غنوة فضة **

أصدر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتابًا للباحث الفلسطيني مصطفى العباسي بعنوان "طبريا العربية تحت الحكم البريطاني 1918-1948" (2022)، يتناول فصولًا مهمة من ذاكرة فلسطين، ومن تاريخ سكانها العرب في طبريا ومنطقتها. وتتطرق الدراسة إلى أحداث شهدت فيها الازدهار وحتى الانحدار والحروب التي حاقت بها على التوالي.

يهتمّ البحث بدراسة منطقة طبريا وتجدد عمرانها خلال حكم الشيخ ظاهر العمر في القرن الثامن عشر، وفي أواخر العهد العثماني وفترة الاحتلال البريطاني. ويُشير الباحث إلى التاريخ العريق الذي تأسست من خلاله على يد هيرودس أنتيباس عام 20م حتى تسميتها على اسم القيصر الروماني طيباروس، وصولًا إلى دورها الكبير في تاريخ فلسطين القديم.

يتألف الكتاب من أحد عشر فصلًا، ويدرس إضافة إلى الجانب السياسي والاجتماعي، الحياة الاقتصادية لسكان طبريا، ومصادر رزقهم وعلاقاتهم مع المدن الفلسطينية الأخرى، ويبرز التحولات الاقتصادية خلال حكم الانتداب وتأثير الصراع العربي الإسرائيلي وإلى أي مدى كان العامل الاقتصادي مؤثرا في تأجيج الصراع. كما يوثق عبر بحوث ودراسات ما واجهه عرب طبريا من تحديات فرضها الانتداب البريطاني، وتحكّم الحركة الصهيونية من بعده في مصادر الاقتصاد وفروعه، وصولًا إلى مرحلة الطرد الجماعي، والفشل في حماية السكان العرب الذين طُردوا من مدينتهم يوم 18 أبريل 1948 لتكون طبريا أول مدينة مختلطة يطرد منها العرب، وتدمَّرُ أسوارها وتهدم آثارها القديمة ومُعظم معالمها التاريخية.

محنة الديموغرافيا والتعليم

يلقي الكتاب الضوء على توسع المدينة وإعادة بنائها في بدايات القرن الثامن عشر، وحتى التنظيمات التي طبقها العثمانيون خلال القرن التاسع عشر، والتحولات الطارئة على العلاقات بين السكان المسلمين والمسيحيين وعلاقة كل من الطرفين بالمؤسسات التبشيرية الأوروبية، إلى جانب الإدارة المركزية التي ميزت الحكم البريطاني من بعده وكرست التزامه المطلق بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، الأمر الذي أوجد عرب طبريا وقادتها خارج دائرة صنع القرار، إذ أُسنِدت المناصب فيها للموظفين البريطانيين واليهود، ومنه تحولت طبريا إلى مدينة مقسمة إلى قسم داخل الاسوار وآخر خارجها. ويشير العباسي إلى أن اليهود لم يشكلوا في أواخر القرن التاسع عشر غالبية السكان، بينما أظهرت عوامل عديدة الزيادة المستمرة في عدد السكان العرب حتى بلغوا أكثر من نصف السكان، وهو ما يدفعه لطرح التساؤل حيال ما إذا كان السبب تزاحم الهجرة العربية، أو ترك اليهود لها وهجرتهم نحو مدن أخرى.

يناقش الباحث ظروف النزاع القومي في المنطقة، ويلقي الضوء على التحدي الذي شكله أمر إدارة بلدية مشتركة في مدينة مختلطة، ودور البلدية نفسها في عمارة المدينة والصراع مع سلطات الانتداب التي استولت على الحمامات الحارة، ونزعت عنها ملكية البلدية، وهنا يظهر تأثير الصراع العربي الصهيوني على عمل البلدية، وكيف أثر كل حدث على البلدية خاصة أثناء الثورة الفلسطينية في الفترة بين 1936-1939. وفي وقت عانى فيه الجهاز التعليمي من التراجع والإهمال مقارنة بمدن فلسطينية أخرى، يذكر الباحث أنه لم تنشأ في طبريا مدرسة ثانوية إلا في السنة الاخيرة للحكم البريطاني، على الرغم من وجود 5000 مواطن عربي فيها، الأمر الذي أثر سلبًا على سكانها الذين لم يواكبوا، بالقدر الكافي، وتيرة التطورات الحاصلة في مدن عربية أخرى.

الحياة السياسية وقرار التقسيم

يبرز الكتاب مكانة الحركة الوطنية العربية الفلسطينية في طبريا، ودورها في بدء النشاط الوطني، وتأثير عائلة الطبري في قيادتها إلى جانب القادة المخضرمين في المدينة؛ كالشيخ عبد السلام الطبري، والشيخ نايف الطبري. وما واجهوه من تغيرات أوجدها الصهاينة، ومستجدات قيدت النشاط السياسي، ووسعت الفجوة بين العرب واليهود من سكان طبريا، لتضعف قدرة العرب على المناورة وإيصال الغالبية العربية إلى بر الأمان.

يفسر الباحث طرد العرب من المدينة ، ويبني الحقائق التي أسست لقرار التقسيم عام 1947، وحتى يوم الإخلاء والطرد عام 1948. ويشير إلى ما قامت به اللجنة القومية العربية ودورها في عقد اتفاق "طبريا" وأسباب فشله، وصولا إلى العلاقات بين عرب طبريا وجيش الإنقاذ، وهو ما دفعه لتكريس سؤاله الكبير حيال عدم تشكيل جبهة عربية واحدة في المدينة رغم الخطر الواضح الذي داهم سكانها.

دوافع تدمير طبريا القديمة

يربط الكتاب بين فصوله بمحور التاريخ الاجتماعي، والذي يفحص المجتمع الطبري ويتتبع التغيرات فيه. إذ يؤكد الباحث أن التدمير كان جزءا من سياسة متعمدة، وينطلق من قصة تدمير المدينة القديمة وهدمها ودوافعه. إذ كانت طبريا، وعلى الرغم من مكانتها المقدسة لليهود والمسيحيين على السواء، على مكانة مهمة للمسلمين أيضا، وذلك لوجود قبر السيدة سكينة بنت الحسين. إلا أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي هدمت معالمها الأثرية، وبعد صراع بين البلدية وأصحاب البيوت المدمرة، اختفى الجزء القديم من المدينة، على غرار ما حدث في أحياء حيفا وصفد القديمة.

يفسر الكتاب تلك السياسة في جرف معالم المدينة وطمرها، إمعانا في طرد العرب منها، وفي منعهم من عودة اللاجئين. إذ عمدت السلطات الإسرائيلية إلى تلك السياسة تكريسا لما أسمته "إعادة تشكيل المظهر العمراني لفلسطين"، من غير الربط بين قضية اللاجئين وعمليات الهدم. وهنا يمعن الباحث في فحص مسألة التدمير بشكل أكثر شمولا، إذ يذكر محاولة مئات من سكان طبريا العرب العودة، ممن لجأوا إلى الناصرة، إلا أنهم واجهوا معارضة شديدة ولم يُسمح لهم بذلك مطلقا. الأمر الذي جعل من قضية عرب طبريا قضية قائمة الطرح، وبقيت حاضرة لأعوام عدة بعد عام 1948.

وعلى الرغم من اختلاط الملكية فيها، إلا أن الإجلاء طُبق على العرب وحدهم، فضلاً عن إخفاق بعض سكانها اليهود في الاعتراض على قرارات الهدم ومطالبتهم بالحفاظ على المدينة القديمة، الأمر الذي يشير إليه الباحث في نهاية البحث ليبرز درجة التصميم لدى إسرائيل على محو تاريخ المدينة.

** كاتبة وروائية سوريّة

** ينشر بالتعاون مع مركز الدراسات الآسيوية والصينية في بيروت

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

الخطة الصهيونية المُعلنة لإبادة غزة أمام القضاء الدولي

 

 

 

د. عبدالله الأشعل **

الإرهاب الأمريكي جعل الدول الأعضاء في محكمة العدل الدولية والجنائية الدولية تتردد في مواصلة المعركة القانونية ومحاربة الإفلات من العقاب الذي قررته واشنطن ونفذته إسرائيل؛ حيث إن واشنطن شريك كامل لإسرائيل في أعمال الإبادة، وتمد إسرائيل بالسلاح الفعَّال في إبادة الشعب الفلسطيني، وتُغطِّي جرائم إسرائيل دبلوماسيًا وتشجعها على ارتكاب الجرائم، كما تمد إسرائيل بالمال، والأهم من ذلك أنها تُلجِم المنظمات الدولية الإنسانية ومُنظمات حقوق الإنسان، وقد فرض الكونجرس عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية لأنها تحدت إسرائيل وأمريكا وأصدرت أوامر الاعتقال لرئيس الوزراء ووزير الدفاع السابق المُقال.

والطريف أن محكمة العدل الدولية لا تزال تبحث عن أدلة تثبت أن إسرائيل تتعمد الإبادة. ولعلم المحكمة أن الخطة الأمريكية التي تنفذها إسرائيل تحت حراسة أمريكا وتدخلها المباشر تتكون من خمسة عناصر.

وتقضي خطة الإبادة الإجرامية إلى ارتكاب الجرائم الآتية:

1-    العودة إلى الإبادة انتهاكًا لاتفاق وقف إطلاق النار.

2-    تشديد الحصار على القطاع واستخدام التجويع سلاحًا للإبادة.

3-    القضاء على المقاومة ونزع سلاحها ومغادرة غزة لتأمين جرائم إسرائيل.

4-    تكثيف الهجمات الجوية على المخيمات وسط خرائب غزة في الإغلاق والحصار؛ وذلك انتقاما من سكان غزة على تحديهم ترامب ورفض التهجير القسري.

ترامب يرى أن من يخاف من الإبادة المباشرة عليه أن يرحل إلى خارج غزة وإفراغ فلسطين من أهلها، بحيث يمكن للصهاينة أن يحلوا محلهم تحت ستار "لحين إعمار غزة". ويرى ترامب أن نزوح الأهالي في هذه الحالة هو فرار من الموت، وهي هجرة وليس تهجيرًا، علمًا بأنَّ إجبار السكان على النزوح هو تهجير قسري.

صحيحٌ أن التهجير القسري معناه تجميع السكان رغمًا عنهم وشحنهم إلى الخارج دون عودة، وإرغام للسكان عن طريق الإبادة ودفعهم إلى الفرار من الموت. ويرى ترامب أنها هجرة طوعية وهذا وَهْمٌ كبير. وهكذا قررت واشنطن أن فلسطين ملك كلها للصوص الصهاينة يتقدمهم ترامب. ويريد ترامب تأمين إسرائيل في فلسطين فلا تؤرقها مقاومة أو سيف القانون الدولي وسط بيئة عربية وإسلامية ساكنة، مع إفلات إسرائيل وأمريكا من العقاب وإهدار هيبة القانون الدولي. وأخيرًا الجريمة المُركَّبة وهي القضاء على المقاومة وحرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه: الحق في مقاومة الاحتلال والإبادة والطرد من الوطن، وحق العودة، إضافة إلى الحقوق السياسية، وأهمها احترام سيادة الدولة الفلسطينية والانسحاب من أراضيها.

فكيف تعلن أمريكا وإسرائيل علناً خطة الإبادة بقصد التهجير ولم يتحرك أحد في الوسط العربي والإسلامي والدولي، وماذا ينتظرون بعد حصد الإبادة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين، إضافة إلى اغتيال قيادات المقاومة وترديد الأكاذيب الصهيونية وهي أن إسرائيل تقوم بالإبادة لأن المقاومة تهدف إلى القضاء على إسرائيل، لكن الحقيقة أن الإبادة انتقام من أهل غزة عقابًا لهم على تمسكهم بالأرض وعدم تحميل المقاومة مأساتهم. وأهم الأكاذيب أن حركة حماس هي التي جلبت الانتقام الصهيوني بهجومها يوم 7 أكتوبر 2023، كما لو كان إسرائيل قبلها حملًا وديعًا ولم تتحد الأمم المتحدة وتنسحب من أراضي الدولة الفلسطينية؛ بل وأخذ المقاومة معها خلال الهجوم رهائن من المدنيين والعسكريين أسرى.

وردًا على كذبة إسرائيل الكبرى أن هجمة حماس على إسرائيل 7 أكتوبر 2023 هي عدوان على إسرائيل استوجب انتقام إسرائيل من العرق الفلسطيني بسبب عملية المقاومة. وقد تطاول نتنياهو على المحكمة العالمية التي قررت أن إسرائيل دولة محتلة بأن فلسطين كلها ملك لإسرائيل وأن القانون الإسرائيلي يحظر إقامة دولة فلسطينية في فلسطين، لأنَّ إسرائيل تستحوذ على كل فلسطين.

ولم يقل لنا نتنياهو منذ متى فلسطين ملكاً لإسرائيل وليس دولة محتلة، هل بعد السابع من أكتوبر 2023 فقط؟

وسبق للمحكمة أن قررت أن علاقة إسرائيل بفلسطين أنها سلطة احتلال، وقررت ذلك في الرأي الاستشاري في قضية الجدار العازل عام 2004، ومن قبله، قرار مجلس الأمن 242/ 1967.

وفي الملاحظات الآتية نردُ على الفرية الصهيونية حول السابع من أكتوبر:

أولًا: أن إسرائيل منذ القرن التاسع عشر حتى قبل قيام إسرائيل كانت تجسيدا للمشروع الصهيوني وخدعت العالم كله.

ويقضى المشروع الصهيوني بالانفراد بفلسطين كلها ولذلك رفضت إسرائيل قرار تقسيم فلسطين وعندما رفضه العرب اتهمتهم بأنهم لا يريدون السلام. والسلام عند إسرائيل يعنى الاستسلام لمخططها وإفراغ فلسطين من أهلها، فضلًا عن التمسح باليهودية واسرائيل في الواقع سكانها هم أنصار المشروع الصهيوني فليسوا مدنيين. والحق أن مقاومة الفلسطينيين بدأت منذ وصول الهجرات الأولى للمستعمرين الصهاينة، حتى نجحت المؤامرة وقامت إسرائيل كراس حربة لتنفيذ المشروع،

ثانيًا: أن سلوك إسرائيل منذ قيامها هو الإرهاب والمذابح وطرد السكان أصحاب الأرض. ولم تتوقف المذابح والابعاد وحصار غزة يومًا ولذلك فإن عملية أكتوبر كشفت إسرائيل وبدا سلوكها الإجرامي بعدها صريحًا.

ثالثًا: أن المقاومة مشروعة مادام الاحتلال مستمرًا؛ فالاحتلال عدوان دائم خاصة أن المشروع الصهيوني يقضى بإبادة أهل فلسطين ثم جلب صهاينة العالم تحت ستار حق العودة المزعوم. وقد فشلت كل محاولات المجتمع الدولي والقضاء الدولي في ردع إسرائيل ومكنتها واشنطن من إهدار هيبة القانون الدولي والتباهي بجرائمها.

رابعًا: يُباح للمقاومة استخدام أي سلاح كما يُباح لها أخذ الرهائن قدر المُستطاع بموجب اتفاقية نيويورك 1979 خاصة المادة 12، كما إن أخذ الرهائن مشروع وله دافع أخلاقي وهو إطلاق سراح المعتقلين الفلسطينيين المحكوم عليهم بالسجن والإعدام، علمًا بأن القضاء الإسرائيلي ليس له سلطة محاكمتهم أو تطبيق القانون الإسرائيلي عليهم. وقد قارنتُ في مقال سابق بين السلوك الحضاري للمقاومة والسلوك البربري لإسرائيل في السجون الصهيونية.

وهذا الواقع الصحيح يفهمه العالم لأول مرة ويمثل مسمارًا في نعش إسرائيل التي أُصيبت بحالة من الهياج الناجم عن استشعار الخطر بالنهاية للظاهرة الإسرائيلية؛ فسلوك إسرائيل الهمجي هو تنفيذ للمشروع الصهيوني ولا علاقة له بهجوم حماس، لكن هذا الهجوم كشف الجيش الذي لا يُهزم وعوار الأجهزة الأمنية التي تدَّعي الكمال.

** أستاذ القانون الدولي ومساعد وزير الخارجية المصري سابقًا

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • اللجنة الفنية الاستشارية لوزراء الصحة العرب تعقد اجتماعها بالجامعة العربية
  • الآبار اليدوية القديمة في الحدود الشمالية.. شواهد على عبقرية الإنسان وصموده في مواجهة الطبيعة
  • الخطة الصهيونية المُعلنة لإبادة غزة أمام القضاء الدولي
  • 29 أبريل بدء موسم «كنة الثريا» في الجزيرة العربية
  • شهداء وجرحى في اليوم الـ 40 لتجدد حرب الإبادة الصهيونية على غزة
  • البطولة العربية للرماية.. محمد أيمن يتوج بذهبية العرب في الإسكيت للناشئين برقم قياسي
  • حزنت جدا للمصيبة التي حلت بمتحف السودان القومي بسبب النهب الذي تعرض له بواسطة عصابات الدعم السريع
  • سفيرة الجامعة العربية أمام جثمان البابا فرانسيس: «تأثرت بشدة وذكرت اللحظة التي تحدثت فيها عن معاناة الفلسطينيين»
  • باحث: حظر جماعة الإخوان في الأردن جاء بعد إجراءات كثيرة .. فيديو
  • ياسر سليمان: الجائزة العالمية للرواية العربية أصبحت المنصة التي يلجأ إليها الناشر الأجنبي