دارون أوغلو -

سايمون جونسون -

ربما يبدو الذكاء الاصطناعي، والتهديد الذي يفرضه على الوظائف المجزية اليوم، وكأنه يمثل مشكلة جديدة تماما. ولكن بوسعنا أن نجد أفكارا مفيدة حول كيفية الاستجابة لهذا التهديد في أعمال ديفيد ريكاردو، مؤسس الاقتصاد الحديث الذي راقب الثورة الصناعية البريطانية من واقع تجربته المباشرة.

الواقع أن تطور تفكيره، بما في ذلك بعض النقاط التي غابت عنه، يحمل لنا اليوم كثيرا من الدروس المفيدة.

يبذل قادة التكنولوجيا في القطاع الخاص الوعود حول مستقبل أكثر إشراقا، حيث تخف ضغوط العمل، وتصبح الاجتماعات المملة أقل، وتزيد أوقات الفراغ، بل وربما حتى يتحقق حلم الدخل الأساسي الشامل. ولكن هل ينبغي لنا أن نصدقهم؟ قد يخسر عدد كبير من الناس ببساطة ما يعتبرونه وظيفة مجزية -مما يضطرهم إلى البحث عن عمل بأجر أقل. ذلك أن الخوارزميات تستولي بالفعل على مهام تستغرق حاليا وقت البشر واهتمامهم.

في عمله المبدع الذي صدر عام 1817 بعنوان «حول مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب»، اتخذ ريكاردو نظرة إيجابية للآلات التي أحدثت بالفعل تحولا في عمليات غزل القطن. واتباعا للرأي السائد في ذلك الوقت، قال أمام مجلس العموم في جلسة شهيرة: إن «الآلات لم تقلل من الطلب على العمالة». منذ سبعينيات القرن الثامن عشر، أدت «أتمتة» الغزل (تشغيله آليا) إلى خفض سعر القطن المغزول وزيادة الطلب على المهمة التكميلية المتمثلة في نسج القطن المغزول ليتحول إلى قماش كمنتج نهائي.

ولأن كل أعمال النسيج تقريبا كانت تُـدار يدويا قبل العقد الثاني من القرن التاسع عشر، فقد ساعد هذا الانفجار في الطلب على تحويل نسج القطن يدويا إلى وظيفة حرفية عالية الأجر توظف مئات الآلاف من الرجال البريطانيين (بما في ذلك أعداد كبيرة من الغزالين الـمُـزاحين في فترة ما قبل الصناعة). وربما أسهمت هذه التجربة الإيجابية المبكرة مع الأتمتة في إثراء وجهة نظر ريكاردو المتفائلة في مستهل الأمر.

لكن تطوير الآلات الضخمة لم يتوقف عند الغزل. وسرعان ما انتشرت الأنوال التي تعمل بالبخار في مصانع نسج القطن. ولم يعد «النساجون اليدويون» الحرفيون يكسبون دخلا لائقا من العمل خمسة أيام في الأسبوع من ورشهم المنزلية الصغيرة. بل بات لزاما عليهم أن يكافحوا لمجرد إطعام أسرهم بينما يعملون لساعات أطول كثيرا في ظل نظام صارم في المصانع.

مع انتشار القلق والاحتجاجات في مختلف أنحاء شمال إنجلترا، غير ريكاردو رأيه. وفي الطبعة الثالثة من كتابه المؤثر، التي نُشِرَت عام 1821، أضاف فصلا جديدا بعنوان «حول الآلات»، حيث أصاب كبد الحقيقة: «إذا كانت الآلات قادرة على القيام بكل العمل الذي تتولاه العمالة الآن، فلن نجد أي طلب على العمالة». تنطبق ذات أسباب القلق على الحال اليوم. فلن يكون استيلاء الخوارزميات على مهام كان العمال يؤدونها في السابق خبرا جيدا للعمال الـمُـزاحين ما لم يتمكنوا من العثور على مهام جديدة بأجور مجزية.

لم يذهب أغلب محترفي صناعة النسيج اليدوي المكافحين خلال العقدين الثاني والثالث من القرن التاسع عشر للعمل في مصانع النسيج الجديدة؛ لأن الأنوال الآلية لم تكن بحاجة إلى عدد كبير من العمال. وفي حين خلقت أتمتة الغزل الفرص لعدد أكبر من الناس للعمل كنساجين، فإن أتمتة النسيج لم توجد طلبا تعويضيا على أيد عاملة في قطاعات أخرى. ولم يخلق الاقتصاد البريطاني في مجمل الأمر ما يكفي من الوظائف الجديدة المجزية الأجر، على الأقل حتى انطلاقة السكك الحديدية في ثلاثينيات القرن التاسع عشر. ومع وجود خيارات قليلة أخرى، استمر مئات الآلاف من النساجين اليدويين في المهنة، حتى مع انخفاض الأجور بأكثر من النصف.

تتمثل مشكلة رئيسية أخرى، وإن لم تكن بين تلك التي تناولها ريكاردو نفسه، في حقيقة مفادها أن العمل في ظروف المصانع القاسية -التحول إلى ترس صغير في «مصانع شيطانية» يسيطر عليها أصحاب العمل في أوائل القرن التاسع عشر- لم يكن جذابا في نظر النساجين على النول اليدوي.

وقد عمل كثير من النساجين الحرفيين كرجال ورواد أعمال مستقلين فاشتروا القطن المغزول وباعوا منتجاتهم المنسوجة في السوق. من الواضح أنهم لم يكونوا متحمسين للخضوع لساعات عمل أطول، ومزيد من الانضباط، وقدر أقل من الاستقلالية، وأجور أدنى عادة (على الأقل مقارنة بذروة النسيج اليدوي). في الشهادات التي جمعتها لجان ملكية مختلفة، تحدث النساجون بمرارة عن رفضهم قبول ظروف العمل هذه، أو عن حياتهم التي أصبحت فظيعة عندما أجبروا (بسبب الافتقار إلى أي خيارات أخرى) على العمل في مثل هذه الوظائف.

ينطوي الذكاء الاصطناعي التوليدي اليوم على إمكانات هائلة وقد حقق بالفعل بعض الإنجازات المبهرة، بما في ذلك في مجال البحث العلمي. وبات من الممكن استخدامه لمساعدة العمال على أن يصبحوا أكثر اطّـلاعا، وأكثر إنتاجية واستقلالية وتنوعا.

ولكن للأسف، يبدو أن صناعة التكنولوجيا تضع استخدامات أخرى في الاعتبار. وكما أوضحنا في كتاب «القوة والتقدم»، تفضل الشركات الكبرى التي تعمل على تطوير ونشر الذكاء الاصطناعي بأغلبية ساحقة الاتجاه إلى الأتمتة (استبدال البشر) على تعزيز القدرة (جعل الناس أكثر إنتاجية). هذا يعني أننا نواجه خطر الإفراط في التشغيل الآلي: حيث من المحتم أن يُـزاح عدد كبير من العمال، وأن يخضع أولئك الذين يستمرون في وظائفهم لأشكال متزايدة الإذلال والتحقير من المراقبة والتحكم.

يتطلب مبدأ «الأتمتة أولا ثم طرح الأسئلة لاحقا» -وبالتالي يزيد من تشجيع- جمع كميات هائلة من المعلومات في محل العمل وعبر كافة أقسام المجتمع، الأمر الذي يدعو إلى التساؤل حول القدر الذي سيظل قائما من الخصوصية. مثل هذا المستقبل ليس حتميا. ومن شأن تنظيم جمع البيانات أن يساعد في حماية الخصوصية، ومن الممكن أن تعمل القواعد الأقوى في محل العمل على منع أسوأ جوانب المراقبة القائمة على الذكاء الاصطناعي.

لكن المهمة الأكثر جوهرية، كما قد يذكرنا ريكاردو، تتمثل في تغيير السرد العام حول الذكاء الاصطناعي. وربما يكون بوسعنا أن نقول: إن الدرس الأكثر أهمية المستفاد من حياته وعمله يتلخص في حقيقة مفادها أن الآلات ليست بالضرورة طيبة أو شريرة في حد ذاتها. بل يعتمد تسببها في تدمير الوظائف أو خلقها على كيفية نشرها، وعلى هوية الأشخاص الذين يتخذون مثل هذه الاختيارات.

في زمن ريكاردو، تولى كادر صغير من أصحاب المصانع اتخاذ القرار، وتركزت قراراتهم على الأتمتة وضغط العمال بأكبر قدر ممكن من القسوة.

اليوم، يبدو أن كادرا أصغر من قادة التكنولوجيا يسلكون المسار ذاته. لكن التركيز على خلق فرص ومهام جديدة للبشر، واحترام الأفراد كافة، من شأنه أن يضمن نتائج أفضل كثيرا. ولا يزال من الممكن أن يكون الذكاء الاصطناعي داعما للعمال، ولكن فقط إذا تمكنا من تغيير اتجاه الإبداع في صناعة التكنولوجيا وإدخال ضوابط تنظيمية ومؤسسات جديدة.

وكما كانت الحال في أيام ريكاردو، سيكون من السذاجة أن نثق في إحسان قادة الأعمال والتكنولوجيا. لقد تطلب الأمر إصلاحات سياسية كبرى لإنشاء ديمقراطية حقيقية، وإضفاء الشرعية على النقابات العمالية، وتغيير اتجاه التقدم التكنولوجي في بريطانيا أثناء الثورة الصناعية. ونحن اليوم نواجه ذات التحدي الأساسي.

دارون أوغلو أستاذ الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وهو مؤلف مشارك (مع جيمس أ. روبنسون) لكتاب لماذا تفشل الأمم: أصول القوة والازدهار والفقر.

سايمون جونسون كبير خبراء الاقتصاد الأسبق في صندوق النقد الدولي، وأستاذ في كلية سلون للإدارة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.

خدمة بروجيكت سنديكيت

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی القرن التاسع عشر فی ذلک

إقرأ أيضاً:

5 طرق للكشف عن التزييف العميق لمستخدمي تقنيات الذكاء الاصطناعي

مع التقدم التكنولوجي وتطور أدوات الذكاء الاصطناعي نكتشف كل يومٍ تقنيات جديدة تساعد على تسهيل المهام اليومية، ومن بينها تقنية «التزييف العميق»، التي كانت تستخدم في إنتاج الإعمال الإبداعية أو للتسلية، لكنها بدأت في الانتشار بشكلٍ متزايد في حملات التضليل والاحتيال، وتشويه سمعة المشاهير، لذا عملت الحكومات على مواجهة هذه التقنية ووضع آليات لكشفها.

وكشف مركز معلومات مجلس الوزراء، عن 5 طرق للكشف عن التزييف العميق لمستخدمي تقنيات الذكاء الاصطناعي، وذلك وفق تحليل صادر عنه تناول من خلاله التقنية بدءًا من زيادة اعتماد المستخدمين على تقنيات الذكاء الاصطناعي.

طرق للكشف عن التزييف العميق

وأوضح المركز أنّ هناك 5 طرق للكشف عن التزييف العميق لمستخدمي تقنيات الذكاء الاصطناعي، تتمثل فيما يلي:

- منصة Sentinel: تسمح للمستخدمين بتحميل الوسائط الرقمية ثم تحليلها تلقائيًّا؛ للتعرف على مدى صحة هذه الوسائط، ويُستخدم هذا الصدد خوارزميات ذكاء اصطناعي متقدمة؛ لتحديد ما إذا كان تمّ التلاعب بها أم لا.

- كاشف التزييف العميق من إنتل في الوقت الحقيقي FakeCatcher: تُمكن هذه التقنية من اكتشاف مقاطع الفيديو المزيفة بمعدل دقة يبلغ 96%، ما يؤدي إلى إرجاع النتائج في أجزاء من الثانية.

وتعمل هذه التقنية بما يسمى «تدفق الدم»، إذ إنّه عند تحدث الشخص في أي مقطع فيديو يتغير لون العروق نتيجة تدفق الدم من القلب، فتجمع التقنية إشارات تدفق الدم هذه من جميع أنحاء الوجه وتترجم الخوارزميات هذه الإشارات إلى خرائط زمانية مكانية، ويتم بعد ذلك اكتشاف مدى مصداقية الفيديو.

- نحن نتحقق WeVerify: تحلل الوسائط الاجتماعية ووضعها في سياق النظام البيئي الأوسع على شبكة الإنترنت، كما أنّه يعتمد على قاعدة بيانات عامة قائمة على blockchain للمزيفات المعروفة.

- أداة مصادقة الفيديو من Microsoft: يمكن من خلال هذه الأداة تحليل مقطع فيديو أو صورة ثابتة، إضافة إلى تحليل عناصر التزييف العميق والعناصر الرمادية الدقيقة التي لا يُمكن اكتشافها بالعين البشرية بشكل فوري.

- استخدام عدم التطابق Phoneme-Viseme: تستغل هذه التقنية حقيقة أن البصمات، التي تشير إلى ديناميكيات شكل الفم، تكون أحيانًا مختلفة أو غير متوافقة مع الصوت المنطوق. ويعد هذا التناقض عيب في التزييف العميق. لذا تعتمد هذه التقنية على خوارزميات متقدمة للذكاء الاصطناعي لتحليل الفيديو واكتشاف التناقضات.

التزييف العميق تقنية مثيرة للجدل

وأوضح التحليل أن «التزييف العميق» يظهر بوصفه تقنية «مثيرة للجدل» تجمع بين الإبداع الفني والتحديات الأخلاقية والأمنية، ورغم فوائد استخدامه في العديد من المجالات مثل الفن والتسلية والتعلم والطب، فإنّ القلق الأساسي يبقى حول استخدامه في التلاعب بالمعلومات والتأثير في الرأي العام، لذا، يتطلب الأمر تحديد وتطوير استراتيجيات مبتكرة لمواجهة هذه التحديات بشكل فعّال، سواء عبر تطوير تقنيات الكشف عن التزييف أو تعزيز الوعي الجماهيري بمخاطره.

وفي النهاية، يبقى التوازن بين التقدم التكنولوجي والحفاظ على الأمان والنزاهة واحدًا من أهم التحديات التي تواجهنا في عصر التزييف العميق.

مقالات مشابهة

  • الأكاديمية العربية للعلوم تنظم ورشة عمل حول “ أخلاقيات استخدام الذكاء الاصطناعي”
  • الخبراء العرب والدوليين يتحاورون بشأن تعزيز الوعي بأخلاقيات استخدام الذكاء الاصطناعي
  • دعوى قضائية ضد OpenAI وMicrosoft
  • Lenovo تعلن عن حاسب متطور يعمل مع الذكاء الاصطناعي
  • 45 طالباً في برنامج تدريبي بجامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي
  • جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي تستقبل 45 طالباً في برنامج التدريب البحثي
  • محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي تستقبل 45 طالباً في برنامج التدريب البحثي
  • هل اقترب عصر الذكاء الاصطناعي الواعي؟
  • جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي تستقبل 45 طالبا في برنامج التدريب البحثي
  • 5 طرق للكشف عن التزييف العميق لمستخدمي تقنيات الذكاء الاصطناعي