مساعٍ حثيثة تُترجِم تميُّز العلاقات
تاريخ النشر: 24th, April 2024 GMT
خليفة بن عبيد المشايخي
khalifaalmashayiki@gmail.com
عُرفت عُمان منذ الأزمان الغابرة على أنها أرض الأئمة والعلماء والمفكرين والأدباء والتسامح والتصالح والهدوء والاتزان والعقلانية والحكمة، وإذا ما بحثت في التاريخ، فإنه سينبئك بذلك، وسيغنيك عن البحث والتحري والدقة وجلب المعلومات عن غيره، وسلاطين عُمان وأئمتها السابقون، كانوا يتميزون بالعلم والمعرفة والفهم ورجاحة العقل وحب الاطلاع والنبوغ في مجالات وعلوم مختلفة وكثيرة، والعمل من أجل الأمة والإنسانية؛ فبرزوا واستبسلوا في الدفاع عن مقدرات الدولة، وجنحوا إلى الرضا والقناعة، وإحقاق الحق وبسط العدل وإغاثة الملهوف ونجدة المظلوم، فعُمان منذ قرون عديدة تربطها علاقات وثيقة متميزة مع العالم أجمع، ولا ننسى أنه في عام 1840 أبحر أحمد بن النعُمان الكعبي مبعوث السلطان إلى نيويورك، وأصبح أول دبلوماسي عربي معتمد لدى الولايات المتحدة الأمريكية.
وتأتي الزيارة التاريخية التي قام بها حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- أمس، إلى دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة، ترجمةً لكل المعاني الإنسانية والأهداف السامية النبيلة، التي تنشدها السلطنة مع أشقائها دول الجوار في مجلس التعاون الخليجي وغيرها، مُنطلقةً من وصايا ديننا الإسلامي الحنيف التي تنادي بضرورة حسن الجوار وأهمية التعامل مع الجار والأخ المسلم، وتوطيد العلاقات بينهما ومعهما، ونشر السلام والتسامح بينهم وبين شعوب الأرض كافة، بما فيهم مختلف الطوائف والملل.
وقد بحث جلالة السلطان المعظم- أيده الله- مع أخيه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان من خلال زيارته إلى أبوظبي، كل ما من شأنه الارتقاء بأوجه التعاون القائمة بين البلدين الشقيقين في مختلف المجالات. وإذا قلنا إنَّ عُمان منذ القدم عُرفت بأثرها وثقلها السياسي في المنطقة، ودورها المحوري الهام في حل الأزمات والخلافات بين الأصدقاء، وفض نقاط الاختلاف نظرًا لما تحظى به من تقدير واحترام العالم لها، ولما تتمتع به من قدرات متميزة ونهج متفرد وسياسة حكيمة في التعامل مع كافة الأحداث والمواقف ومجمل القضايا العالقة.
إننا نجدها- بحمدالله- تتوفق دائمًا في التدخل لإنهاء المشاكل والأزمات وحل الصراعات والنزاعات بين الأطراف المتخاصمة، من خلال أطر كثيرة وسياسات متعددة وطرق مختلفة، منها تقريب وجهات النظر ودرء الفتن ولم الشمل ونبذ التفرقة ورأب الصدع والحياد في مُجمل الأمور والوسطية والاعتدال، متى ما طلب منها ذلك، مُنطلقةً من مكانتها التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإرثها الخالد وإنجازاتها الشاهدة وعمق تاريخها الإسلامي الحافل بالبطولات والانتصارات والأمجاد، موظفة ما يتمتع به أهلها من نفاذ بصيرة وقوة وشجاعة، إذا ما تطلب الأمر ذلك. ناهيك عن أن الحبيب الصطفى صلى الله عليه وسلم، قال عن عُمان وأهلها، لو أن أهل عُمان أتيت لما سبوك وما ضربوك، ما يعني تمتعهم منذ الأزل، بالحكمة ورجاحة العقل والفهم والعلم والمعرفة والتواضع والطيبة والأخلاق والكرم، وتميز أهلها في مختلف المجالات والميادين.
وقد رحبت دولة الإمارات العربية المتحدة قيادةً وشعبًا وحكومة والتي تتألف من سبع إمارات هي أبوظبي ودبي والشارقة ورأس الخيمة، وعجمان وأم القيوين والفجيرة، تتمتع كل إمارة منهن بميزاتها الفريدة، وتجمعها عوامل مشتركة كالدين والثقافة والتاريخ، والعادات والتقاليد والاقتصاد؛ مما جعلها تتكامل في ظل اتحاد أثبت قدرته على النجاح، وتحقيق تحولات حضارية، ومنجزات عملاقة محليًا ودوليًا، رحبت بالمقدم الميمون السامي لجلالة السلطان المعظم، وبالزيارة الكريمة الميمونة التي قام بها على رأس وفد رسمي رفيع المستوى.
وقد تناولت الزيارة مناقشة عدد من المواضيع المهمة التي تخدم البلدين، وتعزز من مستوى الشراكة ومتانة العلاقات الأخوية بينهما، ودوامها على نحو يحقق العيش الكريم للبلدين الكريمين واستقرار شعبيهما الشقيقين. ما يؤمن دوام القوة والأخوة ومجالات التعاون السياسية والاقتصادية والاستثماريّة والاجتماعية والأمنية حاضرا ومستقبلا، لا سيما وأن العامل المشترك القائم بين الدولتين، يمضي حثيثًا في مسار قويم ونهج حميد راسخ، يسمو بما يخدم البلدين في كافة المجالات. وبما يحافظ على حسن الجيرة والنسيج الاجتماعي المتداخل، والدفع بذلك الى مستويات وآفاق أرحب متقدمة، وإلى حدود أرفع وأسمى تتنامى مع الأيام ما يجعل هذا التداخل بين المجتمعين، ماضياً في توحد وحب ووئام وتقدير واحترام.
وقد أعرب جلالة السلطان هيثم عن سروره البالغ للزيارة التي قام بها لدولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة، ولقائه بأخيه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، كما أعرب الشيخ محمد بن زايد عن سعادته بهذه الزيارة، وقال إنه على ثقة بأن "هذا الترابط والتلاحم الاجتماعي، يمثل مرتكزات أساسية لمواصلة بناء علاقات نموذجية، تخدم مصالح البلدين وتحقق تطلعات الشعبين الشقيقين إلى التقدم والازدهار".
هذا ما خلصت إليه هذه الزيارة الكريمة التي نرتجي من ورائها الشيء الكثير؛ بما يخدم الشعبين الشقيقين وكل شعوب مجلس التعاون الخليجي. ولا يسعنا المقام إلّا أن نقول حفظ الله سلطنة عُمان ودولة الإمارات وكافة دول الجوار الأشقاء وشعوبها من كل سوء وشر ومكروه، وأدام علينا نعمة الأمن والأمان والستر والعافية، ومن تقدم إلى تقدم بإذن الله.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
عُمان والرسوخ الدبلوماسي
حاتم الطائي
◄ الدبلوماسية العُمانية ترتكز على العلاقات المتوازنة والطيبة مع الجميع
◄ التوجه شرقًا لا يعني الابتعاد عن الغرب ويعكس رؤية عميقة لواقع العالم اليوم
◄ تسهيل التملك العقاري للأجانب وتيسير التمويل المصرفي بات من الضروريات
يقود حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظم- حفظه الله ورعاه- هذا الوطن العزيز نحو مرافئ المجد والازدهار، ولا أدل على ذلك من الزيارات التاريخية التي يقوم بها جلالة عاهل البلاد المُفدّى لعدد من دول العالم، فضلًا عن الزيارات التي يقوم بها جلالته- أيده الله- إلى الدول الشقيقة، وهي جميعها زيارات تُعزِّز من رسوخ عُمان دبلوماسيًا، وتؤكد النهج السامي باعتماد الدبلوماسية الاقتصادية مسارًا لتطوير العلاقات مع مختلف الدول، وترجمتها بما يعود بالنفع على اقتصادنا الوطني.
لقد نجحت سلطنة عُمان على مدى عقود طويلة، في أن تؤسس لدبلوماسية يُشار إليها بالبنان، تعتمد في جوهرها على العلاقات الطيبة مع الجميع، وترجمة المقولة الخالدة "أريد أن أرى جميع الدول أصدقاء لعُمان"، وهو ما تحقق بالفعل، وما يزال يتطور بصورة تفوق التوقعات. ولقد أتاحت الدبلوماسية العُمانية تحت قيادة جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- أيده الله- حرية الحركة لدولتنا، شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا، ورغم التحديات التي تعصف بالعالم، والاستقطابات الكبرى التي تؤثر على الجميع، استطاعت عُمان أن تتخذ مسارًا فريدًا، ينطلق من سيادتها واستقلالية قرارها الداخلي والخارجي.. مسارٌ يُتيح لها بناء علاقات صداقة مع الجميع، بعيدًا عن التحالفات ذات الصبغة الاستقطابية، أو الاعتماد على دولة أو أخرى في أي مجال من مجالات العمل، اقتصاديًا أو سياسيًا.
وخلال الأسبوعين الماضيين، اتجهت عُمان شرقًا وغربًا في آنٍ واحد، للتأكيد على حُرية الحركة في الفضاء السياسي والاقتصادي في العالم، فكانت البداية بزيارة مملكة هولندا، أحد أقدم الأنظمة السياسية في أوروبا الغربية، ذات الثقل الاقتصادي الرائد في قطاعات الطاقة بالمقام الأول، إلى جانب قطاعات اقتصادية أخرى مثل الموانئ واللوجستيات والقطاعات الزراعية والغذائية، وغيرها. وتُوِّجت الزيارة بالتوقيع على اتفاقية إنشاء أول ممر لوجستي في العالم لنقل الهيدروجين المُسال من سلطنة عُمان إلى أوروبا، بشراكة عُمانية هولندية ألمانية، تضم 11 شركة، وهو ما يعكس بجلاء قدرة شركاتنا الوطنية على تنفيذ أكبر المشاريع العالمية العابرة للقارات، بفضل الكفاءات الوطنية التي تحمل أفضل التخصصات العلمية والخبرات العملية.
النهج الذي اتبعه جلالته- أيده الله- في هذه الزيارة، يؤكد الحرص الشديد على الاستفادة من عمق العلاقات مع مملكة هولندا، وهي العلاقات التي تمتد لأكثر من 400 سنة، تعكس عراقة التاريخ المشترك، وقوة الوشائج التي تربط البلدين الصديقين، وما الاتفاقيات ومذكرات التفاهم التي تمخضت عن هذه الزيارة سوى ترجمة صادقة لمعاني الشراكة والصداقة بين عُمان وهولندا، وهي شراكة وصفها جلالة السلطان بأنها "ديناميكية"، وأن البلدين يشتركان في "خصال تشكل أسسًا جوهرية في الهوية الحضارية للبلدين". وتأكيدًا على هذه العلاقات القوية، تبادل جلالة السلطان وملك هولندا أعلى الأوسمة؛ في تقدير مشترك لمكانة البلدين ومستوى الشراكة الذي وصلا إليه.
ولم يمض أسبوع، حتى توجهت بوصلة الطائرة العُمانية "صحار" صوب الشرق، وتحديدًا في المنطقة الأوراسية؛ حيث تمتد واحدة من أعرق الإمبراطوريات في العالم، إنِّها روسيا الاتحادية، إحدى القوى العظمى في العالم، والتي فتحت أبوابها على مصراعيها لاستقبال الضيف الكبير جلالة السلطان المُعظم- أعزه الله- في مشهد أسطوري يمزج تقاليد روسيا القيصرية مع مراسم الاحتفاء الرئاسي بسلطاننا المُفدّى؛ ما يُؤكد الأهمية التاريخية لهذه الزيارة في توقيت لافت للغاية، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي العالميين.
والتوجه شرقًا لا يعني الابتعاد عن الغرب؛ فالعلاقات المُتوازِنة سِمة عُمانية خالصة، وتعكس رؤية عميقة لواقع العالم اليوم، عالم لم تعد أحادية القطبية هي المُهيمنة عليه، كما كان الوضع منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والذي تعمق بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي. وهذا التنويع في مستوى العلاقات، بين الشرق والغرب، يُؤكد أنَّ عُمان تعي تمامًا حجم المتغيرات العالمية، وحاجة المجتمع البشري الإنساني لعلاقات أساسها التعادل في ميزان القوى العالمية، حتى لا تجور واحدة على الثانية، ولا تُهيمن إحداها على الأخرى.
وحرصًا على ترجمة هذه العلاقات المتنوعة إلى واقع يُستفاد منه في تحقيق الأهداف، ولا سيما الاقتصادية منها، كان لزامًا أن تُترجَم إلى فرص ومشاريع ثنائية، مع تذليل المُعوقات بأنواعها، وهو ما تحقق جانب منه خلال الزيارة، فقد وقعت عُمان وروسيا على اتفاقية الإعفاء المتبادل من التأشيرات لمواطني البلدين، وهي خطوة تاريخية من شأنها أن تنهض بالقطاع السياحي في عُمان، خصوصًا وأن الطقس في عُمان، من أكثر أنواع الطقس تفضيلًا لدى السائح الروسي، الذي يعشق أجواء المياه مع الشمس، ويستمتع بالطبيعة الخلابة، وهذه كلها مقومات عُمانية تتوافر طيلة العام في مختلف الولايات. كما أثمرت الزيارة عددًا من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم والبروتوكولات، بما يحقق المنافع المُتبادلة لكلا البلدين، لا سيما في جوانب الاستثمار والقطاعات الاقتصادية، التي تمثل الركيزة الكبرى لانطلاقتنا نحو المستقبل.
لكن في المقابل، لا بُد من اتخاذ خطوات جريئة تدعم جذب المزيد من الاستثمارات، وتحديدًا الروسية منها، منها ضرورة تبسيط إجراءات التملك العقاري للأجانب، بهدف الاستفادة من زخم هذه الزيارة وجذب المستثمرين الروس وغيرهم الذين يبحثون عن ملاذات آمنة لاستثماراتهم، وأُجزم أنه لا بلد أكثر أمنًا من هذا الوطن العزيز عُمان. ومثل هذه الخطوة ستساعد على إنعاش القطاع العقاري الذي يُعاني حاليًا من حالة ضعف نخشى أن تتحول إلى ركود، ومن ثم تتراجع جاذبيته محليًا وإقليميًا ودوليًا، خاصةً وأنَّ تملك الأجانب محصور بصورة ضيقة للغاية على مناطق تُعد على أصابع اليد الواحدة في مسقط مثلًا، وأماكن محدودة بشدة في ولايات أخرى.
إننا في حاجة ماسة إلى مواكبة التوجهات السامية في تنويع الاقتصاد ومصادر الدخل، لا سيما على مستوى التشريعات وتحديثها بشكل مُستمر بما يتوافق مع احتياجات السوق والمواطن والمستثمر. علاوة على ضرورة تيسير إجراءات التمويل المصرفي بين عُمان وروسيا، بعيدًا عن نظام "سويفت"، لأنَّ ذلك سيفتح أبوابًا كبيرة من التدفقات الاستثمارية إلى عُمان.
ويبقى القول.. إنَّ التحركات الدبلوماسية لعُمان شرقًا وغربًا من شأنها أن تُعزز من سعيها الحثيث لتحقيق الأهداف الطموحة، وفي مقدمتها مُستهدفات رؤية "عُمان 2040"، لكن لا بُد من أن يُواكب المسؤولون والجهات المعنية بالتشريع وسن القوانين تلك التحركات، وأن يستلهموا من الحكمة السامية ما يساعدهم على تقديم الأفضل لعُمان وشعبها.
رابط مختصر