فكرتان عسيرتان على معدة الشرق الأوسط الحديث والمعاصر، الفكرتان واردتان من الغرب، أولاهما صعبة الهضم والامتصاص والاستيعاب وهي الديمقراطيّة بالصورة التي تطوّرت، ثم تبلورت، ثم استقرّت بها في مجتمعات الغرب، أما أخراهما، فهي فكرة أن تكون فلسطين وطنًا قوميًّا لليهود، ثم ما أعقبها من ترجمة هذه الفكرة في إطار دولة تحت اسم نبي الله يعقوب عليه السلام (إسرائيل)، ثم اختيار هذه الدولة أن تكون دينيةً عنصريةً وقفًا وحكرًا وحصرًا على اليهود.
استنبات الديمقراطيّة الغربية في الشرق الأوسط واردٌ أن ينجح، لكن على مدى قرون متطاولة من الزمن تمامًا مثلما استغرقت ما يقرب من ألف عام حتى استوت، ثم نضجت، ثم اتخذت أشكالها التي عليها الآن. لكن استزراع إسرائيل – كدولة يهودية عنصرية وقفًا على دين بعينه – فهذا موضوع مختلف تمامًا، ففكرة الدولة الدينية العنصرية في حد ذاتها باتت خارج سياق الزمن، كما باتت ضد حركة التاريخ، ومن ثم فالأمر الطبيعي هو أنه لا يكون لها مكان في العالم المعاصر سواء في الشرق الأوسط، أو في أي ركن قريب أو بعيد من أركان الكون الأربعة.
انصهار ثقافي وحضاريالشرق الأوسط – بطبيعة تكوينه العرقي والسلالي – هو بوتقة ضخمة التقت، ثم تصاهرت، ثم انصهر فيها كل ما عرف تاريخ الإنسان العاقل من سلالات وأعراق وعقائد ومذاهب وطوائف وأفكار وديانات، وكما عاش اليهود في كافة أركانه على فترات من الزمن، ولم يكن لشعوب الشرق الأوسط، وهم بطبيعتهم من أصول شتى، مشكلة في التعارف والتعايش مع اليهود مثل غيرهم.
فإلى عهد قريب تأسست فيه الدول القومية ذات الحدود المرسومة والأعلام المميزة والهويات الوطنية، كان الشرق الأوسط مرابع مفتوحة ومسارح طليقة أمام الحركة والتنقل والهجرة والدخول والخروج والتوطن، وحتى بعد أن تأسست دولة إسرائيل واختار كثيرون من يهود الشرق الأوسط الهجرة إليها، فإن شعوب المنطقة بقيت تعتز بالتراث اليهودي فيها كواحد من روافد تاريخها ومكون من مكونات سبيكتها الإنسانية والثقافية والحضارية .
اليهود – عبر التاريخ – لديهم ميزة عظمى، وهي في الوقت ذاته نقطة ضعفهم الكبرى، أما الميزة فهي القدرة الفائقة على الاحتفاظ بجوهر هويتهم لفترات بعيدة من الزمن حتى وهم أشتات متفرقون يعيشون بين شعوب وثقافات وتحت أنظمة حكم ترتاب فيهم ويرتابون فيها، احتفظ اليهود – بصلابة – بكونهم يهودًا، لكن رافق هذا الاحتفاظ وترتب عليه: سهولة تمييزِهم، ومن ثم سهولة عزلِهم ثم تهميشِهم ثم إقصائِهم في حالة صدور قرار أو رغبة في ذلك.
حافظ اليهود على كونهم يهودًا متفردين أو منعزلين حتى في بلدان انتصرت فيها فكرة المواطنة والمساواة أمام القانون وتحريم التمييز بين المواطنين على أسس دينية أو عرقية أو جهوية أو طائفية إلى آخره .
فكرة استزراع دولة إسرائيل في الشرق الأوسط – كدولة لليهود فقط – غير قابلة للنجاح لعدة أسباب:
1 – أولهما أنها – بالبداهة – تعني أن أرض فلسطين لا تتسع لشعبين ومن ثم لا تتسع لدولتين، ومن ثم يلزم لأحد الشعبين التخلص من الشعب الآخر، التخلص بالإخراج من الأرض ما دام ذلك ممكنًا، أو بالإبادة والدفن تحت الأرض ما دام ذلك ضرورة، الإخلاء هدف إستراتيجي مستقر منذ كانت الصهيونية مجرد فكرة حتى صارت دولة، وكل وسيلة يتحقق بها الإخلاء فهي مشروعة بما في ذلك إفناء الشعب الفلسطيني، وإنهاء وجوده على أرضه بشتى السبل وعلى مراحل متعاقبة حتى تكتمل المهمة.
وهذا الهدف الإستراتيجي للصهيونية يقوم على افتراضين: الأول أن من الممكن – بالفعل – كسر إرادة الشعب الفلسطيني بالعنف والقوة حتى تصل مناعته إلى نقطة الصفر، ومن ثم تصل مقاومته إلى نهايتها، ومن ثم يتوقف عن أن يمثل أي خطر على دولة إسرائيل كدولة لليهود فقط على كامل أرض فلسطين. ثم الافتراض الثاني أن من الممكن تطويق الشعب الفلسطيني باتفاقات سلام ومصالحات مع أكبر عدد ممكن من دول الشرق الأوسط والعربية منها بالذات، وكلما تم إنجاز السلام والمصالحة والتطبيع مع المزيد من الدول العربية، خرجت هذه الدول من الصراع وتوثقت المودة بينها وبين إسرائيل، وفي النهاية يجد من بقي من الشعب الفلسطيني نفسه غريبًا في محيط تحالف فيه الأشقاء مع الأعداء.
2 – أما السبب الثاني لعدم نجاح استزراع دولة يهودية عنصرية في الشرق الأوسط المعاصر، فهي طبيعة هذا الإقليم منذ قامت فيه حضارات الشرق الأدنى القديم التي هي أول ما عرفت الإنسانية من حضارات، هذا إقليم حرب، هذا إقليم صراع، حروب وصراعات بين مختلف مكوناته ومركباته، ثم حروب وصراعات داخل كل مكون وبين عناصر كل مركب، فحتى يومنا هذا لا تزال أقدم حضارتين في وادي النيل كما في فارس وبين النهرين، لا تزال في أذهان صناع السياسات – بوعي أو بغير وعي – أن قوات تحتمس الثالث عبر الفرات، أو أن جيوش قمبيز استولت على مصر، وسوف يظل في وعي أو لا وعي المصريين إلى الأبد أن أعظم المخاطر وردت إليهم من الشمال الشرقي.
إقليم لم يعرف السلامهذا الوعي قائم وحي وحاضر رغم أمرين: رغم اتفاقات السلام مع إسرائيل، ورغم أن المخاطر – في الواقع – تحيط بمصر من كل الأركان دون استثناء، إذ يظل خطر الشمال الشرقي له الأولوية حتى مع فداحة المخاطر القادمة من الجنوب، وعند منابع النيل على وجه التحديد.
من مطلع القرن الخامس عشر حتى مطلع القرن السادس عشر كانت القوى الإسلامية الكبرى في الإقليم في حروب عنيفة، حروب المماليك والعثمانيين وهم مسلمون سنة، حروب الصفويين والعثمانيين وهي أساس الانقسام الكامن تحت جلد الشرق الأوسط المعاصر بين طموحات السنة والشيعة، حتى المغول والتتار بعد أن اكتسحوا الشرق الأوسط حتى دمروا بغداد وأسقطوا الخلافة العباسية وأعدموا الخليفة 1258م عادوا من جديد عند عتبات القرن الخامس عشر 1400 م، وما بعدها، عادوا بعد أن دخلوا في الإسلام وصاروا مسلمين، عادوا تحت قيادة تيمورلنك وهو مسلم ليحارب الجميع من فرس وعثمانيين ومماليك.
هذا إقليم لم يعرف السلام مع نفسه، ومن المستحيل أن تجد إسرائيل فيه سلامًا حتى لو سالمها الحكام، ومن المستحيل أن تجد فيه الأمان حتى لو ملكت من السلاح ما يكفي لتدمير الشرق الأوسط على رؤوس أهله عدة مرات.
3 – ثم السبب الأخير لعدم نجاح استزراع دولة إسرائيل كدولة يهودية عنصرية في الشرق الأوسط هو أنها – كفكرة ثم كدولة – من ثمرات الشرق الأوسط الأوروبي، ثم الأميركي، الشرق الأوسط الأوروبي الذي تأسس على أنقاض الشرق الأوسط العثماني الذي وفّر الحماية لهذا الإقليم قريبًا من ثلاثة قرون، مثلما وفّر الشرق الأوسط المملوكي حماية مماثلة ولفترة مماثلة، بحيث استعصى وامتنع هذا الإقليم على الغزو الأوروبي قريبًا من ستة قرون ما بين حملة لويس التاسع 1250 م وغزوة نابليون الأول 1798م.
ثم سقطت مناعة الإقليم على مراحل، هي ذاتها مراحل سقوط المناعة العثمانية، فسقط الإقليم، وبالتحديد سقطت فلسطين يوم قرر العثمانيون الانسحاب دون قتال من القدس في الحرب العالمية الأولى، ثم ما أعقب ذلك من سقوط الدولة العثمانية من المشهد السياسي إلى الأبد، ليحل محلها الشرق الأوسط الأوروبي الذي تكفل بما يلي:
الوعد بوطن قومي لليهود في فلسطين، ثم احتلال فلسطين بالقوة، ثم وضعها تحت الانتداب البريطاني، ثم تأسيس حكومة إنجليزية فيها، وكان أول حاكم بريطاني لفلسطين يهوديًا صهيونيًا ( هربرت صمويل 1870 – 1963م) من أكفأ العناصر في نخبة الحكم البريطاني، ثم السماح بتدفق الهجرة اليهودية، ثم السماح بتسليح اليهود في منظمات منها تكون جيش الدفاع الإسرائيلي بعد ذلك، ثم إنهاء الانتداب والانسحاب وترك عرب فلسطين يواجهون مصيرهم المحتوم، إما الهجرة وترك الأرض والديار، وإما القتل والإبادة، إما لاجئين وإما قتلى، ولا خيارَ ثالثًا.
كيان دخيلوقبل أن تأفل شمس الشرق الأوسط الأوروبي كان الشرق الأوسط الأميركي قد بدأ. صحيح هيمنت أميركا – هيمنة كاملة – على الشرق الأوسط، وصحيح أن إسرائيل استفادت من هذه الهيمنة من كافة الوجوه، وصحيح أن إسرائيل لم تعد فقط قوة إقليمية مستفيدة من الحماية الأميركية، لكنها – قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م – كانت تبدو وفي يدها كافة مفاتيح القوة والمرور والاعتماد في الشرق الأوسط.
قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول كانت الألوان الصهيونيّة تصبغ ملامح الشرق الأوسط، كما تطبع صفحته، ثم بعده عادت إسرائيل كما كانت أوّل مرة، عادت مجرد كائن غريب دخيل غير قادر على البقاء إلا بأن تُهرع إلى نجدته أميركا ومعها أوروبا، عادت إسرائيل – تحت ضغط المفاجأة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023م – كأنها لم تقم بعد، ولم تتمكن بعد، ولم تفرد أجنحتها في سماء الإقليم من قبل .
أميركا حاضرة في المشروع الصهيوني منذ ما قبل وعد بلفور، أميركا – على غير الشائع – كانت شريكة في إصدار الوعد، مثلما كانت شريكة في تمويل الهجرة اليهودية، مثلما كانت شريكة في قرار التقسيم، مثلما كانت أول من يعترف بدولة إسرائيل، كل ذلك مسلسل واحد متصل الحلقات، لم تكن أميركا بمعزل عن الجهد البريطاني الرائد في النصف الأول من القرن العشرين، مثلما أن بريطانيا وكافة أوروبا ليست، الآن، بعيدة عن الكفالة الأميركية لضمان أمن وبقاء وتفوق إسرائيل.
الدكتور محمد حسين هيكل 1888 – 1956 م في الجزء الثالث من مذكراته " في السياسة المصرية " أفرد فصلًا كاملًا للقضية الفلسطينية من وعد بلفور حتى قيام الدولة في ثلاثين عامًا حاسمة في التاريخ، كان هو يشغل خلالها مواقع مهمة تسمح له برؤية فصول القضية وهي تجري على مسرح الواقع يتتابع بعضها.
ففي النصف الأول من الثلاثين عامًا كان يشغل موقع رئيس تحرير صحيفتي السياسة والسياسة الأسبوعية وكلتاهما كانت من أقوى صحف زمانها، ثم في النصف الثاني من الفترة كان يشغل مواقع عدة منها رئيس تحرير حزب الأحرار الدستوريين، وكان حزب الأرستقراطية من كبار الملاك مع الصفوة من المثقفين، ثم تولى عدة مناصب وزارية منها المعارف والشؤون الاجتماعية، ثم تولى رئاسة مجلس الشيوخ، ثم هو من الرعيل الأول من صناع النهضة الثقافية العربية عند مطلع القرن العشرين، وقد أثرى المكتبة العربية بعدد ممتاز من المؤلفات تحظى بالإقبال عليها حتى اليوم. هو، إذن، رجل ذو بصيرة فيما يقول، وتكتسب بصيرته مكانتها ليس من علمه وسعة اطّلاعه وخبرته العملية فقط، لكن من نزاهته وشرفه وسموّ مقاصده واعتدال موازينه.
كلمة السرّفي "ص 10″ من الجزء الثالث، يقول: " لم يكن هذا التصريح (يقصد وعد بلفور) الذي أصدره وزير الخارجية البريطانية نتيجة محادثات قصيرة الأجل، بل حدثت مفاوضات بشأنه استمرت من أواخر عام 1915م، وكانت الحكومة البريطانية متصلة في أثنائها بالحكومة الأميركية في واشنطن، ولذلك وافقت وزارة الخارجية الأميركية على التصريح فور وصوله" .
إذن أيادي أميركا منغمسة في المشروع الصهيوني منذ كان جنينًا، وهذا يستدعي إعادة قراءة الدور الأميركي ليس فقط في حماية الدولة اليهودية لكن في صناعتها من الأساس .
من البديهي أن وجود اليهود، وكفاحهم من أجل البقاء، سابق بآلاف السنين على وجود أميركا. ويجوز القول إن أميركا ليست غير محطة في تاريخ اليهود، محطة سوف يغادرونها أو تغادرهم مثلما حدث مع كثير من الإمبراطوريات التي عاصروها عبر تاريخهم الطويل، لكن هذه المرة الأمر مختلف، فوجود الدولة الصهيونية مشروط بهيمنة أميركا – كما هو الواقع – على الشرق الأوسط، ويوم يجري على الهيمنة الأميركية من اضمحلال في زمن قريب أو بعيد، فإن السؤال الذي سوف يواجه الفكر الإنساني: من يحل محل الأميركان كضامن لأمن وبقاء وتفوق إسرائيل؟
الذي ضمن بقاء اليهود على مر التاريخ هو أنهم كانوا بلا دولة منذ 70 ميلادية، غياب الدولة كان كلمة السرّ في تفوق اليهودي وصلابته في مواجهة تقلبات الزمن .
وليم وود ثورب تارن W.W .Tarn مؤرخ بريطاني في التاريخين: اليوناني والروماني عاش ومات بين 1869 – 1956م، كتب كتابًا مهمًا عن " الحضارة الهيلينستية " وهو يتناول تاريخ المنطقة من غزو الإسكندر 323 قبل الميلاد حتى تحول الجمهورية الرومانية إلى إمبراطورية على يد أغسطس 31 قبل الميلاد، وقد أفرد فصلًا بعنوان " الهيلينستية واليهود"، درس فيها مدى تأثير هذه الحضارة المنتصرة على اليهود الذين صاروا من جملة رعاياها .
يقول: " اليهود هم الشعب الوحيد الذي أوتي القوة على مقاومة ثقافة الإغريق المظفرة "ص 222 "، ثم يقول " اليهود كان لهم على الدوام عالم منعزل عما سواهم "ص 223″، ثم يقول: " اليهود لا يشاطرون من حولهم أي شعور بالأخوّة، بل ينطوون على أنفسهم، وهم في الحقيقة ملحدون "ص 247″، ثم يقول: " إن إخلاص اليهودي لقوميّته وعقيدته، قد أظهر في المستقبل، كما أظهر في الماضي على السواء، أنه قوة أقوى من كل ضغط تفرضه عليه الحضارة الإغريقية الرومانية، وأن ما تبقى في النهاية هو قوة الشريعة كاملة "ص "253 " انتهى الاقتباس .
هذا الكتاب صدر أول مرة عام 1927م، فلم يدرك المؤلف ظهور الدولة اليهودية في فلسطين، لكن تظلُّ فكرته عن قوة الشريعة كمصدر حماية لبقاء اليهود لها جدارتها في التساؤل عن جدوى الدولة اليهودية في ضمان حماية وبقاء اليهود، ويظلّ السؤال هو: الخروج القادم متى؟
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات الشرق الأوسط الأوروبی الشعب الفلسطینی فی الشرق الأوسط دولة إسرائیل ومن ثم أول من
إقرأ أيضاً:
تحديات النمو الاقتصادي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.. المشكلات الهيكلية
يكتسي البحث في مشكلات النمو الاقتصادي في البلدان النامية عموما ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA) تحديدا أهمية خاصة لاعتبارات ثلاثة: يعود الاعتبار الأول إلى البعد الجيو اقتصادي والجيو استراتيجي لهذه المنطقة التي تزخر بنسبة لا تقل عن نصف مصادر الثروة والطاقة في العالم وهو ما جعلها هدفا استراتيجيا للمطامع الدولية ومحورا أساسيا من محاور الصراع على مناطق النفوذ للقوى الكبرى المهيمنة على مقاليد النظام الاقتصادي العالمي.
ويتعلق الاعتبار الثاني بتعثر مسار التنمية في معظم بلدان تلك المنطقة وعجزها عن تحقيق الإقلاع الاقتصادي المنشود على غرار العديد من الدول الصاعدة في مناطق مختلفة من العالم وبالتالي فإن تناول المشكلات والعوامل المؤثرة في هذا التعثر يساهم في استكشاف الحلول الممكنة للخروج من بوتقة التخلف الى دائرة النهوض. أما الاعتبار الثالث فيرتبط بحجم الفرص التي تتوفر عليها بلدان المنطقة سواء كانت منفردة أو مجتمعة لتسريع النمو واحداث الانتقال الاقتصادي وتحقيق انعطافة استراتيجية تضمن لها تموقعا متميزا في النظام الاقتصادي الدولي الجديد الذي هو بصدد التبلور على قدم وساق منذ بداية القرن الجديد الواحد والعشرين وخصوصا عقب الازمة المالية الأخيرة التي اندلعت عام 2008 وأزمة الديون السيادية التي تلتها عام 2010.
تهدف هذه الورقة إلى الكشف عن جملة المشكلات التي تعيق بلدان المنطقة على تحقيق معدلات نمو ثابتة ومستقرة ومتكافئة مع ما تمتلكه من إمكانات وثروات تشكل مقومات لتحقيق الاقتدار الذاتي وذلك من منظور اقتصادي إسلامي يقطع مع منهج التقليد والمحاكاة واستيراد مناويل نمو منبتّة عن الواقع لا تراعي الخصائص الثقافية والاجتماعية لكل من تلك البلدان.
الإشكالية الرئيسية:
وتتلخص في السؤال التالي: ما هي أبرز المشكلات التي تقف وراء ضعف النمو وتعثره في معظم بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا (MENA)؟ كيف يمكن التمييز بين المشكلات الهيكلية الداخلية والمشكلات الموضوعية الخارجية؟ ما هو التصور الاقتصادي الإسلامي لمعضلة النمو السائدة في معظم بلدان المنطقة؟ وهل هناك نموذج إسلامي للنمو الاقتصادي يمكن انتهاجه للخروج من دائرة التخلف وتحقيق الإقلاع المنشود؟
المنهجية:
المنهج الأنسب لهذا البحث المكثف هو اتباع الدراسة الاستكشافية الوصفية والمنهج الاستنباطي، من خلال ثلاث مداخل هي: المدخل الهيكلي، المدخل الموضوعي، المدخل المقارن.
الدراسات السابقة:
عديدة هي الدراسات التي تناولت مسألة النمو الاقتصادي لبلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا (MENA) ولا سيما التقارير الدورية للعديد من المنظمات والمؤسسات الدولية المعنية بمسار النمو في المنطقة والعوامل المؤثرة في تطوره. لذلك سوف نقتصر على البعض منها الذي يلامس الإجابة على الإشكالية المطروحة. ومن أبرز هذه الدراسات:
ـ نادر القباني: الشـرق الأوسط يواجه تحديات تنمويـة كبيرة:
وهي عبارة عن دراسة لرصد واستشراف جملة التحديات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية الكبيرة التي ستواجه دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في خلال العقد القادم. وتمثّل هذه التحديات اتّجاهات طويلة الأمد يمكن توقّعها ولكن لا يمكن تجنّبها بسهولة. ومن أبرز هذه التحديات من وجهة نظر الدراسة الضغوطات المالية الناتجة عن الاتجاهات الهبوطية طويلة المدى في أسعار الطاقة العالمية، والضغوطات التنافسية التي تسبّبها تطورات الرقمنة، وزيادة ندرة المياه والنزوح من الأرياف إلى المدن بسبب تغيّر المناخ، والضغوطات الناتجة عن زيادة العرض في اليد العاملة بالإضافة إلى عجز في الحوكمة الداخلية تحول دون تصدّيها للتحديات التي تواجهها بفعّالية. ويتجلّى هذا العجز بوضوح في ضعف المأسسة، وتوتر العلاقة بين الدولة والمواطن، والأنظمة الاقتصادية الإقصائية، بالإضافة إلى العلاقات الهشة بين الدول. ويخلص الباحث من كل هذا الى أن المنطقة تحتاج إلى نموذج تنموي جديد بدلاً من فرض إصلاحات كبيرة، أثبتت التجربة عدم جدواها.
ـ صندوق النقد الدولي: آفاق الاقتصاد الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: الصراع يفاقم التحديات الاقتصادية (2024):
وهو آخر تقرير يصدر ضمن تقارير الصندوق الدورية عن تطور النمو في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ويرصد فيه تأثيرات الصراع الدائر في المنطقة الذي يشكل صدمة إضافية ويتسبب في معاناة إنسانية هائلة، ويفاقم البيئة الحافلة بالتحديات التي تشهدها بالفعل الاقتصادات المجاورة وما وراءها. ويحلل التقرير أهم العوامل المؤثرة على النمو الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مثل تأثير الصراعات في كل من غزة والسودان، الى جانب زيادة الاضطرابات في البحر الأحمر، وتخفيضات إنتاج النفط والسياسة النقدية المتشددة في عدد من الاقتصادات. وكل ذلك ساهم في تخفيض توقعات النمو لدول المنطقة هذا العام.
ـ البنك الدولي: الصراع والديون في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (2024):
ويتناول التقرير الآثار الاقتصادية للصراع في الشرق الأوسط على اقتصادات المنطقة وعبء ارتفاع مستويات الديون، كما يسلط الضوء على التحديات التي تواجه الاقتصادات المستوردة والمصدرة للنفط. وتوقع التقرير، أن تعود اقتصادات المنطقة إلى معدلات النمو المنخفض المماثل للفترة التي سبقت جائحة كوفيد 19.
ما هي أبرز المشكلات التي تقف وراء ضعف النمو وتعثره في معظم بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا (MENA)؟ كيف يمكن التمييز بين المشكلات الهيكلية الداخلية والمشكلات الموضوعية الخارجية؟ ما هو التصور الاقتصادي الإسلامي لمعضلة النمو السائدة في معظم بلدان المنطقة؟ وهل هناك نموذج إسلامي للنمو الاقتصادي يمكن انتهاجه للخروج من دائرة التخلف وتحقيق الإقلاع المنشود؟ماذا يضيف هذا البحث؟ لا شك أن مجمل هذه الدراسات والتقارير الدولية وغيرها التي تتطرق لموضوع النمو والتحديات التي تواجهه في المستقبل القريب لا تعدو سوى وجهة نظر المنظومة الدولية التي تقف وراء السياسات والأنظمة التي تدير العملية التنموية في معظم تلك البلدان، وهي التي تصر على أن تعثر النمو ليس سوى تشوهات ناجمة عن القصور في تطبيق الإصلاحات الهيكلية المنصوح بها دوليا رغم أن التجربة المتواصلة كشفت عن فشل تلك الإصلاحات وعدم ملاءمتها للأوضاع الخاصة ببلدان المنطقة. من أجل ذلك يسعى هذا البحث الى تقديم قراءة مغايرة لمعضلة النمو في هذه المنطقة تستند الى مقاربة أخرى للنمو من منظور اقتصادي إسلامي تتلاءم مع الخصوصيات الاجتماعية والثقافية لمجمل أوضاع بلدان المنطقة.
وبناء عليه سيتم تقسيم الورقة إلى فصول ثلاثة: يتناول الفصل الأول المشكلات الهيكلية التي تعاني منها معظم اقتصاديات دول المنطقة وهي مشكلات ذات علاقة بهشاشة النمو وطابعه الريعي البارز وارتباطه الشديد بالمديونية الى جانب ضعف الحوكمة الداخلية واستشراء الفساد. ويتناول الفصل الثاني المشكلات الموضوعية ذات العلاقة بالظروف الخارجية وما يحدث من صدمات مؤثرة مثل تقلبات أسعار الفائدة العالمية وأسعار الطاقة والصراعات المتفاقمة في المنطقة والعالم. أما الفصل الثالث فيناقش المقاربة الاقتصادية الإسلامية لمعضلة النمو وتباينها مع المقاربة التقليدية السائدة.
أولا ـ المشكلات الهيكلية:
تعد منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA) من المناطق الاستراتيجية التي تحظى باهتمام عالمي كبير وتشهد تنافسا دوليا متزايدا نظرا للموقع الجغرافي الاستراتيجي المتميز الذي يضعها في قلب العالم ويجعل منها جسرا جويا ومعبرا بحريا وممرا بريا لجزء كبير من حركة التجارة العالمية عبر البحر الأحمر وخليج عدن والبحر الأبيض المتوسط ويجعل منها همزة وصل بين القارات الثلاث آسيا وأوروبا وأفريقيا، وتقع على مفترق الطرق البرية بين الشرق والغرب، وتستحوذ على ما لا يقل عن نصف الاحتياطيات العالمية من النفط والغاز باعتبارها تضم خمسة من البلدان السبعة التي تمتلك الاحتياطي الأكبر من تلك الثروات. ومع هذه الأهمية الجيو استراتيجية، تعاني المنطقة من تباينات اقتصادية واجتماعية داخلها مما جعل الدراسات والتقارير الدولية حولها تلجأ الى تقسيمها الى ثلاث مناطق جغرافية فرعية هي: منطقة دول شمال أفريقيا، ومنطقة دول الشرق الأوسط ومنطقة دول شبه الجزيرة العربية وإيران. لكن هذا التقسيم وان كان وجيها من الزاوية المنهجية الا أنه لا يمكن أن يخفي التباينات العميقة داخل كل مجموعة بل داخل كل دولة بذاتها. ولذلك سوف نكتفي بتحليل المشكلات الرئيسية المشتركة لمجمل دول المنطقة بغض النظر عن تلك الفروقات والتباينات ودون الغوص في الصعوبات التي تواجه كل منه.
ومن المشكلات الهيكلية العامة التي تقف وراء تعثر النمو الاقتصادي والتي لا تكاد تنجو من ضغوطاتها أية دولة من دول المنطقة يمكن التوقف عند أربعة منها وهي: الهشاشة والريعية والمديونية وضعف الحوكمة الداخلية.
1 ـ الهشاشة:
يحيل مفهوم الهشاشة الى ضعف المناعة الاقتصادية والمالية للنظام الاقتصادي و وقابليته للسقوط في الأزمات، وهو ما يعكس غياب النمو المستدام والاستقرار في الاقتصاد الكلي للبلد المعني أو مجموعة بلدان المنطقة، مما يجعل من ظاهرة النمو ظاهرة متقلبة وغير مستقرة يغلب عليها الضعف والتعثر، وهو ما يدفع بالسياسات العامة الى التشدد ويلجئها الى المديونية ويساهم في هروب رؤوس الأموال الى الخارج وارتفاع معدلات التضخم وغيرها من الاختلالات. ويرتبط مؤشر الهشاشة الاقتصادية بعدم الاستقرار السياسي وحالة الاضطرابات الاجتماعية التي تسود العديد من بلدان المنطقة سواء بشكل مباشر كما هو الحال في كل من لبنان والسودان وليبيا ومصر وتونس أو بشكل غير مباشر من خلال غياب الحرية والديمقراطية والحوكمة الرشيدة والتداول السلمي على السلطة كما هو حال معظم بقية بلدان المنطقة .
وطبقا لتقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OCDE) عن مؤشرات الهشاشة لعام 2022 فإنه ما لا يقل عن 9 دول من منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا (MENA) مصنّفة كدول هشة وتتسم أوضاعها السياسية والاقتصادية بالهشاشة وعدم استدامة النمو، وهو ما جعل وتيرة النمو في انخفاض حيث يتوقع البنك الدولي في آخر تقرير هذا العام أن يرتفع إجمالي الناتج المحلي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من 1.9% في عام 2023 إلى 2.7% في عام 2024 ، وهي زيادة طفيفة ان حصلت لا تساعد على التغلب على الضغوطات المتراكمة التي تواجهها مع تباين بين البلدان المصدرة للنفط التي ستنمو وفق تقديره بنسبة 2.8% في 2024، انخفاضاً من 3.1 % في عام 2023. في حين يتوقع أن يتراجع النمو في البلدان النامية المستوردة للنفط إلى 2.5 % في 2024 انخفاضاً من 3.1 % في 2023. وقد سجل معدل النمو لمجمل دول المنطقة تقلبات دورية تراوح فيها من 1،4% ما بين 1990 و2000 الى 1،6% ما بين 2001 و 2016 .
2 ـ الريعية:
ويقصد بها النمو القائم كليا على الريع بالمعنى السلبي وبالمفهوم الضيق للريع الذي يختزل في سوء استخدام عائدات الموارد الطبيعية كالنفط والغاز وما شابه ذلك وغياب القدرة على تحويل الاقتصاد من اقتصاد ريعي يعتمد كثيرا على ما تنتجه الارض الى اقتصاد انتاجي يعتمد على ما ينتجه الانسان. لقد تطور مفهوم الريعية والاقتصاد الريعي ليشمل كل نمط اقتصادي يعتمد على الموارد الطبيعيّة مثل المعادن، والنفط، والغاز دون الحاجة إلى الاهتمام بتطويرها واحداث قيمة مضافة عليها، بالإضافة الى سياسات منح الامتيازات والخدمات وفرص العمل لصالح فئة معيّنة من دون مراعاة أي اعتبارات ترتبط بالمنافسة والكفاءة الاقتصادية.
من المشكلات الهيكلية العامة التي تقف وراء تعثر النمو الاقتصادي والتي لا تكاد تنجو من ضغوطاتها أية دولة من دول المنطقة يمكن التوقف عند أربعة منها وهي: الهشاشة والريعية والمديونية وضعف الحوكمة الداخلية.وتندرج ضمن هذا المفهوم الواسع للاقتصاد الريعي أنواعا عدة من الريع الى جانب ريع المواد الناضبة او المواد الاستخراجية كالنفط والغاز وغيرها، مثل، ريع المواقع الجغرافية الاستراتيجية كريع البحار وخطوط نقل الغاز وانابيب النفط، وتحويلات العاملين في الخارج، وريع السياحة، وريع الاحتكارات، وريع المضاربات المالية، وريع العقارات، وريع الخدمات وريع القواعد العسكرية وما الى ذلك . وتختلف التقديرات حول النسبة التي تفصل بين القطاع الريعي والقطاع الإنتاجي لكي يصبح الاقتصاد ريعيا. وعلى هذا الأساس اذا ما اخذنا بالمفهوم الواسع للريع، يكون المعيار هو معيار الإنتاجية والقيمة المضافة التي ترتبط بأي قطاع. ومن هنا تصبح معظم دول منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا ذات اقتصاديات ريعية، سواء الدول النفطية منها التي تحتل عائدات النفط والغاز حيزا مهما من موارد الدولة، أو شبه ريعية، أي الدول غير النفطية التي تطغى على مواردها أنواع شتى من الريوع التي تفتقر الى القيمة الاقتصادية المضافة.
ومن مخاطر الاقتصاد الريعي التي تنعكس مباشرة على النمو التأثر السلبي بتقلبات عائدات الموارد الناضبة مثل النفط والغاز وسائر المعادن أو موارد النشاطات الهشة مثل السياحة وتحويلات العاملين بالخارج وتدفقات رأس المال الأجنبي والمضاربات في الأسواق المالية وغيرها، وهو ما يفضي الى مفارقة لافتة حيث تسهم عائدات الريع في تمويل النمو دون احداث تنمية. وهو حال كثير من دول المنطقة التي تغرق اقتصادياتها في مستنقع المديونية والبطالة والفساد والفقر وتحوّل تدفق الريع الى ما بات يعرف ب"لعنة الموارد"، التي ساهمت في إحباط نمو القطاعات الإنتاجية في الاقتصاد و توسع قطاعات الخدمات.
ولكن الأخطر من كل ذلك هو تفشي ثقافة الريع في الدول الريعية وهي الثقافة التي تقوم على البحث على الثراء السهل والكسب السريع دون بذل جهد أو تضحية أو كلفة، وذلك بتوظيف العلاقات مع أصحاب النفوذ والقرار. ولا شك أن تبعات هذا السلوك لا تقل سوءا عن ريع الموارد من حيث انعكاساته على محركات النمو ومسار التنمية في كل البلدان وخصوصا محرك الاستثمار الذي يحتاج الى مناخ الشفافية والتنافسية.
3 ـ المديونية:
وهي من أعوص المشكلات التي تواجه مسار النمو الاقتصادي في مجمل بلدان المنطقة، وهي تتعلق ليس فقط بالبلدان غير النفطية التي تشكو من عجز هيكلي في توازناتها المالية، بل أصبحت في السنوات القليلة الماضية تتعلق أيضا بالبلدان النفطية التي تمتلك صناديق سيادية ورساميل ضخمة تم ايداعها في البنوك الغربية ومع ذلك أضحت تلجأ الى الديون لتمويل ميزانياتها كما هو شأن البلدان الخليجية. وقد كشفت التجربة المعاصرة للبلدان النامية عموما أن خيار تمويل النمو بالديون لم يفضي الى تسريع النمو وانما قاد في معظم الحالات الى إعاقته وتكبيله بالكلفة العالية لخدمة الدين وكان سببا رئيسيا في حالات الإفلاس التي بلغها عدد هام من تلك البلدان كما هو شأن دول أمريكا الجنوبية ( الارجنتين، المكسيك، الشيلي، كوستاريكا...) والأوروبية (اليونان).
كما أن بعض دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مثل لبنان ومصر وتونس على سبيل المثال، ليس بعيدا عن الإعلان عن الإفلاس المالي. لقد تحولت المديونية في العقود الأخيرة من أداة لمجابهة أزمة الركود في البلدان المتقدمة ومن وسيلة لإنعاش النمو وتسريع التنمية المتعثرة في البلدان النامية، الى أزمة هيكلية في حد ذاتها تستدعي استنفار الجهود والقدرات من أجل وقف نزيفها وتجنب أخطارها.
وصلت الأرقام المتعلقة بنسبة الدين قياسا بالناتج المحلي الاجمالي مستوى غير مسبوق في دول المنطقة: في السودان 186٪ وفي لبنان 150٪ وفي تونس 120٪ ومصر 130٪ . ووفقا لبيانات صندوق النقد الدولي للعام الجاري 2024 فان الدول الخليجية الست تحولت بدورها الى دول مدينة. فقد بلغت النسبة في البحرين 119٪ وفي قطر 38٪ وعمان 34٪ والامارات 29٪ والسعودية 22٪ والكويت 3،1٪. وهكذا لم تعد المديونية حلاً للتنمية الاقتصادية كما كان يُنادى به سابقاً بل أصبحت مشكلة تضاف بشكل متزايد إلى المشاكل الاقتصادية التقليدية التي تتطلب حلاً من جانبها. وقد خلفت المديونية آثارا سلبية في بعض البلدان وكارثية في بلدان أخرى. ويمكن في هذا الصدد التأكيد على ثلاثة أنواع من الآثار السلبية: اقتصادية واجتماعية وسياسية.
تتمثل الآثار الاقتصادية في عرقلة النمو بدلا من تسريعه وشلّ جهود التنمية من خلال العبء الذي تشكله على ميزانية الدولة والاستنزاف المستمر لمخزونها من العملات الأجنبية من أجل تسديد الأقساط الدورية لخدمة الدين وتفادي الوقوع في التخلف عن السداد وذلك على حساب الاستثمار وخصوصا إذا تجاوزت الديون الحدود التي لا يمكن للدولة السيطرة عليها وتراكمها مع فوائدها. وبذلك تحولت الديون من وسيلة لتمويل النمو الى عبء تراكمي على مسار النمو.
لقد تحولت المديونية في العقود الأخيرة من أداة لمجابهة أزمة الركود في البلدان المتقدمة ومن وسيلة لإنعاش النمو وتسريع التنمية المتعثرة في البلدان النامية، الى أزمة هيكلية في حد ذاتها تستدعي استنفار الجهود والقدرات من أجل وقف نزيفها وتجنب أخطارها.وتتمثل الآثار الاجتماعية فيما يخلفه عبء الديون من سياسات اجتماعية قاسية تلجأ اليها الدولة المدينة التي تجد نفسها بين المطرقة والسندان، مطرقة تسديد خدمة الدين وسندان الترفيع في الضرائب وإلغاء الدعم وهو ما يسهم في تدهور المقدرة الشرائية للأفراد، الى جانب التأثير على العدالة بين الأجيال حيث عادة ما يتم الاقتراض في زمن ويتم السداد في زمن لاحق، فيتحمل الجيل اللاحق أعباء ديون خلفها الجيل السابق، لا سيما إذا ما تم استخدام أموال القروض في الاستهلاك.
ولعل الآثار السياسية هي أخطر اثار المديونية على الاطلاق، لكونه يمس بالسيادة الوطنية للدول المدينة عبر التدخل في شئونها الداخلية والخارجية وفرض سياسات واصلاحات محددة من قبل الجهات الدائنة وخصوصا من خلال المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي التي لا تفتأ تمارس شتى الضغوطات لإلزام تلك الدول بتنفيذ السياسات المطلوبة ولو كانت على حساب استقرارها الاقتصادي وسلمها الاجتماعي، والأمثلة على ذلك عديدة في مختلف الدول التي اشتدت فيها أزمة المديونية كالأرجنتين والمكسيك وتركيا في أواخر القرن الماضي وحديثا في لبنان واليونان. لقد تحولت المديونية الى آلية من آليات استنزاف الدول المدينة وإخضاعها لمصالح المراكز الدولية ومطامعها في توسيع دوائر نفوذها.
4 ـ ضعف الحوكمة:
لا تزال دول منطقة الشـرق الأوسط وشـمال إفريقيـا رغم الجهود المبذولة في البعض منها، تشكو من ضعف الحوكمة الداخلية واستشراء الفساد الإداري والمالي. ويتجلى هذا الامر من خلال غياب الشفافية والمساءلة في مؤسسات المالية العمومية وغياب السيولة في تبادل المعلومات والمشاركة المجتمعية وضعف الأطر الرقابية والتنظيمية في البنوك المركزية والقطاع المالي عموما وتخلفه عن الامتثال للمعايير الدولية، الى جانب تعقيد القواعد المنظمة لنشاطات الاعمال وضعف الأطر الرقابية لمكافحة الفساد وغسل الأموال وتمويل الإرهاب ، وهو ما يشكل عجزا ملحوظا في الحوكمة لا يساعد على مواجهة مشكلات النمو المتعددة، ويعكس مناخا يغذي المزيد من الهشاشة والاقتصاد الريعي الذي يتمعش من ضعف المؤسسات والعلاقات الهشة بين الدولة والمواطن وبين الدول بعضها مع بعض على الصعيد الاقليمي. فطبقا لتقرير منظمة الشفافية العالمية حول مؤشر مدركات الفساد (CPI) في منطقة الشـرق الأوسط وشـمال إفريقيـا لعام 2023 ، يبلغ متوسط الدرجات العالمية لمكافحة الفساد للمنطقة ككل 34/100 وهو معدل يعتبر ضعيفا ويدل على أن الطريق أمام التخلص من الفساد في مؤسسات كل دولة لا يزال طويلا، وقد احتلت العديد من دول المنطقة أدنى الدرجات في سلّم مقاومة الفساد: سوريا (13)، اليمن (16)، ليبيا (18)، العراق (23)، لبنان (24) مصر (35)،تونس (40)، الكويت (46)، الأردن (46)، بينما تصدرت الدنمارك بـ 90 درجة على المؤشر، تلتها فنلندا ونيوزيلندا بدرجات 87 و85 على التوالي.
كما تعد مشكلة تهريب الأموال إلى الخارج من المشاكل الخطيرة التي تنخر جسم الاقتصاد وتعيق عملية النمو طيلة العقود الثلاثة الأخيرة وازدادت حدة بشكل بارز في السنوات القليلة الماضية في بعض بلدان المنطقة نتيجة العديد من العوامل منها الارتخاء الأمني والتسيب القضائي والتواطؤ السياسي بحكم مصاعب الانتقال الديمقراطي وتكريس مقومات الحوكمة الرشيدة مما جعل هذه الظاهرة تظل في مقدمة الجرائم الاقتصادية والاجتماعية المسكوت عنها. الا ان تطورها بشكل لافت في السنوات الأخيرة والنسق التصاعدي الذي سجلته، في ظل تفاقم المديونية واللجوء الى الاقتراض الأجنبي في المقابل، حيث تشير بعض التقديرات إلى أن حجم تلك الأموال التي يتم تهريبها بأشكال متعددة يفوق اجمالي الديون الخارجية لبعض البلدان، يجعل من ضرورة التصدي لهذه الظاهرة وما يترتب عليها من آثار اقتصادية واجتماعية خطيرة أولوية وطنية قصوى ومقدمة لا مفر منها لأية إصلاحات اقتصادية يرام إجراؤها.
فقد أشارت البيانات التي تصدرها منظمة النزاهة المالية العالمية «Global Financial Integrity GFI» إلى أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (الشرق الأوسط وشمال أفريقيا) سجلت أكبر نمو في التدفقات المالية غير المشروعة (31.5% سنويا)، تليها أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى (19.8%). كما أن حجم الأموال المهرّبة من بلد مثل تونس الى الخارج بلغ 60 مليار دولار منها حوالي 40 مليار دولار قبل الثورة و20 مليار دولار بعدها وهو ما يعادل 150% من اجمالي ديون البلاد الخارجية البالغة لحد اليوم حوالي 35 مليار دولار . كما تشير الأرقام الى أن تونس تخسر سنويا 1.2 مليار دولار بسبب التدفقات المالية غير المشروعة. وبلغت ذروة هذه الخسائر ملياري دولار أمريكي سنة 2013، وهو ما أكدته ورقة بحث بعنوان «التدفقات المالية غير المشروعة واسترداد الأصول في الجمهورية التونسية» صادرة عام 2021 عن معهد الأمم المتحدة الإقليمي لبحوث الجريمة والعدالة وأظهرته أيضا دراسة أجرتها منظمة النزاهة المالية العالمية . كما قدّرت المنظّمة إجمالي التدفّقات المالية غير المشروعة المصدّرة من لبنان بـ19,9 مليار دولار أميركي في الفترة الممتدة ما بين العامين 2004 و2013، أي ما يوازي معدّل 2 مليار دولار أميركي سنوياً في هذه الفترة، في حين تشير بعض التقديرات أنحجم المبالغ المهربة من مصر 7 مليار دولار سنويا وفي المغرب والجزائر حوالي 4 مليارا والمعدّل العربي السنوي وصل إلى 2,7 مليار دولار أمريكي خلال هذه الفترة.
* أستاذ الاقتصاد والتمويل الإسلامي
[email protected]