على مدار اليومين الماضيين خرج العديد من التصريحات اللافتة من بعض كبار الساسة الأميركيين، منهم رئيس مجلس النواب مايك جونسون الذي قال في تصريح صحفي: "إسرائيل حليف حيوي لنا، أعتقد أن معظم الناس يتفهمون ضرورة هذا التمويل (26 مليار دولار لإسرائيل) إنهم يقاتلون من أجل وجودهم.. بالنسبة لنا نحن المؤمنين هناك توجيه في الإنجيل بأن نقف إلى جانب إسرائيل، وسنفعل ذلك بلا ريب وسينتصرون طالما كنا معهم".

رئيس مجلس النواب الأميركي يعتبر مساندة "إسرائيل" واجبا دينيا.. هذا ما قاله pic.twitter.com/xvOCQNsJfU

— شبكة رصد (@RassdNewsN) April 22, 2024

لم يكن هذا التصريح الذي يربط السياسة الأميركية تجاه إسرائيل بالعقيدة المسيحية البروتستانتية كما أمر بها الإنجيل -وفق اعتقادهم- هو الأول من نوعه هذه الأيام، فبالتزامن مع ذلك استجوبَ عضو مجلس النواب الأميركي عن الحزب الجمهوري ريك دبليو. ألين رئيسة جامعة كولومبيا ذات الأصول المصرية نعمت شفيق.

بدا "ألين" جادا للغاية حين سألَ نعمت: "لماذا لا تدعم جامعة كولومبيا إسرائيل بشكل كاف؟ لنكن واضحين هذا ميثاق قطعه الرب مع النبي إبراهيم وهذا الوعد واضح للغاية: إذا باركتَ إسرائيل سأباركُك، وإذا لعنتَ إسرائيل سألعنك".

وأضاف "وفي العهد الجديد (الإنجيل) تم التأكيد على أن جميع الأمم ستكون مباركة من خلالك. لذا ألم تكوني تعلمين بهذا؟ رئيسة الجامعة: سمعته من قبل ولكن تم شرحه الآن بشكل أفضل. هو: جيد أن ذلك يبدو مألوفا لديكِ. هل تُريدين أن تكون جامعة كولومبيا ملعونة من رب الإنجيل؟" فأجابت: "بالقطع لا".

لايفوتكم الحماقة واحد اسمه "ريك ألين" عضو مجلس النواب الأمريكي أثناء جلسة إستدعاء مع رئيسة جامعة كولومبيا، قال: "لماذا الجامعة لا تدعم اسرائيل بشكل كافي؟"

هو ميثاق قطعه الله لإبراهيم لمباركة اسرائيل، هل تريدين أن يلعن الرب جامعة كولومبيا بسبب عدم دعمها لإسرائيل؟ ????????‍♂️

*يحرّفون كُل… pic.twitter.com/bu2Pn3jjHX

— عـبدالله الخريّف (@AbdullahK5) April 21, 2024

يبدو المتابع لهذه التصريحات التي تربط السياسة الأميركية تجاه إسرائيل والمنحازة لها بتعاليم الإنجيل على لسان أهم وأكبر النخب السياسية الأميركية أمرا غريبا صادرا من قلعة العلمانية والرأسمالية العالمية، ويثير كثيرا من الأسئلة أكثر مما يُعطي من الإجابات القاطعة حول فهم هذه العلاقة الراسخة بين الولايات المتحدة وإسرائيل.

عودة للجذور

لقد كتب يوما ريتشارد كورتيز، وهو موظف متقاعد من وزارة الخارجية الأميركية ورئيس تحرير "تقرير واشنطن عن شؤون الشرق الأوسط"، عن قيمة المساعدات الأميركية الرسمية وغير الرسمية التي دفعتها أميركا إلى إسرائيل منذ عام 1948 وحتى 1995م، قائلا: "نحن دافعي الضرائب نقدم إلى دولة إسرائيل الصغيرة أكثر من 6 مليارات دولار كمساعدات خارجية وعسكرية في العام".

 يكمل كورتيز "وخلال 46 سنة خلت قدم دافعو الضرائب في الولايات المتحدة إلى إسرائيل ما مجموعه 62.5 مليار دولار، هذا يعني أننا أعطينا واحدة من أصغر دول العالم من المساعدات المالية بقدر ما قدمناه إلى دول جنوب الصحراء الأفريقية وأميركا اللاتينية والبحر الكاريبي مجتمعة، فإن مجموع المساعدات إلى هذه الدول تُقدر بحوالي 40 دولارا عن الشخص الواحد، في حين تساوي المساعدات إلى إسرائيل 10 آلاف و775 دولارا عن الشخص الواحد".

منذ عام 1948 وحتى 1995م قدمت أميركا لإسرائيل مساعدات بقيمة 83 مليار دولار (مواقع التواصل)

لم يذكر كورتيز هذا فقط، بل أكد أن هناك جهات أميركية أهلية ومسيحية أخرى تقدم هبات إلى إسرائيل غير خاضعة للضرائب، بحيث يصل مجموع الأموال إلى ما يعادل 83 مليار دولار في الفترة ما بين 1948 وحتى عام 1995، أي ما يعادل أكثر من 14 ألف دولار سنويا من أميركا لكل شخص إسرائيلي.

وبسبب هذا الدعم الضخم المالي والمعنوي من بريطانيا والولايات المتحدة لإسرائيل، وأمام أدلة وبراهين لا تكاد تخطئها عين المراقب تساءلت الصحفية الأميركية غريس هالسل، التي عملت كاتبة مع الرئيس الأميركي الأسبق ليندون جونسون في الستينيات بالبيت الأبيض، عن السر الذي يدفع بلدها إلى التضحية بمصالحها الإستراتيجية إلى هذا الحد من أجل إسرائيل؟

ومن أجل الإجابة عن هذا السؤال بصورة أعمق، وأمام الأدلة المتتابعة التي شاهدتها غريس بنفسها، قررت أن تبحث وتقرأ وتسافر وتلتقي بكل من لديه إجابة على استفساراتها، وقد تمخضت هذه الرحلة الطويلة عن كتابيها: "النبوءة والسياسة، الإنجيليون العسكريون في الطريق إلى الحرب النووية" و"يد الله، لماذا تُضحي الولايات المتحدة بمصالحها من أجل إسرائيل؟" وهما عملان مهمان يكشفان لنا جانبا أساسيا من جوانب اندفاع العقل الأميركي الإستراتيجي ناحية إسرائيل بكل حماسة، بل بعمى إستراتيجي أحيانا.

حتى إن هذا العقل تغاضى عن كثير من جرائم إسرائيل ليس في حق الفلسطينيين والعرب فقط، بل وفي حق أميركا نفسها حين ضربت إسرائيل السفينة الأميركية التجسسية ليبرتي التي كانت راسية في شرق البحر المتوسط أثناء حرب 1967، ومقتل 34 بحارا أميركيا على متنها حتى تحُقق أهدافها كاملة في احتلال سيناء والجولان والضفة الغربية وغزة في سرعة خاطفة، وقد صمتَ الساسة الأميركيون وعلى رأسهم الرئيس جونسون عن هذه الجريمة وابتلعوها.

سر الأسرار

تعود الأسباب الرئيسية إلى العلاقة الثورية التي جاءت بها حركة الإصلاح الديني في القرن الـ16 في قلب المسيحية الكاثوليكية في أوروبا، حين وقف القسيس الألماني مارتن لوثر في وجه البابوية في روما داعيا إلى حركة إصلاح عميقة وثورية في وجه تغول الكنيسة سياسيا ولاهوتيا، لا سيما مع احتكارها لفهم النص المقدس، وعدم قبولها بترجمته أو تأويله إلى اللغات المحلية الأوروبية، ثم بالممارسات التي لا تتطابق مع روح الكتاب المقدس وعلى رأسها غفران الخطايا مقابل صكوك مالية.

وكان الكتاب الذي ألفه مارتن لوثر في عام 1523 وعنوانه "عيسى وُلد يهوديا" بمثابة إعادة لاعتبار التراث اليهودي في المسيحية بعد 16 قرنا كان العداء فيها متأصلا بين الفريقين، فقد رأى لوثر أن "الروح القدس أنزل كل أسفار الكتاب المقدس عن طريق اليهود وحدهم.. إن اليهود هم أبناء الله، ونحن الضيوف الغرباء".

ورغم أن لوثر تراجع عن آرائه في هذا الكتاب، فإن الحركة البروتستانتية قد تشبعت بها، لا سيما مع الفرنسي جون كالفن، ومع انتشار هذه الآراء في الجغرافيا الأنجلوساكسونية وتجذرها حتى انفصلت الكنيسة الإنجيلية البريطانية عن روما في عام 1534.

ومع اكتشاف الأميركيتين في نهاية القرن الـ15 والصراع الدامي الذي وقع بين الإنجليز والفرنسيين والإسبان والهولنديين على أميركا الشمالية، ثم السيطرة البريطانية شبه المطلقة على أميركا، أدى ذلك لهجرة البروتستانت بأعداد هائلة تجاه القارة الجديدة التي اتخذوها موطنا، حتى أعلن الأميركيون استقلالهم عن بريطانيا في نهاية القرن الـ18، في حين ظلت العقيدة الدينية واحدة.

الحركة البروتستانتية تشبعت بآراء مارتن لوثر التي كتبها في كتاب"عيسى وُلد يهوديا" (مواقع التواصل)

يصفُ بعض مؤرخي الأديان البروتستانتية بأنها حركة "تهويد واسعة للمسيحية"، لأنهم اعتبروا أن فهم واستيعاب العهد الجديد "الإنجيل" لا يحصلُ دون قراءة وفهم الجذور الموجودة في "العهد القديم" (التوراة)، وذلك على خلاف القراءة المسيحية القديمة قبل عصر الإصلاح التي كانت ترى أن المسيحية وريثة اليهودية وهي الأجدر بحمل الأمانة التي تخلى عنها اليهود حتى صلبوا المسيح وفق اعتقادهم.

وتأخذ غريس هالسل هذا الخيط لتلج منه إلى الأسباب الحقيقية التي جعلت أميركا تتغاضى عن مصالحها الإستراتيجية لصالح إسرائيل إلى هذا الحد الفاضح، فتجدُ الإجابة في سيرتها الذاتية الدينية خاصة التي مرت بها منذ الطفولة وحتى الكبر.

ففي الطفولة كانت تستمعُ إلى المبشِرين وهم يربطون قصص الكتاب المقدس بأعداء الله، وتركيز الإنجيليين خاصة التي كانت تستمعُ لهم باهتمام حول الإشارات المحددة لأحداث العالم المقبلة، "إنه يتضمنُ نبوءات تهز الدنيا، فمعركة هرمَجدون (وادي مجيدون) في موقعها، ويمكن أن تقع في أي وقت لتحقيق نبوءة حزقيال، إنها على استعداد لأن تحدث، فالولايات المتحدة تقعُ في هذا المقطع من نبوءة حزقيال، ونحن على استعداد".

ومن أجل فهم هذه العقيدة التي تُشكل العقل السياسي الأميركي المعاصر، سافرت هالسل عدة مرات إلى وادي مجيدو، الذي يقع في شمال فلسطين المحتلة اليوم، ضمن أفواج دينية من اليمينيين الجدد ممن كان الرعاة الإسرائيليون يستقبلونهم فيها استقبالا لائقا، وقد تعرفت في تلك الأفواج على العديد من المواطنين الأميركيين الذين يبدون "عاديين" ولكنهم في الوقت ذاته مشبعين بنبوءات الكتاب المقدس ومتحمسين لها.

غريس هالسل صحفية أميركية عملت كاتبة مع الرئيس الأميركي الأسبق ليندون جونسون (جامعة تكساس كريستيان)

ووفقا لهذه النبوءة فإن نزول المسيح لتخليص العالم في نهاية الزمان لن يحدث إلا في ظل معركة هرمجدون، ولن تحدث هذه المعركة التي يعتقد بعضهم أن المسيح عليه السلام سيقودها، حيث سيُقتل فيها نحو 200 مليون إنسان إلا بعد عودة اليهود إلى فلسطين وإنشاء دولتهم القومية، وستكون شرارتها بناء الهيكل على أطلال المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة، ذلك أن المسلمين لن يقفوا صامتين أمام هذه الأحداث.

وقد لاحظت غريس أن السبب الرئيسي الذي أدى إلى الانتشار القوي لهذه الأفكار في القرنين الأخيرين يكمن في ظهور الحركة المسيحية الإنجيلية القدرية "الجبرية"، وهي الحركة التي فسرت أحداث العالم تفسيرا قدريا جبريا يريده الرب ويأمر به.

وكان ظهور ذروة هذه الأفكار على يد القسيس الأميركي الإنجيلي سايروس سكوفيلد عام 1921 الذي أدخل تأويلاته وملاحظاته على الكتاب المقدس فخرج باسم "الإنجيل المرجع"، وأصبح هذا الإنجيل منذ عام 1909 واحدا من أكثر الأناجيل مبيعا في العالم، وفيه رأى أن أحداث نهاية العالم كلها تتمحور حول "إعادة إسرائيل إلى الوجود، فعلى اليهود أن يفعلوا ما يجب أن يفعلوه حتى يعود المسيح".

سايروس سكوفيلد أدخل تأويلاته وملاحظاته على الكتاب المقدس فخرج باسم "الإنجيل المرجع" (مواقع التواصل)

وإذا نظرنا إلى الأدبيات اليهودية التي تسربت إلى العقيدة الإنجيلية البروتستانتية فسنجد أنها تركزت على 3 نقاط أساسية، تعد هي الأسس التي قامت عليها "الصهيونية المسيحية اليهودية" في وقتنا الحاضر، وهي:

أن اليهود شعب الله المختار وأنهم يكونون بذلك الأمة المفضلة على كل الأمم. وأن ثمة ميثاقا إلهيا يربط اليهود بالأرض المقدسة في فلسطين وهو ميثاق سرمدي أبدي. وربط الإيمان المسيحي بعودة السيد المسيح، وعودته لن تتم إلا بقيام دولة إسرائيل، أي بتجميع اليهود في فلسطين. الصهيونية المسيحية اليهودية

يؤرخ أستاذ الدراسات الدينية والأميركية "بول ميركلي" في كتابه "الصهيونية المسيحية 1891-1948" أولَ لقاء جمع بين ممثلي الفريقين الأكثر شهرة في عام 1896، أي بين مؤسس الحركة الصهيونية اليهودي النمساوي ثيودور هرتزل والقس الإنجيلكاني البريطاني الألماني الأصل وليام هنري هتشلر، قسيس السفارة البريطانية في فيينا.

لقد قابل هتشلر هرتزل لأول مرة في مارس/آذار من ذلك العام، وقدم إليه نفسه بطريقة غريبة حين قال: "ها أنذا" فرد عليه هرتزل: "يمكنني أن أرى ذلك، ولكن من أنت؟" رد هتشلر على النحو التالي: "ستُصاب بالحيرة إذا علمت أنني تنبأت منذ زمن طويل يعود إلى عام 1882 بمجيئك إلى أمير بادِن (في ألمانيا)، وها أنذا الآن مُقبل على مساعدتك".

ويليام هنري هِتشلر (يمين) وثيودور هرتزل (وكالات)

لقد تأثر هرتزل بهذا القسيس الإنجيلكاني، بأسلوبه وحديثه، وبعلاقاته القوية بالأمراء الألمان لأنه كان أستاذا لأمير بادن وأبنائه، ومن ثم فهو مَن سيفتح له الأبواب المغلقة للوصول إليهم، ووصوله إليهم سيمكنه من إقناعهم، وهم (أي الألمان) حلفاء العثمانيين المسيطرين على فلسطين.

لقد زار هرتزل فيما بعد القس هتشلر في بيته، ورأى منه حماسة منقطعة النظير في عودة اليهود إلى الأرض المقدسة، كتب هرتزل يقول: "أمس الأحد بعد الظهر زرتُ القس هتشلر.. الغرفة التي دخلتُها (في بيته) كانت جدرانها مغطاة بالكتُب من الأرض إلى السقف، لا شيء إلا كتب "الأناجيل".

يكمل هرتزل قوله "وقد أطلعني السيد هتشلر على كُنوزه الكتابية وخريطة فلسطين آخر الأمر، إنها خريطة أركان عسكرية كبيرة مؤلفة من 4 قطع غطت أرضية الغرفة كلها عندما نُشرت، دلني على المكان الذي يجبُ أن يقعَ فيه هيكلنا الجديد وفقا لحساباته، إنه موقع بيت إيل، لأنه مركز البلاد، أطلعني أيضا على نماذج الهيكل القديم قائلا: لقد أعددنا الأرضَ لكم".

يرى بول ميركلي أن هذا اللقاء يُعد الأساس المبكر لنشأة وتحالف الصهيونية اليهودية المسيحية المعاصرة في الأعوام الأخيرة من القرن الـ19، وهو لقاء كان له ما بعده، فقد تأثر كبار الساسة البريطانيين ثم الأميركيين فيما بعد بهذه الأفكار وسعوا لتطبيقها، وقد رأينا دعم بريطانيا لهجرة اليهود إلى فلسطين ومدهم بالسلاح والعتاد طوال سنوات احتلالهم منذ 1917 وإلى عام 1948 وما بعدها.

نتنياهو: كان هناك شوق قديم للعودة إلى أرض إسرائيل، وهذا الحلم تفجر من خلال المسيحيين الصهيونيين (أسوشيتد برس)

حتى إن رئيس وزراء إسرائيل الحالي بنيامين نتنياهو ألقى خطابا في فبراير/شباط عام 1985، وكان سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة وقتها، يعترف فيه بهذه الحقيقة قائلا: "إن كتابات المسيحيين الصهيونيين من الإنجليز والأميركيين أثرت بصورة مباشرة على تفكير قادة تاريخيين مثل لويد جورج (رئيس الوزراء البريطاني) وآرثر بلفور (وزير الخارجية البريطاني) وودرو ويلسون (الرئيس الأميركي) في مطلع هذا القرن (القرن العشرين)".

يسترسل نتنياهو "إن حلم اللقاء العظيم أضاء شعلة خيال هؤلاء الرجال الذين لعبوا دورا رئيسيا في إرساء القواعد السياسية والدولية لإحياء الدولة اليهودية.. لقد كان هناك شوق قديم في تقاليدنا اليهودية للعودة إلى أرض إسرائيل، وهذا الحلم الذي يراودنا منذ 2000 سنة تفجرَ من خلال المسيحيين الصهيونيين".

رؤساء وقساوسة أميركيون في خدمة الصهيونية

ترصد هالسل في كتابها "النبوءة والسياسة" مدى تغلغل النبوءات التوراتية المتعلقة بيأجوج ومأجوج وتفسيرها عند الإنجيليين المعاصرين بأنها "روسيا"، و"معركة هرمَجدون" التي ستقع في وادي مجدون شمال فلسطين المحتلة بقيادة المسيح ضد أعدائه، وكذلك مفهوم "أعداء الرب" أو "أعداء إسرائيل" وغيرها من المصطلحات الدينية الأخرى لدى النخبة السياسية الأميركية، وعلى رأسهم الرؤساء جيمي كارتر ورونالد ريغان وجورج بوش الأب وكلينتون وغيرهم.

(مواقع التواصل الاجتماعي)

على سبيل المثال، في وقت مبكر من عام 1986 بعد حادثة تفجير طائرة ركاب أميركية فوق قرية لوكيربي الأسكتلندية وضلوع نظام الزعيم الليبي الراحل مُعمر القذافي في ذلك الحين، تقول هالسل: "أصبحت ليبيا العدو الدولي رقم واحد لرونالد ريغان.. كره ريغان ليبيا لأنه رآها واحدة من أعداء إسرائيل الذين ذكرتهم النبوءات وبالتالي فإنها هي عدو لله".

وكما تروي هالسل نقلا عن الرئيس الأسبق لمجلس الشيوخ في ولاية كالفورنيا جايمس ميلز أنه جمعه لقاء برونالد ريغان في عام 1971م قبل أن يصبح رئيسا للولايات المتحدة، "بدأ ريغان فجأة يتحدث إلى ميلز حول النبوءات الإنجيلية، وحول حتمية مقاتلتنا للاتحاد السوفيتي (يأجوج ومأجوج) في الكتاب المقدس".

ويذكر ميلز هذا الحادث في عدد أغسطس/آب 1985 من مجلة سان دييغو ويقول: "إن ريغان أخبره بتأكيد جازم: في الفصل 38 من إصحاح حزقيال هناك نص يقول إن أرض إسرائيل سوف تتعرض إلى هجوم تشنه عليها جيوش تابعة إلى دول لا تؤمن بالله. وتقول إن ليبيا ستكون من بينهم، هل تفهم ماذا يعني ذلك؟ لقد أصبحت ليبيا الآن شيوعية وهذا مؤشر إلى أن يوم هرمَجَدون ليس ببعيد".

وتشير هالسل أيضا إلى أنه في بعض خطابات الرئيس الأميركي جيمي كارتر سنجدُ التأثر نفسه بالنبوءات التي آمن بها ريغان من بعده حين يقول: "يعني خلق إسرائيل عام 1948 العودة أخيرا إلى أرض الميعاد التي أُخرج منها اليهود منذ مئات السنين، إن إقامة الأمة الإسرائيلية هو تحقيق للنبوءة التوراتية والتنفيذ الجوهري لها".

وترصد هالسل في كتابها الآخر "يد الله" أبرز الجماعات المسيحية اليمينية الإنجيلية في الولايات المتحدة ومظاهر تأييدها لإسرائيل ماليا وخطابيا وسياسيا، واللوبي القوي الذي أنشأته مع إسرائيل ويهود أميركا.

وترى أن العلاقات التي جمعت بين الطرفين كانت تزداد متانة بمرور الزمن، وقد برز ذلك في اللقاءات الكنسية والتلفزيونية الأسبوعية التي كان يقيمها أشهر القساوسة الأميركيين في ذلك الوقت، وكان على رأسهم جيري فالويل عام 2007 الذي أهدى له الإسرائيليون طائرة نفاثة في سبعينيات القرن الماضي، واستضافوه في الجولان وأنشؤوا غابة باسمه فيها.

في الكتاب ترصد هالسل تنظيمات الجماعات المسيحية اليمينية الإنجيلية التي تغلغلت في الانتخابات الأميركية المختلفة (مواقع التواصل)

وتوضح هالسل أن فالويل كان في المقابل يدعمهم بصورة مطلقة بخطاباته وكتبه بل وجمع التبرعات لهم، وأصبح دوره كبيرا لدرجة أن رؤساء الوزراء الإسرائيليين، مثل نتنياهو، كانوا يحرصون على زيارته كلما زاروا الولايات المتحدة.

كما ترصد الكاتبة تنظيماتهم السياسية التي تغلغلت في الانتخابات الأميركية المختلفة في السنوات الأخيرة، وتخلص في النهاية إلى أن النبوءات التوراتية أصبحت تطغى على قضية "المسيح" ومركزيته في الفكر المسيحي "القدري/الجبري" الذي بات يهيمن على المشهد الأميركي السياسي والديني.

مما سبق يمكننا فهم سؤال مقالنا عن الأسباب الكامنة التي تجعل نخبة الولايات المتحدة السياسية تتغاضى عن مصالحها الحيوية في الشرق الأوسط من أجل دعم إسرائيل دعما مطلقا، والحق أن هذه الإجابة لا تقف عند الأبعاد الكامنة في العلاقة الدينية الوثيقة التي جمعت الصهيونية المسيحية بالصهيونية اليهودية كما رأينا، وإنما تجمعها أيضا التقاء المصالح السياسية والإستراتيجية والاقتصادية والتاريخية وهي أمور لا يمكن التغاضي عنها.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ترجمات حريات الولایات المتحدة الرئیس الأمیرکی جامعة کولومبیا مواقع التواصل الکتاب المقدس ملیار دولار إلى إسرائیل مجلس النواب التی کان عام 1948 من أجل التی ت فی عام

إقرأ أيضاً:

السياسة والعقيدة: بؤس الأيديولوجيا أم بؤس غيابها؟

* أفكر أحيانا في شكل المنحنى البياني الذي يمكن رسمه للأيديولوجيا في المنطقة العربية: لصعودها وأفول نجمها بمرور الزمن. كيف لك أن ترسم منحنى كهذا؟ لا أقصد شيئا معقدا على الإطلاق، أقصد رسما بيانيا كلاسيكيا من النوع الذي يتعرف عليه المرء أواخر المرحلة الابتدائية: محور عمودي يمثل حضور الفكر العقائدي بين الجماهير، ومحور أفقي يحاكي الزمن (منذ خروج الأتراك أوائل القرن الماضي، وحتى هذه اللحظة). سيكون رسما مفيدا يختصر تغيرات هذه القوة ويكثّفها، خصوصا لمن يحبون "رسم" المفاهيم ولا يفهمون الظواهر قبل أن يروها محشورة بين محورين على ورقة بيانية.

* لن تكون النتيجة محل اختلاف كبير لمن يحاولون تخيلها، فالأرجح أن المنحنى المنشود سيكون شكلا مقعرا، عاليا على جنبيه وغائرا في الوسط. أي أنه يعبّر عن بداية قوية للفكر العقائدي، يتلوها ضعف وانحسار، ثم عودة -بعد ذلك- للقوة الأولى. آلاف الأحداث ومئات القضايا وعشرات العقود تنطوي الآن في قوسٍ بسيط ورسمٍ معبّر. بداية المنحنى تحاكي زمن المجد العقائدي والأفكار المؤدلجة الكبرى وتنافس الأحزاب الشهيرة بوقتها (بنكهة قومية-اشتراكية غالبة)، ثم تعقب ذلك سنين الخيبات الحادّة وانهيار المشاريع الكبرى (النكسة وكامب ديفيد والاضمحلال السوفييتي ثم غزو العراق وتدميره). لكن القعر الأقصى كان حتما في الربيع العربي، ليس فقط لفشل هذا الحدث والعدمية السياسية التي ولّدها عند كثيرين بتعثّره، بل بسبب ما رافقه من تنكيل نظري في الفكر العقائدي، وتعميم أدبيات التحول الديمقراطي والليبرالية السياسية (حتى بين إسلاميين كثر).

لقد عاد الفتى الأيديولوجي العاقّ بعد أن تاب و"تمشيخ"، ونفض عن نفسه غبارا كثيرا. ليس القصد عودة حركة بعينها أو تنظيم دون سواه، وإنما عودة الإيمان الواسع بالفكرة العقائدية وقدرتها على التغيير. الأمر ليس ميلادا معجزا من الفراغ ولا انبثاقا بدأ ببيان عسكري للقائد العام أعلن فيه انطلاق طوفان الأقصى. العقائدية الإسلامية (أو أي مسمى آخر لهذه الظاهرة) كانت اللاعب الأثبت -وإن لم تكن الأقوى- في الساحة العربية
* لكن لعل أهم ما في المنحنى هو آخِره، والذي يمكن تأريخه بالسابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، حين انعكست الآية وعادت أسهم الأيديولوجيا لتصعد من جديد. ليس الأمر غريبا، فقد ثبت يومها -بالبرهان العسكري القاطع- أن الإسلام الأيديولوجي قادر على اجتراح اختراقات هائلة، عسكريا وسياسيا على السواء.

* لقد عاد الفتى الأيديولوجي العاقّ بعد أن تاب و"تمشيخ"، ونفض عن نفسه غبارا كثيرا. ليس القصد عودة حركة بعينها أو تنظيم دون سواه، وإنما عودة الإيمان الواسع بالفكرة العقائدية وقدرتها على التغيير. الأمر ليس ميلادا معجزا من الفراغ ولا انبثاقا بدأ ببيان عسكري للقائد العام أعلن فيه انطلاق طوفان الأقصى. العقائدية الإسلامية (أو أي مسمى آخر لهذه الظاهرة) كانت اللاعب الأثبت -وإن لم تكن الأقوى- في الساحة العربية منذ نشوء هذه الساحة، ولولا حضورها ولولا نَفَسها الطويل لما كانت هذه المعركة ممكنة من الأساس. ما صنعه الطوفان هو تصعيد كمّي هائل لقوةٍ كانت تعتمل دوما على الأرض.

* كيفما قلّبت هذا الموضوع، فإن "إسرائيل" في قلبه. أحد المهتمين الأمريكيين بالشأن العقائدي والفكر السياسي (يدعى إريك هوفر) كتب مرة أن الأيديولوجيا لا تحتاج إلها تعبده؛ بقدر ما تحتاج شيطانا تحشد الناس لحربه. من زاوية كهذه، فإن "الشيطان" الذي كانته الدولة اليهودية فريد من نوعه وجليل في قيمته. 74 عاما و"إسرائيل" ترسم -مباشرة وبالمواربة- ملامح النظام الرسمي العربي، وتفرض سقفا علميا وصناعيا على محيطها باستخدام ذراعها العسكرية الطويلة. ورغم هذا كله، بل ربما تحديدا بسببه، فإن "إسرائيل" غربلت -من حيث لم تقصد- كل من تجرؤوا على مواجهتها، سياسيا وعسكريا وفكريا. أمام قوتها العسكرية الماحقة ونفوذها الدولي الهائل، تمايزت صفوف المتقدّمين لقتالها، وتطورت مقارباتهم في محاولة مستمرة لردم فارق القوة أمام كيان هو الغرب الاستعماري بأكمله مركّزا في دولة واحدة. وها نحن اليوم أمام ما وصلته عملية الغربلة هذه، حيث حركات المقاومة الإسلامية تتصدر الصفوف.

* يخطر ببالي تصوير متفلّت لكنه حريٌّ بأن يقال: إن ما جرى في مواجهة "إسرائيل" منذ القرن الماضي وحتى اليوم هو تطور دارويني لصراع العقائد -واللاعقائد- في المنطقة العربية؛ تطورٌ أفضى بالنهاية لانتخابٍ تاريخي وطبيعي لأقدر الأفكار على الصمود والاستمرار: الفكرة الإسلامية. أدرك طبعا أن قراءة الإسلام داروينيا تحمل قدرا من الرعونة وأنها ستكون محط استهجان عند إسلاميين ودراوينيين على السواء، لكن الفكرة الكامنة في كل هذا تبقى جديرة بالاعتبار.

* ما يدركه كثيرون اليوم هو أن مواجهة عربية جادّة لهذا الوحش العسكري يستلزم مزيجا صعبا من الإيمان الغيبي المطلق والتنظيم "الدنيوي" الصارم الذي لا يحتمل الخطأ. قيمة العنصر الغيبي تتعلق بشيء دنيوي بحت: أنه يتجاوز السد الذي ترسمه العقلانية في مواجهة خصم كهذا، وتسمح بالقفز فوق فارقِ قوةٍ يستحيل عبوره بحسبة الأرقام والوقائع. ما منشأ الشلل والموات السياسي قبل طوفان الأقصى إلا هذا الركوع أمام الاستحالة العقلانية لمواجهة إسرائيل؟

* على هامش المشهد العام، تجد مفارقات تفيض بالرمز وتستحق التأمل. وعموما، فأزمنة التحولات الكبرى هي جنة المفارقات ونبعٌ دفّاقٌ لها. قبل أشهر، دعا المفكر الأمريكي نورمان فنكلشتاين أن يُمنح "الحوثيون" جائزة نوبل للسلام، والدافع طبعا هو الحصار البحري الذي فرضه أنصار الله دعما لقطاع غزة. من كان يتخيل شيئا كهذا: أن يدعو باحث أمريكي يهودي مرموق لمنح أرفع جائزة سلام دولية لرجل من صعدة يقود حركة شعارُها: "الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام"؟ أمضى الليبراليون العرب ردحا طويلا وهم يهندسون خطابهم على مقاس الحساسيات الغربية، وحاضروا فينا طويلا حول فشلنا العربي في مخاطبة الغرب باللغة التي يفهمها (رغم أنهم أكثر من تسيّد صياغة هذا الخطاب). وفجأة، ينكشف العكس تماما؛ أن محاولة استمالة الآخر لا تستميل الآخر، وأن تسوّل ودّ الغربيين لا يأتي بودّهم. ها هُم من يهتفون بالموت لأمريكا ولا يأبهون كثيرا بالحساسيات ويتحركون بوحي إيمانهم العقَدي، ها هُم يَنفذون في الوعي الأمريكي مسافة لم يقدر عليها ليبرالي من قبلهم. هذه صنائع الأيديولوجيا و"خطابها المتخشب".

لا يبدو أن التاريخانية بالبؤس الذي وصفه السيد بوبر، بل لربما يكون العكس تماما ما نشهده الآن، حيث سادة المشهد هم المؤدلجون العقائديون، المؤمنون بالسُّنَّة التاريخية الثابتة، والقانون الراسخ الذي تدور عقارب الزمان على وقعه
* قبل قيام دولة الكيان بأربع سنوات، صدر كتاب بعنوان "بؤس التاريخانية"، كتبه عدو الفكر المؤدلج، كارل بوبر. الكتاب لا يهاجم الأيديولوجيا لكنّه يهاجم فكرة لصيقة بها: فكرة السنن الكونية المتواترة التي تحكم التاريخ، وفكرة القوانين الراسخة التي تدور عقارب الأحداث على وقعها. هذه هي التاريخانية التي لا ينقدها كارل بوبر وحسب، بل يكاد يبدي تقززا وجدانيا منها. هذا كتاب ليبرالي بامتياز، لا قياسا على هوى كاتبه وانحيازاته، وإنما قياسا على مزاج الأفكار الواردة فيه. مزاج كهذا يصحّ أن يسمّى بالمزاج "الذرّي"، فهو يريد تقسيم القضايا لوحدات صغرى، ليدرس كل وِحدة على انفراد، ولذلك فهو يتحسس من أي نظرة شاملة للعالم والتاريخ. ماذا يحصل عندما يتسرب تفكير كهذا لمنطقتنا ووعينا ويتجاوز إطاره الأكاديمي ليصبح مزاجا سياسيا عاما؟ النتيجة واضحة لأنها ماثلة أمامنا منذ سنين: تذرير المشهد العربي، ورفض وجود قضية مركزية، ورفع شعار "بلدي أولا"، والتأكيد المتصاعد على الفردانية وأهمية تحقيق الذات، والتسفيه المستمر بفكرة التضحية في سبيل أفكار كبرى تتجاوز الإنسان تحت ذريعة القول بأنه "ما من قضية أهم من الإنسان". اليوم، بعد سبع عقود على صدور هذا الكتاب (ونشوء هذا الكيان) لا يبدو أن التاريخانية بالبؤس الذي وصفه السيد بوبر، بل لربما يكون العكس تماما ما نشهده الآن، حيث سادة المشهد هم المؤدلجون العقائديون، المؤمنون بالسُّنَّة التاريخية الثابتة، والقانون الراسخ الذي تدور عقارب الزمان على وقعه.

مقالات مشابهة

  • بعد فوز العمال.. لماذا توجهت بريطانيا نحو اليسار على العكس من أوروبا؟
  • أمهات أسرى إسرائيليين في غزة يوجهن طلبا إلى نتنياهو
  • السياسة والعقيدة: بؤس الأيديولوجيا أم بؤس غيابها؟
  • دي بول: منتخب الأرجنتين وُلد لـ «المعاناة»!
  • ليساندرو مارتينيز يهدي الهدف الأول إلى «الأجداد»!
  • أساليب وآليات الدعم الزراعي… ندوة لوزارة الزراعة في طرطوس
  • لوموند: لماذا كثرت الاعتداءات على المسلمين في السويد؟
  • عباس العقاد يكشف أفكار وأسرار الصهيونية العالمية
  • تقرير لـNewsweek: لماذا على إسرائيل شنّ حرب على حزب الله وإيران؟
  • باحث: الولايات المتحدة ستدعم إسرائيل حال دخولها في جبهة صراع جديدة (فيديو)