عربي21:
2024-11-26@02:30:04 GMT

صفعتان لـ«بلطجي» حارة الشرق الأوسط

تاريخ النشر: 25th, April 2024 GMT

أكثر الساعات شبهاً بساعات صباح السابع من أكتوبر، هي ساعات ليلة 13/14 إبريل/نيسان، رغم كل ما بينهما فروقات.

مقابل هذا التشابه في المعنى والمحتوى والبعد الاستراتيجي، ينتصب الاختلاف والتناقض في الشكل، وأكثر من ذلك: ردود الفعل الإسرائيلية على كل واحدة من الصفعتين.

نبدأ بملاحظة وتسجيل نقاط الاختلاف بين الصفعتين:
1ـ كانت الأولى «مبادرة» من القيادة الميدانية العسكرية لمقاتلي حركة حماس، ومن معها، ورسالة واضحة في الرفض والتّصدي لموبقات وجرائم الاحتلال والاستعمار والحصار الإسرائيلي؛ في حين كانت الثانية «رد فعل» من القيادة السياسية لإيران، على مبادرة إسرائيلية، استهدفت أرضاً سيادية إيرانية، هي مبنى القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية، دمشق.



2ـ بدأت الأولى بإعداد تحت غطاء بالغ الكثافة من السّرية، حيث لم يعلم بطبيعة المبادرة وأهدافها وتوقيتها إلا أربعة اشخاص على أرض قطاع غزة، وخامس خارجه، (كما تتناقل الروايات). في حين أن عملية رد الفعل الإيراني تم بشكل بالغ الوضوح والتوضيح والإبلاغ، حيث حرصت القيادة الإيرانية على تبليغ عدد من دول الخليج وتركيا والسفارة السويسرية في طهران، (الموكلة بالمصالح الأمريكية في إيران) ليتولى هؤلاء تبليغ الولايات المتحدة، (وإسرائيل بالنتيجة) بموعد «ضربة» رد الفعل الإيرانية، ونوعية الأسلحة المستخدمة، من طائرات مسيّرة، وعدد وأنواع الصواريخ، والقواعد العسكرية الإسرائيلية المستهدفة، في الجولان والنقب، تحديدا، وبعيداً عن الأهداف المدنية والاقتصادية، ومناطق الكثافة السّكانية، وذلك قبل 72 ساعة، (ثلاثة أيام) من بدء العملية.

3ـ استهدفت الصّفعة الأولى، (الفلسطينية) إلحاق أكبر ضرر ممكن بإسرائيل والإسرائيليين: من قتل لعسكريين وأسْرِهم والاستيلاء على ما توفر من أجهزة كمبيوتر وما تحويه من معلومات وأسرار، وكذلك إلحاق أكبر قدر ممكن من تدمير ممتلكات وخطف اكبر عدد ممكن من المدنيين؛ في حين استهدفت الصّفعة الثانية، (الإيرانية) إلحاق أقل ضرر ممكن بالممتلكات والمدنيين الإسرائيليين، بل وكذلك في العسكريين والمعدات العسكرية في الثّكنات المستهدفة، استجابة لمناشدات دولية وإقليمية، لتمكين إسرائيل من تبرير امتصاص الصّفعة، وامتناعها عن رد عسكري كبير على الرد الإيراني، (ولو إلى حين).

4ـ كانت أدوات الصفعة الفلسطينية إرادة بالغة الصلابة، من جهة، لكنها في غاية التواضع من حيث الإمكانيات: أسلحة فردية، أسلحة محلية الصنع، سيارات عادية غير مصفحة، أجهزة طيران شراعي بدائية، دراجات نارية، دراجات هوائية، وبضع عربات تجرها حمير (!) أيضاً؛ في حين أن أدوات الصفعة الإيرانية كانت أسلحة حديثة: طائرات مسيّرة وصواريخ بعيدة المدى ومتعددة الأنواع.

هذا على صعيد الفروقات بين الصفعتين. أما على صعيد نقاط التشابه، فيمكن تلخيصها في:
1ـ كلا الصفعتين كانتا رسالتي إهانة تاريخية وإذلال لإسرائيل. أثبتت الصفعة الفلسطينية أن المقاتلين الفلسطينيين لم ييأسوا، لا ييأسوا، ولن ييأسوا من مواصلة النضال لاسترداد كل حقوقهم الطبيعية المشروعة في التحرر وتقرير المصير، وأنهم قادرون على إفشال كل المحاولات الإسرائيلية، الدموية وغير الدموية، لرفع راية الاستسلام، حتى بعد مرور أكثر من قرن وربع القرن من إطلاق الحركة الصهيونية العنصرية؛ وأثبتت الصفعة الإيرانية أن إيران قادرة على الرد المعلن على إسرائيل إن هي حاولت تغيير قواعد شروط ضبط الصراع عند حدود متعارف ومتوافق عليها، ضمناً.

ما زال الوضع السياسي في إسرائيل غير ناضج بعد للتوصل إلى حل سلمي يضمن حياة واستقرار الإسرائيليين، ودفع الاستحقاقات المترتبة على الاعتراف بوجود وحقوق الشعب الفلسطيني
2ـ أنهت الصفعتان نظرية «الردع» الإسرائيلية. واثبتتا أن المقاومة الفلسطينية، غير «مردوعة» وكذلك كل «أطراف الممانعة» والعودة إلى سلوك طريق الكرامة، التي تضمن تحقيق المصالح الوطنية والقومية العربية.

3ـ أثبتت الصفعة الفلسطينية لإسرائيل قبل مئتي يوم، وأكدت الصفعة الإيرانية قبل عشرة أيام، أن إسرائيل ليست قادرة على حماية من «يستجير بها» ويطبّع علاقاته بها، ولا هي حتى قادرة، بقواها الذاتية، على حماية نفسها، بل هي في حاجة لمن يحميها.

4ـ كشفت الصفعتان انتهاء مفعول «عقيدة الأمن الإسرائيلية» التي تقوم، منذ إعلان إقامة إسرائيل سنة 1948، على أربعة أسس: أ: الردع. ب: خوض المعركة على أرض العدو. ج: الحسم والانتصار على العدو بسرعة. د: ترجمة الانتصار إلى مكاسب سياسية ومادية ومعنوية. كل هذه القواعد تمت زعزعتها: لا مفعول للردع؛ بدأت الصفعة الفلسطينية على أرض تخضع لاحتلال إسرائيل وانتقلت الى أرض قطاع غزة، ولكنها مازالت تتعرض لقذائف وصواريخ (صناعة محلية)؛ مضى مئتا يوم ولم تحسم المعركة، وما زالت صفارات الإنذار تدوّي بشكل شبه يومي في محيط قطاع غزة وفي الجليل؛ ويحقق الشعب الفلسطيني، في ظل الحرب الإسرائيلية الإجرامية على قطاع غزة والضفة الغربية، مكاسب سياسية من خلال تضامن ومظاهرات ملايين في العالم مع الحقوق الفلسطينية المشروعة. وهذا ما ينطبق على الصفعة الإيرانية ايضاً. [على أن ما تقدم لا يكتمل دون تسجيل ملاحظة: لو كان في قطاع غزة والضفة الغربية ولبنان وبقية «دول الطوق» صفارات إنذار، لكانت تدوي بشكل متواصل طوال نهارات وليالي الأيام منذ سنة 1948 حتى ايامنا هذه].

وماذا عن الوضع في إسرائيل واحتمالات تطوراته في المستقبل المنظور؟
ما زال الوضع السياسي في إسرائيل غير ناضج بعد للتوصل الى حل سلمي يضمن حياة واستقرار الإسرائيليين، ودفع الاستحقاقات المترتبة على الاعتراف بوجود وحقوق الشعب الفلسطيني الوطنية المشروعة، وخطوتها الأولى: إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، كاملة السيادة، وعاصمتها القدس الشرقية. وأكرر: باعتبار ذلك الخطوة الأولى فقط، وتليها خطوات التسويات العادلة المقبولة والمنطقية، دون أن نتحدث عن «العدل المطلق» وضرورة أن نكتفي بـ«العدل الممكن والمقبول» تحت شعار «لا يموت الذيب، ولا يفنى الغنم». المرشحون العمليون، في السياسة الإسرائيلية، حالياً، لوراثة نتنياهو وحكومته العنصرية، الآيلة الى السقوط، لا يختلفون، في الجوهر والمضمون، عن نتنياهو وأعضاء حكومته: من الجنرال غانتس الى الصحافي لبيد، وإن كانوا يختلفون عنه في الشكل.
لكن، تتزايد في الشارع اليهودي في إسرائيل هذه الأيام، أصوات فيها من المنطق المقبول شيء كثير، ويمكن البناء عليها اعتباراً، ربما، من الانتخابات العامة بعد المقبلة.

أمثلة ذلك كثيرة. أكتفي هنا، (بسبب ضيق المساحة المتاحة) في عرض مثل واحد:
ما سأورده فقرة من مقال كتبته ستاف شبير، في «هآرتس» 21.4.2024، تحت عنوان: «ماذا كان سيقول مئير شَليف عن السابع من أكتوبر؟». شبير ناشطة سياسية إسرائيلية، كانت عضوة كنيست، عن «حزب العمل» لمدة ست سنوات ونصف السنة، ابتداء من 2013. وشليف، كاتب وصحافي وروائي تُرجمت بعض كتبه الى أكثر من عشرين لغة، وكان له مقال أسبوعي بالغ الحدّة والوضوح والعمق، وبلغة سليمة أدبية محترمة، في عدد يوم الجمعة في «يديعوت أحرونوت» وأذكر أن أريئيل شارون قال، وهو رئيس للحكومة الإسرائيلية، ويتعرض لهجوم وانتقادات شليف: «أنتظر يوم الجمعة كل أسبوع لأقرأ ما يكتبه مئير شليف، لأستمتع وأتعلم من انتقاداته التي أوافقه على الكثير منها». تقول ستاف شبير: «عندما سألته (مئير شليف) إن كان يفتقد الماضي ويشتاق إليه أكثر، أو أنه مفتون أكثر بالمستقبل، أجابني أنه لو كان لديه آلة للزمن فسوف يسافر إلى المستقبل.

وتابع: هناك شيء واحد فقط يودّ تصحيحه في الماضي (لو تمكن): العودة الى الوراء، وتغيير أسس الدولة (إسرائيل) من أجل كتابة دستور، وتعويض العرب (الفلسطينيين) الذين غادروا أو طُردوا في حرب التحرير (!!) وفصل الدين عن السياسة، فالدين والديمقراطية لا يجتمعان».

تتابع شبير: « منذ السابع من أكتوبر أسمع الناس أحياناً يقولون عن أحبّائهم الذين ماتوا قبل السابع من أكتوبر، أن العزاء الوحيد لهم هو أنهم لم يضطروا إلى مشاهدة الحالة الرهيبة التي تعيشها إسرائيل».
(القدس العربي)

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه إيرانية الفلسطينية إيران فلسطين طوفان الاقصي مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة السابع من أکتوبر فی إسرائیل قطاع غزة فی حین

إقرأ أيضاً:

أي شرق نريد؟

الدكتور إياد البرغوثي*

ذروة الأهداف التي وضعها نتنياهو للحرب الاسرائيلية الدائرة الآن على غزة ولبنان، إنشاء "شرق أوسط جديد". قبل مئة وثمانية أعوام أنشأ (لنا) أسلاف نتنياهو سايكس وبيكو "شرق أوسط" كان جديدا في حينه، قسم العالم العربي، ووضع أسس قيام "اسرائيل"، وخلق الدولة العربية "الوطنية" متطلبا لذلك، حيث أكتملت عملية ذلك التجديد في العام 1948 بقيامها فعليا.

لكن الذي اعتقدناه بأن انشاء إسرائيل كان ذروة عملية "تجديد" المنطقة أو اكتمالها، تبين لنا فيما بعد أنه ما هو إلا "قص الشريط" لعملية تجديد لا تنتهي، فأخذت اسرائيل منذ لحظة انشائها بتغيير الخارطة الجيواستراتيجة والديموغرافية للمنطقة، فاحتلت مزيدا من الأراضي الفلسطينية والعربية وصل ذروته في العام 1967، وضاعفت من جهودها في تهجير الفلسطينيين و"استحضار" يهود مكانهم، وبدأت بعملية "تطبيع" حثيثة مع الدول "الوطنية" العربية.

ومع كل ما جرى واثنائه، لم يتوقف الحديث (والسعي) حول انشاء شرق أوسط جديد، منذ بدأ بذلك برنارد لويس في سبعينات القرن الماضي، مرورا بشمعون بيرس وكتابه "الشرق الأوسط الجديد" في العام 1992، وغونداليزا رايس في العام 2006 الى نتنياهو هذه الأيام.

من البديهي أن يكون الغرب وإسرائيل (الامبريالية والصهيونية) الأكثر سعيا وإلحاحا ودراية بأهمية "التجديد" المستمر للشرق الأوسط، فهما اكثر من "يستخدمه" ويسيء ذلك الاستخدام، ويحمله أكثر من طاقته. وهما التي ترتبط اهدافهما ارتباطا وثيقا بعملية التجديد تلك وباستمرارها وديمومتها، لضمان "استخدام" اكثر سهولة وأكثر نجاعة. التجديد في حالة الشرق الأوسط مرتبط بالاستخدام لا اكثر.

ماذا يعني تجديد الشرق الأوسط؟.

ارتبط الحديث عن الشرق الأوسط الجديد بالغرب وباسرائيل، فالقاء نظرة سريعة على الكلمات والدراسات والأفعال المرتبطة بذلك، تشير (غربيا) الى الحرص على تعميق تبعية المنطقة للغرب. أما اسرائيليا فيعني السعي الى مزيد من التوسع، وضرورة "تكبير" الدولة الصغيرة كما صرح الرئيس ترامب، وزيادة نفوذ اسرائيل في المنطقة وهيمنتها عليها. لقد تلازم الحديث عن تجديد الشرق الأوسط مع كل حروب اسرائيل التي هدفت الى إضعاف العرب وإنهاكهم ودفعهم نحو اختيار التطبيع الذي لم يعن سوى المزيد من الضعف والتبعية.

لا يبذل المسؤولون الاسرائيليون أي جهد لإخفاء اهدافهم في توسيع "حدود" اسرائيل وتجسيد قيادتها للمنطقة. فقبل إعلان نتنياهو مؤخرا عن سعيه لتغيير خارطة الشرق الأوسط، كان شمعون بيرس قد قال بصريح العبارة أن "العرب قد جربوا قيادة مصر للمنطقة لمدة نصف قرن، فليجربوا قيادة اسرائيل".

"الشرق الأوسط الجديد" في ذهن اصحابه، يعني جغرافيا جديدة، وديموغرافيا جديدة، وعلاقات دولية جديدة، وسياسات جديدة، ومسَلمات جديدة، وثقافة سائدة جديدة، ومناهج تعليمية جديدة. انه إعادة ترتيب للمنطقة تكون فيها اسرائيل الوحيدة المرشحة للتوسع، في حين تنقسم الدول العربية الموجودة، وتظهر دول جديدة، ويتم نقل (تهجير) شعوب أو أجزاء منها من مكان الى آخر، ويجري العبث بالتركيبة الثقافية والاثنية لبعض الشعوب، ويُعمل على تغيير وعيها بذاتها وباسرائيل وببعضها البعض وبتاريخها ومعتقداتها وقيمها ورموزها. كل ذلك من أجل تسيد اسرائيل للمشهد، واعتبارها مركز الاقليم ورابط علاقاته وبوابته الى العالم. انه باختصار تدشين فعلي "للامبراطورية" الاسرائيلية في المنطقة.

هنا أجد من الضروري التذكير بكلام كنت قد كتبته قبل اربعة أعوام في مقدمة كتابي "تحرير الشرق.. نحو إمبراطورية شرقية ثقافية" وهو.... "ما زال أمام مثقفي شعوب المنطقة وشبابها متسع من الوقت للعمل على خلق (الامبراطورية) (الشرقية) المفترضة، خاصة اذا ما أدرك هؤلاء، واكثرهم بالتأكيد يدرك، أنه إن لم يقم بذلك، فإن اسرائيل ستعمل- وهي تعمل فعلا - على انشاء امبراطوريتها في المنطقة، تلك التي تزيد شعوبها الحاقا وتهميشا".

العرب و"الشرق الأوسط الجديد"

رغم ارتباط مشروع "الشرق الأوسط الجديد" بإضعاف العرب وتمزيق دولهم، إلا أنهم الأقل اكتراثا به في المنطقة. فالعالم العربي الرسمي بمجمله يبدو إما متجاهلا للموضوع أو متماهيا معه. ومن الواضح أن أحدا من العرب لا يجابه هذا المشروع باستثناء "قوتين" من خارج "الدولة"؛ ما بقي من نخبة مثقفة  قومية عربية، ترفضه من خلال التمسك بالوضع الحالي الذي هو في حقيقة الأمر، النسخة الأقدم من الشرق الأوسط الذي كان جديدا (سايكس بيكو)، أو قوى "المقاومة" في بعض البلدان، وهي الوحيدة التي تتصدى له وتقف في مواجهته.

بعد تآكل المشروع القومي العربي بعد العام 1967، ذلك الذي حدث أساسا بفعل التحرك الاسرائيلي الامبريالي لخلق "شرق أوسط جديد"، لم يبرز أي مشروع عربي يفكر بمستقبل المنطقة، ويتعامل معها كوحدة اقليمية واحدة، مما أفقد "الأمة" معظم "إن لم يكن كل" عناصر مناعتها.

فبعد عبد الناصر، لم يعد للعالم العربي قيادة ولا يبدو أنها ستكون في المستقبل المنظور. ومن سخرية القدر، أن دولا تدعي دور القيادة في العالم العربي الآن لم تكن في حياتها قومية، بل كانت مساهما أساسيا في إحباط المشروع القومي العربي الحقيقي من خلال "تحالفها" مع الامبريالية والصهيونية.

دخل العالم العربي بفعل دولته "الوطنية" ومآلاتها، ونخبه "الحديثة" وتوجهاتها، وعلاقتهما معا بالامبريالية والصهيونية في حالة موت سريري، بل اصبحت تسمية "العالم العربي" موضوعا للجدل، ولم يعد موضوع الأمن القومي العربي مطروحا، بل لم يعد هناك ما يبرر طرحه بعد أن فُتحت أبواب التطبيع مع إسرائيل على مصراعيها، وأصبح "العرب" جزءا من الحالة الصهيونية.

فيما يتعلق بالدولة العربية "الوطنية"، التي أقل ما يُقال فيها أنها نشأت في حالة "ملتبسة" وفي سياق مضاد للأمة إثر سايكس بيكو، ذهبت إلى اعتماد العزلة عن شقيقاتها "عقيدة" لها، وتنصلت من المشاركة "الايجابية" في أية قضية قومية تحررية بما فيها القضية الفلسطينية، باعتبارها "عبئا" لا مبرر له، أو لا علاقة لها به في أحسن الأحوال. ثم أخذت بالانعطاف الواضح والمعلن نحو "العدو"، الاستثناء هنا كان عند البعض في الفترة الناصرية.

لقد كان تأثير البترودولار الذي برز دوره مباشرة بعد هزيمة المشروع القومي في العام 1967، حاسما في رسم طريقٍ باتجاه واحد للدولة "الوطنية" نحو الامبريالية، وذلك من خلال دوره في القضاء على البرجوازية الوطنية في الدولة العربية، والابقاء على الكومبرادور والبرجوازية البيروقراطية ممثلة بأجهزة الدولة الإدارية لقيادة الدولة.

بغياب البرجوازية الوطنية، أو على الأقل بإضعافها، انتهت مقومات الدولة الوطنية الحقيقية، ولم يعد باستطاعة الدولة الموجودة أن تكون حاضنة لأي مشروع وطني نهضوي، فساهمت في تهميش الهويات الجامعة، وغيبت مفهوم الأمن القومي، ولعبت دورا حاسما في التأثير السلبي على نخبها خاصة الثقافية، في موقفها من الاستعمار والصهيونية ومشاريعهما في المنطقة.

أما بالنسبة للنخب المكونة أساسا من الجيش والمثقفين (الانتلجنسيا العسكرية والمدنية)، فقد ساهم البترودولار مباشرة، أو من خلال الدولة "الوطنية"، بأخذهما الى مكان آخر معاكس للمكان الطبيعي الذي كان يجب ان يكونا فيه. فالجيش الذي ينبغي أن يكون رمزا لوحدة "الأمة" واستقلالها وسيادتها وحافظ أمنها القومي، أصبح جزءا من الكومبرادور في شكل علاقته المباشرة و"المثيرة" مع الغرب ومع اسرائيل قبل التطبيع وبعده. الشيء الوحيد الذي يجعله مختلفا عن الكومبرادور التجاري هو اعتماده "البلطجة" في علاقاته مع السوق ومع الناس، بدل "الفهلوة" التي يعتمدها الكومبرادور المدني.

أما المثقفين المدنيين الذين لم تكن نسبة كبيرة منهم بمنآى عن تأثير البترودولار والدولة، فقد ذهب جزء منهم الى التنظير "للدولة" وأولويتها وانعزالها، وإلى "تتفيه" أي عمل وحدوي يفكر في "لملمة" عناصر القوة، ووصل بهم الأمر الى السعي لتبييض صفحة "العدو" وذلك بتحميل الذات عواقب "سوء" التصرف، ووجدوا أنفسهم في نهاية الأمر يصلون الى حيث كان لا بد أن يصلوا وهو الترويج للتطبيع والانخراط فيه. ربما لم يحدث في التاريخ أن "اقتنعت" نخبة "بعدوها" كما فعلت وتفعل بعض النخب العربية هذه الأيام.

من المهم هنا ايضا الإشارة الى "الخدمة" الكبيرة التي قدمتها مجموعة من المثقفين الحداثيين للمشروع الغربي الصهيوني والشرق الأوسط الجديد دون قصد على الأغلب وبشكل غير مباشر، إذ في خضم قيام هؤلاء بعملهم "الثوري" ضد الثقافة "الرجعية" التي يصنفون "الدين" كأحد أهم عناصرها، اقتربوا اكثر من "الدولة" (الرهينة والمرتهنة)، وساهموا في تفكيك المجتمع من خلال" تعففهم" في التعاطي مع "الإسلام" الذي اعتبروه "حاضنة" للتخلف فسهلوا تقديمه للامبريالية والصهيونية لاستخدامه ضد "الأمة" على شكل داعش احيانا ومشروع ابراهيمي احيانا أخرى.

إيران.. مشروع آخر لشرق مختلف

لا نحتاج لكثير من العناء للإقرار بأن ايران (وحلفائها) هي القوة "الأساسية" التي تقف أمام النسخة الامبريالية الصهيونية من مشروع الشرق الأوسط الجديد، ليس فقط لأن لديها تصورا مختلفا حول مستقبل المنطقة، بل لأنها الوحيدة التي تملك مشروعا متكاملا مضادا له.

المشروع الايراني مبني على مسألتين رسخهما الخميني منذ بداية الثورة الإسلامية؛ حتمية تحرير فلسطين على اعتبار أن اسرائيل "غدة سرطانية" غريبة في المنطقة، وضرورة انسحاب كل القوات والأساطيل والقواعد الأجنبية من المنطقة وتركها لأصحابها لتحديد شكل وجودهم وعلاقاتهم البينية. هو يعتبر اسرائيل والقواعد الأجنبية تهديدا مباشرا للأمن القومي الايراني. لذلك ينبغي أن نفهم أن تخلي ايران، أو بشكل أدق تخلي (الثورة الإسلامية في ايران) عن فلسطين هو تخليها عن مشروعها هي قبل أن يكون موقفا عقائديا أو اخلاقيا تضامنا مع الشعب الفلسطيني.

من المهم خاصة للنخب السياسية والثقافية العربية معرفة أن المشروع الايراني يتكيء على "ضلعين" هما الدولة والثورة. هذان الضلعان ليسا متعارضين لكنهما ليسا متماثلين تماما، والغرب في توجهاته نحو ايران يفترض وجود فجوة بين الدولة والثورة يسعى لتعميقها واسقاط الثورة من خلال ذلك.  انه يراهن من خلال الحصار والضغط على ايران تأليب الدولة على الثورة، وإظهار أن ما يعانيه الشعب الايراني والدولة الايرانية ما هو إلا بسبب التصرف "غير المسؤول" لها، وهو يعتبر أن "تخليص" الدولة من الثورة هو الطريق الأمثل لها للإنخراط في مشروعه للشرق الأوسط الجديد.

مما تقدم، يمكن الحكم على المشروع الايراني أنه مشروع شرقي تحرري، شرقي بمعنى أنه ليس مصمما للتموضع ضمن مصالح أي من القوى الكبرى خاصة الولايات المتحدة، هو مشروع ذاتي ايراني تماما. وهو مشروع تحرري بمعنى أن أهدافه المعلنة تتلخص في "تطهير" المنطقة (الشرق) أو (غرب آسيا) من كل القوى الأجنبية المتواجدة فيه والمتحكمة بمصيره. هذا هو ببساطة، والأمر لا يحتاج للذهاب كثيرا في "زواريب" الايديولوجيا و"مؤامرات" التاريخ.

العرب.. بين مشروعين

أصبح واضحا أن العرب، رسميون وغير رسميين، لا يملكوا أي مشروع ولا حتى أي تصور خاص لمستقبل المنطقة (الشرق)، وهم أساسا وبناء على ما تقدم، ليسوا في وضع يتيح لهم التفكير في أي مشروع كهذا لا الآن ولا في المستقبل المنظور، لذلك فإن دورهم ينحصر في أحسن الأحوال في اختيار كيفية التموضع مع ما هو مطروح أمامهم، رغم أن ذلك مشكوك فيه ايضا لأنهم على الأغلب لا يملكون حرية الاختيار، ويذهبوا صاغرين الى حيث تريد لهم القوى المتنفذة الذهاب.

إننا أمام مشروعين لإعادة صياغة مستقبل المنطقة لا ثالث لهما؛ مشروع الشرق الأوسط الجديد الأمريكي الاسرائيلي، يقابله المشروع الايراني. ونحن كذلك أمام عرب رسميين يمتثلون دون تردد للانخراط في المشروع الأول رغم إدراك بعضهم لخطورته المباشرة عليهم وعلى انظمتهم. ونخب (مثقفين بالأساس) بعضها غير مبال بحجة أنه لا يرى فرقا بين المشروعين، وبعضها يدعو الله للحفاظ على القديم (الموجود)، وما تبقى هو الذي وجد في المشروع المقابل ما يمكن أن يشكل أساسا لتجديد مختلف.

اذا ما استثنينا الجانب الرسمي الذي لا جدوى من النقاش معه كونه حسم موقعه "غرائزيا" الى جانب الشرق الأوسط (الصهيوني) الجديد، فإن الأكثر خطورة بين النخب هم اولئك الذين يتمترسون حول رأيهم بأن لا فرق بين المشروعين، كونهم يعرفون أن لا وجود لمشروع ثالث، ولا امكانية لوجوده، وهم بذلك إنما يسوقون المشروع الأول (الصهيوني) من باب "الحرص" على الذات وعلى "الاستقلال والسيادة".

هذا لا يعني أنه ليس من حق أحد أن يبدي "ملاحظاته" أو "تحفظاته" على المشروع "الايراني"، لكن التعامل العقلاني مع هذه التحفظات لا يكون بوضعه في خانة التساوي مع المشروع الصهيوني، بل بتقديره كمشروع تحرري للمنطقة والعمل على "تطويره" من خلال التفاعل والحوار بين كل المعنيين ليكون مشروعا "شرقيا" اكثر شمولا وجذرية واستثمارا لطاقات "الأمة"، كما تطمح شعوبها بكافة اثنياتهم وثقافاتهم (عربا وايرانيين وكرد وامازيغ...الخ) وطبقا لمصالحها في التحرر والاستقلال والسيادة والتنمية الحقيقية. مرة أخرى، إن لم تتوحد شعوب الشرق لتصنع "شرقها" على مقاسها، فإن اسرائيل جاهزة لتصنع لها ولهم "الشرق الأوسط الجديد" والقابل للتجديد دائما على المقاس الإسرائيلي.

*باحث وأكاديمي فلسطيني / رام الله

القدس المقدسية


© 2000 - 2024 البوابة (www.albawaba.com)

محرر البوابة

يتابع طاقم تحرير البوابة أحدث الأخبار العالمية والإقليمية على مدار الساعة بتغطية موضوعية وشاملة

الأحدثترند أي شرق نريد؟ صلاح ينتقد إدارة ليفربول.. ما السبب؟ شذى الأدهمي تهدد أصدقاء طليقها رامي الجابر: "لموا صاحبكم.. وتاريخكم المشرف كله عندي" بريانكا شوبرا تشارك لحظات عائلية خاصة رفقة زوحها نيك جوناس وابنتهما شاهد: ظهور السعودي عبد الحميد الأولى في الدوري الإيطالي Loading content ... الاشتراك اشترك في النشرة الإخبارية للحصول على تحديثات حصرية ومحتوى محسّن إشترك الآن Arabic Footer Menu عن البوابة أعلن معنا اشترك معنا فريقنا حل مشكلة فنية اعمل معنا الشكاوى والتصحيحات تواصل معنا شروط الاستخدام تلقيمات (RSS) Social media links FB Linkedin Twitter YouTube

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا للحصول على تحديثات حصرية والمحتوى المحسن

اشترك الآن

© 2000 - 2024 البوابة (www.albawaba.com) Arabic social media links FB Linkedin Twitter

مقالات مشابهة

  • أي شرق نريد؟
  • مجلس الأمن يعقد اليوم جلسة حول القضية الفلسطينية
  • اليوم.. مجلس الأمن يعقد جلسة حول القضية الفلسطينية
  • جلسة لمجلس الأمن اليوم حول القضية الفلسطينية
  • جلسة لـ مجلس الأمن اليوم حول الوضع في الشرق الأوسط
  • «البث الإسرائيلية»: حماس كانت مستعدة للإفراج عن محتجزين دون وقف إطلاق النار بغزة
  • هيئة البث الإسرائيلية: صفارات الإنذار دوت أكثر من 500 مرة اليوم في إسرائيل
  • الفصائل الفلسطينية: أوقعنا 10 جنود للاحتلال الإسرائيلي بين قتيل وجريح
  • المخمل يعكس رشاقة نجوى كرم (صور)
  • فرض “حل” على الفلسطينيين لن ينهي صراع الشرق الأوسط مع إسرائيل