رغم صراعات وحروب وأزمات الإقليم.. ما سر تراجع إنفاق مصر العسكري؟
تاريخ النشر: 24th, April 2024 GMT
خلا التقرير الأحدث لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام "سيبري" الصادر الاثنين الماضي، من اسم مصر كأحد دول العالم والأقطار العربية والأفريقية المتقدمة من حيث الإنفاق العسكري، وذلك برغم ما كشفه المعهد السويدي الذي يعمل في هذا المجال منذ العام 1966، عن ارتفاع الإنفاق العسكري بأنحاء العالم خاصة بالشرق الأوسط.
التقرير، الذي كشف عن أسماء 40 دولة اعتبرها الأكثر إنفاقا على التسليح العسكري خلال العام الماضي، نتائجه لم تذكر اسم مصر من بين تلك الدول، ما يشير إلى تراجع الإنفاق العسكري المصري وعمليات شراء السلاح في البلاد رغم انتعاشها بسنوات حكم رئيس النظام، عبد الفتاح السيسي (2014- 2030).
وجاءت أمريكا والصين وروسيا والهند والسعودية بالمراكز الخمسة الأولى بحسب "سيبري"، فيما ارتفع الإنفاق العسكري بالشرق الأوسط، مع زيادة إنفاق الاحتلال الإسرائيلي بنسبة 24 بالمئة إلى 27.5 مليار دولار في 2023، ليحل ثانيا بعد السعودية أكبر منفق في الإقليم، بنحو 75.8 مليار دولار.
"تراجع مصري"
وبحسب ما يعرضه "سيبري" من بيانات نشرها عبر "ملف إكسيل"، حول الإنفاق العسكري لدول العالم مقومة بالدولار أو بالعملات المحلية لكل دولة خلال أعوام (من 1949 إلى 2023)، وبينها الإنفاق العسكري للجيش المصري، مقدرا بالجنيه.
ووفق الملف، جاء الإنفاق العسكري المصري لعام 2013 (4359.8 مليار جنيه)، وفي 2014 (5085.1 مليار جنيه)، وفي 2015 (5475.5)، وفي 2016 (4513)، وللعام 2017 (2765.6 مليار جنيه)، وفي 2018 (3119.6 مليار جنيه)، وفي 2019 (3743.7 مليار جنيه)، وفي عام 2020 (4505.4 مليار جنيه)، وخلال 2021 (5165.4)، وفي 2022 (4645.9)، وفي العام 2023 (3164.6 مليار جنيه).
وبحسب التقرير السنوي للمركز الدولي للدراسات الاستراتيجية فقد كانت مصر الأقل إنفاقا عسكريا في الشرق الأوسط لعام 2023 بمعدل أقل من 20 بالمئة عن العام 2022.
كما أنه ووفق ما نشره موقع "الدفاع العربي"، في أيلول/ سبتمبر 2022، فإن جيش مصر يأتي رقم 9 عربيا و47 عالميا في الإنفاق العسكري.
اللافت هنا، أن تقرير معهد ستوكهولم الصادر في آذار/ مارس 2022، كان قد أكد بأن مصر كانت ضمن الدول العشر الأولى في العالم الأكثر استيرادا للأسلحة، خلال 5 سنوات بالفترة ما بين 2017-2021، حيث احتلت المرتبة الثالثة عالميا بعد الهند والسعودية.
تقرير "سيبري" وثّق حينها عمليات شراء السلاح الواسعة مع حكم السيسي لمصر منتصف 2014، ووضعها بالمرتبة الثالثة عالميا، وفق تقاريره لأعوام (2015- 2019)، و(2016- 2020)، و(2017- 2021).
لكنه، وفي دراسة لمدير "مركز كارنيغي للشرق الأوسط" الباحث، يزيد صايغ، أكد أن هناك غموض في المعلومات حول إنفاق الجيش المصري، وأوضح أن 60 بالمئة من ميزانية الدفاع تتمثل في الرواتب ومعاشات التقاعد، فيما ينفق الرصيد المتبقي على المهام والرعاية الصحية والوقود وتجديد وصيانة المعدات القتالية والذخائر والعقارات والاستثمار في منشآت أو معدات جديدة.
وتراجع تصنيف الجيش المصري من المرتبة التاسعة عالميا خلال السنوات السابقة إلى المرتبة 15 عالميا في 2024.
ووفقا لتصنيف "غلوبال فاير باور" لأقوى جيوش العالم لعام 2020، سجل الجيش المصري المركز التاسع عالميا والأول عربيا، بعدد يبلغ حوالي 920 ألف جندي، 440 ألفا في الخدمة، و480 ألف احتياط.
لكنه وبعد نحو عامين تراجع 6 درجات كاملة حيث صنف ذات الموقع الجيش المصري في المرتبة رقم 15 بين أضخم 145 جيشا في العالم، فيما يتصدر قائمة أقوى الجيوش العربية، وحل في المرتبة الثالثة بين أقوى جيوش الشرق الأوسط بعد تركيا وإيران.
ووفق تقرير "غلوبال فاير بور" في 2023، يصل عدد جنود الجيش المصري إلى مليون و220 ألف جندي بينهم 440 ألف فرد قوات عاملة، 480 ألف فرد قوات احتياطية، و300 ألف فرد قوات شبه عسكرية، فيما قدر ميزانية الدفاع المصرية بـ9.4 مليار دولار.
وتقول الإحصاءات الرسمية أن تعداد مصر في الداخل تعدى 106 ملايين نسمة في شباط/ فبراير الماضي، بينهم 37 مليون مصري يصلحون للخدمة العسكرية، و1.6 مليون نسمة يصلون سن التجنيد سنويا.
ومنذ اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية "كامب ديفيد" 1978 ويحصل الجيش المصري على دعم أمريكي سنوي يصل 1.3 مليار دولار، على هيئة مساعدات مالية ومعدات عسكرية.
المثير أن تراجع إنفاق مصر العسكري يأتي رغم تفاقم أزمات إقليم الشرق الأوسط والمنطقة العربية منذ حرب الإبادة الجماعية التي يقودها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وأدت لزيادة التوترات بالمدخل الجنوبي للبحر الأحمر، بجانب الحرب الدائرة على الحدود الجنوبية المصرية، في السودان.
"تقارير غير واقعية"
وفي قراءته، قال الخبير الدولي في إدارة الصناعات البحرية، إبراهيم فهمي، إن "7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أحدث زلزالا هائلا في العلوم الاستراتيجية والعسكرية العالمية قلبت موازينها رأسا على عقب، بل وأخرجت مراكز الأبحاث الغربية من الخدمة (مؤقتا)، وأصبحت الدراسات والتقارير السنوية التي تستعرض فيها تصنيفات الجيوش وقدراتها جزءا من الماضي لعدم واقعيتها".
البروفيسور المقيم في لندن، أوضح في حديثه لـ"عربي21"، أن "المقاومة الفلسطينية المحاصرة برا وبحرا وجوا أحدثت نصرا ساحقا ومذلا وكاملا غير مسبوق بكل المعايير العسكرية في نصف نهار على جيش الاحتلال الإسرائيلي المصنف عالميا من الفئة الأولى، بامتلاكه قدرات وإمكانيات تسليحية وتكنولوجية هجومية تستند إلى دعم غربي غير محدود، يقدر بنحو تريليون دولار في الـ40 عاما الأخيرة من جيوب دافعي الضرائب بأمريكا وأوروبا الغربية".
ولفت إلى أن "المقاومة الفلسطينية التي ضيقوا عليها الأرض بما رحبت فلم تجد لها مكانا إلا تحتها، وتبعا لذلك فهي غير مصنفة أصلا من قبل مراكز الدراسات العسكرية الغربية كجيش نظامي لدولة محتلة ترفض أمريكا الاعتراف بها".
وبناء عليه فإن الخبير الدولي أكد أنه لم يؤمن "يوما بالتقارير السنوية التي تصدر عن معاهد دولية غربية، ومراكز دولية للدراسات العسكرية والاستراتيجية بخصوص حجم الإنفاق العسكري السنوي لكل دولة، وتصنيف الجيوش عالميا".
ويعتبر أنها "تستند إلى بيانات ومعلومات غير واقعية بالأساس، ولا تخضع للمنهج العلمي في البحث والاستدلال والتحليل والنتائج لأسباب متعددة، كشفتها (حرب 7 أكتوبر) التي بدأت وانتهت في نفس اليوم، والتي تلتها باليوم التالي حربا انتقامية إجرامية وإبادة جماعية وتطهير عرقي لـ2.3 مليون إنسان بقطاع غزة 85 بالمئة منهم نساء وأطفال وكبار السن والمرضى".
"الأهم من شراء السلاح"
ويرى فهمي، أن "بناء القدرات البشرية، وجودة النظام التعليمي، والتوسع في الإنتاج الصناعي، والنهضة التكنولوجية، والاستثمار في البحث العلمي، والارتقاء بالمهارات، وتوطين الصناعات العسكرية؛ أهم بكثير من شراء الأسلحة التي تعتمدها مراكز الأبحاث كمعيار للإنفاق العسكري وتبني عليه تصنيفاتها".
"وفوق ذلك فإن الإيمان بالقضية العادلة، والإرادة التي لا ولن تنكسر، والخضوع لقانون السببية كما خضع لها صاحب الرسالة بالأخذ بأسباب القوة والحذر حتى مع فقر الإمكانيات، واستثمار القدرات البشرية، وما توفر من إمكانيات عسكرية وتكنولوجية بالشكل الأمثل، والتوكل على الله والصبر والمرابطة".
"هذا التكامل أثبت نجاحا هائلا يومي 6 تشرين الأول/ أكتوبر 1973، و7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، عندما تفوق أصحاب الأرض على المحتل، والتقييمات والتصنيفات التي تقوم على القوة المادية فقط"، بحسب رؤية الخبير الدولي في إدارة الصناعات البحرية.
وعن مصر، وفي نهاية حديثه قال: "بالرغم من كونها مريضة، ويبدو شعبها مستسلما لقدره فلا يغرنكم كمونها، فكم من مرة مرضت بداء لا يُرجى منه شفاء عبر تاريخها الضارب في أعماق التاريخ فتتهيئ لها الأسباب من حيث لا يحتسب أحد، فيأذن لها ربها بمغتسل بارد وشراب كما أذن لها من قبل، رحمة منه وذكرى لأولي الألباب، ومن قرأ التاريخ يعرف أن 10سنوات في تاريخ مصر لا يغدو أكثر من ساعة من نهار".
"فقدان المعلومات وغياب الشفافية"
وفي رؤيته، يرى الباحث المصري في الشؤون السياسية والاستراتيجية والعلاقات الدولية، أحمد مولانا، أن "الإنفاق العسكري في تقارير (سيبري) يُقصد بها صفقات شراء الأسلحة، والرواتب والأجور، ومستلزمات وتكاليف صيانة المعدات والأسلحة، وعلاج الأفراد داخل المؤسسة العسكرية، وعمليات البحث والتطوير داخل الجيوش، والمعاشات المرتبطة بالمتقاعدين من العسكريين".
الباحث في مجال الدراسات الأمنية، أوضح في حديثه لـ"عربي21" أنه "تحت هذه البنود يُوضع عنوان كبير اسمه الإنفاق العسكري، ويعتمد فيه (سيبري) على بيانات معلنة، فبعض الدول لديها قدر من الشفافية تعرض قيم صفقات الأسلحة والرواتب والأجور وكل التكاليف الخاصة بها".
وضرب مثلا بـ"الموازنة العسكرية الأمريكية التي تُنشر سنويا بشكل شديد التفاصيل تكلفة كل بند فيها؛ وهناك دول يبقى مجهولا فيها الأمر، وبينها مصر حيث لا تكون هذه البنود واضحة، كما أن الموازنة العسكرية ترد كرقم واحد بالموازنة العامة للدولة".
وأشار إلى أنه "بالطبع هناك موازنة خاصة بالجيش وصناديق خاصة أخرى تابعة للهيئات العسكرية، ولا ترد حولها أية تفاصيل في الموازنة، وبالتالي يكون الحجم الحقيقي والدقيق للإنفاق العسكري المصري فيه قدر كبير من الغموض وعدم الوضوح".
وحول تراجع الإنفاق العسكري المصري أو عدم وجود مصر بين 40 دولة كبرى بهذا النوع من الإنفاق، أكد مولانا، أن "هذا ليس جديدا ومصر التي كانت متصدرة لقائمة أكثر الدول شراء للأسلحة لنعرف أنه بند واحد فقط بين بنود كثيرة في عملية تقييم الإنفاق العسكري، كما أنها لم تكن بالسنوات الأخيرة ضمن أكبر 10 أو 20 أو حتى 30 دولة الأولى عالميا في الإنفاق العسكري".
الباحث المصري، قارن بين الإنفاق الأمريكي والسعودي، ونظيره المصري بقوله: "إنفاق واشنطن حاليا فوق 900 مليار دولار سنويا، وفي مرحلة بداية حرب اليمن إنفاق الرياض العسكري كان نحو 80 مليار دولار، لكن تقديرات إنفاق مصر العسكري تتمحور بين 2 أو 2.5 أو 3 مليارات دولار على أكثر تقدير".
وأوضح أنه "عندما جاءت مصر بموقع متصدر في شراء الأسلحة الثالثة أو الرابعة عالميا ببعض الأوقات كان ذلك في استيراد السلاح وليس في الإنفاق العسكري"، ملمحا إلى أن "أمريكا الأولى في الإنفاق ولكنها ليست الأولى في الاستيراد لأنها تصنع سلاحها محليا"، ومبينا أن "مصر لم يحدث لها تدهورا في الإنفاق العسكري ولكن ربما حصل انخفاض بشراء واستيراد صفقات الأسلحة".
"لهذا تراجعت الصفقات"
ولفت الباحث المصري إلى بعض أسباب هذا التراجع، ملمحا إلى أن "مصر منذ عام 2020، تشهد أزمة مالية وتضخما في الديون، وعدم قدرة على سداد مستحقات شركات النفط والغاز، ومع بداية حرب غزة انخفاض بدخل قناة السويس، وكذلك تحويلات المصريين بالخارج، وتراجع صادرات الغاز".
وقال إن "كلها عوامل مؤثرة اقتصاديا، وتجعل مصر ليست في سعة لعقد صفقات أسلحة كبرى، مثل طائرات (رافال) الفرنسية، وسفينتي (مسترال) والغواصات الألمانية في 2015 و2016 وما بعدها".
واستدرك: "ولكن ملاحظ أنه بعد 2020 تراجعت تلك الصفقات في ظل أن بعضها كانت تموله السعودية والإمارات وتوقفت حاليا، فضلا عن الأزمات الاقتصادية، وطبيعي أن ينعكس ذلك على تراجع صفقات الأسلحة".
ويرى الخبير المصري، أن "زيادة الإنفاق العسكري وضعفه يعكس شعور الدولة بالتهديد، فتنفق بشكل أكبر مثل السعودية أثناء حرب اليمن، والأمر الثاني مرتبط بقيود الميزانية والوضع الاقتصادي فإن الدولة التي تكون معاناتها الاقتصادية عميقة تنفق أقل على شراء الأسلحة مقارنة بالاقتصاديات المنتعشة".
"لا يعكس القوة الفعلية"
وبخصوص ترتيب الجيوش وفق موقع "غلوبال فاير باور"، يعتقد مولانا أنه "لا يعكس القوة الحقيقية للجيوش لأنه يتكلم عن عدد المعدات وما شابه، ولكن الأهم هو مستوى التدريب، والتخطيط، ونوعية المعدات".
وأضاف: "مثلا يجعل مصر بمرحلة متقدمة على جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي قد يكون أقل عددا، ولكنه أكثر تطورا، من حيث التدريب والتسليح"، مبينا أنه "هنا لا يعكس القوة الحقيقية"، ملمحا إلى أن "مصر عام 1967 صورت جيشها بالضخم ولديه أسلحة، وفي النهاية كان أداؤه سيئا حينها، وجيش الاحتلال في 7 أكتوبر الماضي كان أداؤه سيئا رغم أنه لا وجه للمقارنة بينه وبين المقاومة الفلسطينية".
وختم مولانا بالقول إن "المعايير التي يضعها الموقع الأمريكي شكلية؛ لكن المهم المعايير الفعلية، والأداء الحقيقي، ومستوى القيادة والسيطرة والتحكم والتخطيط، والقدرة على القيام بعمليات مشتركة، وهذا للأسف الجيوش العربية وفي القلب منها المصري أداؤها ضعيف، ولذلك استغرق في سيناء قرابة 10 سنوات لمواجهة تمرد يمكن القول إنه محدود وليس عميق وواسع ولكن نتيجة مشاكل بيروقراطية وفي عمليات القيادة والسيطرة والتخطيط استغرق سنوات ليستقر الوضع هناك".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة مقابلات سياسة دولية مصر السعودية الهند مصر السعودية الهند المزيد في سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الاحتلال الإسرائیلی فی الإنفاق العسکری العسکری المصری الجیش المصری شراء الأسلحة تشرین الأول ملیار دولار ملیار جنیه إلى أن
إقرأ أيضاً:
الإنفاق الحكومي على النازحين يفجّر جدلًا.. ما حقيقة استخدام أموال المودعين؟
من تصريف الأعمال على مدى أكثر من عامين، إلى تصريف تبعات الحرب المدمّرة، انتقلت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، التي تكافح منذ ما قبل الثامن من تشرين 2023، لتبقى صامدة بوجه عواصف الداخل والخارج، وقادرة على إدارة شؤون وشجون البلاد، وهي آخر المعاقل الدستوريّة العاملة في البلاد، بفعل استمرار الفراغ في موقع رئاسة البلاد الذي دخل عامه الثالث، وتعطّل السلطة التشريعيّة المكبّلة بالفيتوات الانتخابيّة وهواة التعطيل. بين الممانعة والمعارضة دعوات للصرف والمنع
رغم أنّ الحكومة لم تكن شريكة في قرار الحرب، تواجه اليوم ضغوطات سياسيّة من فريقين متقابلين، فريق يدفع باتجاه زيادة الإنفاق لتمويل حاجات النزوح المليوني، من خلال استعمال الأموال المتوافرة في حساب الدولة لدى المصرف المركزي أي الحساب 36، أو حتّى استعمال الاحتياطي الإلزامي في مصرف لبنان. وفريق آخر، قوامُه عدد من الكتل النيابيّة يعارض بشدّة، متسلّحًا بالمادة 27 من قانون المحاسبة العامة التي تنظّم نفقات الدولة، ولا تجيز صرف نفقات من دون إدراجها مسبقًا في الموازنة. تضيف الكتل النيابية المعارضة إلى "مقاربتها القانونيّة" أبعادًا سياسيّة، فتصوّب سهامها على الفريق الذي تفرّد بقرار الحرب، وتُحمّله ومن خلفه إيران مسؤوليّة وتبعات جرّ البلاد إلى حربمدمّرة. القانون لا يتيح الإنفاق
من الناحية القانونية، تتركّز إشكاليّة الإنفاق من خلال ثلاثة أبعاد، يقول المحامي فؤاد الأسمر في اتصال مع "لبنان 24" الأول عدم إمكانيّة الإنفاق من خارج إقرار قانون في البرلمان يجيز ذلك، وهو متعذّر اليوم بظل مجلس نيابي معطّل. البعد الثاني متعلّق بالحكومة، كونها حكومة تصريف أعمال ولا تملك الوضعيّة القانونيّة التي تخولّها أن تنفق من خارج الدائرة الضيقة، وإنفاقها هو بالحد الأدنى لتغطية رواتب الموظفين والحاجات الصحيّة والخدماتيّة الأساسيّة، والمجلس النيابي لم يمنحها حق إصدار مراسيم اشتراعيّة. أمّا البعد الثالث، فظاهره السياسي لا يلغي مرتكزه القانوني يقول الأسمر "هنا نتحدّث عن المسؤوليّة عن فعل الغير، بحيث يتمّ تحميل الدولة والمواطن مسؤوليّة إجراء لم يتخذه أيّ منهما، علمًا أنّ الدولة ممثّلة بالحكومة والمجلس النيابي لم تُستشر ولم تمنح موافقتها على جبهة الإسناد، ولم تكن ماليّة الدولة جاهزة لتحمّل النتائج. أمّا الشعب فلم يُسأل رأيه عن طريق استفتاء. بالتوازي الأموال في خزينة الدولة هي أموال عامة وملك الشعب اللبناني، متأتيّة من الضرائب والرسوم التي يدفعها المواطن اللبناني، ولا يمكن التصرّف بها. لذلك كله لا يجوز تحميل الدولة والشعب نتائج قرارات وأفعال الغير. من ناحية أخرى هناك واقع مالي، مفاده أنّ الدولة عجزت عن القيام بتأمين الخدمات وتصحيح الرواتب قبل الحرب، فكيف الحال بنفقات باهضة جرّاء موجات النزوح الكبيرة والتي تفوق قدرة الدولة؟". ماذا عن أموال الاحتياطي هل يمكن استخدامها لتمويل نتائج الحرب؟
منذ بدء ولاية حاكم مصرف لبنان بالإنابة، اتخذ المركزي قرارًا بعدم تمويل الدولة، وتمكّن بفضل ذلك من زيادة موجوداته من العملات الأجنبيّة بما يقارب 2 مليار دولار. وقد سمح ذلك، معطوفًا على تقليص حجم الكتلة النقديّة بالليرة،بثبات سعر صرف الدولار الذي حافظ على مستواه ما دون التسعين ألف ليرة رغم الحرب. هذه الأموال التي كوّنها المركزي ليست ملكه، بل هي ما تبقّى من أموال المودعين، والمركزي ملزم بإعادتها لهم. وبالفعل بدأ مصرف لبنان باستخدامها في زيادة السحوبات ومضاعفة الدفعات الشهريّة وتوسعة التعاميم. كما أنّ احتياطي المركزي يشكّل ركيزة جوهرّية في استعادة أموال المودعين في أيّ خطّة للنهوض تتخذها الحكومة. ماليّة الدولة منهكة ولا استدانة
قبل أن تستعر الحرب بدءًا من الثامن عشر من أيلول الماضي، وتنقلب إلى تصعيد عدواني، يطال بالدمار والقتل والتشريد ثلث مساحة لبنان، كانت الحكومة بوضع مالي لا تُحسد عليه، تحاصرها مطالب موظفي القطاع العام،لا سيّما العسكريين المتقاعدين، الذين لجأوا إلى الشارع مرارًا وقادوا تحرّكات احتجاجيّة. لم يكن أمام الحكومة الكثير من الخيارات لإعادة الاعتبار إلى رواتب العاملين في القطاع العام، بظل لاءات عديدة رُفعت في وجهها، من قبل مصرف لبنان وإصرار حاكمه بالإنابة الدكتور وسيم منصوري على عدم تمويل الدولة، تفاديًا لتكرار خطيئة سلفه، ومن قبل الجهات الدائنة التي لا زالت تنتظر جدولة ديونها منذ توقّف حكومة دياب عن الدفع في آذار 2020. أمام استحالة الاستدانة من الداخل والخارج، لم يعد أمام الحكومة من مصدر سوى إيراداتها الذاتيّة، ونظرا للايرادات المتواضعة عجزت الحكومة عن تلبية كل المطالب، رغم إقرارها بأحقّيتها، وأعطت ضمن امكاناتها. هذا الواقع المعقّد قبل عدوان أيلول، زاد حراجة مع اتساع موجات النزوح، وتخطّيها عتبة المليون و200 ألف نازح. وقد عملت الحكومة منذ اللحظة الأولى على مواجهة التحدّيات الكبيرة، وتمويل الإنفاق خصوصًا بشقّه الصحي لمعالجة جرحى العدوان، وتأمين مراكز لإيواء مئات الآف النازحين، كما عمل رئيسها ولا زال على قيادة جهود دبلوماسية جبّارة مع عواصم القرار لوقف العدوان من جهة، وتغطية نفقات العدوان من جهة ثانية، وقد أثمرت الجهود في تخصيص 800 مليون دولار في مؤتمر باريس، ينتظر لبنان ترجمتها العملانيّة.