لماذا لا يفهم العراقيون مأساة بلدهم
تاريخ النشر: 25th, April 2024 GMT
آخر تحديث: 25 أبريل 2024 - 10:35 صبقلم: فاروق يوسف “ليس هناك من أمل” الجملة الأكثر شيوعا على ألسنة العراقيين؛ موالين ومعارضين لشكل ونوع ومحتوى الدولة الجديدة التي أقيمت في بلادهم على أنقاض العراق التاريخي الذي مزقه الغزو الأميركي وزادته الميليشيات والأحزاب المحلية تشتتا وحيرة وضياعا.المزاج العراقي هو أصلا مزاج متشائم ويَغْلُبُ فيه الحزن على الفرح ويميل إلى النهايات المأساوية.
ليست هناك حقيقة يمكن أن تصمد أمام تقلبات ذلك المزاج. وإذا ما وجدت مثل تلك الحقيقة فإن العراقيين يملكون القدرة على مقاومتها وغض الطرف عنها ونسيانها.كانوا يمنون النفس بسقوط نظام الحزب الواحد الذي وصل به صدام حسين إلى نقطة اللاعودة. كان مفضلا بالنسبة إليهم أن يقوم الآخرون بذلك بدلا من أن يتورطوا في مواجهة، كانوا على يقين من أنهم سيخرجون منها خاسرين ومهزومين بسبب قسوة النظام الذي سيعوض هزيمته بالفتك بهم بعد أن فتكت به وبهم العقوبات الدولية. مشاهد عمليات النهب التي شهدتها بغداد ومدن عراقية أخرى في اليوم الحزين الذي اجتاحت فيه القوات الأميركية العاصمة العراقية كانت حقيقية ولم تكن جزءا من فيلم رعب. لقد عبرت فئات من الشعب عن هزيمتها بطريقة تدعو إلى الاشمئزاز والقرف والبؤس الأخلاقي. أهو الفرح أم الحزن؟ هذا شعب يُجن حين يفرح أو حين يحزن على حد سواء.عام 2019 اعترف العراقيون من خلال تظاهراتهم المليونية المطالبة بإسقاط النظام أن لا أمل في الخروج من المأزق في ظل بقاء ذلك النظام. أما وقد دُحرت انتفاضتهم فقد عادت اللعبة إلى أصولها. ومثلما فشل العراق الأميركي في تلبية مطالبهم فإن العراق الإيراني سيكون أشد قسوة عليهم.وإذا كان النظام الطائفي القائم على المحاصصة بين أحزابه قد شعر يوم وقعت الانتفاضة بدنو أجله فإن خروجه سالما قد وهبه دروسا تعلم من خلالها كيفية إجهاض أية محاولة للتمرد الشعبي في المستقبل من غير أن يخضع للشروط التي كان المحتجون قد سعوا إلى فرضها عليه وبالأخص على المستوى الخدمي. ستبقى البنية التحتية في العراق على ما هي عليه فلا إنتاج محليا للطاقة الكهربائية إلا بالاستعانة بإيران من أجل دعم اقتصادها ولا مياه نظيفة إلا عن طريق تحلية المياه التي ستكون غير صالحة للشرب. ولا مشاريع للصرف الصحي. كل ذلك يقع في قائمة المحظورات التي صار على العراقيين التعايش معها.أما في قطاعي التعليم والصحة فإن العراق لن يشهد تحسنا فلن تبنى مدرسة واحدة أو مستشفى واحد. ذلك لأن كل البرامج الحكومية لا تتضمن أية فقرة تخرج عن المألوف وتعيد الاعتبار إلى تعليم المواطنين وتطبيبهم، بالرغم مما تشهده بغداد من عمليات إعمار اقتصرت على بناء مجمعات التسوق الكبيرة والمطاعم الفخمة. لا يعكر العراقيون مزاجهم بالمزيد من التشاؤم وهم لا يفكرون في أن النظام الذي انتصر عليهم إنما ينفذ أجندات المشروعين الأميركي والإيراني اللذين يقومان أصلا على إبقاء العراق دولة فاشلة وعاجزة عن خدمة مواطنيها وصيانة كرامتهم والدفاع عن حقهم في التصرف بثرواتهم بطريقة عادلة ومنصفة. ذلك هو العراق الجديد الذي بشر به العراقيون أنفسهم وهم يحلمون بالانتهاء من زمن صدام حسين عن طريق الاستعانة بأعدائه الذين هم أعداء العراق في الوقت نفسه. لذلك فإن قانون تحرير العراق الذي جرى إقراره من قبل الكونغرس الأميركي قبل سنوات من الغزو قد جرى تطبيقه على الأرض من غير أية حاجة إلى تعديلات بعد أن تأخر العراقيون في إدراك الفجوة التي تفصل بين أحلامهم الهوائية ووقع الجزمة الأميركية على الأرض وعلى رؤوسهم. ما فعله العراقيون بعد ذلك كان هو الأسوأ. جزء من ذلك أنهم انشغلوا بمشكلات الحكم التي كان النظام محتالا في ابتكار أشكال وأنواع مختلفة لها. ومن ذلك أيضا أنهم صدقوا أن الإرهاب صار اختراعا عراقيا من غير أن ينتبهوا إلى مصادره ومرجعياته. وبالنتيجة فإنهم استجابوا لمشروع النظام في تمزيق النسيج الاجتماعي الذي كان قائما. بحيث وافقوا على سبيل المثال أن يكون الجواهري شيعيا والسياب سنيا ومصطفى جواد كرديا والبياتي تركمانيا إلى أن حُرقت كتب شاعرهم الكبير سعدي يوسف أمام أنظارهم لأنه رفض أن يزوره أثناء مرضه في مقر إقامته بلندن أحد وزراء حكومة لا يعترف بشرعيتها. لا يزال العراقيون ينكرون أن المسافة التي تفصل بين وطنهم الحقيقي وبين الدولة التي فرضت عليهم لا تُقاس بالكيلومترات ولا بالساعات بل هي مسافة كونية تستغرق ملايين الكيلومترات والسنوات. ولأنهم ما زالوا يفكرون في لحظة الفرج التي يصلح فيها النظام من أوضاعه، يمكن الحكم عليهم بأنهم ما زالوا غير قادرين على فهم وإدراك حقيقة المأساة التي تعيشها بلادهم.
المصدر: شبكة اخبار العراق
إقرأ أيضاً:
النازحون من قرى جنوب الجزيرة مأساة منسية
تقرير: خالد فضل
السيدة الشابة (أم وعد) نازحة من قرية قريبة من مدينة الحوش محلية جنوب الجزيرة , تستضيفها وأطفالها الخمسة , وأسرتها الممتدة أسرة تربطها بهم علاقة في قرية أخرى على مقربة من مدينة المناقل بغرب الجزيرة ( هذه القرية تستضيف أعدادا فوق قدرتها من نازحي قريتنا , الرجال يقيمون في مدرسة بينما النساء والأطفال يأوون إلى مدرسة أخرى) بعد أن إمتلأت جميع البيوت ولم تعد هناك غرفة واحدة خالية . ثم تواصل سرد معاناتها , أخذت طفلتي إلى مستشفى المناقل , تم حجزها لخمسة أيام احتاجت لعملية نقل دم , وتلقي علاج الملاريا الخبيثة , التي اصابت طفلي الرضيع كذلك , وعند عودتي للمراجعة بعد اسبوع تقرر حجز أختها الأخرى بذات الداعي , لم يكن في وسعي تحمل تبعات الحجز في المستشفى لعدم توفر المال , والمستشفى تكتظ بالمرضى وتنتشر الأوبئة مما يعني إلتقاط وباء جديد , اشتريت بما تبقى لي من مبالغ جرعات العلاج للطفلين على أمل أن أجد من يقوم بمواصلة علاجهما حيث أقيم , للأسف لا يوجد كادر طبي على دراية بحقن المحاليل الوريدية , أضطررت للنزوح مؤقتا إلى قرية أخرى يوجد بها مركز طبي ومكثت هناك لبضعة أيام قبل عودتي , الآن الحمدلله أوضاع أطفالي الثلاثة أفضل . لكن لا يمكنك التعرف على ملامح كثير من أهل قريتي النازحين , لقد تغيّرت ملامح الناس فعلا بسبب الهموم والمرض ونقص الغذاء . أمّا زوجها (أبومحمد) فقد ظل مقطوعا عنهم لشهور بسبب انقطاع شبكة الاتصالات حيث يعمل في إحدى مدن إقليم النيل الأزرق . أشقاؤها الذين يمتلكون قطيعا من المواشي يشكل مصدر كسب عيشهم الوحيد , تعرضوا لحادثة نهب مسلّح بالقرب من القرية التي نزحوا إليها , فقدوا حوالي 32رأسا من الأبقار المنتجة , مما فاقم من تأزم أوضاعهم المعيشية المأزومة أصلا , لم تصلهم أي معونات غذائية أو طبية منذ وصول الحرب إلى مناطقهم في شهر ديسمبر من العام الماضي .
حال أم وعد , يعكس حال آلاف الأسر في قرى منطقة الحوش بولاية الجزيرة , ففي غضون الفترة من منتصف مايو وحتى الآن شهدت تلك القرى عمليات تهجير قسري من جانب قوات الدعم السريع , مئات الآلاف من المدنيين من الأطفال والنساء والرجال أجبروا تحت التهديد بالقتل والعنف الجنسي على مغادرة قراهم , وترك منازلهم عرضة لعمليات نهب غير مسبوقة , فيما تمّ تدمير البنية التحتية الشحيحة للخدمات مثل آبار المياه , المراكز العلاجية , طواحين طحن الغلال , وغيرها من ممتلكات عامة .وفي خلال هذه الفترة تقول احصاءات يتم تحديثها يوميا تقريبا أنّ نحو 50شخصا رجالا ونساء من قرية (أم وعد) توفوا إلى رحمة الله , معظمهم في حالة نزوح خارج القرية , من مختلف الأعمار , 3 منهم فقط قتلوا برصاص قوات الدعم السريع والبقية قضوا بالأمراض وعدم توفر العلاج والخدمات الطبية المنقذة للحياة , ونقص الغذاء .
المرّة الوحيدة التي تمّ فيها توزيع كمية محدودة من المواد الغذائية (ذرة رفيعة , زيت طعام, ملح , لوبيا) كانت في شهر أغسطس2023م قبل إجتياح ود مدني بثلاثة أشهر تقريبا , وفّر برنامج الغذاء العالمي بالتعاون مع المعونة الأمريكية تلك المواد مستهدفا بشكل خاص النازحين الفارين من ولاية الخرطوم وقتذاك , بينما لم تنل المجتمعات المستضيفة أي مساعدات .
بعد سيطرة قوات الدعم السريع على حاضرة الولاية حدثت عمليات نهب كاملة لمستودعات برنامج الغذاء العالمي مما فاقم من معاناة الناس(البائسين) الذين هم في أشد الحاجة لتلك المواد على شحها ؛ بحسب ما قاله مسؤولون كبارفي البرنامج حينها , وتوالت النكبات على القرويين بتواتر عمليات النهب الممنهج للمحاصيل الغذائية التي كانوا قد حصدوها من مزارعهم .
دراسات تؤكد بؤس الحال:في شهر أبريل الماضي نشر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والمعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية دراسة مسحية عن تأثير النزاع في الريف السوداني , شملت(4504) أسرة في مختلف أنحاء السودان ؛الذي يعيش ثلثا سكانه في الأرياف , وقد كشفت الدراسة عن تعطل أنشطة الزراعة لدى 50% من الأسر الريفية , ترتفع إلى 63% في ولايتي سنار وغرب كردفان , و66% في ولاية الخرطوم , أشارت الدراسة إلى أنّ 59% من الأسر الريفية تواجه خطر انعدام الأمن الغذائي المعتدل والشديد , بيد أنّ 73% منها تعيش في مساكن غير لائقة . وقد أوصت الدراسة التي غطت الفترة من نوفمبر2023_ينائر2024م , ضمن توصيات عديدة بمساعدات إنسانية وغذائية فورية للأسر التي تواجه انعدام الأمن الغذائي الحاد وفقدان الدخل , وكذلك ضرورة التدخلات الإقتصادية السريعة بما في ذلك من خلال برامج التحويلات النقدية الفورية لتخفيف الأعباء المالية وتمكين الأسر من الحصول على الغذاء وغيره من الضروريات . وقال نادر الشريدة الممثل المقيم للبرنامج بالإنابة في السودان (إنّ فهم الكيفية التي أثّر بها النزاع المسلح في السودان على حياة الناس وسبل كسب عيشهم يوفر أساسا مهما للتدخلات المستهدفة واصلاحات السياسات للتخفيف من الآثار السلبية للصراع وتعزيز القدرة على الصمود .(موقع الأمم المتحدة 28ابريل2024م) .
وبعد مرور أكثر من ستة أشهر على تحليلات ذلك المسح والنتائج المفزعة , لم تزل (أم وعد) تزداد حالتها بؤسا على بؤس دون حدوث أي تدخلات إيجابية شأنها شأن مئات الآلاف من الأسر الريفية في منطقة جنوب الجزيرة وحدها .
آمال معلّقة وأنظار مشدودة صوب الخارج:(انقضى العام ودخلنا في الثاني ولا ندري متى يمكن أن نرجع , أصبح وجودنا في المهجر هو الأمل الوحيد لبقاء أسرنا على قيد الحياة في مناطق نزوحهم , ما فائدة العودة للجلوس معهم كعبء إضافي على المجتمعات المستضيفة لهم) هكذا لخّص (الحاج النور) المعادلة , وهو ضمن آلاف المهاجرين والمغتربين واللاجئين في أرجاء المعمورة من أبناء وبنات تلك القرى المنكوبة ؛ وهم يحملون من هموم أهاليهم ما تنؤ بحمله الجبال الرواسي , لكنهم يظلون/يظللن , محط آمال هؤلاء الضحايا البسطاء ولسان حالهم يردد (زي الحال ده يوم لا كان لا حصل) .
تجمّع أبناء الجزيرة بالولايات المتحدة وكندا_ قيد التأسيس_ يمكن أن يكون أحد روافد مناصرة أهلهم العالقين بين رحى وسندان طرفي الحرب وما يتحالف معهما من مليشيات في صراع (الأفيال) الذي تكون ضحيته الأعشاب, كما في المقولة المشهورة , وجاء في مسودة بيانه التاسيسي في نوفمبر2024م ينادي ؛ ضمن بنود عديدة , بتقديم المساعدات العاجلة لسكان الولاية عبر التنسيق مع المنظمات الإنسانية العالمية العاملة في مجالات الإغاثة والخدمات الإنسانية , ولفت أنظار العالم الحر إلى حجم الكارثة الإنسانية التي يتعرض لها أهلنا في مناطق النزوح , وتشكيل لجنة خاصة للعون الإنساني للتنسيق والمتابعة . والتواصل العاجل والتنسيق مع المنظمات المحلية والدولية والعمل معها في استقطاب الدعم الغذائي والعلاجي وتوفير المأوى بصورة عاجلة للنازحين من سكان الولاية وتلبية حاجاتهم الأساسية المختلفة . كلك العمل على تشكيل مجموعات ضغط فعّالة من كل التنظيمات والمنظمات والجمعيات والدول التي تنادي بوقف هذا النزيف , واستخدام كافة الوسائل المتاحة لحمل طرفي الصراع على وقف الحرب المدمرة التي لم تجلب سوى الموت والدمار والتشريد لمواطني الجزيرة وبقية مناطق السودان .
هل تصل أنّات وأوجاع الأطفال ( وعد وأختها وأخوانها ) ولواعج وهواجس أمهم وأحزانها ومأساتها الكظيمة , وهي تهدهد هذه , وتحمل الرضيع , وتسهر مع تلك من حمى تسرى في أوردتها قبل أن يسري المحلول إن وجد , في تلك الأوردة الغضة لأطفال في مهب عاصفة الضياع هل ؟
الوسومآثار الحرب في السودان انتهاكات الدعم السريع بولاية الجزيرة جنوب الجزيرة حرب الجيش والدعم السريع ولاية الجزيرة