الفردانية أو انشقاق الـفرد عن المجتمع والدولـة
تاريخ النشر: 24th, April 2024 GMT
غالباً ما يفضي الدفاع عن المجال الخاصّ وحُـرمتِه في المجتمع إلى نقيض ما يهـدُف إليه فيسـوِّغُ لذلك النّقيض لتدفع الحريّـةُ، تبعاً لذلك، ثمـنَ سوءِ تقديـرِ علاقاتها الاجتماعيّة لدى أولئك الذين لا يَعُونها إلاّ بوصفها ظاهرةً فرديّـة أو، للدّقّـة، تتعلّق بالأفراد. يبدأ الدّفاع عن المجال الخاصّ من نقطةِ رسْـمِ غايـةٍ عليا هي الدّفـاع عن حرمة الأفراد وحيواتهم الخاصّة وحريّاتهم التي تعتَرف لهم بها القوانين، لكنّه - عند عـتبةٍ من تمسُّكه الحادّ بذلك المجال الخاصّ - ينتهي إلى تبـرير الفردانيّـة من حيث هي انشقاقٌ عن المجتمع والدّولة!
تَـحُطُّ الفكرةُ الفردانيّـة رِحالها، دائماً، في نقطةٍ متقدّمـة من مسار الخطاب الليبرالي الذاهب بفكرة المجال الخاصّ إلى حيث تصير في مَـقام المقـدَّس السّياسيّ.
انتبه ألكسي دو توكـڤيل، منذ نهاية النّصف الأوّل من القرن التّاسع عشر، إلى أنّ الانعزال يجرّد المواطن من اجتماعيّـته ويقوده إلى الفردانيّة. انتهى إلى هذا الاستنتاج في معرض نقـده الثّورةَ الفرنسيّة ونتائجَها السّـلبيّة على المجتمع والدّولـة (في كـتابه: النّظام القديم والثّـورة). وما برِحَ الاستنتاجُ صحيحاً حتّى الآن؛ حيث الفردانيّة أفـقٌ إليه تذهب كـلُّ دعـوةٍ إلى تحرير الفرد من قيود النّظام الاجتماعيّ والسيّاسيّ- القانونيّ أو، قـلْ، إلى تحرير فرديّـته من كـلّ ما يفرض على استقلالها المطلق كوابحَ اجتماعية وسياسية من مصادر عـدّة: قيم، أعراف، قوانين، أخلاقيّات عامّـة...إلخ؛ ولكنّها - أيضاً - أفـق يذهب إليه أيُّ مجتمعٍ يتآكـل أَسمَنْـتُهُ الاجتماعيّ، وأيُّ دولةٍ لا تُحيط لحمته الاجتماعيّة بالحماية والتّـمتين.
من البيّـن لدينا، إذن، أنّ ثـمّة فارقاً بين الحريـة الفرديّـة من جهة، والفردانية من جهة أخرى، وأنّ الأولى لا تقود إلى الثّانيّة، حكماً، ما دام مبْناها على القانون وعلاقات المواطنة وليس على تصنيع التّـقابُـل بين مبدإ الفرديّة والمبدأ المجتمعي والدولـي. ولكن، ما إنْ ينْـفَـكّ مبدأُ الحريّـة الفرديّة عن شبكة العلاقات الاجتماعيّـة- السّياسـيّة- القانونـيّة التي يتحدّد فيها وينتظِـم بمقتضى أحكامها، فيميل إلى الإفصاح عن نفسه بما هـو مبدأٌ حـرٌّ من كـلّ قـيْـدٍ أو ضابط، وبما هـو مبدأ يبتدهُ الحريّـةَ فيرى إليها وكأنّها من معطيات الطبيعة والوجـود لا من منتوجات المجتمع السياسي...، حتّى يَـفـتح الطّريق أمام ميلاد الفردانيّة. والحقُّ أنّ الفردانية إذْ تفـتح - في أيّ اجتماعٍ سياسي تقوم فيه وتسود - مساراً من الهدم التّدريجيّ لأبنية التّماسُك الدّاخليّ في النّظام المجتمعي وفي الدّولة، فهي تتولّـد - في الآنِ نفسِه - من التّـآكُـل الذي يصيب النّسيج الاجتماعيّ ومنظومات القيم، ومن الوهْـن الذي يعتري قدرة الدّولة على بسط سلطانها الماديّ والمعنويّ في المجتمع: من طريق إِنفـاذ منظومة قوانينها وردْع التّجاوزات التي منها فيْض الحريّـة عن حـدّها المرغوب والقانونيّ.
قد يقال إنّ اقتران الفردانيّة بتآكُـل البنيان الاجتماعيّ لا تَشْـهد لصحّته تجارُب المجتمعات الغربيّة الحديثة التي هي ميدان تجلّي ظاهرة الفردانيّة. في المقابل، تكاد الظّاهرة أن تختفيَ في المجتمعات التي تعاني، فعلاً، نقصاً حادّاً في متانة نسيجها الاجتماعيّ مثل المجتمعات العربيّة أو مجتمعات عالم الجنوب. كيف يستقيم، إذن، النّـظر إلى الفردانيّة بما هي ثمرةُ مجتمعٍ مفكَّـك فيها هي تُفصِح عن نفسها في مجتمعات غربيّة شديدةِ التّماسـك في أبنيتها؟
ليس في السّؤال هذا من مفارقة ولا في الظّاهرة المُتَـساءَل عنها ما يَبْعث على هذا الاعتقاد؛ ذلك أنّ المجتمعات المتـآكَـل نسيجُها (المجتمعات الجنوبيّة) لا يسعُها أن تنجب الفردانـيّة لأنّ هذه الأخيرة هي الدّرجة العليا - المتضخّمة والمنحرفة - في الحرية الفرديّة، والحال إنّ المجتمعات إيّاها لم تشهد بعد على درجةٍ من التّراكـم في هذه الحريّـة على النّحو الذي تصطدم فيه بالنظام الاجتماعي- السياسي- القانونيّ فـتفـتح الباب أمام إمكان نشوء فردانيّـةٍ فيها. أمّا ما يبدو من قـوّةٍ ومتانةٍ على صعيد النّسيج الاجتماعي في مجتمعات الغرب، فانطباعٌ سطحي تحمل عليه ملاحظةُ ديناميّةِ المجتمع المدني وحيوية مؤسساته فيها، أمّا الحقيقة فإنّ آليات التفكيك فيه تـشتغل، بانتظام، وتذهب في كل محطّةٍ من تطوُّره التّاريخي بوشائجه وعلاقاته التّضامنيّة ومنظومات قيمه المتوارَثـة، وتضعضع مركز الأسرة والعائلة في النّظام الاجتماعي، في مجتمعات الغرب، مثال عن نوع التّـفكك الذي تشهد عليه تلك المجتمعات فيقودها إلى معاينة ظواهـر جديدة غير مألوفة تخرج من رحمها من قبيل انشقاق الأفراد عن النّظام الاجتماعي، وانعزالِهم في عوالم مُـغْـلَـقَة يتداولون فيها قيماً خاصّة بهم.
تساعد العولمة، اليوم، على ازدهار الفردانيّة أكثر من ذي قبل نظراً إلى ما تقدّمـه لها من ممكناتٍ جديدة تُـوهِم الواقعين في أفخاخها بغَـنَائهم عن المجتمع وعلاقات التّبادل الاجتماعي للقيم، بما فيها علاقات التواصل. ما من غرابة، إذن، في أن تظهر الفردانية جنباً إلى جنب مع منظومة «التّواصل الاجتماعي» ومنصّاتها ومواقعها الإلكترونيّة، بل لا غرابة في أن تمارس الفردانية نفسها من طريق هذا «التـواصُل» الافتراضي الذي يقطع، بالكليّة، مع الاجتماعيِّ وعلاقات التّـفاعل والتّواصل! إنّه انشقاق الفرد عن المجتمع والدّولة...
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المجال الخاص عن المجتمع الحری ـة الد ولة الن ظام
إقرأ أيضاً:
281 من عمال الإغاثة قُتلوا في 2024: أكبر خسارة في تاريخ العمليات الإنسانية
أعلنت الأمم المتحدة يوم الجمعة عن مقتل 281 من عمال الإغاثة في عام 2024، وهو أعلى عدد يتم تسجيله في تاريخ العمليات الإنسانية.
اعلانوتشير البيانات إلى أن الحرب في غزة كانت السبب الرئيسي وراء هذه الخسائر، حيث قتل 178 عامل إغاثة في الضفة الغربية وغزة في حين توزع الباقي بين السودان وأوكرانيا ودول أخرى.
وقال ينس لاركيه، المتحدث باسم مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، إن عمال الإغاثة لا يزالون يعملون في مناطق النزاع بشجاعة ونكران ذات رغم المخاطر المترتبة على عملهم، مشيرًا إلى أن هذا العنف المتزايد ضدهم أصبح يشكل تهديدًا خطيرًا ليس فقط في غزة، بل في العديد من دول العالم مثل السودان وأوكرانيا.
وأضاف لاركيه: "هؤلاء العمال يقدمون كل ما لديهم من أجل الإنسانية وهم يُقتلون في المقابل، بأعداد غير مسبوقة".
حروب 2024 حصدت 281 من عمال الإغاثةكما أن تهديدات العنف والاختطاف التي يتعرض لها العاملون في مجال الإغاثة تمتد إلى أماكن عديدة أخرى، إذ تم تسجيل مستويات غير مسبوقة من العنف والاعتداءات في أفغانستان، والكونغو، وجنوب السودان، وأوكرانيا، وغيرها من الدول التي تشهد نزاعات.
هذه الزيادة في العنف ضد العاملين في المجال الإنساني تشير إلى تحول كبير في طبيعة الحروب الحالية، حيث أصبح المدنيون بما فيهم العاملون في المجال الإنساني أهدافًا رئيسية في هذه النزاعات.
القانون الدولي الإنساني يضع قواعد تهدف إلى الحد من آثار الحروب على المدنيين وغير المقاتلين الآخرين، مثل العاملين في المجال الإنساني والكوادر الطبية.ومن جانبه، أكد توم فليتشر، منسق الأمم المتحدة لشؤون الإغاثة، على ضرورة أن تتخذ الدول وأطراف النزاع التدابير اللازمة لحماية العاملين في المجال الإنساني والالتزام بالقانون الدولي. وقال فليتشر: "يجب على الدول وأطراف النزاع ضمان حماية العاملين في المجال الإنساني ومحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم".
Relatedالصليب الأحمر اللبناني ينتشل أشلاء بشرية من تحت ركام الغارة الإسرائيلية التي استهدفت أيطو شمال لبنانشاهد: الصليب الأحمر وصعوبة تنفيذ المهمات بسبب القتال في الكونغووفي السياق نفسه، أشار تقرير الأمم المتحدة إلى أن العنف ضد عمال الإغاثة يتماشى مع اتجاه أوسع في استهداف المدنيين في مناطق النزاع، حيث تم تسجيل أكثر من 33,000 حالة وفاة بين المدنيين في 14 نزاعًا مسلحًا خلال العام الماضي، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 72% مقارنة بعام 2022. ورغم هذه التحديات، واصل العاملون في المجال الإنساني تقديم الدعم لما يزيد عن 116 مليون شخص في عام 2024، وسط ظروف صعبة ومخاطر متزايدة.
المصادر الإضافية • AP
Go to accessibility shortcutsشارك هذا المقالمحادثة مواضيع إضافية بعد مقتل عمال الإغاثة البريطانيين.. المملكة مصدومة من "حمام الدم" في غزة بعد تحقيق في مقتل عمال الإغاثة في غزة: الجيش الإسرائيلي يفصل ضابطين من الخدمة ويوبخ ثلاثة آخرين رئيس الوزراء الأسترالي يصف تفسير إسرائيل لمقتل عمال الإغاثة في غزة بـ"غير الكافي" غزةجمهورية السودانأوكرانياالأمم المتحدةالمساعدات الإنسانية ـ إغاثةلبناناعلاناخترنا لك يعرض الآن Next عاجل. القصف والجوع يثقلان كاهل غزة وإصابات في صفوف اليونيفل بلبنان وصواريخ حزب الله تضرب أهدافاً إسرائيلية يعرض الآن Next بعد الهجوم الصاروخي على دنيبرو.. الكرملين يؤكد: واشنطن "فهمت" رسالة بوتين يعرض الآن Next جرائم حرب وإبادة: قادة صدرت بحقهم مذكرات اعتقال من الجنائية الدولية.. تعرف عليهم؟ يعرض الآن Next تفجير جسم مشبوه بالقرب من السفارة الأمريكية في لندن.. ماذا يجري؟ يعرض الآن Next على خطى ترامب.. فضائح تلاحق بعض المرشحين لعضوية الإدارة الأمريكية اعلانالاكثر قراءة زلزال سياسي: المحكمة الجنائية الدولية تصدر مذكرتي اعتقال في حق نتنياهو وغالانت حدث "هام" في منطقة الأناضول.. العثور على قلادة مرسوم عليها صورة النبي سليمان سحابة من الضباب الدخاني السام تغلف نيودلهي: توقف البناء وإغلاق المدارس اليابان ترفع السن القانوني لممارسة الجنس من 13 إلى 16 عاما حب وجنس في فيلم" لوف" اعلانLoaderSearchابحث مفاتيح اليومكوب 29فلاديمير بوتيندونالد ترامبقطاع غزةإسرائيلبنيامين نتنياهوالمحكمة الجنائية الدوليةغزةشرطةضحايافن معاصرالحرب في أوكرانيا الموضوعاتأوروباالعالمالأعمالGreenNextالصحةالسفرالثقافةفيديوبرامجخدماتمباشرنشرة الأخبارالطقسآخر الأخبارتابعوناتطبيقاتتطبيقات التواصلWidgets & ServicesJob offers from AmplyAfricanewsعرض المزيدAbout EuronewsCommercial ServicesTerms and ConditionsCookie Policyسياسة الخصوصيةContactPress officeWork at Euronewsتعديل خيارات ملفات الارتباطتابعوناالنشرة الإخباريةCopyright © euronews 2024