أسرى النبوءة.. لماذا تضحي أميركا بمصالحها الإستراتيجية من أجل إسرائيل؟
تاريخ النشر: 24th, April 2024 GMT
على مدار اليومين الماضيين خرج العديد من التصريحات اللافتة من بعض كبار الساسة الأميركيين، منهم رئيس مجلس النواب مايك جونسون الذي قال في تصريح صحفي: "إسرائيل حليف حيوي لنا، أعتقد أن معظم الناس يتفهمون ضرورة هذا التمويل (26 مليار دولار لإسرائيل) إنهم يقاتلون من أجل وجودهم.. بالنسبة لنا نحن المؤمنين هناك توجيه في الإنجيل بأن نقف إلى جانب إسرائيل، وسنفعل ذلك بلا ريب وسينتصرون طالما كنا معهم".
رئيس مجلس النواب الأميركي يعتبر مساندة "إسرائيل" واجبا دينيا.. هذا ما قاله pic.twitter.com/xvOCQNsJfU
— شبكة رصد (@RassdNewsN) April 22, 2024
لم يكن هذا التصريح الذي يربط السياسة الأميركية تجاه إسرائيل بالعقيدة المسيحية البروتستانتية كما أمر بها الإنجيل -وفق اعتقادهم- هو الأول من نوعه هذه الأيام، فبالتزامن مع ذلك استجوبَ عضو مجلس النواب الأميركي عن الحزب الجمهوري ريك دبليو. ألين رئيسة جامعة كولومبيا ذات الأصول المصرية نعمت شفيق.
بدا "ألين" جادا للغاية حين سألَ نعمت: "لماذا لا تدعم جامعة كولومبيا إسرائيل بشكل كاف؟ لنكن واضحين هذا ميثاق قطعه الرب مع النبي إبراهيم وهذا الوعد واضح للغاية: إذا باركتَ إسرائيل سأباركُك، وإذا لعنتَ إسرائيل سألعنك".
وأضاف "وفي العهد الجديد (الإنجيل) تم التأكيد على أن جميع الأمم ستكون مباركة من خلالك. لذا ألم تكوني تعلمين بهذا؟ رئيسة الجامعة: سمعته من قبل ولكن تم شرحه الآن بشكل أفضل. هو: جيد أن ذلك يبدو مألوفا لديكِ. هل تُريدين أن تكون جامعة كولومبيا ملعونة من رب الإنجيل؟" فأجابت: "بالقطع لا".
لايفوتكم الحماقة واحد اسمه "ريك ألين" عضو مجلس النواب الأمريكي أثناء جلسة إستدعاء مع رئيسة جامعة كولومبيا، قال: "لماذا الجامعة لا تدعم اسرائيل بشكل كافي؟"
هو ميثاق قطعه الله لإبراهيم لمباركة اسرائيل، هل تريدين أن يلعن الرب جامعة كولومبيا بسبب عدم دعمها لإسرائيل؟ ????????♂️
*يحرّفون كُل… pic.twitter.com/bu2Pn3jjHX
— عـبدالله الخريّف (@AbdullahK5) April 21, 2024
يبدو المتابع لهذه التصريحات التي تربط السياسة الأميركية تجاه إسرائيل والمنحازة لها بتعاليم الإنجيل على لسان أهم وأكبر النخب السياسية الأميركية أمرا غريبا صادرا من قلعة العلمانية والرأسمالية العالمية، ويثير كثيرا من الأسئلة أكثر مما يُعطي من الإجابات القاطعة حول فهم هذه العلاقة الراسخة بين الولايات المتحدة وإسرائيل.
عودة للجذورلقد كتب يوما ريتشارد كورتيز، وهو موظف متقاعد من وزارة الخارجية الأميركية ورئيس تحرير "تقرير واشنطن عن شؤون الشرق الأوسط"، عن قيمة المساعدات الأميركية الرسمية وغير الرسمية التي دفعتها أميركا إلى إسرائيل منذ عام 1948 وحتى 1995م، قائلا: "نحن دافعي الضرائب نقدم إلى دولة إسرائيل الصغيرة أكثر من 6 مليارات دولار كمساعدات خارجية وعسكرية في العام".
يكمل كورتيز "وخلال 46 سنة خلت قدم دافعو الضرائب في الولايات المتحدة إلى إسرائيل ما مجموعه 62.5 مليار دولار، هذا يعني أننا أعطينا واحدة من أصغر دول العالم من المساعدات المالية بقدر ما قدمناه إلى دول جنوب الصحراء الأفريقية وأميركا اللاتينية والبحر الكاريبي مجتمعة، فإن مجموع المساعدات إلى هذه الدول تُقدر بحوالي 40 دولارا عن الشخص الواحد، في حين تساوي المساعدات إلى إسرائيل 10 آلاف و775 دولارا عن الشخص الواحد".
منذ عام 1948 وحتى 1995م قدمت أميركا لإسرائيل مساعدات بقيمة 83 مليار دولار (مواقع التواصل)لم يذكر كورتيز هذا فقط، بل أكد أن هناك جهات أميركية أهلية ومسيحية أخرى تقدم هبات إلى إسرائيل غير خاضعة للضرائب، بحيث يصل مجموع الأموال إلى ما يعادل 83 مليار دولار في الفترة ما بين 1948 وحتى عام 1995، أي ما يعادل أكثر من 14 ألف دولار سنويا من أميركا لكل شخص إسرائيلي.
وبسبب هذا الدعم الضخم المالي والمعنوي من بريطانيا والولايات المتحدة لإسرائيل، وأمام أدلة وبراهين لا تكاد تخطئها عين المراقب تساءلت الصحفية الأميركية غريس هالسل، التي عملت كاتبة مع الرئيس الأميركي الأسبق ليندون جونسون في الستينيات بالبيت الأبيض، عن السر الذي يدفع بلدها إلى التضحية بمصالحها الإستراتيجية إلى هذا الحد من أجل إسرائيل؟
ومن أجل الإجابة عن هذا السؤال بصورة أعمق، وأمام الأدلة المتتابعة التي شاهدتها غريس بنفسها، قررت أن تبحث وتقرأ وتسافر وتلتقي بكل من لديه إجابة على استفساراتها، وقد تمخضت هذه الرحلة الطويلة عن كتابيها: "النبوءة والسياسة، الإنجيليون العسكريون في الطريق إلى الحرب النووية" و"يد الله، لماذا تُضحي الولايات المتحدة بمصالحها من أجل إسرائيل؟" وهما عملان مهمان يكشفان لنا جانبا أساسيا من جوانب اندفاع العقل الأميركي الإستراتيجي ناحية إسرائيل بكل حماسة، بل بعمى إستراتيجي أحيانا.
حتى إن هذا العقل تغاضى عن كثير من جرائم إسرائيل ليس في حق الفلسطينيين والعرب فقط، بل وفي حق أميركا نفسها حين ضربت إسرائيل السفينة الأميركية التجسسية ليبرتي التي كانت راسية في شرق البحر المتوسط أثناء حرب 1967، ومقتل 34 بحارا أميركيا على متنها حتى تحُقق أهدافها كاملة في احتلال سيناء والجولان والضفة الغربية وغزة في سرعة خاطفة، وقد صمتَ الساسة الأميركيون وعلى رأسهم الرئيس جونسون عن هذه الجريمة وابتلعوها.
سر الأسرارتعود الأسباب الرئيسية إلى العلاقة الثورية التي جاءت بها حركة الإصلاح الديني في القرن الـ16 في قلب المسيحية الكاثوليكية في أوروبا، حين وقف القسيس الألماني مارتن لوثر في وجه البابوية في روما داعيا إلى حركة إصلاح عميقة وثورية في وجه تغول الكنيسة سياسيا ولاهوتيا، لا سيما مع احتكارها لفهم النص المقدس، وعدم قبولها بترجمته أو تأويله إلى اللغات المحلية الأوروبية، ثم بالممارسات التي لا تتطابق مع روح الكتاب المقدس وعلى رأسها غفران الخطايا مقابل صكوك مالية.
وكان الكتاب الذي ألفه مارتن لوثر في عام 1523 وعنوانه "عيسى وُلد يهوديا" بمثابة إعادة لاعتبار التراث اليهودي في المسيحية بعد 16 قرنا كان العداء فيها متأصلا بين الفريقين، فقد رأى لوثر أن "الروح القدس أنزل كل أسفار الكتاب المقدس عن طريق اليهود وحدهم.. إن اليهود هم أبناء الله، ونحن الضيوف الغرباء".
ورغم أن لوثر تراجع عن آرائه في هذا الكتاب، فإن الحركة البروتستانتية قد تشبعت بها، لا سيما مع الفرنسي جون كالفن، ومع انتشار هذه الآراء في الجغرافيا الأنجلوساكسونية وتجذرها حتى انفصلت الكنيسة الإنجيلية البريطانية عن روما في عام 1534.
ومع اكتشاف الأميركيتين في نهاية القرن الـ15 والصراع الدامي الذي وقع بين الإنجليز والفرنسيين والإسبان والهولنديين على أميركا الشمالية، ثم السيطرة البريطانية شبه المطلقة على أميركا، أدى ذلك لهجرة البروتستانت بأعداد هائلة تجاه القارة الجديدة التي اتخذوها موطنا، حتى أعلن الأميركيون استقلالهم عن بريطانيا في نهاية القرن الـ18، في حين ظلت العقيدة الدينية واحدة.
الحركة البروتستانتية تشبعت بآراء مارتن لوثر التي كتبها في كتاب"عيسى وُلد يهوديا" (مواقع التواصل)يصفُ بعض مؤرخي الأديان البروتستانتية بأنها حركة "تهويد واسعة للمسيحية"، لأنهم اعتبروا أن فهم واستيعاب العهد الجديد "الإنجيل" لا يحصلُ دون قراءة وفهم الجذور الموجودة في "العهد القديم" (التوراة)، وذلك على خلاف القراءة المسيحية القديمة قبل عصر الإصلاح التي كانت ترى أن المسيحية وريثة اليهودية وهي الأجدر بحمل الأمانة التي تخلى عنها اليهود حتى صلبوا المسيح وفق اعتقادهم.
وتأخذ غريس هالسل هذا الخيط لتلج منه إلى الأسباب الحقيقية التي جعلت أميركا تتغاضى عن مصالحها الإستراتيجية لصالح إسرائيل إلى هذا الحد الفاضح، فتجدُ الإجابة في سيرتها الذاتية الدينية خاصة التي مرت بها منذ الطفولة وحتى الكبر.
ففي الطفولة كانت تستمعُ إلى المبشِرين وهم يربطون قصص الكتاب المقدس بأعداء الله، وتركيز الإنجيليين خاصة التي كانت تستمعُ لهم باهتمام حول الإشارات المحددة لأحداث العالم المقبلة، "إنه يتضمنُ نبوءات تهز الدنيا، فمعركة هرمَجدون (وادي مجيدون) في موقعها، ويمكن أن تقع في أي وقت لتحقيق نبوءة حزقيال، إنها على استعداد لأن تحدث، فالولايات المتحدة تقعُ في هذا المقطع من نبوءة حزقيال، ونحن على استعداد".
ومن أجل فهم هذه العقيدة التي تُشكل العقل السياسي الأميركي المعاصر، سافرت هالسل عدة مرات إلى وادي مجيدو، الذي يقع في شمال فلسطين المحتلة اليوم، ضمن أفواج دينية من اليمينيين الجدد ممن كان الرعاة الإسرائيليون يستقبلونهم فيها استقبالا لائقا، وقد تعرفت في تلك الأفواج على العديد من المواطنين الأميركيين الذين يبدون "عاديين" ولكنهم في الوقت ذاته مشبعين بنبوءات الكتاب المقدس ومتحمسين لها.
غريس هالسل صحفية أميركية عملت كاتبة مع الرئيس الأميركي الأسبق ليندون جونسون (جامعة تكساس كريستيان)ووفقا لهذه النبوءة فإن نزول المسيح لتخليص العالم في نهاية الزمان لن يحدث إلا في ظل معركة هرمجدون، ولن تحدث هذه المعركة التي يعتقد بعضهم أن المسيح عليه السلام سيقودها، حيث سيُقتل فيها نحو 200 مليون إنسان إلا بعد عودة اليهود إلى فلسطين وإنشاء دولتهم القومية، وستكون شرارتها بناء الهيكل على أطلال المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة، ذلك أن المسلمين لن يقفوا صامتين أمام هذه الأحداث.
وقد لاحظت غريس أن السبب الرئيسي الذي أدى إلى الانتشار القوي لهذه الأفكار في القرنين الأخيرين يكمن في ظهور الحركة المسيحية الإنجيلية القدرية "الجبرية"، وهي الحركة التي فسرت أحداث العالم تفسيرا قدريا جبريا يريده الرب ويأمر به.
وكان ظهور ذروة هذه الأفكار على يد القسيس الأميركي الإنجيلي سايروس سكوفيلد عام 1921 الذي أدخل تأويلاته وملاحظاته على الكتاب المقدس فخرج باسم "الإنجيل المرجع"، وأصبح هذا الإنجيل منذ عام 1909 واحدا من أكثر الأناجيل مبيعا في العالم، وفيه رأى أن أحداث نهاية العالم كلها تتمحور حول "إعادة إسرائيل إلى الوجود، فعلى اليهود أن يفعلوا ما يجب أن يفعلوه حتى يعود المسيح".
سايروس سكوفيلد أدخل تأويلاته وملاحظاته على الكتاب المقدس فخرج باسم "الإنجيل المرجع" (مواقع التواصل)وإذا نظرنا إلى الأدبيات اليهودية التي تسربت إلى العقيدة الإنجيلية البروتستانتية فسنجد أنها تركزت على 3 نقاط أساسية، تعد هي الأسس التي قامت عليها "الصهيونية المسيحية اليهودية" في وقتنا الحاضر، وهي:
أن اليهود شعب الله المختار وأنهم يكونون بذلك الأمة المفضلة على كل الأمم. وأن ثمة ميثاقا إلهيا يربط اليهود بالأرض المقدسة في فلسطين وهو ميثاق سرمدي أبدي. وربط الإيمان المسيحي بعودة السيد المسيح، وعودته لن تتم إلا بقيام دولة إسرائيل، أي بتجميع اليهود في فلسطين. الصهيونية المسيحية اليهوديةيؤرخ أستاذ الدراسات الدينية والأميركية "بول ميركلي" في كتابه "الصهيونية المسيحية 1891-1948" أولَ لقاء جمع بين ممثلي الفريقين الأكثر شهرة في عام 1896، أي بين مؤسس الحركة الصهيونية اليهودي النمساوي ثيودور هرتزل والقس الإنجيلكاني البريطاني الألماني الأصل وليام هنري هتشلر، قسيس السفارة البريطانية في فيينا.
لقد قابل هتشلر هرتزل لأول مرة في مارس/آذار من ذلك العام، وقدم إليه نفسه بطريقة غريبة حين قال: "ها أنذا" فرد عليه هرتزل: "يمكنني أن أرى ذلك، ولكن من أنت؟" رد هتشلر على النحو التالي: "ستُصاب بالحيرة إذا علمت أنني تنبأت منذ زمن طويل يعود إلى عام 1882 بمجيئك إلى أمير بادِن (في ألمانيا)، وها أنذا الآن مُقبل على مساعدتك".
ويليام هنري هِتشلر (يمين) وثيودور هرتزل (وكالات)لقد تأثر هرتزل بهذا القسيس الإنجيلكاني، بأسلوبه وحديثه، وبعلاقاته القوية بالأمراء الألمان لأنه كان أستاذا لأمير بادن وأبنائه، ومن ثم فهو مَن سيفتح له الأبواب المغلقة للوصول إليهم، ووصوله إليهم سيمكنه من إقناعهم، وهم (أي الألمان) حلفاء العثمانيين المسيطرين على فلسطين.
لقد زار هرتزل فيما بعد القس هتشلر في بيته، ورأى منه حماسة منقطعة النظير في عودة اليهود إلى الأرض المقدسة، كتب هرتزل يقول: "أمس الأحد بعد الظهر زرتُ القس هتشلر.. الغرفة التي دخلتُها (في بيته) كانت جدرانها مغطاة بالكتُب من الأرض إلى السقف، لا شيء إلا كتب "الأناجيل".
يكمل هرتزل قوله "وقد أطلعني السيد هتشلر على كُنوزه الكتابية وخريطة فلسطين آخر الأمر، إنها خريطة أركان عسكرية كبيرة مؤلفة من 4 قطع غطت أرضية الغرفة كلها عندما نُشرت، دلني على المكان الذي يجبُ أن يقعَ فيه هيكلنا الجديد وفقا لحساباته، إنه موقع بيت إيل، لأنه مركز البلاد، أطلعني أيضا على نماذج الهيكل القديم قائلا: لقد أعددنا الأرضَ لكم".
يرى بول ميركلي أن هذا اللقاء يُعد الأساس المبكر لنشأة وتحالف الصهيونية اليهودية المسيحية المعاصرة في الأعوام الأخيرة من القرن الـ19، وهو لقاء كان له ما بعده، فقد تأثر كبار الساسة البريطانيين ثم الأميركيين فيما بعد بهذه الأفكار وسعوا لتطبيقها، وقد رأينا دعم بريطانيا لهجرة اليهود إلى فلسطين ومدهم بالسلاح والعتاد طوال سنوات احتلالهم منذ 1917 وإلى عام 1948 وما بعدها.
نتنياهو: كان هناك شوق قديم للعودة إلى أرض إسرائيل، وهذا الحلم تفجر من خلال المسيحيين الصهيونيين (أسوشيتد برس)حتى إن رئيس وزراء إسرائيل الحالي بنيامين نتنياهو ألقى خطابا في فبراير/شباط عام 1985، وكان سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة وقتها، يعترف فيه بهذه الحقيقة قائلا: "إن كتابات المسيحيين الصهيونيين من الإنجليز والأميركيين أثرت بصورة مباشرة على تفكير قادة تاريخيين مثل لويد جورج (رئيس الوزراء البريطاني) وآرثر بلفور (وزير الخارجية البريطاني) وودرو ويلسون (الرئيس الأميركي) في مطلع هذا القرن (القرن العشرين)".
يسترسل نتنياهو "إن حلم اللقاء العظيم أضاء شعلة خيال هؤلاء الرجال الذين لعبوا دورا رئيسيا في إرساء القواعد السياسية والدولية لإحياء الدولة اليهودية.. لقد كان هناك شوق قديم في تقاليدنا اليهودية للعودة إلى أرض إسرائيل، وهذا الحلم الذي يراودنا منذ 2000 سنة تفجرَ من خلال المسيحيين الصهيونيين".
رؤساء وقساوسة أميركيون في خدمة الصهيونيةترصد هالسل في كتابها "النبوءة والسياسة" مدى تغلغل النبوءات التوراتية المتعلقة بيأجوج ومأجوج وتفسيرها عند الإنجيليين المعاصرين بأنها "روسيا"، و"معركة هرمَجدون" التي ستقع في وادي مجدون شمال فلسطين المحتلة بقيادة المسيح ضد أعدائه، وكذلك مفهوم "أعداء الرب" أو "أعداء إسرائيل" وغيرها من المصطلحات الدينية الأخرى لدى النخبة السياسية الأميركية، وعلى رأسهم الرؤساء جيمي كارتر ورونالد ريغان وجورج بوش الأب وكلينتون وغيرهم.
(مواقع التواصل الاجتماعي)على سبيل المثال، في وقت مبكر من عام 1986 بعد حادثة تفجير طائرة ركاب أميركية فوق قرية لوكيربي الأسكتلندية وضلوع نظام الزعيم الليبي الراحل مُعمر القذافي في ذلك الحين، تقول هالسل: "أصبحت ليبيا العدو الدولي رقم واحد لرونالد ريغان.. كره ريغان ليبيا لأنه رآها واحدة من أعداء إسرائيل الذين ذكرتهم النبوءات وبالتالي فإنها هي عدو لله".
وكما تروي هالسل نقلا عن الرئيس الأسبق لمجلس الشيوخ في ولاية كالفورنيا جايمس ميلز أنه جمعه لقاء برونالد ريغان في عام 1971م قبل أن يصبح رئيسا للولايات المتحدة، "بدأ ريغان فجأة يتحدث إلى ميلز حول النبوءات الإنجيلية، وحول حتمية مقاتلتنا للاتحاد السوفيتي (يأجوج ومأجوج) في الكتاب المقدس".
ويذكر ميلز هذا الحادث في عدد أغسطس/آب 1985 من مجلة سان دييغو ويقول: "إن ريغان أخبره بتأكيد جازم: في الفصل 38 من إصحاح حزقيال هناك نص يقول إن أرض إسرائيل سوف تتعرض إلى هجوم تشنه عليها جيوش تابعة إلى دول لا تؤمن بالله. وتقول إن ليبيا ستكون من بينهم، هل تفهم ماذا يعني ذلك؟ لقد أصبحت ليبيا الآن شيوعية وهذا مؤشر إلى أن يوم هرمَجَدون ليس ببعيد".
وتشير هالسل أيضا إلى أنه في بعض خطابات الرئيس الأميركي جيمي كارتر سنجدُ التأثر نفسه بالنبوءات التي آمن بها ريغان من بعده حين يقول: "يعني خلق إسرائيل عام 1948 العودة أخيرا إلى أرض الميعاد التي أُخرج منها اليهود منذ مئات السنين، إن إقامة الأمة الإسرائيلية هو تحقيق للنبوءة التوراتية والتنفيذ الجوهري لها".
وترصد هالسل في كتابها الآخر "يد الله" أبرز الجماعات المسيحية اليمينية الإنجيلية في الولايات المتحدة ومظاهر تأييدها لإسرائيل ماليا وخطابيا وسياسيا، واللوبي القوي الذي أنشأته مع إسرائيل ويهود أميركا.
وترى أن العلاقات التي جمعت بين الطرفين كانت تزداد متانة بمرور الزمن، وقد برز ذلك في اللقاءات الكنسية والتلفزيونية الأسبوعية التي كان يقيمها أشهر القساوسة الأميركيين في ذلك الوقت، وكان على رأسهم جيري فالويل عام 2007 الذي أهدى له الإسرائيليون طائرة نفاثة في سبعينيات القرن الماضي، واستضافوه في الجولان وأنشؤوا غابة باسمه فيها.
في الكتاب ترصد هالسل تنظيمات الجماعات المسيحية اليمينية الإنجيلية التي تغلغلت في الانتخابات الأميركية المختلفة (مواقع التواصل)وتوضح هالسل أن فالويل كان في المقابل يدعمهم بصورة مطلقة بخطاباته وكتبه بل وجمع التبرعات لهم، وأصبح دوره كبيرا لدرجة أن رؤساء الوزراء الإسرائيليين، مثل نتنياهو، كانوا يحرصون على زيارته كلما زاروا الولايات المتحدة.
كما ترصد الكاتبة تنظيماتهم السياسية التي تغلغلت في الانتخابات الأميركية المختلفة في السنوات الأخيرة، وتخلص في النهاية إلى أن النبوءات التوراتية أصبحت تطغى على قضية "المسيح" ومركزيته في الفكر المسيحي "القدري/الجبري" الذي بات يهيمن على المشهد الأميركي السياسي والديني.
مما سبق يمكننا فهم سؤال مقالنا عن الأسباب الكامنة التي تجعل نخبة الولايات المتحدة السياسية تتغاضى عن مصالحها الحيوية في الشرق الأوسط من أجل دعم إسرائيل دعما مطلقا، والحق أن هذه الإجابة لا تقف عند الأبعاد الكامنة في العلاقة الدينية الوثيقة التي جمعت الصهيونية المسيحية بالصهيونية اليهودية كما رأينا، وإنما تجمعها أيضا التقاء المصالح السياسية والإستراتيجية والاقتصادية والتاريخية وهي أمور لا يمكن التغاضي عنها.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات الولایات المتحدة الرئیس الأمیرکی جامعة کولومبیا مواقع التواصل الکتاب المقدس ملیار دولار إلى إسرائیل مجلس النواب التی کان عام 1948 من أجل التی ت فی عام
إقرأ أيضاً:
ما ملامح الإستراتيجية التركية في سوريا؟
في الثاني عشر من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، ظهر رئيس الاستخبارات التركية، إبراهيم كالن في المسجد الأموي بالعاصمة السورية، دمشق، وذلك بعد أربعة أيام فقط من سقوط نظام الرئيس السوري السابق، بشار الأسد.
لم يكتفِ كالن بالصلاة، بل تجول في شوارع دمشق في سيارة يقودها القائد العام للإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، وسط ترحاب من جموع السوريين الموجودين في المكان.
رسالة أنقرة الواضحة من المشهد، أن تركيا لن تترك سوريا بمفردها في مرحلة التحول الحالية، والتي غالبًا ما يعتريها الاضطرابات، كشأن مراحل التحول في العالم وخاصة العنيفة منها.
في موازاة ذلك جاءت تصريحات كبار المسؤولين الأتراك، سريعة وكاشفة لملامح الإستراتيجية التركية المقبلة في سوريا.
لكن قبل محاولة استشفاف ملامح تلك الإستراتيجية، ينبغي معرفة أهمية سوريا الجيوستراتيجية بالنسبة إلى تركيا.
ماذا تعني سوريا لتركيا؟لا يمكن فهم طبيعة علاقة الروابط التي تربط البلدَين، دون استحضار المقاربة التاريخية، لتفسير الروابط الجيوسياسية والجيوستراتيجية والجيوثقافية العميقة التي جمعتهما منذ عهد الدولة العثمانية.
ورغم انهيار الدولة العثمانية، وظهور وحدات سياسية جديدة على أنقاضها، فإن سوريا احتفظت بذات الأهمية بالنسبة إلى تركيا، فهي المعبر السياسي والاقتصادي إلى العراق والجزيرة العربية واليمن، وكلها مناطق ترتبط بتاريخ ومصالح مشتركة مع تركيا.
إعلانكما ترتبط الدولتان بحدود مشتركة تصل إلى 900 كيلومتر، مثّلت مشكلة أمنية متفاقمة لتركيا، خاصة بعد ظهور تنظيم حزب العمال الكردستاني "PKK"، واحتضان نظام الأسد الأب له رعايةً وتدريبًا.
ومع الفوضى التي ضربت سوريا – تزامنًا مع المواجهات المسلحة بين فصائل الثورة ونظام بشار الأسد – تحوّلت الأراضي السورية إلى خطر أمني متفاقم بالنسبة لتركيا، وتهديد جِدّي لوَحدة وسلامة أراضيها، مع تصاعد خطر إنشاء كيان انفصالي في شمال سوريا، في محاذاة الحدود الجنوبية لتركيا.
لكن انهيار نظام الأسد، منح تركيا – حسب وصف الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب – فرصة تملك المفاتيح في سوريا، فكان لزامًا عليها انتهاز الفرصة وبناء إستراتيجية واعية وفعالة، تعالج من خلالها الأزمات التي عانت منها خاصة في العقد الأخير.
سوريا الموحدةفكما وقفت تركيا حجر عثرة أمام تقسيم سوريا خلال السنوات الماضية، فإن إستراتيجيتها المستقبلية، ستعمل على سد جميع المنافذ التي يمكن أن تكون سببًا في تهديد وحدة الأراضي السورية.
فالرئيس رجب طيب أردوغان – وخلال اجتماع موسع لرؤساء فروع حزب العدالة والتنمية يوم 10 ديسمبر/ كانون الأول الجاري – قال: "من الآن فصاعدًا لا يمكن أن نسمح بتقسيم سوريا مرة أخرى، ولا يمكن أن نوافق على أن تصبح مجددًا ساحة صراع".
فالحالة السورية قابلة للتشظي والانفجار؛ نظرًا للتنوعات المذهبية والإثنية، التي قد تحاول بعض القوى الدولية والإقليمية، استغلالها لضرب تماسك الدولة، خاصة أن الخبرة السورية تمتلك نموذجين في هذا الصدد، الأول خلال القرن الماضي، عندما سعت فرنسا منذ احتلال سوريا عام 1920 إلى استخدام الأقليات، لإحداث شروخ جيوستراتيجية هائلة في المنطقة، إذ عمدت إلى تأسيس ما عرف بـ "دولة جبل العلويين" في منطقة الساحل، قبل فشلها.
لكن مع استيلاء حافظ الأسد على الحكم عام 1970 بانقلاب عسكري، اصطبغت سوريا بالصبغة الطائفية الأقلوية، التي لم تتردد عن ارتكاب مجازر للحفاظ على هيمنتها.
إعلانالنموذج الثاني قادته الولايات المتحدة، بدعمها حزب العمال وفروعه في سوريا، من أجل إنشاء كيان انفصالي ذي صبغة ماركسية لينينية، مستغلةً في ذلك الوجود الكردي كعرقية أصيلة من مكونات الشعب السوري!
كل هذه المشاريع الأقلوية والانفصالية، ألقت بتداعياتها الثقيلة على الداخل التركي، وكلفت أنقرة مواجهات دامية على مدار عقود، واضطرابات سياسية، فكان لا بد من العمل الآن على منع تكرار ذلك.
وهذا ما دفع وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، إلى التعبير عن رغبته في رؤية سوريا "لا تتعرض فيها الأقليات لسوء المعاملة، بل ويتم تلبية متطلباتهم الأساسية".
فيما أكد الرئيس أردوغان خلال لقائه في أنقرة، رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، اتفاقه معها على ضرورة إنشاء إدارة تشاركية في سوريا، وذلك للحفاظ على وحدة أراضيها.
فتركيا تدرك أن التعامل الصحيح مع هذا التنوع داخل سوريا، ليس بتجاهله بل بالاعتراف به، ومن ثم إقامة حوار مجتمعي بنّاء يضمن تأسيس نموذج رشيد للحكم يحتوي الجميع من خلال تشاركية حقيقية، تحترم الهويات الخاصة بكل طائفة أو عرقية؛ بغية خلق مجتمع متسامح.
مواجهة الإرهابفي لقائه برئيسة المفوضية الأوروبية – المشار إليه آنفًا – أكد أردوغان عدم سماح تركيا بوجود أي تنظيمات إرهابية، مثل: حزب العمال، أو تنظيم الدولة الإسلامية على حدودها.
فهذه الفرصة التي لم تتح لتركيا منذ عقود، لن تتركها تتفلت من يدها، خاصة أنها خبرت جيدًا الوعود الأميركية والروسية على حد سواء بشأن إبعاد التنظيمات الإرهابية عن حدودها، لكن لم تفِ أي منهما بوعودها.
وجهة النظر التركية الأشد صرامة ووضوحًا عبّر عنها وزير الخارجية، هاكان فيدان، في لقاء متلفز، حيث أعلن ما يمكن اعتباره خريطة طريق للتعامل مع تنظيم حزب العمال "PKK"، وفرعه السوري وحدات الحماية "YPG"، وقوات سوريا الديمقراطية "قسد" أهم ما جاء فيها:
إعلان إعلان تدمير تنظيم حزب العمال هدفًا إستراتيجيًا لتركيا في سوريا. مطالبة كامل مستوى قيادة حزب العمال، ووحدات الحماية، بمغادرة سوريا، حتى ولو كانوا من أبنائها. وجوب مغادرة كل مقاتل أجنبي انضوى في صفوف التنظيم وقاتل معه الأراضي السورية فورًا. بالنسبة للعناصر المتبقية من دون مستوى القيادات، فيجب عليهم إلقاء السلاح ومواصلة الحياة من خلال التفاهم مع إدارة سوريا الجديدة.أما على المستوى الميداني، فحتى كتابة هذه السطور، نجحت قوات الجيش الوطني السوري، في طرد تنظيم وحدات الحماية من مدينتَي، منبج وتل رفعت، ودفعه إلى شرق الفرات، حيث تبسط القوات الأميركية حمايتها على التنظيم!
فيما يتبقى إنهاء وجود تمظهرات التنظيم المختلفة في مدينة عين العرب "كوباني"، وبقية محافظة دير الزور شرق الفرات، والرقة، إضافة إلى محافظة الحسكة.
وتحرير هذه المناطق يحتاج إلى تفاهمات واسعة بين تركيا والولايات المتحدة منعًا لتأزم العلاقات، وفي تقديري أنه مع استلام ترامب إدارة البلاد رسميًا فإنه يمكن التوصل إلى تلك التفاهمات، خاصة مع رحيل بعض الشخصيات من الإدارة الحالية، المعروف عنها دعمُها اللامحدود لتنظيم حزب العمال، وعداؤُها لتركيا، وأبرزهم مستشار البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط، بريت ماكغورك.
إعادة الإعماريعد ملف إعادة الإعمار من الملفات التي توليها أنقرة عناية فائقة، حيث أكد أردوغان أن تركيا " ستقف إلى جانب سوريا حتى تقف على قدميها مجددًا" وتشير التقديرات إلى أن فاتورة إعادة الإعمار قد تصل إلى 300 مليار دولار.
هذه الفاتورة لا يمكن لسوريا أن تتحملها بمفردها وتحتاج إلى دعم إقليمي ودولي من أجل رفع العقوبات الدولية المفروضة ضد نظام الأسد، والتي لم يعد لها معنى بعد إسقاطه، إضافة إلى مساهمة المجتمع الدولي في دعم إعادة الإعمار.
وهنا يأتي دور الدبلوماسية التركية، والتي تلعب دورًا ملحوظًا في هذا الصدد، حيث تعمل على دفع الحكومة الانتقالية في دمشق إلى تبنّي سياسات مرنة ومتسامحة، تطمئن المجتمع الدولي، فيما تواصل اتصالاتها ومشاركاتها الفعّالة لحمل الدول الغربية على الاعتراف بنظام الحكم الجديد في دمشق.
إعلانومن المهم التأكيد هنا على أن ملف إعادة الإعمار لا يمثل لدى تركيا أهمية اقتصادية فقط، بل يسبق ذلك الآثار الجيوستراتيجية والأمنية المرتقبة لعودة ملايين النازحين واللاجئين إلى قراهم وبلداتهم.
إذ ستشكل عودة هؤلاء نهاية لمشروع التطهير الديمغرافي والطائفي الذي شهدته سوريا في السنوات الماضية لصالح مشاريع انفصالية ومذهبية كان يراد منها تغيير هوية الدولة والعبث بجغرافيتها.
وختامًا:
فإن آفاق التعاون المستقبلية بين الدولتين ستتعاظم خلال المرحلة المقبلة، لإعادة تأهيل الدولة خاصة في القطاعات التي تم تدميرها تمامًا، وفي مقدمتها الجيش، حيث أعلن وزير الدفاع، يشار غولر، استعداد تركيا لتقديم الدعم والتدريب العسكري اللازم، إذا طلبت الحكومة الانتقالية ذلك.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية