق، مما قد تراه العين المعاصرة من مادة الدولة الحديثة. وهكذا قامت الدولة الحديثة في أوروبا لتحل محل تلك الكيانات النثار التي تتداخل فيها الاختصاصات وتصطرع من فرط عيشها جنباً لجنب.
تتأفف صفوة الحداثة عندنا من الخوض في علم الحرب وبناء الدولة لأن حربنا الخبيثة اللعينة مجرد نزوة جنرالين استبد بهما جنون الحكم. فلا نفع من وراء درس جنونهما. وخلافاً لذلك فالحرب في مثل شرط السودان وجهده منقطع النظير لبناء دولة حديثة، ومسرح من المسارح التي تتجلى فيها العزائم لاستيلاد مثل هذه الدولة.
ونعتزل بهذا الاشمئزاز الحداثي من الحرب لعبثيتها كما رأينا النقاش الدائر في ميدان علم الاجتماع السياسي حول أطروحة تشارلس تللي (1929-2008) في تكون الدولة الأوروبية الحديثة ومدى مطابقتها لتكوين الدولة في البلدان النامية. وكان تللي أذاع من فوق دراسة خبرة نشأة الدولة الحديثة في أوروبا “أن الدولة تشن الحرب والحرب هي التي تصنع الدولة”. فمن الباحثين من قال بهذا التطابق، ومنهم من نقض التطابق لتغير العالم سياسياً واقتصادياً، وبينهم من سار بينهما قواماً.
وكان تللي قال إن جهود بناء الدولة في أوروبا قبل حداثتها بدأت باحتكار وسائل البطش في حدود منطقة بذاتها. وفي السياق تفجر الصراع بين الطامحين لتكوين تلك الدولة في ما سمي بـ”التراكم البدائي للشوكة”. فالحاكم المنتظر للدولة يحارب منافسيه ليقهرهم بأن يراكم الموارد التي يستولي عليها غلاباً ويؤسس لبنيات عسكرية وإدارية ومالية. فالحرب، التي عرفت بحروب الأعوام الـ39 (1618-1648)، هي التي أخرجت الدولة الأوروبية الحديثة للوجود.
ونصح باحثون أن تدرس كل حالة في تكون الدولة الحديثة في البلدان النامية على حدة لنقف على صدق أطروحة تللي عليها. ومهما يكن من أمر هذا النقاش عن تكون الدولة فتأفف الصفوة الحداثية عندنا من الحرب الدائرة يحول دونها ومعرفة دلالاتها في عملية بناء الدولة السودانية واللواحق منها عليها.
بدا من صفوة الحداثة أنها كمن يستنكر الحرب، أو يحتج عليها، لا الذي يحللها بأدوات العلم لمعرفة أين تقع من عملية بناء الدولة السودانية. وهذا المزاج للاحتجاج على الظواهر من دون درسها مما نبه له “دي وال” بنباهة. فقال إن الغضب هو الموتور الوحيد من وراء السياسة في السودان. وزاد بأن ويل للأمة إذا كان الغضب هو بئر الطاقة الوحيد الذي تمتح منه.
عبد الله علي إبراهيم
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الدولة الحدیثة بناء الدولة تکون الدولة فی السودان الدولة فی
إقرأ أيضاً:
الشعبية «التيار الثوري»: قوى الثورة يجب ألا تسمح باستخدامها كـ«ديكور» لقسمة السلطة
الشعبية «التيار الثوري» قالت إن تحالف (صمود) بعد أزمة (تقدم) يحتاج إلى إنتاج خطاب سياسي جديد ومستقل ويعالج هياكله المؤقتة.
الخرطوم: التغيير
دعت الحركة الشعبية- التيار الثوري الديمقراطي بقيادة ياسر عرمان، إلى وحدة القوى المدنية ومقاومة الحلول القائمة على قسمة السلطة بين طرفي الحرب في السودان ورفضها، “حتى وإن تطلب ذلك مواصلة النضال بعد الحرب، ورفض الحل القائم على اقتسام السلطة والذي لا يؤدي إلى معالجة جذور الأزمة”.
وقالت في بيان اليوم الاثنين، إن التجارب تؤكد إن الحرب الحالية في الغالب الأعم سيكون الإتجاه لحلها على حساب التحول المدني الديمقراطي وبقسمة سلطة بين طرفي الحرب مع استخدام المدنيين كديكور و(تمومة جرتق) لقسمة السلطة والحلول على طريقة الوجبات السريعة.
وانعقد أمس الأحد، اجتماع المكتب القيادي القومي للحركة بحضور الرئيس، نائب الرئيس، والأمين العام، حيث تم مناقشة الوضع الإنساني والسياسى واعتقال رئيس الحركة في العاصمة الكينية نيروبي، وقضية استهداف القوى المدنية، ومراجعة التكاليف السابقة وقضايا بناء (صمود) والجبهة المدنية، والموقف من المائدة المستديرة، واعتمإد خطة الأمين العام.
المدخل الصحيح للعملية السياسيةوحسب البيان، أكد المكتب القيادي مجدداً أن المدخل الصحيح للعملية السياسية يبدأ بخارطة طريق كاملة وحزمة موحدة مدخلها معالجة القضايا الإنسانية كأولوية قصوى، ووقف الحرب وفتح المسارات الإنسانية وإطلاق سراح الأسرى والمحتجزين وحماية المدنيين وبآلية مراقبة وتحقق إقليمية ودولية.
وقال إن معالجة الأزمة الإنسانية ترمى لتهيئة المناخ للحل النهائي وتتيح للمدنيين العودة لقراهم ومدنهم وتوسع دائرة الفضاء المدني وتقلص دائرة الفضاء العسكري حتى تكون العملية السياسية ذات مصداقية وبعد شعبى ومشاركة جماهيرية وملزمة لطرفي الحرب.
وأشارت الحركة إلى تقرير الأمم المتحدة مؤخراً حول مراكز الاحتجاز غير القانوني بولاية الخرطوم وممارسة الانتهاكات الواسعة، ودعت إلى وضع هذه القضية في صلب أجندة القوى الديمقراطية ومراصد حقوق الإنسان لمنظمات المجتمع المدني وتسليط الضوء عليها إعلامياً والعمل على إطلاق سراح المعتقلين والمحتجزين ووقف الانتهاكات.
واعتبرت الحركة أن حملات التضامن والإدانة والعمل لوقف جرائم الحرب ضد المدنيين في المدن التاريخية “الخرطوم، الفاشر، والأبيض وغيرها”، لا يرقى لمستوى الحدث، وأكدت الحاجة إلى أفعال تقابل وحشية هذه الجرائم وتسلط الضوء على ما يجري ضد المدنيين.
الكتلة المدنيةوقال بيان الحركة إن هذه هذه الحرب بلورت ثلاث كتل هي الكتلة المدنية “كتلة قوى الثورة والقوى الديمقراطية”، وتشكل الجبهة المعادية للحرب، وكتلة الجيش وحلفائه، وكتلة الدعم السريع وحلفائه.
وأكد أن الكتلة المدنية أكبر من كتلتي الحرب وتمثل مصالح جموع الشعب السوداني وحقه في السلام والحرية والعدالة. وأضاف: “هذه الكتلة هي كتلة المستقبل والثورة وتحتاج أن تبنى منبرها المستقل الموحد”. وشدد على ضرورة إستقلاليتها ووحدتها.
وشددت الحركة على أن تحالف (صمود) بعد الأزمة التي حدثت في (تقدم) يحتاج إلى إنتاج خطاب سياسي جديد ومستقل ويعالج هياكله المؤقتة إلى هياكل دائمة متراضى عليها وقادرة على إنجاز مهامه.
وقالت: “نحتاج أن ننجز ذلك في أقصر وقت وبآليات مناسبة، كما يتحتم علينا أن نمضي فى بناء الجبهة المدنية وإكمال ما تم من قبل وخصوصاً مع القوى التى شاركت بفاعلية في سبيل بناء الجبهة المدنية وعلى رأسها حركة وجيش تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور وحزب البعث الأصل وكل من يرغب في بناء الجبهة المدنية لقوى الثورة كحلف استراتيجي”.
وأضافت: “المائدة المستديرة يجب أن تكون بدايتها بناء كتلة قوى الثورة والجبهة المدنية والاتفاق على رؤية موحدة قبل المائدة المستديرة لا بعدها”.
وناقش اجتماع الحركة مواصلة العمل الجاد لبناء التيار الثوري الديمقراطي في الداخل والخارج في ظروف الحرب المعقدة، واعتمد خطة يشرف عليها الأمين العام بعد أن أدخل عليها التعديلات والملاحظات الضرورية.
وناقش الملابسات التي صاحبت إيقاف رئيس الحركة في العاصمة الكينية نيروبي، وأكد أن ما حدث هو جزء من حملة تستهدف قوى الانتقال المدني الديمقراطي، “ويجب أخذها بجدية ومعالجتها مع أصدقائنا في كافة دول الجوار والمجتمع الدولي”.
وثمن المكتب القيادي حملة التضامن الواسعة داخل وخارج السودان وتوجه بالشكر الجزيل والتقدير لكل من شارك فيها.
الوسومالجبهة المدنية الجيش الحرب الحركة الشعبية التيار الثوري الديمقراطي الدعم السريع السودان العملية السياسية المائدة المستديرة كينيا نيروبي ياسر عرمان