قراءة في زيارة أردوغان لبغداد وأربيل
تاريخ النشر: 24th, April 2024 GMT
قام رئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان، الاثنين الماضي، بزيارة رسمية إلى بغداد، تلبية لدعوة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، وصفتها معظم وسائل الإعلام التركية بــ"التاريخية"، كما عبر أردوغان عن أمله في أن تشكل زيارته إلى العراق والاتفاقيات المبرمة بين البلدين، "بداية انطلاقة جديدة" لعلاقاتهما الثنائية.
أنقرة وبغداد وقعتا 26 اتفاقية ومذكرة تفاهم في مجالات مختلفة خلال زيارة رئيس الجمهورية التركي للعاصمة العراقية. ومما لا شك فيه أن ملف الأمن ومكافحة حزب العمال الكردستاني كان الأهم من بين كافة الملفات، في ظل استعداد الجيش التركي لإطلاق عملية عسكرية واسعة في الأيام القادمة ألمح إليها أردوغان الشهر الماضي، حين صرح بأن القوات التركية على وشك استكمال الدائرة التي ستؤمن حدود بلاده مع العراق، وأنهم سيحلون المشكلة نهائيا في هذا الصيف.
العراق سبق أن أعلن حزب العمال الكردستاني "تنظيما محظورا"، كما أن المسؤولين العراقيين يؤكدون أنه من غير المقبول استخدام الأراضي العراقية منطلقا للهجمات الإرهابية التي تستهدف الدولة الجارة. ورحبت أنقرة بتلك الخطوة، إلا أنها لا تراها "كافية"، الحدث الأهم الذي شهدته زيارة أردوغان إلى العراق هو توقيع مذكرة تفاهم رباعية أبرمتها كل من تركيا والعراق وقطر والإمارات حول مشروع "طريق التنمية" الذي سيربط الخليج العربي بأوروبا عبر الأراضي العراقية والتركية، وهو مشروع استراتيجي سيقدم للعالم، في حال تم إنجازه، ممرا تجاريا جديدا بين آسيا وأوروبا، وسيحقق مكاسب عديدة لدول المنطقةبل تطالب بغداد بأن تصنف حزب العمال الكردستاني ضمن التنظيمات الإرهابية، وأن تقوم بما يترتب على ذلك من تنسيق وتعاون في مكافحتها. وهذا ما أشار إليه أردوغان في المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقده مع السوداني، حيث قال إنه يأمل في أن يتم إعلان حزب العمال الكردستاني "تنظيما إرهابيا" بشكل رسمي، لإنهاء وجوده في الأراضي العراقية في أقرب وقت.
الحدث الأهم الذي شهدته زيارة أردوغان إلى العراق هو توقيع مذكرة تفاهم رباعية أبرمتها كل من تركيا والعراق وقطر والإمارات حول مشروع "طريق التنمية" الذي سيربط الخليج العربي بأوروبا عبر الأراضي العراقية والتركية، وهو مشروع استراتيجي سيقدم للعالم، في حال تم إنجازه، ممرا تجاريا جديدا بين آسيا وأوروبا، وسيحقق مكاسب عديدة لدول المنطقة، ومن المؤكد أن استثمار قطر والإمارات في هذا المشروع سيسهل استكماله.
العراق يعاني من أزمة الجفاف وشح المياه، ويطالب تركيا بأن تزيد من كميات المياه التي تتدفق إليه عبر نهري الفرات ودجلة. وخلال زيارة أردوغان، تم توقيع اتفاق إطاري للتعاون في مجال المياه بين البلدين. إلا أن تركيا هي الأخرى تعاني من انخفاض منسوب مياه النهرين بسبب قلة الأمطار وتغير المناخ، وتؤكد أن حل الأزمة يكمن في معالجة ظاهرة هدر المياه وعدم ترشيد استهلاكها، بدلا من مطالبة تركيا التي لا تعد من الدول الغنية بالموارد المائية، بالتخلي عن حصتها من مياه النهرين لتزداد حصة العراق.
رئيس الجمهورية التركي التقى في بغداد نظيره العراقي عبد اللطيف رشيد، ولا يخفى على المتأمل في الصور التي تم التقاطها أثناء اللقاء، أن رئيس الجمهورية العراقي كان يبدو منزعجا من زيارة أردوغان. وهذا أمر طبيعي، لأن الرئيس العراقي الكردي ابن مدينة السليمانية، وينتمي إلى حزب عائلة طالباني، الاتحاد الوطني الكردستاني، زيارة أردوغان فتحت الباب أمام نقل العلاقات بين تركيا والعراق إلى مستويات متقدمة، كما تتطلع إليه القيادة التركية. وسيكشف تطبيق الاتفاقيات المبرمة وتعاون بغداد مع أنقرة في محاربة حزب العمال الكردستاني مدى تحقيق تلك التطلعات؛ لأن توقيع الاتفاقيات لا يعني بالضرورة أنها سيتم تطبيقها، وأن هناك معوقات، مثل النفوذ الإيراني والنفوذ الأمريكي، قد تجعل كافة تلك الاتفاقيات حبرا على ورقوأن زيارة أردوغان جاءت في الوقت الذي تفرض فيه تركيا عقوبات على السليمانية، وتغلق مجالها الجوي أمام الرحلات الجوية المتجهة إليها، بسبب الدعم الذي يقدمه رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني، بافل طالباني، إلى حزب العمال الكردستاني، كما أن الزيارة تهدف إلى تعزيز التنسيق والتعاون بين تركيا والعراق في محاربة التنظيم الكردي الانفصالي الذي زادت أنشطته في مدينة السليمانية في الآونة الأخيرة.
أردوغان قام بزيارة عاصمة إقليم كردستان العراق، أربيل، في طريق عودته إلى تركيا، وتم استقباله فيها بحفاوة، حيث تزينت شوارع المدينة بالأعلام التركية، كما تمت إضاءة قلعة أربيل التاريخية بألوان العلم التركي، الأمر الذي أثار غضب مؤيدي حزب العمال الكردستاني. وتبعث زيارة أردوغان لأربيل رسالة مفادها أن تركيا لن تستهدف الأكراد في العملية العسكرية المرتقبة، بل ستستهدف عناصر المنظمة الإرهابية.
رئيس الجمهورية التركي استقبل في العاصمة العراقية قادة العرب السنة، على رأسهم رئيس مجلس النواب العراقي السابق محمد الحلبوسي، ورئيس حزب السيادة خميس الخنجر، كما استقبل وفدا من ممثلي التركمان. ومن المؤكد أن تعزيز العلاقات بين تركيا والمكونات العراقية المقربة منها، سيعزز ثقل الدور التركي في العراق والتوازنات الإقليمية.
زيارة أردوغان فتحت الباب أمام نقل العلاقات بين تركيا والعراق إلى مستويات متقدمة، كما تتطلع إليه القيادة التركية. وسيكشف تطبيق الاتفاقيات المبرمة وتعاون بغداد مع أنقرة في محاربة حزب العمال الكردستاني مدى تحقيق تلك التطلعات؛ لأن توقيع الاتفاقيات لا يعني بالضرورة أنها سيتم تطبيقها، وأن هناك معوقات، مثل النفوذ الإيراني والنفوذ الأمريكي، قد تجعل كافة تلك الاتفاقيات حبرا على ورق.
twitter.com/ismail_yasa
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه أردوغان العراقي العمال الكردستاني تركيا العلاقات العراق تركيا أردوغان علاقات العمال الكردستاني مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة مقالات سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة حزب العمال الکردستانی رئیس الجمهوریة الترکی الأراضی العراقیة ترکیا والعراق زیارة أردوغان بین ترکیا
إقرأ أيضاً:
“تأملات في طمأنينة لا تُشبه الخرائط… عن العراق الذي يكتبه الغريب كما يُكتب الحنين”
توطئة:
كتبتُ هذا النص لا من باب التوثيق، ولا لارتداء هوية ليست هويتي، بل لأنني اقتربت من العراق من خلال أهله، وفتحت بيتي لهم كما فتحوا بيوتهم لي. وكنت، وأنا أستمع لهم، أشعر أني أستعيد شيئًا من نفسي.
هذا ليس مقالًا، ولا سيرة. إنه قطعة من ذاكرة مشتركة، كُتبت على مهل، في أحد مساءات الغربة.
في المقهى العراقي الذي يديرُه رجلٌ من الكرادة ويحفظ أشعار الجواهري، سمعت للمرة الأولى كيف يمكن للحرب أن تُروى كشأن منزلي، كما تُروى وصفة الشاي أو طريقة طبخ الدولمة. لم يكن سردًا بطوليًا بل اعترافًا، صادقًا، هشًا، يليق بالبشر حين تتساقط عنهم أقنعة التاريخ. رجلٌ لم يكن يرفع صوته، ولم يكن يُخفضه، يتكلم كما يُسكب الشاي: متوازنًا، دافئًا، مسكونًا بما يكفي من الحكمة لئلا يغرق في الرثاء، وما يكفي من السخرية لئلا يستسلم.
على الجدار خلفه صورة للجواهري، لا تشبه الصورة المألوفة في الكتب، بل صورة يبتسم فيها الشاعر، كما لو كان يبارك لهذا المقهى المتواضع قدرته على أن يُبقي الشعر حيًا، وسط فناجين الشاي وقطرات المطر. وكان المقهى كله، رغم صغره، يبدو كأنه بقعة من الرصافة سقطت سهواً في هذا المنفى البعيد.
“أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي” قالها المتنبي ذات نشوة، لكنّي شهدت هناك كيف يطأ الشعرُ الطينَ، وكيف يتوهج في نبرة امرأة تبكي ابنها ولا تجد ما تكتبه سوى صمتها. لم تكن القصائد تُكتب بالحبر بل بالدخان المتصاعد من غليون يتيم، أو بمرارة ضحكةٍ عراقية وهي تُخبرك أن بغداد مدينة لا تُحكى، بل تُشمّ.
شمّ المدن لا يحتاج إلى خرائط، بل إلى أنف القلب، إلى خيال يتدرب على التقاط ما لا يُرى.
بغداد، كما قالتها تلك المرأة، ليست مدينة تشرحها النشرات، بل رائحة قهوة محروقة قليلًا في بيت قديم، عِبارة تُقال على استحياء، حنجرة تتهدج عند سماع أم كلثوم، ثم تصمت. الشعر هناك لا يُدرّس، ولا يُلقى في المنابر، بل يتجلى في هيئة أمهات يرتّبن شَعر الغياب ويُطعمنه من فتات الذاكرة.
لا شيء يُعيد للإنسان قدره كالخسارة. ربما لذلك كان الاشتراكيون في العالم أكثر شعورًا بالعدل، لأنهم فقدوا كل شيء. يقول أنطونيو غرامشي: “إن تشاؤم العقل لا يُنافي تفاؤل الإرادة”. وأظن أن العراقي حين يُحسن القَصّ، لا يفعل ذلك لأنه متفائل، بل لأنه تعب من الهروب، فصار يروّي ما لا يمكن النجاة منه. هذه الإرادة التي تُشبه الجلد العراقي – لا تتشقق إلا لتُبرهن أنها لا تموت. فهي ليست مقاومة ضجيج، بل صبرُ جمال، وليست تحديًا أجوف، بل تأملٌ نَبيل في المعنى.
أحيانًا كنت أشعر أن القصة عندهم ليست وسيلة تواصل، بل طقسٌ للنجاة، أو محاولة مستترة لترميم الزمن. كأنهم يقولون للغد: نحن لم ننكسر، نحن فقط تعلمنا أن نُطيل الحكاية كي لا ننتهي بسرعة. والعراق في حكاياتهم ليس دولة بحدود، بل مزيج من الشِعر والماء، من الطين والزيتون، من الأغنية التي تُغنّى حتى لو لم يبقَ من الوطن سوى اسم يُوشك أن يُنسى.
وفي مساءات المنفى، حين نُطفئ أنوار الغربة، لا نعود نحن فقط، بل يعود معنا ذلك الحنين المُجهض، حنين لا يُكتب، لأنه لا يشبه شيئًا سوى النشيد الأخير في عرس تأخّر كثيرًا.
أحدهم قال لي إن قصيدة بدر شاكر السياب: “أنشودة المطر”، كُتبت لتُقرأ في المنافي فقط. وأنا أصدق ذلك. فـ”عيناك غابتا نخيلٍ ساعةَ السحر” لا تُقال لعاشقة، بل لوطنٍ يسكن امرأةً تحمل في ملامحها أعمارنا المُنْهَكة. امرأة لا تقول الكثير، ولكنها حين تسند رأسها إلى حافة الليل، تُصغي لنداء لا يسمعه سواها.
قصائد السياب هناك ليست ذخيرة ثقافية، بل جزء من الدورة الدموية اليومية. مثل الملح، مثل الحبّ الصامت، مثل العتاب الذي لا يُقال.
حين تتحدث العراقيات في الغربة، لا تتكلم نساء فقط، بل تتحدث مدن مهدّمة، ومكتبات محروقة، وبيوت تُبنى بالذاكرة. يقُلن لك ما لا يقوله الرجال: أن النصر كذبة صغيرة إذا لم يشبه دفء البيت. في كلامهن فسحةُ ظل لا توفّرها السياسة، ووضوحٌ لا تُجيده المؤتمرات. يحملن العراق كما تُحمل القوارير في البحر، لا ليطفو فقط، بل لئلا ينكسر. ليس فيهن استجداء، ولا ثقل الماضي المجلجل، بل خفة من يعرف أن المعنى الحقيقي لا يُقال، بل يُمنح، في طريقة تقديم الشاي، في لُقمة خُبز مشروحة بحنو، في عِبارة تُقال على الماشي: “تفضل، البيت بيتك”.
وأنا أراقب أحد أصدقائي العراقيين، وهو يشرح لابنه الصغير، باللهجة الجنوبية: “يمه، العراق مو خراب، العراق أحلى من الخيال، بس الكَلبان لعبوا بيه”. أدركت أن اللغة، حتى حين تنكسر، تظل تحاول الإنقاذ. أدركت أن ما نحمله من لهجات، ليس زينة لهوياتنا، بل أدوات بقاء. في جملته تلك، كان يُعيد تشكيل وطنٍ كامل، لا على هيئة علمٍ أو شعار، بل على هيئة حكاية تُروى للطفل كي لا ينسى. لأنهم يعرفون، بذكاءٍ بسيطٍ ومُرهف، أن ما لا يُحكى، يُمحى. وقد رأيتُ في نظراته أن العراق ما زال قائمًا، لا كمؤسسة، بل كنبض حيّ في ذاكرة عائلة تُصرّ على أن تنقل خريطتها الخاصة للأجيال القادمة.
أنا سوداني، وأعرف أن الكتابة عن العراق لا تُمنح لمن يتفرّج، بل تُمنح لمن يدخل البيوت ويُؤتمن على الحكاية. ولذلك أكتب الآن، لا من خارج الدائرة، بل من داخل حميميتها، كمن سُمح له أن يجلس في زاوية المجلس ويُصغي.
الغربة تصنعك كما تصنع النار المعدن. تُنقّي دواخلك من الزيف، تدفعك لأن تُعيد التفكير في كلمة الانتماء، تلك الكلمة التي كانت تبدو قدريّة، فإذا بها تُخاض. وأنا أخوضها معهم. أصدقاء لا يشبهون الصور، بل يشبهون الكتب المفتوحة التي لا تُغلق، يروُون لك “المنفى” كما يروون “العراق”، ويُشبهونك وأنت تحاول أن تتذكّر لماذا خرجت من وطنك ولماذا لم تعد. ليسوا شخوصًا عابرة، بل مرايا نادرة ترى فيها وجهك المُفترض، الوجه الذي نسيت أنك كنت تحمله، وكنت تسعى إليه.
وفي هذا التمرين الدائم على الانتماء، يبدو لي أن الغربة ليست فقدًا، بل اختراعًا لمعنى جديد، أكثر صدقًا، للوجود معًا. ليست جسرًا بين ضفتين بل هي الضفة الثالثة، تلك التي لا يراها العابرون ولا تقيسها الخرائط. ضفة لا تُسجَّل في العقارات، بل في دفاتر القلب، في الأمكنة التي نختلقها مع من نحب، حين نُقرّر أن نصير وطنًا لبعضنا البعض، دون أن نُعلن ذلك، ودون أن نطلب أوراقًا ثبوتية.
قال المفكر الاشتراكي بول نيزان قبل أن يقتل في الحرب: “لم أكن أعرف أنني أملك هذا القدر من الحب إلا عندما فقدته”. وأنا أعرف أنني لم أكن أعرف العراق، إلا حين عرفت العراقيين عن قرب. عن قُربٍ لا تصنعه الأوطان بل تصنعه القلوب التي حين تهزمها الحروب، تتحوّل إلى أوطانٍ تمشي، تنام، وتفتح لك باب البيت. بيت لا يحتاج إلى سقف، بل إلى كلمة، إلى إيماءة، إلى ثقة بسيطة تنمو على نارٍ هادئة، كما تنمو جذور النعناع.
هل الغربة عدالة؟ لا. لكنها في حالات نادرة، تمنحك امتياز أن تُعيد ترتيب نفسك. أن تُجرّب الأخوّة مع من لا يشبهك تمامًا، ومع ذلك يصبح أقرب إليك من الدم. تمنحك فرصة أن تقول لنفسك، بلا خجل، إن الحياة لا تُقاس بالمكان، بل بنوعية البشر الذين مرّوا بك، ومررت بهم، وقرّرتم معًا أن تجعلوا من اللايقين حكايةً يمكن تصديقها، بلغةٍ لا تُنسى، وصمتٍ يشبه المعنى أكثر من أي كلام.
الغربة، بهذا الشكل، ليست جرحًا، بل خيطًا دقيقًا من الضوء يتسرّب من تحت الأبواب المغلقة. خيط لا ينير الطريق كله، لكنه يكفي لتعرف أنك لست وحدك. وأن دفء الآخر، حين يكون صادقًا، يضاهي دفء الوطن، وربما يتجاوزه. ليس لأن الوطن ناقص، بل لأن القلوب حين تُمنح من غير مصلحة، تكتسب طهارة نادرة.
العراقيون الذين عرفتهم في المنفى لم يكونوا ينتظرون شيئًا من أحد، لم يكونوا ضحايا، ولا دعاة، بل ناسًا يعيشون بكامل أناقتهم في قلب اليوم، يصنعون من الوقت خبزًا ومن القصيدة بابًا ومن المزاح صلاة يومية للنجاة من فجاجة العالم.
منهم تعلّمتُ أن الطمأنينة ليست هدية، بل مهارة. وأن الانتماء ليس وثيقة، بل فعل يومي من الحب. وأن البلاد لا تعني شيئًا إن لم تجد من تشاركهم طريقتها في الغياب.
وأنا الآن، أكتب هذا النص، لا لكي أُحصي ما فُقد، ولا لأرثي ما لا رجعة فيه، بل لأقول ببساطة: بعض الغرباء، حين يدخلون حياتك، يُعيدون ترتيب جغرافيتك كلها. يجعلونك تُفكر في المعنى لا في الحدود. في الجلوس مطوّلًا مع من تُحب، لا في العبور السريع إلى المجهول.
ربما لم أكن أعرف أنني أملك هذا القدر من القرب، إلا عندما التقيت بهم. وربما، ذات يوم، حين تُغلق كل الأبواب، سيبقى باب صغير مفتوح في الذاكرة، كأنك تسمع من بعيد صوتًا يقول لك: “تفضل، البيت بيتك”
zoolsaay@yahoo.com