# شهادة_معاصر
د. #هاشم_غرايبة
هنالك مقولة مفسدة قالها الخبثاء وصدق بها الجبناء، وهي: “ليس كل ما يعلم يقال”، وشجعت على انتشار الشياطين الخرساء، كونها سكتت عن الحق.
بالمقابل هنالك الشجعان الذين قالوا الحق، ففندوا الباطل الذي يتبناه الظالمون دائما ليدحضوا به الحق ويضللوا الشعوب، فقد سمعت للشيخ عبدالله النفيسي أنه نصح المسؤولين الكويتيين عندما نشبت الأزمة المعروفة بأزمة الخليج، بما أن الخلاف مع صدام كان ماليا وبحدود عشرة مليارات، وهو قيمة القرض الذي قدمته الكويت للعراق إبان حربه مع إيران بين عامي 1980 – 1987، فنصحه كان بمسامحة العراق بالدين أو تأجيله الى ميسره، لأن ما كان واضحا لذوي الألباب أن هنالك تأزيم مقصود، مما سيكلف الكويت عشرة أضعاف المبلغ.
بالطبع ما كان يخشاه الناصح الأمين حدث، وحصل أكثر بكثير مما يخشاه.. فباحتلال الغرب للعراق سقط الحصن المنيع فانهارت الأمة جميعها، إضافة الى خسارة دول الخليج مئات المليارات.
ولما كانت تلك المرحلة شابتها الضبابية لاستفراد الظالمين (الغرب المستعمر) وأتباعهم من الأنظمة العربية، بصياغة الرواية التاريخية بما يتناسب مع هواهم، وعزز ذلك غياب الشهداء بالحق أو تغييبهم ومحاصرة آرائهم، لذا سادت المقولة المضللة القائلة بأن “صدام” هو من تسبب بتلك الكارثة، مما يعني تبرئة من تسببوا بها حقيقة.
لذلك سأقدم شهادتي المتواضعة عن تلك الحقبة، كوني عاصرتها، وكنت متابعا حثيثا لأحداثها، عسى أن تسهم بجلاء الحقيقة ودحض التضليل.
كنت أدرس في بغداد في الفترة ما بين 70 – 75، وعايشت آنذاك النهضة المتسارعة في شتى المجالات، وكنت وقتها شابا متحمسا، أحلم بعودة الأمة الى سابق مجدها، لكني أمقت الاستبداد وقمع الحريات التي ظل العراق يعاني منها، ورغم أن “صدام” كان ما زال نائبا للرئيس آنذاك، إلا أنه كان واضحا أنه الحاكم الفعلي، وأنه رغم فرديته وحبه للعظمة، كان يسعى الى تقدم بلاده وإعادة أمجادها التليدة بالاعتماد على الذات، واستطاع تحقيق تغيير كبير في هذا الاتجاه.
كما أصبح واضحا شعور الغرب بالقلق من تصاعد قوة العراق عسكريا، خوفا على كيانه اللقيط، فسلط عليه الأنظمة العميلة له من الجوانب الأربعة، فأغروه بداية بالحرب مع إيران لاستنزاف القوتين معا، وانتهت بعد سبع سنوات أكلت الأخضر واليابس، إلا أن الغرب لم يمهله لمعرفته بنواياه، خاصة أنه الزعيم العربي الوحيد الذي لم يكن ملتزما بحماية الكيان اللقيط، لذلك حرض الكويت على المطالبة بديونه فورا، وأرفق ذلك بالإيعاز الى الدول النفطية الخليجية بإغراق الأسواق، لتهبط قيمة البرميل الى ما دون 13 دولارا، مما يستحيل معه سداد الدين.
بدأ صدام التفاوض معهم، لتأجيل السداد وهو عالم بحقيقة الدوافع، والتي هي قطعا ليست عن ضائقة مالية ألمت بالخليج، لذلك لم يكن من أوراق لديه الا التهديد باحتلال الكويت، والذي يعلم أن أحدا في الامة لن يؤيده فيه، لذلك فالقرار بالاجتياح كان منه شخصيا، وما أغراه به إلا إشارات السفيرة الأمريكية المضللة، بأن أمريكا لا تتدخل في الخلافات العربية.
في آخر مفاوضات في جدة، كان واضحا أن الخليجيين لديهم تعليمات أمريكية بالتشدد وعدم التنازل، فطرح العراق حلا بتسديد جزء من الدين من قيمة النفط الذي كانت الكويت تستخرجه من حقل الرميلة العراقي المجاور، حيث كانت تحفر الآبار في أرضها بشكل مائل ليصل الى الحقل النفطي في الجانب العراق، لكن ذلك رفض أيضا، ومن هنا كانت نصيحة النفيسي للمسؤولين الكويتيين، لتجنب الفخ الذي سعى الأمريكيون لإيقاع صدام فيه.
فيما بعد، وبعد أن وقع الفأس في الرأس، وخسر العرب جميعا خسارات فادحة، سواء منهم العملاء الخائنون لأمتهم مقابل ثمن بخس هو البقاء على الكرسي العفن، أو المستبدون المهووسون بالعظمة، تبين أنه لو لم يدخل العراق الكويت، لوجدت أمريكا ذريعة أخرى لتدمير العراق، فالغرب ثبت أنه لا يحفظ ودا لعملائه، وليس لديه وفاء لغير مصالحه، والتي تتحدد في بلادنا بحماية الكيان اللقيط وبقائه، لأنه يعلم يقينا أنه كيان مؤقت سيزول، ولن يطيل ذلك البقاء إلا خدمات العملاء من أبناء الأمة له.
فمتى تزول الغشاوة عن العيون، ويعلم المطبعون أن خدماتهم هذه لن تشفع لهم لدى أمريكا، حينما يقيض الله لهذه الأمة المخلصين من متبعي منهجه!؟. مقالات ذات صلة
المصدر: سواليف
إقرأ أيضاً:
شهادة حول قصور المجتمع الدولي في السودان
دائما ما نعلل لقناعتنا بحتمية تدخل ومساهمة المجتمع الدولي والإقليمي في المشهد السياسي في بلدان العالم الثالث، مستوطن الأزمات والكوارث السياسية والإجتماعية، والتي دائما ما تتجلى تحت عنوان تحقيق السلام والاستقرار في العالم، بحقيقة إننا اليوم نعيش في عالم تحكمه قوانين العولمة التي لا فكاك منها، والتي توفر تربة خصبة لما نشهده من تفاعلات وتداخلات بين مكونات هذا العالم كظاهرة موضوعية وحتمية.
ولكننا دائما نقرن هذه القناعة بإشارتنا إلى أن في قمة العوامل التي تدفع المجتمع الدولي والإقليمي للتدخل في أزمات بلادنا، يتربع عجزنا وفشلنا، كنخب سياسية، في معالجة الأزمات التي تعصف بالسودان حد تفجر الحروب ونسف الاستقرار، داخله وخارجه. ومع إقرارنا وإعترافنا بما ظلت تقدمه مؤسسات المجتمع الدولي والإقليمي، وتحديدا الأمم المتحدة والإتحاد الأفريقي، من خدمات جليلة لإطفاء نيران الحروب وإخماد بؤر التوتر في العديد من مناطق العالم، ولتحقق أهدافا لصالح أمن وسلام وتقدم البشرية، إلا أننا كثيرا ما تناولنا بالنقد ما نعتقده قصورا ودورا سالبا في ِتعامل هذه المؤسسات مع الحرب الدائرة في السودان وما أفرزته من مأساة إنسانية غير مسبوقة. وقد وصل انتقادنا هذا حد القول بأن هذا القصور وهذه الجوانب السالبة، تدفعنا إلى الاستنتاج، وبعيدا عن نظرية المؤامرة، بإمكانية ترشيح هذا القصور في أداء المجتمع الدولي والإقليمي ليكون ضمن مغذيات «الحلقة الشريرة» في السودان.
أوردنا الفقرة أعلاه لربطها بما جاء في تقرير «نهاية المهمة» الذي قدمه الدكتور عبدول محمد لزملائه في مكتب المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة إلى السودان، وذلك بعد أن طلب منه إخلاء منصبه لإفساح المجال لخليفته، والذي زُعم أنه طلب من قبل وزارة الخارجية الأمريكية، بحسب ما جاء في التقرير. وصلتنا نسخة من التقرير وأذن لنا الدكتور عبدول باستخدامه ونشر فقرات منه في هذا المقال. والدكتور عبدول محمد معروف لكل القيادات السياسية السودانية، أما للذين لا يعرفونه فهو من أبرز المثقفين وقيادات المجتمع المدني في أفريقيا، وعلى علاقة بالمشهد السياسي السوداني على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية. شغل عبدول محمد منصب المستشار السياسي الأول للآلية رفيعة المستوى حول السودان وجنوب السودان التابعة للاتحاد الأفريقي برئاسة ثابو مبيكي، الرئيس السابق لجنوب أفريقيا. وكان مديرًا بالإنابة للقسم السياسي للعملية المختلطة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور، ورئيسًا للحوار والتشاور بين أهالي دارفور، وممثلالليونيسف لدى الاتحاد الأفريقي. وكان مؤسسًا ومديرًا تنفيذيًا لمجموعة إنتر أفريكا، وهي مركز للحوار حول القضايا الإنسانية والسلام والتنمية في القرن الأفريقي. وعمل في مجلس الكنائس العالمي، ومديرا للإغاثة والطوارئ في مجلس كنائس السودان. كما كان مستشارًا لرئيس وزراء إثيوبيا، ملس زيناوي، بشأن قضايا السلام والمصالحة في القرن الأفريقي.
وفي تقييم نقدي للمنهج الذي اتبعته المجتمع الدولي للتعامل مع قضية الحرب في السودان، يقول عبدول محمد في تقريره « للأسف، أدركت لاحقًا أن النهج الذي اتبعناه كان محدودًا وضيقًا ومفرطًا في تجنب المخاطر، وغالبًا ما كان خاضعًا لنزوات المتحاربين. وبناءً على تفاعلاتي، أصبح واضحًا أن أطراف النزاع لاحظوا استراتيجيتنا المقيدة وتحايلوا لاحتوائنا ضمن هذا النموذج المحدود.
في الوقت نفسه، رأى المجتمع السياسي السوداني الأوسع افتقارنا إلى استراتيجية قوية وشاملة، مما أدى إلى خيبة أمل واستياء، في حين كان بإمكان استراتيجية سلام ذات مصداقية أن تعزز كتلة مدنية موحدة وقوية، مما قد يمنع إجراءات أحادية الجانب من قبل المتحاربين تضر بوحدة السودان المستقبلية. ويبقى السؤال الحاسم: هل سعينا لاستغلال الفرص المتاحة بالحيوية والجدية المطلوبة؟ حتى لو كان جزء صغير من المشاركة الاستباقية كافياً لإظهار التزامنا ومهارتنا، وبناء رأس مال الثقة الضروري لعملية سياسية شرعية وفعالة؟
واختتم الدكتور عبدول محمد تقريره بثلاث توصيات مقدمة لخليفته ولمكتب المبعوث الخاص، جاء فيها:
أولا، من المحبط بشكل خاص فشلنا بعد أكثر من عام من ولايتنا في تحقيق تنسيق استراتيجي ذي مصداقية مع الاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية الدولية للتنمية (إيقاد) وبقي هذا الأمر بعيد المنال وسيشكل انتكاسة كبيرة قد نندم عليها لاحقًا. والأمم المتحدة لا تزال ملزمة بالعمل بشكل استراتيجي وفعال مع جميع المؤسسات متعددة الأطراف، لأنها تمثل منصات رئيسية لوساطة شفافة مصممة خصيصًا للسياق السوداني. إن إنشاء عملية سلام واحدة ذات مصداقية أمر ضروري، وبعد عامين من الصراع، فإن غياب مثل هذه المبادرة مثير للقلق.
ثانيا، لا يمكن تحقيق سلام مستدام إلا من خلال المشاركة الفعالة للمدنيين السودانيين. ويجب ألا يكون هذا الإشراك عشوائيًا أو غير كامل، بل جزءًا لا يتجزأ من استراتيجيتنا الشاملة وأنشطتنا الأساسية، بما في ذلك تعيين فريق مخصص للتعامل مع السياسيين وقيادات المجتمع المدني.
ثالثا، عقد إحاطات منتظمة وتبادل الآراء مع المبعوثين الخاصين المعينين من قبل الدول الأعضاء، وذلك لضمان التآزر وتبادل التجارب، وتوفر القيادة للتنسيق والمواءمة.
أعتقد أن ما جاء في تقرير الدكتور عبدول محمد يمثل شهادة من داخل المؤسسة لصالح ما تناولناه في مقالاتنا السابقة حول الجوانب السالبة في تعامل المجتمع الدولي مع أزمات السودان المختلفة. وفي ذات السياق، ولكن من زاوية أخرى، وجهت خمس منظمات دولية كبرى، وهي: المجلس الدنماركي للاجئين، ولجنة الإنقاذ الدولية، والمجلس النرويجي للاجئين، ومنظمة كير الدولية، ومنظمة ميرسي كوربس، وجهت خطابا مفتوحا إلى المؤتمر الوزاري حول السودان المزمع عقده منتصف هذا الشهر في لندن، مطالبة بأن يكون المؤتمر نقطة تحول بتجاوز قادة العالم حالة الخطابات ومجرد الكلام واتخاذ إجراءات فورية وملموسة لإنهاء الصراع، وحماية المدنيين ووقف تفاقم المجاعة، محذرة بأن حوالي 65 في المئة من سكان السودان، يحتاجون الآن إلى مساعدة عاجلة للبقاء على قيد الحياة.
القدس العربي