ظهرت في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة أهمية الحرب النفسية باعتبارها جبهة أساسية من جبهات هذه المعركة، وحاول كل طرف توظيف الدعاية للتأثير النفسي في مخاطبة جمهوره والجمهور المعادي.

ووفق لما أوردته كل من "موسوعة أكسفورد للتاريخ العسكري والدبلوماسي الأميركي" و"موسوعة الاستخبارات ومكافحة التجسس"، فإن الحرب النفسية تقوم بدور مهم جدا في حسم المعركة.

وبحسب المصدريْن السابقين، فإن الحرب النفسية تسعى إلى تحقيق أهداف عسكرية عبر التأثير على عقول العدو، وغالبا ما يكون ذلك عن طريق التلاعب بالمعلومات لتضليل العدو أو إضعاف معنوياته من خلال وسائل غير مميتة.

الحرب النفسية تقوم بدور مهم جدا في حسم المعركة (رويترز) حيل الحرب

كانت الحرب النفسية إحدى حيل الحرب منذ فجر العنف المنظم، وقد أكد ذلك بقوة المفكر العسكري الصيني صن تزو في القرن الرابع قبل الميلاد في كتابه "فن الحرب" بقوله "إن القتال والانتصار في كل معاركك ليس أعلى درجات التميز، فالتفوق الأسمى هو كسر مقاومة العدو دون قتال".

ولهذا الغرض تم استخدام الدروع المتقنة، والرسم على الوجه، والأعلام، واللافتات، وصرخات المعركة، والموسيقى العسكرية على المستوى التكتيكي لتعزيز معنويات الفرد نفسيا مع تخويف العدو في الوقت نفسه.

وعلى سبيل المثال، قامت القوات الجوية الألمانية في الحرب العالمية الثانية بربط صفارات الإنذار بالهياكل السفلية لقاذفاتها من طراز "ستوكا" (Stuka)، مما أدى إلى إصدار صوت صراخ أثناء هبوط الطائرة، وقد أنتج هذا تأثيرا مخيفا لدرجة أن القوات المدربة القادرة على تحمل وابل المدفعية هربت.

قاذفات من طراز "ستوكا" تحلق فوق فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية  (غيتي)

ومع ظهور تقنيات الاتصال الجماهيري في أوائل القرن العشرين، تطوّرت الحرب النفسية من حيلة تكتيكية إلى إستراتيجية، مما عزز بشكل كبير قدرة الحكومات على نشر الدعاية.

وفي عام 1917 اعتمد الجيش الأميركي مصطلح "الحرب النفسية" للإشارة إلى استخدام الثقافة أو المعلومات أو الإجراءات غير القتالية كمضاعف للقوة في حالة الصراع.

ويرسم الجيش الأميركي فروقا واضحة بين الشؤون العامة العلنية وعمليات المعلومات و"العمليات النفسية" التي تتمتع بمجال التضليل إذا لزم الأمر.

ورغم أن الحرب النفسية نشأت في سياق قتالي ضيق مع أهداف تكتيكية مثل كسر إرادة العدو في المقاومة أو تشجيع الاستسلام، فإن استخدامها اتسع ليصبح أكثر إستراتيجية مع أهداف تشمل تقسيم السكان على طول خطوط الصدع العرقية أو الإقليمية، أو دفعهم إلى الابتعاد عن قيادتهم.

غرق سفينة الركاب لوسيتانيا عام 1915 (شترستوك) في الحرب العالمية

وقد شهدت الحرب العالمية الأولى أول استخدام منهجي للحرب النفسية على نطاق واسع، فقد سعى البريطانيون من بداية الحرب إلى تقويض الدعم الدولي لألمانيا من خلال نشر الفظائع الألمانية، مثل الهجمات المزعومة على المدنيين البلجيكيين العزل في عام 1914 أو الإغراق غير المبرر لسفينة الركاب لوسيتانيا عام 1915.

كما أنتج كل من الألمان والفرنسيين صحائف (منشورات) إخبارية دعائية موجهة إلى الجنود والمدنيين في منطقة خط المواجهة. وعلى سبيل المثال، ذكرت إحدى المطبوعات الألمانية، واسمها "غازيت دي آردين" أن الجنود المغاربة والبريطانيين أنجبوا أطفالا من زوجات الجنود الفرنسيين.

ولم تكن الجهود النفسية في الحرب تستهدف العدو فحسب، بل القوات الصديقة؛ فقد عملت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) من خلال البث الموجه إلى أجزاء أوروبا الواقعة تحت السيطرة السوفياتية إلى رفع الروح المعنوية، وتوفير معلومات عن تطورات الحرب، ونقل المعلومات إلى جماعات المقاومة.

كما تم استخدام المنشورات على نطاق واسع خلال الحرب العالمية الثانية، إذ تشير التقديرات إلى أن الطائرات الأميركية والبريطانية أسقطت نحو 30 منشورا لكل رجل وامرأة وطفل في أوروبا الغربية.

الطائرات الأميركية والبريطانية أسقطت نحو 30 منشورا لكل شخص في أوروبا الغربية في الحرب العالمية الثانية (مواقع التواصل) الحرب الباردة

خلال حقبة الحرب الباردة تم إنشاء بنية تحتية مؤسسية للحرب النفسية في الولايات المتحدة، إذ كانت الدعاية "البيضاء" أو العلنية من مسؤولية وكالة المعلومات الأميركية، في حين كانت الدعاية "السوداء" و"الرمادية"، التي تشمل التضليل وإخفاء مصادر المعلومات، تحت رعاية مكتب تنسيق السياسات التابع لوكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) التي أنشأت إذاعة أوروبا الحرة وإذاعة ليبراسيون التي عُرفت فيما بعد باسم راديو الحرية.

وفي عام 1962، نشر الجيش الأميركي أول دليل ميداني له "إف إم 33-5" حول هذا الموضوع، واستبدل مصطلح الحرب النفسية بالعمليات النفسية.

كما قامت العمليات النفسية بدور مركزي في حرب فيتنام، إذ تم إلحاق الأفراد المدربين في الشؤون المدنية والسياسية بوحدات القوات الخاصة.

واستخدم الجيش ومنظمة دعم العمليات المدنية والتنمية الريفية "كوردز" (CORDS) التابعة لوكالة المخابرات المركزية العمليات النفسية، من بين تكتيكات أخرى، لتأمين "تهدئة" الأراضي، وتعزيز إعادة إعمار الريف، وتشجيع أنصار الفيتكونغ على الانشقاق إلى الجانب الفيتنامي الجنوبي.

ومع تزايد أهمية العمليات النفسية العملية، فقد ساءت سمعتها أيضا بفعل الجدل المحيط بأساليب "كوردز"، ولأن القوى التقليدية لا تثق في الطبيعة غير الملموسة للعمليات النفسية العملية.

عصر الإنترنت

ولاحقا أدى ظهور الإنترنت إلى دفع الولايات المتحدة إلى مسرح جديد للحرب النفسية، فقد تضمنت الأنشطة عبر الإنترنت أعمال المشاركة الرقمية التي يقوم فيها الأفراد العسكريون الأميركيون بمراقبة المناقشات المتعلقة بالحرب على "الإرهاب" والمساهمة فيها.

وكان ضمن الوحدات الإدارية المسؤولة عن الحرب عبر الإنترنت "الأسطول العاشر للبحرية الأميركية"، وهو أسطول من دون سفن.

وعادت المخاوف من أساليب الحرب النفسية إلى الظهور عام 2002 عندما أدت ضجة إعلامية إلى إغلاق مكتب التأثير الإستراتيجي التابع للبنتاغون.

وللتكيف مع ذلك، أسقط البنتاغون رسميا في عام 2010 مصطلح "الحرب النفسية" واختار مصطلح "عمليات دعم المعلومات العسكرية".

مجريات الحرب النفسية في غزة

باستعراض التعريفات والاستخدامات المذكورة للحرب النفسية أو العمليات النفسية، يمكن استخلاص مجموعة من الأهداف الإستراتيجية والتكتيكية التي يحاول كل طرف تحقيقها من خلال وسائل منها: التلاعب بالمعلومات، ومكافحة دعاية العدو، وتوفير معلومات عامة للسكان، وإنتاج دعاية تدفع مواطني العدو إلى الامتثال أو عدم التدخل، وإنتاج أفعال نفسية إيجابية أو سلبية تدعم العمليات العسكرية.

ويمكن إيراد الشواهد لهذه الوسائل من سلوك جيش الاحتلال والمقاومة وداعمي الطرفين في الحرب الجارية في قطاع غزة، لتحقيق أهداف الحرب النفسية الإستراتيجية والتكتيكية.

ويمكن ملاحظة هدفين إستراتيجيين للحرب النفسية؛ يتمثل الأول في محاولة كسر إرادة العدو في المقاومة أو تشجيعه على الاستسلام.

ويسعى الاحتلال إلى تحقيق ذلك من خلال الخطابات المتشددة بشأن حتمية القضاء على المقاومة، في حين يتداول بعض داعميه طروحا من قبيل "إخراج قادة حماس من القطاع"، أو إثارة النقاش عن "اليوم التالي لحكم حركة حماس"، في مسعى لتعزيز دعوى القدرة على تقويض المقاومة.

وفي المقابل، تعمل المقاومة على كسر إرادة الاحتلال من خلال وسائل منها: إصدار المقاطع المصورة التي تخاطب المجتمع والجيش الإسرائيلي، ويساعدها في ذلك جهود مؤيديها وأصدقائها لإبراز روايتها الإعلامية، ومقاومة تكتيكات الحرب النفسية للاحتلال.

أما الهدف الإستراتيجي الثاني فيتمثل في الإسهام في تقويض الدعم الدولي للعدو، لذلك يسعى الاحتلال إلى نشر الإشاعات عن فظائع ارتكبتها المقاومة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ومهاجمة الدول التي تقيم علاقات مع حركة حماس والتحريض عليها.

ويساعده داعموه من خلال السعي لعزل حركة حماس دوليا، وبذل مساع لتشكيل حلف دولي لمحاربة تمويل حماس، وتبني إشاعات الاحتلال بشأن "فظائع المقاومة".

في المقابل تكثف المقاومة عملها الإعلامي، إذ ينشط إعلاميون كثر تحت القصف والتهديد لتوثيق مجازر الاحتلال ونشرها وترجمة مضمونها إلى لغات عدة.

وتبذل فصائلها جهودا سياسية ودبلوماسية لتقويض مساعي الاحتلال لشرعنة عدوانه وحربه، وتدعمها في هذا المجال دول كثيرة تنشط في الجهد الدبلوماسي في المنظمات الدولية والأممية، الساعي لإدانة الاحتلال ووقف العدوان، كجهود روسيا والصين لوقف الحرب، ولجوء جنوب أفريقيا ونيكاراغوا إلى محاكمة الاحتلال وألمانيا أمام محكمة العدل الدولية.

الاحتلال يعمد إلى التكتم على خسائره العسكرية من القتلى والجرحى والمعدات (غيتي) الأهداف التكتيكية

وفي إطار الأهداف التكتيكية للحرب النفسية، يسعى كل طرف إلى تحقيق ما يلي:

تضليل عدوه أو إضعاف معنوياته:

إذ يعمد الاحتلال إلى التكتم على خسائره العسكرية من القتلى والجرحى والمعدات، ويحرص حلفاؤه على الامتناع عن إظهار الخلافات معه إلا عند الضرورة.

وفي المقابل، تحرص المقاومة على التكتم على تكتيكاتها وخسائرها، بل تبرز قدرتها على التعافي من ضربات الاحتلال، وتبرز هي ومؤيدوها خسائر الاحتلال التي يحاول التكتم عليها.

تعزيز معنويات الجبهة الداخلية:

وفي سبيل ذلك، تصور سلطات الاحتلال هجماتها على المقاومين وتنشرها، في حين يواظب مؤيدوها على زيارتها وإصدار خطابات الدعم والتأييد لها.

أما المقاومة فتبذل جهودا كبيرة لتصوير عمليات استهداف قوات الاحتلال ونشرها، في وقت يسهم فيه مؤيدوها في نشر هذه الإصدارات على نطاق واسع، وخدمتها بالإثبات والتحليل.

تسهيل العمليات العسكرية ودعم عملية الاستهداف العسكري:

إذ يعمد الاحتلال إلى تخويف السكان بهدف تهجيرهم من "مناطق العمليات"، وإلقاء المنشورات التي تطالب الفلسطينيين بالامتثال لأوامر الجيش، ومخاطبتهم عبر صفحات الناطقين باسم جيش الاحتلال على مواقع التواصل الاجتماعي.

كما تتواطؤ بعض الدول الحليفة له مع بعض حيله الإعلامية بهذا الشأن، كقبول وتسويق فكرة المناطق الآمنة، رغم أنها كانت وسيلة للتهجير.

بدورها، تعمل المقاومة على تفنيد الخطاب الإعلامي الداعي إلى التهجير باعتباره أداة لخدمة العمليات العسكرية للاحتلال، إضافة إلى خطره الإستراتيجي. وتشاركها في ذلك القوى المؤيدة والحليفة لها.

تأمين التهدئة واستعادة النظام المدني:

ولتحقيق ذلك تنتج الآلة الإعلامية الإسرائيلية باستمرار خطاب التخويف لفلسطينيي الضفة الغربية والداخل، وتقارن بين معاناة أهل قطاع غزة والأمن النسبي الذي يحظى به من لا ينخرطون في المقاومة من سكان هذه المناطق.

وبدوره يتبنى "الذباب الإلكتروني" العربي هذه المقولات، ويجعل المقاومة نقيضا للاستقرار والتنمية. كما تستحضر دول غربية الحديث عن إحياء مسار حل الدولتين، رغم عدم توفر فرص حقيقية له، وذلك لتبرير إعادة إنتاج السلطة لتصبح أكثر خضوعا للاحتلال وأكثر جاهزية لتخلف حركة حماس في إدارة القطاع.

على الطرف الآخر، تكثف المقاومة خطاب استنهاض العمل المقاوم في مختلف الساحات، وتفند دعاوى إحياء مسار حل الدولتين، التي توفر غطاء لاستمرار الحرب على القطاع، وتشجع النازحين على العودة إلى بيوتهم باعتبارها أساسا لإعادة الإعمار.

كما يعمل مؤيدوها على دعم روايتها وتوجهاتها، وإبراز أعمالها داخل فلسطين وخارجها، وعلى تحفيز العمل الإغاثي والإنساني.

تقسيم مدنيي العدو ودفعهم للابتعاد عن قيادتهم:

بهذا الصدد يركز الاحتلال اللوم على حركة حماس وبعض قياداتها في نشوب الحرب، ويحاول استمالة بعض الفصائل والعوائل للتعاون معه في الإدارة المدنية للقطاع.

وتروج وسائل إعلام لدول مطبعة لأي مظاهر للخلاف داخل قطاع غزة، وتتبنى إشاعات الاحتلال بشأن قيادات المقاومة بهدف إفقاد أهل القطاع الثقة فيهم.

في المقابل توجّه المقاومة خطابا مركزا إلى أهالي الأسرى الإسرائيليين، وتسلط الضوء على قلة اهتمام حكومتهم بتحريرهم، وعلى تمييزها في توفير الحماية لسكانها.

ويستهدف عناصر المقاومة وأنصارها الجبهة الداخلية للاحتلال عبر الجهود السيبرانية الساعية إلى إثارة الخلافات بين مكونات مجتمعه، مع إبراز مظاهر التماسك واللحمة الفلسطينية في مواجهة جرائم الاحتلال.

نحن الرعب الذي ينتظركم .. انتظروا اكبر هجوم الكتروني عرفته دولتكم #سايبر_طوفان_الاقصى
#cyber_toufan_aksa pic.twitter.com/W6YUr2KmLm

— ToufanAksaCyber (@toufanaksa) October 27, 2023

تشجيع مقاتلي الخصم على الانشقاق:

ولهذا الغرض يروج الإعلام الإسرائيلي مقاطع يدعي أنها لاستسلام مقاتلين من المقاومة، كما يروج الإشاعات التي تتهم قادة المقاومة بالانفصال عن قواعدهم وعموم شعبهم وعدم مشاركتهم معاناتهم.

في حين تتلقف بعض وسائل الإعلام الغربية والعربية في الدول المطبعة هذا الخطاب وتروّجه وتخدمه بالتأكيد والتحليل.

وفي المقابل يفند إعلام المقاومة وأصدقاؤها هذه الدعاوى، وتسلط الضوء على ظاهرة الامتناع عن الخدمة العسكرية في جيش الاحتلال، وتسعى لتشجيعها.

وتسلط هذه التكتيكات الضوء على مركزية موقع الحرب النفسية في إستراتيجية الصراع لدى المقاومة والاحتلال وحلفاء كل منهما، انطلاقا من إدراك أن نتيجة الحرب متوقفة إلى حد كبير على كسب عقول وقلوب جمهور الطرفين.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ترجمات حريات الحرب العالمیة الثانیة الحرب النفسیة الاحتلال إلى النفسیة فی فی المقابل حرکة حماس قطاع غزة فی الحرب من خلال فی حین فی عام

إقرأ أيضاً:

أطروحة انتصار المقاومة الفلسطينية..عودة لعبة صراع المفاهيم

مع دخول وقف إطلاق المار حيز التنفيذ، عبرت قوى المقاومة الفلسطينية عن انتصارها وإفشالها لخطط العدو وأهدافه في الحرب على غزة، واطلقت كتابات وتعبيرات كثيرة في الوطن العربي،  تنتقد بحدة ما أسمته بأطروحة "وهم الانتصار" مقدمة بين يديها جملة من الحجج التي تحاول من خلالها إثبات مسار الهزيمة العربية،  وتكرر لحظة نكبة 1948 و نكسة 1967،  وأن الإسلام السياسي، الذي تمثله حماس في غزة، وكل من يدعم أطروحتها في الوطن العربي، لا يفعلون أكثر مما قام به القوميون(جمال عبد الناصر) والبعثيون (صدام حسين) في اللعب بالمشاعر، ودغدغة العواطف، والادعاء بالقدرة على محو إسرائيل من الخارطة، والتبشير بزوالها الوشيك، وأن الحقيقة التي لا تخطئها العين، هم أنهم جميعا حاولوا أن يغطوا على حقيقة الدمار والخراب الذي حل بالقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني بخلق وهم "النصر".

والحقيقة، أن قصد هذه الورقة التي تمزج بين الفكر والتحليل، ليس الدخول في نقاش مع هذا الرأي ومستنداته، وإنما التوقف على الطريقة التي يحاول بها الاحتلال الصهيوني وداعموه، ومن يحملون أطروحته، إعادة لعبة الصراع الفكري، وخلط المفاهيم التي استعملها الاستعمار مع حركات التحرر الوطني، من أجل تبرير هيمنته على مقدرات الشعب، وتشويه صورة المقاومة، وتبخيس جهدها، ومحاولة التأثير على تماسك الجبهة الداخلية، وخلق جيوب مقاومة للمقاومة.

لقد كتب الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي عددا من الكتابات في كشف لعبة التضليل التي مارسها الاستعمار الفرنسي، وكتب كتابا مستقلا في الموضوع أسماه "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة"، ووقف كثيرا عن عدد من المفاهيم التي يستعملها الاستعمار، لخلق حالة فكرية وشعورية داعمة له، ومناهضة للمقاومة الشعبية أو محبطة لها، وكتب الزعيم علال الفاسي عدد من المقالات والرسائل ينبه فيها إلى مخاطر المفاهيم التي كان الاستعمار يسهر على توليدها وبثها في الفضاء التداولي، بما في ذلك ركوب مطالب سياسية للمقاومة، ومحاولة تفخيخها من الداخل، بصياغات لغوية تحتمل مضمونا نكوصيا يناقض أهداف حركات التحرر الوطني.

في الواقع، تتعدد المقاربات لتقييم أثر هذه الحرب، ومن خرج منها منتصرا ومن خرج منها مهزوما، لكن، بالاعتبار الاستراتيجي والسياسي، ثمة عدد من المؤشرات التي يمكن البناء عليها، لبناء رؤية تقييمية واضحة لا تجيب فقط عمن كسب ومن خسر، ولكن تجيب من باب أولى عن تأثيرات الحرب على مستقبل القضية الفلسطينية، ومواقع الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني في موازين القوى التي ستصنعها صفقة إنهاء الحرب.في هذا المقال، نحاول أن نناقش أطروحة النصر، ولعبة الصراع الفكري، من زاويتين اثنتين، زاوية التحليل السياسي والاستراتيجي، وزاوية التحليل السيميائي الرمزي، على أن نختمه بكشف خلفيات لعبة الصراع الفكري التي تديرها نخب التطبيع في الوطن العربي.

أطروحة النصر.. في نقد المقاربات الثلاث

في يوم الأربعاء منتصف شهر يناير الجاري، أعلن رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، بدأ تنفيذه الأحد 26 يناير، ليفتح بذلك النقاش على مصراعيه حول جدل النصر والهزيمة بعد حرب هي الأعنف في تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

في الواقع، تتعدد المقاربات لتقييم أثر هذه الحرب، ومن خرج منها منتصرا ومن خرج منها مهزوما، لكن، بالاعتبار الاستراتيجي والسياسي، ثمة عدد من المؤشرات التي يمكن البناء عليها، لبناء رؤية تقييمية واضحة لا تجيب فقط عمن كسب ومن خسر، ولكن تجيب من باب أولى عن تأثيرات الحرب على مستقبل القضية الفلسطينية، ومواقع الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني في موازين القوى التي ستصنعها صفقة إنهاء الحرب.

ثمة ثلاث مقاربات للتقييم ملأت المكان، ويفضل هذا المقال تجنبها. تقول الأولى، إن حماس انتصرت لأنها لم تنهزم، وإسرائيل انهزمت لأنها لم تنتصر. وتقول الثانية، إن مؤشر انتصار حماس، هو ما يقوله الإعلام العبري نفسه. وتقول الثالثة: في الحروب غير المتناظرة، ينتصر الضعيف بإفشاله لخطط العدو، ويفشل المتفوق عسكريا حين يعجز عن تحقيق أهدافه المعلنة.

المقاربة الأولى، لا تقدم النقاش إلى الأمام، وتقرأ على أنها مجرد لعب بألفاظ، غرضه منع إجراء تحليل سياسي وعسكري واستراتيجي للحرب ونتائجها.

 المقاربة الثانية، هي الأخرى، لا تساعد في إحراز تقييم موضوعي، فالإعلام العبري الذي يتم الاستناد إليه في الغالب، يعكس حساسيات مختلفة، إما يمينية متطرفة، تبكي واقع الصفقة لأنها كانت تتمنى احتلال غزة وتهجير الفلسطينيين، وإما حساسيات يسارية كانت منطلقها في الأصل هو سحب الشرعية عن حكومة نتنياهو من لحظة السابع من أكتوبر.

في الواقع، قد تكون تقييم هذه الحساسيات جزءا مكملا من مؤشرات التقييم الموضوعي، لكن لا يمكن أن ينبى التقييم الموضوعي على أساسه، لأن خلفيته هي أهداف أخرى، ربما كانت في سقفها أعلى من سقف القيادية السياسية الإسرائيلية نفسها.

عطب المقاربة الثالثة، أنها تسقط من الاعتبار، أن قاعدة عدم التكافؤ في الحروب المتناظرة، ومعيار الانتصار فيها بمنع العدو من تحقيق أهدافه، إنما ترتبط باستراتيجية الدفاع، بينما تتداخل الأبعاد الهجومية والدفاعية في عملية "طوفان الأقصى". ففي الوقت الذي تعتبر فيه حماس أن هذه العملية هي استراتيجية دفاعية استباقية لمنع سيناريو أسوأ أعد له الكيان الصهيوني، يقرأها المراقب الخارجي، بأنها إيذان عن تحول من استراتيجية الدفاع إلى الهجوم، بتطلع إلى تغيير المعادلة في المنطقة، وتغيير موازين القوى بشكل كامل لفائدة قوى المقاومة. ولذلك، ينطرح هذه المقاربة جانبا ما دام التأويل لا يقدم قراءة واحدة لـعملية "طوفان الأقصى" وهل يندرج ضمن استراتيجية الهجوم أن استراتيجية الدفاع؟

أطروحة النصر من زاوية التقييم الاستراتيجي والسياسي

ينبغي الإشارة هنا، أن أطروحة النصر لا تتبناها فقط حماس، وإنما يتبناها الطرف الآخر، أو على الأقل الطرف الداعم للاحتلال، فقد أشار الرئيس الأمريكي جو بايدن في كلمته بخصوص هذا الاتفاق إلى بعض عناصر التحليل الاستراتيجي، وذكر مؤشرات الانتصار الإسرائيلي في إضعاف حزب الله، واضطراره لقبول اتفاق لوقف الحرب بما يناقض موقفه الأول الذي ربط فيه مقاومة حزب الله للاحتلال الإسرائيلي بعدوانه على غزة. الرئيس الأمريكي، ذكر أيضا هزيمة إيران في سوريا، وانقطاع الحبل السري عن حزب الله، بعد إسقاط النظام السوري.

إسرائيل لم تجر تقييما موضوعيا استراتيجيا لخارطة مكاسبها الاستراتيجية من وراء صفقة  إيقاف وقف الحرب  مع حماس، لكن ثمة عدد مهم من المسؤولين السياسيين، كان ينتقد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ويطالبه بوقف الحرب قبل أن تضيع المكتسبات التي حققتها إسرائيل في المنطقة، أي ما ذكره الرئيس الأمريكي من تراجع قوة حزب الله، وانتشاء بأن اتفاق وقف الحرب على لبنان كان مشروطا بنزع سلاح حزب الله، واحتكار الدولة اللبنانية وحدها  لحمل السلاح،  ثم سقوط نظام الأسد، بما يعني انقطاع  تدفق الأسلحة إلى حزب الله، وحصول اختراق مهم في محور المقاومة بما يضمن نقاطا مهمة لمنظومة الأمن الإسرائيلي في المنطقة.

حسابات الاحتلال الإسرائيلي الاستراتيجية، حسب القيادة السياسية الإسرائيلية، حصول نجاح استراتيجي غير مسبوق في تقويض بنية حزب الله السياسية والتنظيمية وقدراته العسكرية وموقعه السياسي والعسكري في لبنان، وتوجيه ضربة استراتيجية كبيرة لإيران وحاورها في المنطقة وبالأخص لبنان وسوريا.

في الواقع التحول في سوريا وإن كان يرمز لهزيمة المحور الإيراني، فهو في حقيقة الأمر مجرد كسب تكتيكي، فتراجع التهديد الإيراني لإسرائيل عبر لبنان وسوريا، لا يعني، أن حدود إسرائيل أضحت آمنة بعد إسقاط نظام بشار الأسد، فإسرائيل نفسها لا ترى في هذا التحول سوى استبدال تهديد شيعي ترعاه إيران، بتهديد آخر سني ترعاه تركيا، ولذلك سارعت إلى شن غارات على المقدرات العسكرية لسوريا واحتلال أجزاء مهمة من أراضيها.

في مقابل هذا الكسب الاستراتيجي غير المقطوع به، ثمة خسارة استراتيجية كبيرة بالنسبة لإسرائيل،  فهذه الحرب أوقفت أو جمدت بشكل كبير مسارا من التطبيع بدا مع اتفاقات ابراهام،  وخلقت أجواء كثيفة من الشك في نوايا الاحتلال الإسرائيلي، ليس فقط بالنسبة للدول العربية التي كانت مبرمجة في استكمال حلقات التطبيع، وإنما أيضا بالنسبة للدول المنخرطة مبكرا في التطبيع، فمصر والأردن، لن تحذفا من ذاكرتها حول حرب غزة، وجود نزوع استراتيجي عميق لدى قادة الاحتلال مختلف نخب الاحتلال الإسرائيلي بأن حل معضلة غزة والضفة تكمن في تهجير الفلسطينيين إلى سيناء والأردن.

والخسارة الاستراتيجية الكبرى بالنسبة إلى إسرائيل، هي العزلة الدولية التي فرضتها عليها الحرب، إذ لم يحدث في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي أن أصدرت الجنائية الدولية حكما يأمر باعتقال بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت)، ولم يحدث أن عاش الاحتلال الإسرائيلية عزلة دولية مثيلة.

خسارة الفلسطينيين الاستراتيجية كبيرة بلا شك، فقد تحولت غزة إلى ركام كبير، وخسرت المقاومة قيادات سياسية وعسكرية من الوزن الثقيل، وتكسر محور الإسناد في جنوب لبنان، وفقد الشعب الفلسطيني قوة ديمغرافية كبيرة بغزة، بسبب استشهاد حوالي 50 ألف فلسطيني، أغلبهم من النساء والأطفال، بما يعني التأثير على نسبة الخصوبة، التي تعتبر إسرائيل ارتفاعها في قطاع غزة قنبلة نووية في مستقبل صراعها مع الفلسطينيين.

في الواقع التحول في سوريا وإن كان يرمز لهزيمة المحور الإيراني، فهو في حقيقة الأمر مجرد كسب تكتيكي، فتراجع التهديد الإيراني لإسرائيل عبر لبنان وسوريا، لا يعني، أن حدود إسرائيل أضحت آمنة بعد إسقاط نظام بشار الأسد، فإسرائيل نفسها لا ترى في هذا التحول سوى استبدال تهديد شيعي ترعاه إيران، بتهديد آخر سني ترعاه تركيا، ولذلك سارعت إلى شن غارات على المقدرات العسكرية لسوريا واحتلال أجزاء مهمة من أراضيها.في الواقع، وعلى الرغم من إشادة حماس بمحاور الإسناد في بيانها الذي أصدرته عقب الإعلان عن الاتفاق وفي كلمة الناطق الرسمي باسم كتائب عزي الدين القسام أبو عبيدة، إلا أنها لم تكن متضررة من إسقاط بشار الأسد، فرؤيتها الاستراتيجية كانت دائما قريبة من المحور التركي السني، ومتشككة من الدعم الإيراني وتوظيفها للقضية الفلسطينية.

يؤكد ذلك إصدار حماس لبيان عقب إسقاط نظام بشار الأسد تبارك للشعب السوري الشقيق نجاحه في تحقيق تطلعاته نحو الحرية والعدالة، راجية أن تواصل دمشق دورها التاريخي والمحوري في دعم مقاومة الشعب الفلسطيني.

في التقدير يمكن أن نعتد بوجود خسارة تكتيكية لحماس، تتعلق بفشل استراتيجيتها من التحول من استراتيجية الدفاع إلى استراتيجية الهجوم، فـ"طوفان الأقصى" الذي ينبئ عن هذا التحول، لم يتحول إلى منعطف استراتيجي حاسم يغير وجه منطقة الشرق الأوسط برمتها لفائدة القضية الفلسطينية، فلا يزال الوضع على ما هو عليه، إلا ما كان من تحول في سوريا، لم تكن قيادة "طوفان الأقصى" تتصوره أو تتوقعه، وإنما حصل بإيعاز من تركيا التي يمكن اعتبارها المستفيد الأكبر استراتيجيا وسياسيا.

في المستوى السياسي والعسكري، كان الفشل الكلي في جانب الاحتلال الإسرائيلي، لأنه بحسب قياداته ووسائل إعلامه، لم ينجح في تحقيق أهدافه المعلنة، أي تقويض قدرات حماس العسكرية، ولم يستطع أن يفرض واقعا لما بعد حرب غزة، بدون حماس، فوزير الخارجية الأمريكي أنتونيو بلينكن، وهو يعلق على الإعلان عن الاتفاق، صرح بشكل واضح بأنه يستحيل هزم حماس عسكريا، وإنها عوضت كل مقاتليها، وجددت قدراتها العسكرية، وقال إن الأيام الأخيرة التي سبقت الإعلان عن الاتفاق، كانت قاسية على إسرائيل في شمال غزة.

مضمون الاتفاق يؤكد فشل الاحتلال الإسرائيلي في فرض أهدافه، إذ يلزمه الاتفاق بالانسحاب من كل غزة، بما في ذلك محوري نتساريم وفيلادلفيا، ومنطقة الشمال التي كان يخطط لاحتلالها وتهجير أبنائها منها، وتظهر مستحقات المرحلة الأولى -من الاتفاق-التي ستستمر لمدة 42 يوما، أن إسرائيل ملزمة بإطلاق سراح نحو ألفي أسير فلسطيني، و250 من المحكومين بالسجن المؤبد، ونحو ألف من المعتقلين بعد 7 أكتوبر 2023، في انتظار ما يمكن أن يؤول إليه التفاوض في المرحلتين الثانية والثالثة.

خسارة حماس، كانت محدودة في الاتفاق، فقد قبلت فكرة الانسحاب التدريجي بعد أن كانت تشترط الانسحاب الكلي والفوري، ثم قبلت فكرة صفقة من ثلاث مراحل، لا يوجد تفصيل دقيق إلا في الأولى، وقبلت أن يبقى الاحتلال على شريط حدود غزة بحوالي 700 متر، بعد أن كان الاحتلال يخطط لإنشاء منطقة عازلة فيها.

لكن مع ذلك، فالفارق بين وضعها قبل طوفان الأقصى ووضعها بعده، كبير، وعلى الرغم من الشعبية التي حازتها بفضل صمودها البطولي في صد العدوان، فإن تحديات ما بعد وقف الحرب ستكون كبيرة، فاستعادة قوتها الأمنية وجهازها السياسي، وقدرتها على تدبير القطاع ستكون مكلفة، خلافا لما كان عليه الأمر قبل السابع من أكتوبر على الرغم مما تضمنه الاتفاق من التزامات إنسانية مهمة، تتعلق بالمساعدات الإنسانية، أو إعادة تأهيل المستشفيات، وإدخال مستلزمات الدفاع المدني والوقود وإيواء اللاجئين.

نجحت حماس في إثبات صورة المقاومة البطولية الصامدة التي لم ترفع أبدا الراية البيضاء أمام همجية الجيش الإسرائيلي، ومنعت الاحتلال من تحقيق أهدافه في القضاء عليها وتهجير الشعب الفلسطيني، وخسرت القادة، وجزءا من السلاح الديمغرافي، وخرابا كبيرا في غزة يصعب تجاوزه إلا في عقد أو أكثر من الزمنلقد حرصت حماس لحظة البدء في تنفيذ تبادل الأسرى، أن تظهر قوتها العسكرية، وقدراتها الأمنية، وجاهزيتها الإدارية والتدبيرية، في رسالة، تثبت بها أن تغييبها عن المشهد السياسي في غزة، مجرد وهم، لا يمكن أن يتحقق، وأن 15 شهرا من الحرب، بقصد تحقيق هدف "غزة من غير حماس"  كانت في الواقع مجرد حلم استفاق الاحتلال الإسرائيلي على حقيقة استحالة تطبيقه بسبب قوة حماس أولا، ثم لعدم وجدود بديل عنها يستطيع إزاحتها أو يحظى بشعبيتها وتلتف الحاضنة الشعبية حوله ثانيا.

في المحصلة، نجحت حماس في إثبات صورة المقاومة البطولية الصامدة التي لم ترفع أبدا الراية البيضاء أمام همجية الجيش الإسرائيلي، ومنعت الاحتلال من تحقيق أهدافه في القضاء عليها وتهجير الشعب الفلسطيني، وخسرت القادة، وجزءا من السلاح الديمغرافي، وخرابا كبيرا في غزة يصعب تجاوزه إلا في عقد أو أكثر من الزمن، وفي المقابل، خسرت إسرائيل سمعتها، وفشلت في أن تنهي التهديد الأمني الذي تشكله حماس، وخسرت رأسمال الثقة الذي كانت واشنطن تؤمل دائما في استثماره لتحقيق هدف الاندماج الإقليمي لإسرائيل، ولذلك، يمكن القول بأن الإدارة الجديدة في البيت الأبيض تدرك، أن أمامها مهام كثيرة، لاستئناف رؤيتها السابقة القائمة على تحقيق هذا الهدف، وأنه إذا كانت البداية، هي إنهاء الحرب في غزة، فإن شرط استعادة  فعالية هذه الرؤية، يستلزم التضحية بالقيادة الإسرائيلية (بنيامين نتنياهو) ومسح الأضرار التي تسببت فيها، في أمل استعادة المبادرة في منطقة الشرق الأوسط، وعدم ترك فراغ ما بعد تراجع النفوذ  الإيراني، ومنع سيناريو استبدال المحور الشيعي، بالمحور السني.
أطروحة الانتصار.. الأبعاد السيميائية والرمزية

لا نحتاج إلى كثير من الحجج لنثبت دور الحرب على غزة في تكريس حقيقة الإفلاس القيمي للمشروع الصهيوني، فقد تكرس واقع عدم أخلاقية الجيش الإسرائيلي، وتورطه في جرائم حرب، وجرائم الإبادة، والتطهير العرقي، وأصدرت الجنائية الدولية حكما تأمر فيه باعتقال القيادة السياسية للاحتلال الإسرائيلي (رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو) والقيادة العسكرية (وزير الدفاع يوآف غالانت)، وخاض العالم كله مظاهرات منددة بانتهاك الاحتلال الإسرائيلي لكل القيم الإنسانية، وبتجميعه وتعطيشه  للشعب الفلسطيني، وسياسته الإبادية ضد المدنيين خاصة من الأطفال والنساء، واستهداف المؤسسات الخدمية الصحية والاستشفائية، واستهدافه  لمؤسسات التعليم، ودور العبادة، وضربه للبنيات المدنية، ولمولدات الكهرباء، والبنيات الطاقية، وللمياه، وهو ما يعتبر مؤشرات مطردة على إرادة محو الوجود الفلسطيني بالكامل.

ثمة أربعة أبعاد سيميائية ورمزية لانتصار المقاومة أخلاقيا برزت طيلة الأشهر الخمسة عشر للحرب: يتعلق البعد الأول، بأخلاقية الحرب، والثانية بأخلاق العهد والاتفاق، والثاني، بأخلاقية الأسر، والثالث، بأخلاقية وجمالية الوفاء بالعهود والالتزامات وتنفيذ الاتفاقات.

في البعد الأول، قدمت حماس وقوى المقاومة الفلسطينية درسا أخلاقيا وقيميا يصعب نسيانه، فقد كانت كل العمليات التي خاضتها تستهدف الجيش الإسرائيلي، ولم تضع في بنك أهدافها مواجهة المدنيين الإسرائيليين، بخلاف الاحتلال الإسرائيلي، فقد وجه أطنانا من المتفجرات فوق رؤوس المدنيين، وكان كلما تم ضرب وحداته وبنياته العسكرية، يصب انتقامه على الأطفال والنساء من المدنيين.

في البعد الثاني، باشرت حماس مسارا من المفاوضات مع الاحتلال الصهيوني،  وأعلنت بشكل واضح محدداتها في التفاوض، وبقيت متمسكة بها، وأبدت في لحظات كثيرة مرونة كبيرة، خاصة في مبادرة الرئيس الأمريكي جو بايدن، لكن، ثبت في كل المحطات أن النقض كان يأتي من الجانب الإسرائيلي،  إما بإدخال شروط جديدة لم تكن موضوع اتفاق سابق، أو باللعب بالوقت، واللعب بالوسطاء، من أجل تخفيف الضغط الدولي على جرائم الاحتلال،  حتى إن الوسيط القطري، أعلن  بكل وضوح عن غضبه من السلوك الإسرائيلي، الذي يمارس الابتزاز ليمنع الوسيط من القيام بأدواره.

وقد أثبت المسؤولون الإسرائيليون أنفسهم أن رئيس الوزراء الإسرائيلي هو الذي كان المسؤول الأول عن إفشال كل المحطات السابقة للتفاوض، وأنه كان يستثمر المفاوضات للعب بالوقت لإطالة مدة الحرب، وتلافي المساءلة القانونية.

يتمثل البعد الرابع في أخلاقية الأسر، وكيف عملت حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية على حماية الأسرى والمحتجزين، وتأمين حياتهم، وتوفير الغذاء والدواء لرعايتهم حتى والشعب الفلسطيني في غزة في بعض المناطق لاسيما في الشمال كان يموت جوعا وعطشا، دون أن نغفل عددا من التحذيرات التي كانت تصدرها فصائل المقاومة الفلسطينية للجيش الصهيوني من مخاطر قتله للأسرى والمحتجزين بتهوره وهمجيته.

 وقد أظهرت روايات المحتجزين الذين أطلق سراحهم في الصفقة الأولى، ثم في الدفعة الأولى من صفقة وقف الحرب، أن الأمر لم يكن يتوقف على هذه المستويات من الرعاية، بل تعداها إلى التعليم، فصرحت المحتجزات الثلاث اللواتي تم الإفراج عنهن يوم السبت الماضي، أنهم تعلمن اللغة العربية خلال مدة الحجز، وصرحت أم إحدى المحتجزات أنها لم تكن تتوقع أن تخرج المحتجزات بالمستوى الصحي الذي كن عليه بفضل الرعاية الصحية والغذائية التي وفرت لهن طيلة مدة الاحتجاز والأسر.

في الصفقة الأولى هذه الصفقة أيضا، توجهت حكاية المحتجزين المفرج عنهم أيضا إلى المواكبة النفسية التي تلقوها طيلة أيام الاحتجاز، والجو الإنساني الذي كان يؤطر علاقات بعضهم ببعض، وصور التأنيس والطمأنة ورفع الخوف عنهم، ومستوى الإحسان اذي تقلوه ممن يفترض أنهم أعداؤهم.

أما البعد الثالث، والمتعلق بأخلاق الوفاء بالعهود والاتفاقات وجمالية الإفراج عن الأسرى والمحتجزين، فقد تكرر المشهد يوم السبت الماضي، بعد أن بصمت حماس عن تفوقها الأخلاقي في الصفقة الأولى، واضافت إليها ابعادا جمالية أخرى. فقد أثبتت المقاومة تفوقها الأخلاقي من خلال الالتزام الحرفي بمقتضيات الهدنة الأولى، بما في ذلك زمن التسليم ومكانه، مع أن هذه الاعتبارات، قد تكون لها كلفة أمنية، بحكم أن الاحتلال بإسناد أمريكي كان يوفر كل إمكانات التجسس لمعرفة الجهة التي سيخرج منها المحتجزون، ومن ثمة معرفة مكانهم وتيسير الطرق للاحتلال الذي ضل الطريق طيلة خمسين يوما دون أن يعرف مكان المحتجزين. فقد أثبتت المقاومة، إلى جانب تفوقها الأخلاقي الذي تمثل في الالتزام بمقتضيات الهدنة، بما في ذلك التي تترتب عنها كلفة أمنية، سيطرتها على الموقف عسكريا، وأنها لا تزال تمتلك القدرات لإدارة الموقف والتحكم فيه.

وتكرر في صفقة وقف الحرب الشكل الأخلاقي الراقي الذي تم به تسليم المحتجزين، والذي دفع العديد من وسائل الإعلام الغربية والعربية وحتى الإسرائيلية نفسها إلى التوقف عند المفارقة الأخلاقية بين وحشية الجنود الإسرائيليين في التعامل مع الأسيرات الفلسطينيات (السحل وجر الشعر والإهانة والبذاءة في السب والشتم)، والشكل الأخلاقي الراقي الذي تعاملت به المقاومة عند تسليمها للمحتجزين للصليب الأحمر.

تاريخ تجارب المقاومة، لم يكن يذكر خراب العمران، واستشهاد القادة والزعماء، واستهداف المدنيين من الأطفال والنساء، وصعوبة العيش في العراء، إلا باعتبار ذلك كله جرائم للاحتلال وبصمة عار في جبينه، وكانت في المقابل تعد ذلك تضحيات جسيمة بين يدي غاية عليا هي الدفاع عن الأرض الوطن، وتعتبر فشل العدو في تحقيق أهدافه انتصارا كبيرا لصاحب الحق في الأرض.لحظة التسليم، والإصرار على التوثيق الإداري المحمل بالمعاني الجمالية، والحرص على الهدية الرمزية، والتأمين الصارم لحياة المحتجزين، كل يندرج ضمن الأبعاد السيميائية والرمزية المثبتة لأطروحة الانتصار.

ومع أن هذه المؤشرات الموضوعية والسيميائية تقدم حججا قوية لتثبيت أطروحة الانتصار، إلا أن مواجهة أطروحات نخب التطبيع، يتطلب حججا أخرى أكثر فاعلية ونسفا. حجج تنتمي إلى التاريخ، تاريخ الشعوب في مقاومة الاحتلال، وتجارب حركات التحرر الوطني، ليس فقط في مواجهة الهمجية العسكرية للاستعمار، وإنما أيضا في مواجهة صراعه الفكري في البلاد المستعمرة، والمفاهيم المضللة التي كان ينتجها في مواجهة المقاومة وحركات التحرر الوطني، فالمعركة التي قد تبدو في فلسطين وغزة على وجه التحديد صراع وجود، تحسم بالقوة، تبدو في الساحات العربية والإسلامية، معركة مفاهيم وصراع قيم تقع على ساحة التاريخ العريضة، تتولاها نخب التطبيع بدلا عن الاحتلال الصهيوني.

تاريخ تجارب المقاومة، لم يكن يذكر خراب العمران، واستشهاد القادة والزعماء، واستهداف المدنيين من الأطفال والنساء، وصعوبة العيش في العراء، إلا باعتبار ذلك كله جرائم للاحتلال وبصمة عار في جبينه، وكانت في المقابل تعد ذلك تضحيات جسيمة بين يدي غاية عليا هي الدفاع عن الأرض الوطن، وتعتبر فشل العدو في تحقيق أهدافه انتصارا كبيرا لصاحب الحق في الأرض.

كما كانت حركات المقاومة تتبع بشكل دقيق لعبة الصراع الفكري، وترسخ في الذهن وجود معادلة غير متكافئة بين الجلاد والضحية، أو بين الظالم المحتل، وصاحب الحق، وبين المغتصب والمقاوم الذي يمتلك شرعية الدفاع عن أرضه ووطنه. وتتعرض بالنقد والنقض للمفاهيم التي يحاول الاحتلال تكريسها ويتولى الدفاع عنها وكلاء يخدمون أجندته، حتى يسووا بين الضحية والجلاد، ويمنعوا المقاوم من حقه في المقاومة، ويمنعوا حتى المتعاطف معه من الاحتفاء بنصر المقاوم، ويجعلون كلفة المقاومة، ذريعة لتبرير إسقاط الحق في مواجهة العدوان.

مقالات مشابهة

  • أطروحة انتصار المقاومة الفلسطينية..عودة لعبة صراع المفاهيم
  • حركة الجهاد تندد بعمليات القتل والتهجير التي يمارسها العدو في جنين
  • الجهاد الاسلامي تندد بعمليات القتل والتهجير التي يمارسها العدو في جنين
  • أخيرًا.. نتنياهو يجثو على ركبتيه!
  • إحصائية بالخسائر التي خلفتها حرب الإبادة  الإسرائيلية على غزة .. تقرير
  • فصائل المقاومة تُعقّب على العملية العسكرية الإسرائيلية في جنين
  • تأكيدا لموقف أُعلن منذ بداية الحرب.. ما قصة قرارات الإفراج التي سلمتها المقاومة للأسيرات؟
  • تأكيدا لموقف أُعلن من بداية الحرب.. ما قصة قرارات الإفراج التي سلمتها المقاومة للأسيرات؟
  • هندسة الانتصار.. كيف خطّطت حماس لمشاهد ما بعد الحرب؟
  • المقاومة .. صمود وانتصار.. شوارع غزة تعجُّ بالحياة مجددًا ..