من المفيد أن نستثمر شغف المتعلم واندفاعه النابع من الوجدان نحو الرغبة في أداء مهام ترتبط بخبرات متعلمة قد تحفزه لأن يلتحق بمهنة بعينها يرى أنها تستوعب طاقته وتنمي من مهاراته وتترسخ في وجدانه؛ فيحقق من خلالها مسيرة العطاء التي ينشدها، ويقدم أفضل ما لديه في مجال تخصصه النوعي الوظيفي على المدى البعيد؛ فتزداد ثقته بنفسه ويستطيع أن يمارس الابتكار؛ ليحدث تنافسًا إيجابيًا حميدًا يصل به إلى مستويات الريادة والتميز على المستوى المحلي والدولي، كما يثابر ويحافظ ويهتم بسبل التنمية المهنية المستدامة؛ ليواكب كافة المستجدات على ساحة تخصصه المهنية الآنية والمستقبلية.


ونحن نعي أن الميول المهنية تعبر عن الاستعداد المقرون بالاستجابة من قبل فرد رغب في مزاولة نشاط مهني محدد؛ بغرض أن يستمر فيه ويحقق من خلاله مكاسب مادية وخبرات مربية من شأنها أن تحدث تغيرًا مستمرًا في أداءاته الخاصة بالمهنة المختارة، وهذا يجعلنا نهتم بأمر المتعلم في أن نعمل بصورة مقصودة على انغماسه في تفاصيل ما يحب كي يتذوق الفنيات ويمارس بصورة صحيحة الخطوات التي تشكل المهارات النوعية، ومفاد ذلك الوصول به لمستوى الاحترافية التي تجعله قانعًا متمسكًا بما يمتهن.
وفي هذا الصدد يتوجب علينا أن نحترم اختيار المتعلم وميله تجاه مهنة أو حرفة بعينها، ونتجنب محاولات ثنيه عما اختاره؛ كي لا نصيبه بخيبة الأمل أو الشعور بالإحباط؛ لكن آليات التوجيه ينبغي أن تتسم بالعمومية والشمول، واتخاذ القرار وفق الرغبة والاختيار الحر المدعوم بملكات قد تبدو خفية أو جلية، وهنا لا يجب أن نضع من العراقيل والمعوقات ما يحد من تفضيلات الفرد؛ لتنمو الميول بصورة طبيعية، ومن ثم يتمكن من امتلاك المهارات الاحترافية المرتبطة بالمهنة المختارة عن قناعة وتفضيل عما سواها.
ودعونا نعتلى قطار الميول المهنية ونترك معيار الدخل المادي المتوقع جراء امتهان مهن بعينها؛ لنصل لغاية كبرى، تتمثل في تفجير طاقات الابتكار لدى أبنائنا؛ فينطلق الخيال في مسار آمن يشعر من خلاله الفرد بالارتياح والرضا تجاه مهنة بعينها يفضلها عن بقية المهن المتاحة، ومن المتوقع أن يتمكن من مفرداتها ومهاراتها ويتعمق في معارفها؛ فيدرك تمامًا أسرارها ويكتسب خبراتها، بل ويحرص على يتقدم فيها بصورة مستدامة.
وتكمن جدوى الاهتمام بمراعاة وتنمية الميول المهنية في فعاليتها حيال إكساب الفرد قدرًا ليس بالقليل من الخبرات، مما يعد حافزًا للفرد لأن يتقن المهارات المخطط أن يكتسبها، ومن ثم يؤدي ذلك إلى راحة نفسية يشعر بها تجاه ما يمارس، وهنا نرى ثمرة أخرى للميول المهنية تتمثل في تأثيرها الإيجابي على ما لدى الفرد من مواهب؛ فمن خلالها يفهم طبيعة المهنة ومجالاتها ومتطلباتها، وبمزيد من التدريب والرعاية تتحسن أداءاته إلى أن يصل لمستويات التمكن ودرجة الاتقان التي يقرها أهل الخبرة في مجالات تخصصاتهم.
وننوه إلى أن الميل المهني الذي يظهر أو تتضح ملامحه داخل المؤسسة التعليمية أم خارجها هو ناتج معرفة مقرونة بممارسة أسست لها البيئة التعليمية بشكل مقصود، وهذا الأمر يدعونا إلى تجنب الحكم بعجلة على الفرد بأن لديه ميول مهنية بعينها قبل أن يتم اختباره بالعديد من المهام المرتبط بالجانب العملي لتلك المهنة.
ولندرك بشكل مختصر أن للميول المهنية أنماط تتوافق مع بيئتها وطبيعة العمل المتسقة معها؛ فهناك ميول تبدو في مقدرة الفرد على أن يتخيل ويبدع ويعبر عما يجول في خاطره بالرمز، وتلك نسميها بالميول الفنية، وعندما يستطيع الفرد أن يقنع ويؤثر في الآخرين، ويكون لديه رغبة في المخاطرة، وحب لمهارات القيادة؛ فإن هذه الممارسة تدل على ميول تجارية، وتستوجب الميول التحليلية جهداً ذهنياً يرتبط بتكوين العلاقات المجردة والعمل على تصنيف المعلومات وتحليلها وفق فرضيات ومبادئ تتمخض عن نظرية؛ بالإضافة إلى القدرة على الاستقصاء والتفسير والاستنتاج.
ويبدو الميل الاجتماعي في مقدرة الفرد على التواصل بنمطيه اللفظي وغير اللفظي والمشاركة البناءة وفق طبيعة العمل أو المهمة التي يؤديها، مما يجعله يؤدي ما يوكل إليه بدقة ونجاح، ونمط الميل العملي أو ما يسمى بالفعلي يتطلب من الفرد بذل جهد بدني في ضوء مهارات أدائية يتطلبها طبيعة العمل، ولا ننسى أن هناك ميول توصف بالتقليدية تحث الفرد على أن يلتزم بالتشريعات والقوانين واللوائح المنظمة بشكل روتيني مع مراعاة الدقة في الأداء المطلوب إنجازه.
وعلى أية حال لا نتجاهل أهمية البُعد المعرفي للمهن؛ إذ أنها تمد الفرد بالمعلومات التي تشكل صورة السلوك المتوقع، ويحدد صورة الكفاءة المرتبطة بشكل المهارة النوعية التي تحقق الهدف من المهنة، وهذا مجتمعًا يشير إلى رغبة الفرد من الانخراط بمهنة معينة من عدمه؛ فعندما تتوافر الرغبة يزداد حب الاستطلاع وتكثر المناقشات والتساؤلات حولها، بما يؤدي إلى قناعة الفرد بأهمية ما يميل إليه وبالتالي يتوقع نتائج ذات ثمرة يستطيع أن يحققها. 
وحري بالذكر أن هناك قناعة تامة لدينا بالفروق الفردية في المجال التعليمي وفي مجالات الحياة المختلفة، وعلى غرار ذلك هناك أيضًا تباين في الميول المهنية من فرد لآخر؛ حيث إن عوامل التدخل المرتبطة بالبيئة المحيطة وما تحمله الثقافات المجتمعية المتغايرة، ناهيك عن الجانب الوراثي وما يتمخض من متغيرات أخرى منها عمر الإنسان ونوعه وملكاته الخاصة التي يتفرد بها عن غيره، ومن ثم يتوجب علينا أن نراعي العوامل والمتغيرات والتي على أثرها يختار الفرد ما يحب أن يمتهن، ولا تصيبنا الدهشة إذا ما عدل من تلقاء نفسه عما قرر اختياره؛ فبعض الميول مكتسبة قد تتغير أو تتبدل وفق ما أوردنا سلفًا.
حفظ الله وطننا الغالي وقيادته السياسية الرشيدة أبدَ الدهر.

المصدر: صدى البلد

إقرأ أيضاً:

محمد عبدالسلام يكتب: فرنسيس الإنسان.. زعيم روحي تجاوز الحواجز وبنى جسور الأخوة والحوار

هذا المقال بقلم المستشار محمد عبدالسلام، الأمين العام لجائزة زايد للأخوّة الإنسانية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس بالضرورة رأي شبكة CNN.

استيقظ العالم يوم الاثنين الماضي على خبر رحيل البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، وقائد ملهم لأكثر من مليار ونصف من سكان عالمنا، ولا شك أن الإنسانية قد فقدت فارسًا من فرسان السلام والدعوة إلى الإخاء الإنساني في أسمى معانيه ولا غرو أن يصفه فضيلة الإمام الأكبر أحمد الطيب قائلًا: "البابا فرنسيس رجل سلام بامتياز".

وليس من الإنصاف أن يُختزل الحديث عن البابا فرنسيس في كونه مجرد رمز ديني كاثوليكي، فالرجل كان، بحق، قائدًا روحيًا عالميًا استثنائيًا، وصوتًا للضمير الإنساني، وشريكًا حقيقيًا في صنع السلام، وصديقًا صادقًا ومتفردًا للإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف. ومن واجب الإنصاف أن نُجلّ الإنسان فرنسيس بما قدّمه للبشرية من مآثر خالدة وإرث إنساني فريد، يتجاوز الحدود الدينية والجغرافية.

طوال عشر سنواتٍ من معرفتي الوثيقة بالبابا فرنسيس، منذ أول لقاء جمعني به عام 2015 في سياق عملي كمستشار للإمام الأكبر الطيب، لم أرَ منه إلا التواضع الجمّ والصدق العميق والرحمة الواسعة. لم يكن البابا رجلاً يعيش في أبراج العظمة ولا متكئًا على ألقاب البروتوكول، بل كان قريبًا من الناس، بسيطًا في حضوره، عظيمًا في جوهره.

ما زلت أذكر كيف كان يكتب رسائله وخطاباته لي بخط يده بتواضع مدهش، في مشهد يجسّد تجرّده من المظاهر وميله الفطري للبساطة. كان يُجالس الأطفال، ويُربّت على أكتافهم، ويُنصت لهم، لا تكلفًا بل حبًا صادقًا. وقد رأيت ذلك بعيني في كل لقاء جمعه بأطفالي الثلاث الذين نشأت بينهم وبينه علاقة وجدانية عميقة، لدرجة أنهم ينادونه بعفوية الأطفال وبراءتها "جدو البابا"، ويحتفلون بعيد ميلاده كل عام بكعكة يختارونها بأنفسهم في السابع عشر من ديسمبر، ويُهاتفهم من حين لآخر للاطمئنان عليهم، كما كان يفعل عندما كانت ابنتي خديجه تمر بمرحلة علاجية دقيقة عام 2018.

ومن المواقف التي لا تُنسى، ذلك اللقاء الأول الذي جمع البابا بالإمام الأكبر في مقر إقامته بالفاتيكان "كازا سانتا مارتا"، حيث جلسا إلى مائدة واحدة، فتناول البابا قطعة خبز فقسمها إلى نصفين، أعطى الإمام الأكبر نصفها، وتشاركاها في صمت يعلو على كل خطاب، وكأنهما يكتبان لحظة جديدة في تاريخ التعايش الإنساني، كانت إيذانا بعودة الحوار والعلاقات بين الأزهر والفاتيكان بعد قطيعة دامت لسنوات قبل مجيء الرمزين العظيمين.

لقد جسّد البابا فرنسيس الإيمان بأن تنوّعنا الثقافي والديني ليس سببًا للفرقة، بل هو هبة من الله تستحق أن تُحاط بالعرفان والاحترام. ولذا، لم يكن مستغربًا أن يكون أول بابا في التاريخ يقوم مع شيخ الأزهر بزيارة مشتركة إلى أرض شبه الجزيرة العربية، حين زارا معاً الإمارات العربية المتحدة في عام 2019، ثم مملكة البحرين في 2023، حاملين رسالة سلام وانفتاح، وداعيين لحوار الحضارات، لا صراعها، وقد تجدد اللقاء بين الرمزين في العديد من اللقاءات والمحافل.

ومن أبرز محطات حبريته، توقيع وإطلاق "وثيقة الأخوة الإنسانية" من أبوظبي عام 2019، إلى جانب الإمام الأكبر، كإعلان عالمي يدعو إلى بناء عالم متصالح، يقوم على احترام الإنسان، ونبذ الكراهية، وترسيخ قيم الرحمة والتفاهم، ومثلت محطة تاريخية تشرفت بالمساهمة في الوصول اليها.

ولم يكن التزامه بالأخوّة الإنسانية محصورًا في الحبر والكلمات، بل امتد إلى الأفعال؛ فلطالما وقف إلى جانب اللاجئين والمهمشين، كما فعل حين اصطحب ثلاث عائلات سورية مسلمة لاجئة من جزيرة ليسبوس إلى روما، حيث يعيشون اليوم حياة جديدة ويقولون في كلمات تفيض بالامتنان والعرفان: "لقد أرسله الله لينقذنا".

وعلى صعيد البيئة، كان للبابا فرنسيس صوتًا صادقًا لا يلين. فمنذ إطلاقه الرسالة البابوية التاريخية "كن مسبّحًا" عام 2015، جعل من حماية البيئة أولوية أخلاقية وروحية، ودعا قادة الأديان إلى أن يضطلعوا بمسؤوليتهم تجاه هذا التحدي المصيري، كما التزم بقيادة الفاتيكان نحو الحياد الكربوني الكامل بحلول عام 2050.

وفي مؤتمر الأطراف الثامن والعشرين الذي استضافته الإمارات العربية المتحدة، وتحديدًا في جناح الأديان الذي نظّمه مجلس حكماء المسلمين – والذي أتشرف بتولي أمانته العامة – تشرفنا بمشاركة البابا فرنسيس والإمام الأكبر معًا في رعاية المبادرة، ووقعا معاً إلى جانب 28 قائدًا دينيًا على "بيان أبوظبي بين الأديان من أجل المناخ"، في لحظة تاريخية تجلّت فيها وحدة الضمير الإنساني في وجه التحديات الكبرى التي تهدد البشرية.

وفي ديسمبر الماضي، كان لي شرف اللقاء الأخير مع قداسته في حاضرة الفاتيكان، خلال لقاء خاص نظمناه للجنة تحكيم جائزة زايد للأخوّة الإنسانية. وقد أعددنا له بهذه المناسبة فيديو تهنئة بعيد ميلاده، شارك فيه عدد من الفائزين وممثلين عن الجائزة، بالإضافة إلى أطفال لاجئين من روما. وعندما شاهد وجوه الأطفال على الشاشة وهم يغنون له، أضاء وجهه بابتسامة عريضة، وارتسمت على محيّاه ملامح الفرح العفوي الصادق.

لقد رحل عن عالمنا رجل استثنائي، عاش من أجل الناس، وأحبّ الفقراء، وسعى لبناء عالمٍ يسوده السلام. إلا أن رسالته لم ترحل، وإرثه لم ينقطع، وسيرته ستظل منارة تهدي الساعين للخير والعدالة.

فلنُكرم ذكراه بالسير على خُطاه في دعوته للسلام والتعايش، ونحمل ما دعا إليه من رحمة، ونُعلي ما نادى به من حوار إنساني، ونمضي في بناء عالمٍ تسوده روح المحبة والأخوة. هذا هو إرث فرنسيس الإنسان: أبٌ في الإنسانية، وزعيمٌ في السلام، ورمزٌ سيبقى حيًّا في ضمائر الأحرار.

الإماراتمصرالبابا فرنسيسرأيشيخ الأزهرنشر الخميس، 24 ابريل / نيسان 2025تابعونا عبرسياسة الخصوصيةشروط الخدمةملفات تعريف الارتباطخيارات الإعلاناتCNN الاقتصاديةمن نحنالأرشيف© 2025 Cable News Network. A Warner Bros. Discovery Company. All Rights Reserved.

مقالات مشابهة

  • عصام الدين جاد يكتب: حب الفداء لسيناء
  • محمد حامد جمعة يكتب: الدو
  • سامح قاسم يكتب | رنا التونسي.. شاعرة الحافة التي تنزف جمالًا
  • محمد عبدالسلام يكتب: فرنسيس الإنسان.. زعيم روحي تجاوز الحواجز وبنى جسور الأخوة والحوار
  • البكيري: أتفق مع الشباب حول الميول المزدوجة
  • بصورة.. صلاح يثير التكهنات حول مستقبل نجم ليفربول
  • د. محمد بشاري يكتب: البابا فرنسيس.. رحيل رجل السلام وصوت الضمير الإنساني
  • نهيان بن مبارك والشيوخ يعزّون راشد بن الشيخ في وفاة والدته
  • د.محمد عسكر يكتب.. إحذروا النسخ المُهَكَّرة من شات جي بي تي
  • نحن والصمت