أسرى النبوءة.. لماذا تضحي أميركا بمصالحها الإستراتيجية من أجل إسرائيل؟
تاريخ النشر: 24th, April 2024 GMT
على مدار اليومين الماضيين خرج العديد من التصريحات اللافتة من بعض كبار الساسة الأميركيين، منهم رئيس مجلس النواب مايك جونسون الذي قال في تصريح صحفي: "إسرائيل حليف حيوي لنا، أعتقد أن معظم الناس يتفهمون ضرورة هذا التمويل (26 مليار دولار لإسرائيل) إنهم يقاتلون من أجل وجودهم.. بالنسبة لنا نحن المؤمنين هناك توجيه في الإنجيل بأن نقف إلى جانب إسرائيل، وسنفعل ذلك بلا ريب وسينتصرون طالما كنا معهم".
رئيس مجلس النواب الأميركي يعتبر مساندة "إسرائيل" واجبا دينيا.. هذا ما قاله pic.twitter.com/xvOCQNsJfU
— شبكة رصد (@RassdNewsN) April 22, 2024
لم يكن هذا التصريح الذي يربط السياسة الأميركية تجاه إسرائيل بالعقيدة المسيحية البروتستانتية كما أمر بها الإنجيل -وفق اعتقادهم- هو الأول من نوعه هذه الأيام، فبالتزامن مع ذلك استجوبَ عضو مجلس النواب الأميركي عن الحزب الجمهوري ريك دبليو. ألين رئيسة جامعة كولومبيا ذات الأصول المصرية نعمت شفيق.
بدا "ألين" جادا للغاية حين سألَ نعمت: "لماذا لا تدعم جامعة كولومبيا إسرائيل بشكل كاف؟ لنكن واضحين هذا ميثاق قطعه الرب مع النبي إبراهيم وهذا الوعد واضح للغاية: إذا باركتَ إسرائيل سأباركُك، وإذا لعنتَ إسرائيل سألعنك".
وأضاف "وفي العهد الجديد (الإنجيل) تم التأكيد على أن جميع الأمم ستكون مباركة من خلالك. لذا ألم تكوني تعلمين بهذا؟ رئيسة الجامعة: سمعته من قبل ولكن تم شرحه الآن بشكل أفضل. هو: جيد أن ذلك يبدو مألوفا لديكِ. هل تُريدين أن تكون جامعة كولومبيا ملعونة من رب الإنجيل؟" فأجابت: "بالقطع لا".
لايفوتكم الحماقة واحد اسمه "ريك ألين" عضو مجلس النواب الأمريكي أثناء جلسة إستدعاء مع رئيسة جامعة كولومبيا، قال: "لماذا الجامعة لا تدعم اسرائيل بشكل كافي؟"
هو ميثاق قطعه الله لإبراهيم لمباركة اسرائيل، هل تريدين أن يلعن الرب جامعة كولومبيا بسبب عدم دعمها لإسرائيل؟ ????????♂️
*يحرّفون كُل… pic.twitter.com/bu2Pn3jjHX
— عـبدالله الخريّف (@AbdullahK5) April 21, 2024
يبدو المتابع لهذه التصريحات التي تربط السياسة الأميركية تجاه إسرائيل والمنحازة لها بتعاليم الإنجيل على لسان أهم وأكبر النخب السياسية الأميركية أمرا غريبا صادرا من قلعة العلمانية والرأسمالية العالمية، ويثير كثيرا من الأسئلة أكثر مما يُعطي من الإجابات القاطعة حول فهم هذه العلاقة الراسخة بين الولايات المتحدة وإسرائيل.
عودة للجذورلقد كتب يوما ريتشارد كورتيز، وهو موظف متقاعد من وزارة الخارجية الأميركية ورئيس تحرير "تقرير واشنطن عن شؤون الشرق الأوسط"، عن قيمة المساعدات الأميركية الرسمية وغير الرسمية التي دفعتها أميركا إلى إسرائيل منذ عام 1948 وحتى 1995م، قائلا: "نحن دافعي الضرائب نقدم إلى دولة إسرائيل الصغيرة أكثر من 6 مليارات دولار كمساعدات خارجية وعسكرية في العام".
يكمل كورتيز "وخلال 46 سنة خلت قدم دافعو الضرائب في الولايات المتحدة إلى إسرائيل ما مجموعه 62.5 مليار دولار، هذا يعني أننا أعطينا واحدة من أصغر دول العالم من المساعدات المالية بقدر ما قدمناه إلى دول جنوب الصحراء الأفريقية وأميركا اللاتينية والبحر الكاريبي مجتمعة، فإن مجموع المساعدات إلى هذه الدول تُقدر بحوالي 40 دولارا عن الشخص الواحد، في حين تساوي المساعدات إلى إسرائيل 10 آلاف و775 دولارا عن الشخص الواحد".
منذ عام 1948 وحتى 1995م قدمت أميركا لإسرائيل مساعدات بقيمة 83 مليار دولار (مواقع التواصل)لم يذكر كورتيز هذا فقط، بل أكد أن هناك جهات أميركية أهلية ومسيحية أخرى تقدم هبات إلى إسرائيل غير خاضعة للضرائب، بحيث يصل مجموع الأموال إلى ما يعادل 83 مليار دولار في الفترة ما بين 1948 وحتى عام 1995، أي ما يعادل أكثر من 14 ألف دولار سنويا من أميركا لكل شخص إسرائيلي.
وبسبب هذا الدعم الضخم المالي والمعنوي من بريطانيا والولايات المتحدة لإسرائيل، وأمام أدلة وبراهين لا تكاد تخطئها عين المراقب تساءلت الصحفية الأميركية غريس هالسل، التي عملت كاتبة مع الرئيس الأميركي الأسبق ليندون جونسون في الستينيات بالبيت الأبيض، عن السر الذي يدفع بلدها إلى التضحية بمصالحها الإستراتيجية إلى هذا الحد من أجل إسرائيل؟
ومن أجل الإجابة عن هذا السؤال بصورة أعمق، وأمام الأدلة المتتابعة التي شاهدتها غريس بنفسها، قررت أن تبحث وتقرأ وتسافر وتلتقي بكل من لديه إجابة على استفساراتها، وقد تمخضت هذه الرحلة الطويلة عن كتابيها: "النبوءة والسياسة، الإنجيليون العسكريون في الطريق إلى الحرب النووية" و"يد الله، لماذا تُضحي الولايات المتحدة بمصالحها من أجل إسرائيل؟" وهما عملان مهمان يكشفان لنا جانبا أساسيا من جوانب اندفاع العقل الأميركي الإستراتيجي ناحية إسرائيل بكل حماسة، بل بعمى إستراتيجي أحيانا.
حتى إن هذا العقل تغاضى عن كثير من جرائم إسرائيل ليس في حق الفلسطينيين والعرب فقط، بل وفي حق أميركا نفسها حين ضربت إسرائيل السفينة الأميركية التجسسية ليبرتي التي كانت راسية في شرق البحر المتوسط أثناء حرب 1967، ومقتل 34 بحارا أميركيا على متنها حتى تحُقق أهدافها كاملة في احتلال سيناء والجولان والضفة الغربية وغزة في سرعة خاطفة، وقد صمتَ الساسة الأميركيون وعلى رأسهم الرئيس جونسون عن هذه الجريمة وابتلعوها.
سر الأسرارتعود الأسباب الرئيسية إلى العلاقة الثورية التي جاءت بها حركة الإصلاح الديني في القرن الـ16 في قلب المسيحية الكاثوليكية في أوروبا، حين وقف القسيس الألماني مارتن لوثر في وجه البابوية في روما داعيا إلى حركة إصلاح عميقة وثورية في وجه تغول الكنيسة سياسيا ولاهوتيا، لا سيما مع احتكارها لفهم النص المقدس، وعدم قبولها بترجمته أو تأويله إلى اللغات المحلية الأوروبية، ثم بالممارسات التي لا تتطابق مع روح الكتاب المقدس وعلى رأسها غفران الخطايا مقابل صكوك مالية.
وكان الكتاب الذي ألفه مارتن لوثر في عام 1523 وعنوانه "عيسى وُلد يهوديا" بمثابة إعادة لاعتبار التراث اليهودي في المسيحية بعد 16 قرنا كان العداء فيها متأصلا بين الفريقين، فقد رأى لوثر أن "الروح القدس أنزل كل أسفار الكتاب المقدس عن طريق اليهود وحدهم.. إن اليهود هم أبناء الله، ونحن الضيوف الغرباء".
ورغم أن لوثر تراجع عن آرائه في هذا الكتاب، فإن الحركة البروتستانتية قد تشبعت بها، لا سيما مع الفرنسي جون كالفن، ومع انتشار هذه الآراء في الجغرافيا الأنجلوساكسونية وتجذرها حتى انفصلت الكنيسة الإنجيلية البريطانية عن روما في عام 1534.
ومع اكتشاف الأميركيتين في نهاية القرن الـ15 والصراع الدامي الذي وقع بين الإنجليز والفرنسيين والإسبان والهولنديين على أميركا الشمالية، ثم السيطرة البريطانية شبه المطلقة على أميركا، أدى ذلك لهجرة البروتستانت بأعداد هائلة تجاه القارة الجديدة التي اتخذوها موطنا، حتى أعلن الأميركيون استقلالهم عن بريطانيا في نهاية القرن الـ18، في حين ظلت العقيدة الدينية واحدة.
الحركة البروتستانتية تشبعت بآراء مارتن لوثر التي كتبها في كتاب"عيسى وُلد يهوديا" (مواقع التواصل)يصفُ بعض مؤرخي الأديان البروتستانتية بأنها حركة "تهويد واسعة للمسيحية"، لأنهم اعتبروا أن فهم واستيعاب العهد الجديد "الإنجيل" لا يحصلُ دون قراءة وفهم الجذور الموجودة في "العهد القديم" (التوراة)، وذلك على خلاف القراءة المسيحية القديمة قبل عصر الإصلاح التي كانت ترى أن المسيحية وريثة اليهودية وهي الأجدر بحمل الأمانة التي تخلى عنها اليهود حتى صلبوا المسيح وفق اعتقادهم.
وتأخذ غريس هالسل هذا الخيط لتلج منه إلى الأسباب الحقيقية التي جعلت أميركا تتغاضى عن مصالحها الإستراتيجية لصالح إسرائيل إلى هذا الحد الفاضح، فتجدُ الإجابة في سيرتها الذاتية الدينية خاصة التي مرت بها منذ الطفولة وحتى الكبر.
ففي الطفولة كانت تستمعُ إلى المبشِرين وهم يربطون قصص الكتاب المقدس بأعداء الله، وتركيز الإنجيليين خاصة التي كانت تستمعُ لهم باهتمام حول الإشارات المحددة لأحداث العالم المقبلة، "إنه يتضمنُ نبوءات تهز الدنيا، فمعركة هرمَجدون (وادي مجيدون) في موقعها، ويمكن أن تقع في أي وقت لتحقيق نبوءة حزقيال، إنها على استعداد لأن تحدث، فالولايات المتحدة تقعُ في هذا المقطع من نبوءة حزقيال، ونحن على استعداد".
ومن أجل فهم هذه العقيدة التي تُشكل العقل السياسي الأميركي المعاصر، سافرت هالسل عدة مرات إلى وادي مجيدو، الذي يقع في شمال فلسطين المحتلة اليوم، ضمن أفواج دينية من اليمينيين الجدد ممن كان الرعاة الإسرائيليون يستقبلونهم فيها استقبالا لائقا، وقد تعرفت في تلك الأفواج على العديد من المواطنين الأميركيين الذين يبدون "عاديين" ولكنهم في الوقت ذاته مشبعين بنبوءات الكتاب المقدس ومتحمسين لها.
غريس هالسل صحفية أميركية عملت كاتبة مع الرئيس الأميركي الأسبق ليندون جونسون (جامعة تكساس كريستيان)ووفقا لهذه النبوءة فإن نزول المسيح لتخليص العالم في نهاية الزمان لن يحدث إلا في ظل معركة هرمجدون، ولن تحدث هذه المعركة التي يعتقد بعضهم أن المسيح عليه السلام سيقودها، حيث سيُقتل فيها نحو 200 مليون إنسان إلا بعد عودة اليهود إلى فلسطين وإنشاء دولتهم القومية، وستكون شرارتها بناء الهيكل على أطلال المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة، ذلك أن المسلمين لن يقفوا صامتين أمام هذه الأحداث.
وقد لاحظت غريس أن السبب الرئيسي الذي أدى إلى الانتشار القوي لهذه الأفكار في القرنين الأخيرين يكمن في ظهور الحركة المسيحية الإنجيلية القدرية "الجبرية"، وهي الحركة التي فسرت أحداث العالم تفسيرا قدريا جبريا يريده الرب ويأمر به.
وكان ظهور ذروة هذه الأفكار على يد القسيس الأميركي الإنجيلي سايروس سكوفيلد عام 1921 الذي أدخل تأويلاته وملاحظاته على الكتاب المقدس فخرج باسم "الإنجيل المرجع"، وأصبح هذا الإنجيل منذ عام 1909 واحدا من أكثر الأناجيل مبيعا في العالم، وفيه رأى أن أحداث نهاية العالم كلها تتمحور حول "إعادة إسرائيل إلى الوجود، فعلى اليهود أن يفعلوا ما يجب أن يفعلوه حتى يعود المسيح".
سايروس سكوفيلد أدخل تأويلاته وملاحظاته على الكتاب المقدس فخرج باسم "الإنجيل المرجع" (مواقع التواصل)وإذا نظرنا إلى الأدبيات اليهودية التي تسربت إلى العقيدة الإنجيلية البروتستانتية فسنجد أنها تركزت على 3 نقاط أساسية، تعد هي الأسس التي قامت عليها "الصهيونية المسيحية اليهودية" في وقتنا الحاضر، وهي:
أن اليهود شعب الله المختار وأنهم يكونون بذلك الأمة المفضلة على كل الأمم. وأن ثمة ميثاقا إلهيا يربط اليهود بالأرض المقدسة في فلسطين وهو ميثاق سرمدي أبدي. وربط الإيمان المسيحي بعودة السيد المسيح، وعودته لن تتم إلا بقيام دولة إسرائيل، أي بتجميع اليهود في فلسطين. الصهيونية المسيحية اليهوديةيؤرخ أستاذ الدراسات الدينية والأميركية "بول ميركلي" في كتابه "الصهيونية المسيحية 1891-1948" أولَ لقاء جمع بين ممثلي الفريقين الأكثر شهرة في عام 1896، أي بين مؤسس الحركة الصهيونية اليهودي النمساوي ثيودور هرتزل والقس الإنجيلكاني البريطاني الألماني الأصل وليام هنري هتشلر، قسيس السفارة البريطانية في فيينا.
لقد قابل هتشلر هرتزل لأول مرة في مارس/آذار من ذلك العام، وقدم إليه نفسه بطريقة غريبة حين قال: "ها أنذا" فرد عليه هرتزل: "يمكنني أن أرى ذلك، ولكن من أنت؟" رد هتشلر على النحو التالي: "ستُصاب بالحيرة إذا علمت أنني تنبأت منذ زمن طويل يعود إلى عام 1882 بمجيئك إلى أمير بادِن (في ألمانيا)، وها أنذا الآن مُقبل على مساعدتك".
ويليام هنري هِتشلر (يمين) وثيودور هرتزل (وكالات)لقد تأثر هرتزل بهذا القسيس الإنجيلكاني، بأسلوبه وحديثه، وبعلاقاته القوية بالأمراء الألمان لأنه كان أستاذا لأمير بادن وأبنائه، ومن ثم فهو مَن سيفتح له الأبواب المغلقة للوصول إليهم، ووصوله إليهم سيمكنه من إقناعهم، وهم (أي الألمان) حلفاء العثمانيين المسيطرين على فلسطين.
لقد زار هرتزل فيما بعد القس هتشلر في بيته، ورأى منه حماسة منقطعة النظير في عودة اليهود إلى الأرض المقدسة، كتب هرتزل يقول: "أمس الأحد بعد الظهر زرتُ القس هتشلر.. الغرفة التي دخلتُها (في بيته) كانت جدرانها مغطاة بالكتُب من الأرض إلى السقف، لا شيء إلا كتب "الأناجيل".
يكمل هرتزل قوله "وقد أطلعني السيد هتشلر على كُنوزه الكتابية وخريطة فلسطين آخر الأمر، إنها خريطة أركان عسكرية كبيرة مؤلفة من 4 قطع غطت أرضية الغرفة كلها عندما نُشرت، دلني على المكان الذي يجبُ أن يقعَ فيه هيكلنا الجديد وفقا لحساباته، إنه موقع بيت إيل، لأنه مركز البلاد، أطلعني أيضا على نماذج الهيكل القديم قائلا: لقد أعددنا الأرضَ لكم".
يرى بول ميركلي أن هذا اللقاء يُعد الأساس المبكر لنشأة وتحالف الصهيونية اليهودية المسيحية المعاصرة في الأعوام الأخيرة من القرن الـ19، وهو لقاء كان له ما بعده، فقد تأثر كبار الساسة البريطانيين ثم الأميركيين فيما بعد بهذه الأفكار وسعوا لتطبيقها، وقد رأينا دعم بريطانيا لهجرة اليهود إلى فلسطين ومدهم بالسلاح والعتاد طوال سنوات احتلالهم منذ 1917 وإلى عام 1948 وما بعدها.
نتنياهو: كان هناك شوق قديم للعودة إلى أرض إسرائيل، وهذا الحلم تفجر من خلال المسيحيين الصهيونيين (أسوشيتد برس)حتى إن رئيس وزراء إسرائيل الحالي بنيامين نتنياهو ألقى خطابا في فبراير/شباط عام 1985، وكان سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة وقتها، يعترف فيه بهذه الحقيقة قائلا: "إن كتابات المسيحيين الصهيونيين من الإنجليز والأميركيين أثرت بصورة مباشرة على تفكير قادة تاريخيين مثل لويد جورج (رئيس الوزراء البريطاني) وآرثر بلفور (وزير الخارجية البريطاني) وودرو ويلسون (الرئيس الأميركي) في مطلع هذا القرن (القرن العشرين)".
يسترسل نتنياهو "إن حلم اللقاء العظيم أضاء شعلة خيال هؤلاء الرجال الذين لعبوا دورا رئيسيا في إرساء القواعد السياسية والدولية لإحياء الدولة اليهودية.. لقد كان هناك شوق قديم في تقاليدنا اليهودية للعودة إلى أرض إسرائيل، وهذا الحلم الذي يراودنا منذ 2000 سنة تفجرَ من خلال المسيحيين الصهيونيين".
رؤساء وقساوسة أميركيون في خدمة الصهيونيةترصد هالسل في كتابها "النبوءة والسياسة" مدى تغلغل النبوءات التوراتية المتعلقة بيأجوج ومأجوج وتفسيرها عند الإنجيليين المعاصرين بأنها "روسيا"، و"معركة هرمَجدون" التي ستقع في وادي مجدون شمال فلسطين المحتلة بقيادة المسيح ضد أعدائه، وكذلك مفهوم "أعداء الرب" أو "أعداء إسرائيل" وغيرها من المصطلحات الدينية الأخرى لدى النخبة السياسية الأميركية، وعلى رأسهم الرؤساء جيمي كارتر ورونالد ريغان وجورج بوش الأب وكلينتون وغيرهم.
(مواقع التواصل الاجتماعي)على سبيل المثال، في وقت مبكر من عام 1986 بعد حادثة تفجير طائرة ركاب أميركية فوق قرية لوكيربي الأسكتلندية وضلوع نظام الزعيم الليبي الراحل مُعمر القذافي في ذلك الحين، تقول هالسل: "أصبحت ليبيا العدو الدولي رقم واحد لرونالد ريغان.. كره ريغان ليبيا لأنه رآها واحدة من أعداء إسرائيل الذين ذكرتهم النبوءات وبالتالي فإنها هي عدو لله".
وكما تروي هالسل نقلا عن الرئيس الأسبق لمجلس الشيوخ في ولاية كالفورنيا جايمس ميلز أنه جمعه لقاء برونالد ريغان في عام 1971م قبل أن يصبح رئيسا للولايات المتحدة، "بدأ ريغان فجأة يتحدث إلى ميلز حول النبوءات الإنجيلية، وحول حتمية مقاتلتنا للاتحاد السوفيتي (يأجوج ومأجوج) في الكتاب المقدس".
ويذكر ميلز هذا الحادث في عدد أغسطس/آب 1985 من مجلة سان دييغو ويقول: "إن ريغان أخبره بتأكيد جازم: في الفصل 38 من إصحاح حزقيال هناك نص يقول إن أرض إسرائيل سوف تتعرض إلى هجوم تشنه عليها جيوش تابعة إلى دول لا تؤمن بالله. وتقول إن ليبيا ستكون من بينهم، هل تفهم ماذا يعني ذلك؟ لقد أصبحت ليبيا الآن شيوعية وهذا مؤشر إلى أن يوم هرمَجَدون ليس ببعيد".
وتشير هالسل أيضا إلى أنه في بعض خطابات الرئيس الأميركي جيمي كارتر سنجدُ التأثر نفسه بالنبوءات التي آمن بها ريغان من بعده حين يقول: "يعني خلق إسرائيل عام 1948 العودة أخيرا إلى أرض الميعاد التي أُخرج منها اليهود منذ مئات السنين، إن إقامة الأمة الإسرائيلية هو تحقيق للنبوءة التوراتية والتنفيذ الجوهري لها".
وترصد هالسل في كتابها الآخر "يد الله" أبرز الجماعات المسيحية اليمينية الإنجيلية في الولايات المتحدة ومظاهر تأييدها لإسرائيل ماليا وخطابيا وسياسيا، واللوبي القوي الذي أنشأته مع إسرائيل ويهود أميركا.
وترى أن العلاقات التي جمعت بين الطرفين كانت تزداد متانة بمرور الزمن، وقد برز ذلك في اللقاءات الكنسية والتلفزيونية الأسبوعية التي كان يقيمها أشهر القساوسة الأميركيين في ذلك الوقت، وكان على رأسهم جيري فالويل عام 2007 الذي أهدى له الإسرائيليون طائرة نفاثة في سبعينيات القرن الماضي، واستضافوه في الجولان وأنشؤوا غابة باسمه فيها.
في الكتاب ترصد هالسل تنظيمات الجماعات المسيحية اليمينية الإنجيلية التي تغلغلت في الانتخابات الأميركية المختلفة (مواقع التواصل)وتوضح هالسل أن فالويل كان في المقابل يدعمهم بصورة مطلقة بخطاباته وكتبه بل وجمع التبرعات لهم، وأصبح دوره كبيرا لدرجة أن رؤساء الوزراء الإسرائيليين، مثل نتنياهو، كانوا يحرصون على زيارته كلما زاروا الولايات المتحدة.
كما ترصد الكاتبة تنظيماتهم السياسية التي تغلغلت في الانتخابات الأميركية المختلفة في السنوات الأخيرة، وتخلص في النهاية إلى أن النبوءات التوراتية أصبحت تطغى على قضية "المسيح" ومركزيته في الفكر المسيحي "القدري/الجبري" الذي بات يهيمن على المشهد الأميركي السياسي والديني.
مما سبق يمكننا فهم سؤال مقالنا عن الأسباب الكامنة التي تجعل نخبة الولايات المتحدة السياسية تتغاضى عن مصالحها الحيوية في الشرق الأوسط من أجل دعم إسرائيل دعما مطلقا، والحق أن هذه الإجابة لا تقف عند الأبعاد الكامنة في العلاقة الدينية الوثيقة التي جمعت الصهيونية المسيحية بالصهيونية اليهودية كما رأينا، وإنما تجمعها أيضا التقاء المصالح السياسية والإستراتيجية والاقتصادية والتاريخية وهي أمور لا يمكن التغاضي عنها.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات الولایات المتحدة الرئیس الأمیرکی جامعة کولومبیا مواقع التواصل الکتاب المقدس ملیار دولار إلى إسرائیل مجلس النواب التی کان عام 1948 من أجل التی ت فی عام
إقرأ أيضاً:
لماذا تدافع واشنطن عن وجود إسرائيل وتتسامح مع اضطهادها للفلسطينيين؟
نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، مقال رأي لأستاذ الصحافة بجامعة سيتي في نيويوروك والمعلق في صفحة الرأي بالصحيفة، بيتر بينارت، مقالا ناقش فيه فكرة وجود الشعوب والدول.
وتساءل الكاتب في مقال ترجمته "عربي21"، وجاء تحت عنوان "الدول ليس لها حق بالوجود أما الشعوب فلها". عن الطريقة التي تعامل فيها واشنطن سواء من الحزب الجمهوري والديمقراطي إسرائيل عبر مقولة "إسرائيل لها حق في الوجود".
وهذه مقولة يتوافق فيها رئيس مجلس النواب مايك جونسون وزعيم الأقلية الديمقراطية حكيم جيفرزي، وكذا إدارة بايدن ووزير الخارجية السابق أنتوني بلينكن ووزير الخارجية الجديد، ماركو روبيو ووزير دفاع ترامب الجديد بيت هيغسيث وكذا زعيم الديمقراطيين في مجلس الشيوخ، تشاك تشومر. وفي عام 2023، أكد مجلس الشيوخ على حق إسرائيل بالوجود في تصويت من 412-1 صوتا.
ويعلق قائلا إن هذا ليس هو الأسلوب الذي يتحدث به الساسة في واشنطن عادة عن الدول الأخرى. فهم عادة ما يبدأون بحقوق الأفراد، ثم يسألون عن مدى نجاح دولة معينة في تمثيل الناس الخاضعين لسيطرتها. وإذا كان زعماء أمريكا يضعون حياة كل من يعيش بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط في المقام الأول، فسيكون واضحا أن السؤال عما إذا كانت إسرائيل تتمتع بحق الوجود هو السؤال الخطأ.
والطريقة لطرح هذا السؤال: هل تحمي إسرائيل، كدولة يهودية، حقوق كل الأفراد الخاضعين لسيطرتها على النحو اللائق؟ والإجابة هي لا.
ودعا بينارت للتأمل بهذا السيناريو: إذا انفصلت اسكتلندا قانونيا أو ألغى البريطانيون النظام الملكي، فلن تعود المملكة المتحدة موحدة ولا مملكة. وستتوقف بريطانيا كما نعرفها عن الوجود، وستحل محلها دولة مختلفة.
وسوف يقبل روبيو شومر وزملاؤهم هذا التحول باعتباره شرعيا لأنهم يعتقدون أن الدول يجب أن تستند إلى موافقة المحكومين.
ويقول بينارت إن قادة أمريكا يؤكدون على هذه النقطة بشكل قاطع عندما يناقشون أعداء أمريكا. فهم غالبا ما يدعون إلى استبدال الأنظمة القمعية بدول تلبي بشكل أفضل المعايير الديمقراطية الليبرالية. وفي عام 2017، زعم جون بولتون، الذي أصبح فيما بعد مستشارا للأمن القومي في إدارة ترامب الأولى قائلا إن: "السياسة المعلنة للولايات المتحدة يجب أن تكون الإطاحة بنظام الملالي في طهران". وفي عام 2020، وصف وزير الخارجية في حينه مايك بومبيو جمهورية الصين الشعبية بأنها "نظام ماركسي لينيني" مع "أيديولوجية شمولية مفلسة".
وبحسب المقال، لم يكن هؤلاء المسؤولون الأمريكيون يحثون هذه البلدان على استبدال زعيم معين فحسب، بل على تغيير نظامها السياسي، وبالتالي، في جوهره، إعادة تشكيل الدولة. وفي حالة جمهورية الصين الشعبية، التي تدل على هيمنة الحزب الشيوعي أو جمهورية إيران الإسلامية، التي تدل على حكم رجال الدين، فإن هذا يستدعي على الأرجح تغيير الاسم الرسمي للبلاد.
وفي عام 2020 أعلن بومبيو في خطاب له أن الآباء المؤسسين لأمريكا اعتقدوا أن "الحكومة لا توجد لتقليص أو إلغاء حقوق الأفراد وفقا لنزوات أصحاب السلطة، بل لضمانها".
ومن هنا فالسؤال: هل يحق للدول التي تحرم الأفراد من حقوقهم الحق في الوجود وبشكلها الحالي؟ وحسب كلام بومبيو، فلا يحق لها.
لكن، ماذا لو تحدثنا بهذه الطريقة عن إسرائيل؟ فنصف السكان الخاضعين لإسرائيل هم فلسطينيون، معظمهم من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، ومعظمهم لا يستطيعون الحصول على المواطنة في دولة إسرائيل التي تمارس سلطة الحياة والموت عليهم. ومارست إسرائيل هذه السلطة، حتى قبل هجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وبخاصة أنها كانت تسيطر على المجال الجوي والمجال البحري وتسجيل السكان والمعابر البرية، مما حول غزة حسب وصف منظمة "هيومان رايتس ووتش" إلى "سجن مفتوح". وحتى الأقلية من الفلسطينيين الخاضعين للسيطرة الإسرائيلية والذين يحملون الجنسية الإسرائيلية والذين يطلق عليهم أحيانا "العرب الإسرائيليون"، تفتقر إلى المساواة القانونية.
وفي الشهر الماضي، وعد بلينكن بأن الولايات المتحدة سوف تساعد السوريين في بناء دولة "شاملة وغير طائفية"، ومن الواضح أن إسرائيل الحالية ستتفشل في اجتياز هذا الاختبار. ومع ذلك ففكرة دولة غير طائفية وشاملة على هذه الأرض تظل أمرا لا يمكن أن يتصوره قادة اليهود الأمريكيون. والواقع أن اليهود يشعرون بالغضب الشديد عندما يدعو الزعماء الإيرانيون إلى محو إسرائيل من على الخريطة. ولكن هناك فرق جوهري بين دولة تتوقف عن الوجود بسبب غزو جيرانها لها ودولة تتوقف عن الوجود لأنها تتبنى شكلا أكثر تمثيلاً للحكم، وفقا للمقال.
ولا يصر قادة اليهود الأمريكيين على حق إسرائيل في الوجود، بل ويصرون على حقها بالوجود كدولة يهودية. وهم يتمسكون بفكرة أنها دولة يهودية وديمقراطية في نفس الوقت، رغم التناقض بين التفوق القانوني لجماعة إثنية دينية واحدة والمبادئ الديمقراطية التي تدعو لمساواة الجميع بناء على القانون.
ويرى بينارت أن الاعتقاد بفكرة الدولة اليهودية وأنها تحمل قيمة غير مشروطة، بصرف النظر عن تأثيرها على الناس الذين يعيشون داخلها، لا يتعارض فقط مع الطريقة التي يتحدث بها زعماء أمريكا عن البلدان الأخرى. بل ويتعارض أيضا مع التقاليد اليهودية. فهذه لا تنظر إلى الدول باعتبارها تمتلك حقوقا، بل تنظر إليها بريبة عميقة.
ففي الكتاب المقدس، يطلب أعيان بني إسرائيل من النبي صموئيل تعيين ملك يحكمهم. ويأمر الله صموئيل بأن يحقق رغبة الأعيان، ولكنه يحذره أيضا من أن حاكمهم سوف يرتكب انتهاكات فظيعة. فيقول لهم صموئيل: "سيأتي اليوم الذي تصرخون فيه بسبب الملك الذي اخترتموه بأنفسكم". والمعنى واضح، فالممالك أو الدول في المصطلح الحديث ـ ليست مقدسة. فهي مجرد أدوات، يمكنها إما أن تحمي الحياة أو تدمرها.
وأشار الكاتب إلى أنه في عام 1975 كتب الناقد الاجتماعي الإسرائيلي الأرثوذكسي يشعياهو ليبوفيتز: "إنني أنكر بشدة أن تكون للدولة أي قيمة جوهرية على الإطلاق". ولم يكن ليبوفيتز فوضويا، ولكن برغم أنه اعتبر نفسه صهيونيا، فقد أصر على أن الدول، بما في ذلك الدولة اليهودية، يجب أن تحكم على أساس معاملتها للبشر الخاضعين لسيطرتها.
فالدول ليس لها الحق في الوجود. أما البشر فهم من لهم الحق في الوجود. ويشير الكاتب إلى أن أهم رموز الكتاب المقدس مثل موسى ومردخاي، خاطروا بحياتهم عندما رفضوا معاملة الحكام المستبدين كشخصيات مقدسة. وبرفضهم عبادة سلطة الدولة، رفضوا عبادة الأصنام، وهو الحظر الذي يشكل جوهر اليهودية إلى الحد الذي جعل الحاخام يوحنان يصفه في التلمود بأنه التعريف الحقيقي لليهودية.
واليوم، يبدو هذا الشكل من عبادة الدولة، حاضر في الحياة اليهودية الأمريكية السائدة. ومن الخطورة بمكان أن نبجل أي كيان سياسي، بل الخطورة بشكل خاص هي أن نبجل كيانا يصنف الناس باعتبارهم متفوقين أو أدنى مرتبة على أساس قبيلتهم.
وعندما تصر الجماعات اليهودية الأكثر نفوذا في أمريكا، مثل الزعماء الأمريكيين، مرارا وتكرارا على أن إسرائيل لها الحق في الوجود، فإنهم يقولون في واقع الأمر إن إسرائيل لا تستطيع أن تفعل شيئا، مهما بلغ الضرر الذي قد تلحقه بالناس الذين يعيشون تحت هيمنتها، بدون الحاجة لإعادة النظر في شخصية الدولة.
وفعلوا هذا رغم انتهاكات إسرائيل الصارخة لحقوق الإنسان. ومنذ ما يقرب من 16 عاما، أي منذ عودة بنيامين نتنياهو إلى السلطة في عام 2009، حكم إسرائيل قادة يتفاخرون بمنع الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة من إنشاء دولتهم الخاصة بهم، وبالتالي إجبارهم على العيش كمواطنين طارئين، بدون حقوق أساسية تحت الحكم الإسرائيلي.
وفي عام 2021، اتهمت منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية "بيتسيلم"، إسرائيل بممارسة الفصل العنصري. وسجل مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية زيادة في الهجمات التي يشنها المستوطنون الإسرائيليون ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية في عام 2024 مقارنة بأي عام منذ أن بدأت تسجل الحوادث قبل ما يقرب من 20 عاما.
ومع ذلك يصر قادة اليهود الأمريكيين والساسة الأمريكيون على التعامل مع فكرة مساءلة مشروعة الدولة اليهودية بأنها أمر غير مشروع، بل ومعاد للسامية "لقد جعلنا إسرائيل مذبحنا" يقول بينارت، وقد تحققت مخاوف ليبوفيتز: "عندما يتم تقديم الأمة والبلد والدولة باعتبارها قيما مطلقة، فإن كل شيء جائز".
وقال الكاتب إن كثيرا ما يقول زعماء اليهود الأمريكيين إن الدولة اليهودية ضرورية لحماية الأرواح اليهودية. ولا يمكن لليهود أن يكونوا آمنين ما لم يحكمهم اليهود. و"أنا أفهم لماذا يستثني العديد من اليهود الأمريكيين، الذين يعتقدون كقاعدة عامة أن الدول لا ينبغي لها أن تميز على أساس الدين أو العرق أو العرق، إسرائيل. وهذا رد على تاريخنا المؤلم كشعب.
ولكن على الرغم من معاداة السامية العالمية، فإن يهود الشتات، الذين يراهنون على سلامتنا على مبدأ المساواة القانونية ، أكثر أماناً بكثير من اليهود في إسرائيل". ويقول بينارت إن هذه ليست مصادفة، فالبلدان التي يمارس الجميع حق التصويت للحكومة وتسمع أصواتهم، الحكومة، عادة ما تكون أكثرأمانا للجميع.
وبحسب المقال، فقد ووجدت دراسة أجريت عام 2010 على 146 حالة من الصراع العرقي في مختلف أنحاء العالم منذ الحرب العالمية الثانية أن الجماعات العرقية التي تم استبعادها من سلطة الدولة كانت أكثر عرضة لحمل السلاح بثلاث مرات من تلك التي تمتعت بالتمثيل في الحكومة. ويمكن مشاهدة هذه الدينامية في إسرائيل، ففي كل يوم، يخضع اليهود الإسرائيليون أنفسهم تحت رحمة الفلسطينيين عندما يكونوا في أضعف حالاتهم: على طاولة العمليات. ويشكل المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل حوالي 20% من أطبائها، و30% من ممرضيها وممرضاتها، و60% من صيادلتها.
ولكن لماذا يجد اليهود الإسرائيليون المواطنين الفلسطينيين أقل تهديدا من الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة؟ يجيب بينارت بالقول إن هذا يرجع هذا إلى حد كبير لقدرة المواطنين الفلسطينيين على التصويت في الانتخابات الإسرائيلية. فبرغم تعرضهم للتمييز الشديد فإنهم على الأقل يملكون بعض الأساليب السلمية والقانونية لإسماع أصواتهم.
قارن هذا بالفلسطينيين في غزة أو الضفة الغربية الذين لا يملكون أي وسيلة قانونية للتأثير على الدولة التي تقصفهم وتسجنهم. وعندما تحرم الناس من حقوقهم الأساسية فإنك تعرضهم لعنف هائل. وعاجلا أم آجلا فإن هذا العنف يعرض الجميع للخطر. ففي عام 1956، رأى طفل يبلغ من العمر ثلاث سنوات يدعى زياد النخالة جنودا إسرائيليين يقتلون والده في مدينة خان يونس في غزة. وبعد ما يقرب من سبعين عاما، أصبح هو زعيم حركة الجهاد الإسلامي المنافسة الأصغر حجما لحماس ولكنها لا تقل عنها تشددا.
وردا على الهجوم الذي نفذته حركة حماس والجهاد الإسلامي في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 وقتل فيه 1.200 إسرائيليا وأسر 250 آخرين، دكت إسرائيل القطاع. وقدرت المجلة الطبية البريطانية "لانسيت" أن عدد شهداء الحرب تجاوز 60,000 فلسطينيا، وتدمير معظم مستشفيات القطاع ومدارسه وزراعته.
ويشكل تدمير غزة مثالاً مروعا على فشل إسرائيل في حماية أرواح وكرامة كل الناس الذين يقعون تحت سلطتها. إن الفشل في حماية أرواح الفلسطينيين في غزة يعرض اليهود للخطر في نهاية المطاف. ففي هذه الحرب، قتلت إسرائيل بالفعل أكثر من مائة ضعف عدد الفلسطينيين في غزة مقارنة بما فعلته في المذبحة التي أودت بحياة والد النخالة. فكم من الأطفال في سن الثالثة سيظلون يسعون إلى الانتقام بعد سبعة عقود من الآن؟
لكن في إسرائيل، لا يوجد أي دليل على أن إسرائيل لن تتسامح مع هذه الحرب. فكما حذر عامي أيالون، رئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي السابق (شين بيت)، حتى قبل الحرب الحالية في غزة: "إذا واصلنا نشر الإذلال واليأس، فسوف تنمو شعبية حماس. وإذا تمكنا من إبعاد حماس عن السلطة، فسوف نواجه تنظيم القاعدة. وبعد القاعدة، وتنظيم الدولة وبعده، لا أحد يعلم إلا الله".
ولكن باسم سلامة اليهود، يبدو أن المنظمات اليهودية الأمريكية تتسامح مع أي شيء تفعله إسرائيل بالفلسطينيين تقريبا، حتى الحرب التي تعتبرها منظمة العفو الدولية والباحث البارز في الهولوكوست المولود في إسرائيل عومير بارتوف الآن إبادة جماعية. ولكن ما لا يستطيع الزعماء اليهود والساسة الأمريكيون أن يتسامحوا معه هو المساواة بين الفلسطينيين واليهود، لأن هذا من شأنه أن ينتهك حق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية، وفقا للمقال.