الشحومي: الإنفاق الحكومي في ليبيا منفلت وفي حاجة إلى رقابة
تاريخ النشر: 24th, April 2024 GMT
ليبيا – أعتقد مؤسس سوق المال الليبية وأستاذ التمويل بجامعة نوتنغهام ترنت ببريطانيا سليمان الشحومي،أن الإنفاق الحكومي في ليبيا منفلت وفي حاجة إلى رقابة.
الشحومي وفي حديث خاص لموقع “اندبندنت عربية”، قال إن تعديل سعر الصرف حالياً ليس من صلاحيات المصرف المركزي،وتبعاته صعبة جداً على المواطنين.
ورأى أن الاقتصاد الليبي ضعيف البنية والهيكل على نحو واسع، حتى مع تحسن الإيرادات وانتظامها إلى حد كبير من خلال مبيعات النفط والغاز، يبقى الإنفاق منفلتاً عند حكومتي الشرق والغرب، وهو إنفاق بلا موازنة أو مستهدفات خاضعة للرقابة.
وأضاف:” أن مصرف ليبيا المركزي واقع تحت ضغوط واسعة لتلبية الطلب على الإنفاق، سواء من جانب حكومة طرابلس المعترف بها دولياً وصاحبة الحق في الإنفاق من الإيرادات النفطية أو حتى حكومة الشرق التي ترتب للإنفاق عبر الاستدانة التي تجرى عبر آليات المصرف المركزي”.
وأشار الشحومي إلى أن المصرف يعاني في الأساس مشكلة بنيوية وهيكلية، وهو فاقد للقدرة على العمل وفق القانون بسبب عدم وجود مجلس إدارة فاعل بسلطاته وصلاحياته مسندة إلى مجلس الإدارة، وعلى رأس هذه الصلاحيات تعديل سعر صرف الدينار الليبي.
ووقف الشحومي موقفاً مناهضاً من القرار الأخير المتعلق بفرض ضريبة على مبيعات النقد الأجنبي في ليبيا،قائلا:” إن هذه المسألة جاءت بناء على اقتراح من مصرف ليبيا المركزي الذي وضع جملة من المقترحات التي تمكنه من تسييل الإنفاق الذي يعتقد أنه سيكون هذا العام أكثر تضخماً من السنوات السابقة، وأن الإيرادات لن تكفي كل طلبات الإنفاق، ولكن يبدو أن المصرف المركزي يسير في طريق يغرد فيه منفرداً، إذ كان يتعين عليه أن يلتفت إلى أن مثل هذه الضريبة تصطدم بمسألة قانونية رصينة للغاية، ألا وهي عدم أحقيته في فرض ضريبة أو رسوم على مبيعات النقد الأجنبي إلا من خلال قرار حكومي، والحكومة في المقابل ترفض هذا التصرف”
وأكد أن مصرف ليبيا المركزي واقع تحت ضغوط واسعة لتلبية الطلب على الإنفاق.
وأعتقد الشحومي، أن المصرف المركزي في ليبيا فاقد في الأساس للقدرة على تعديل سعر الصرف لأنه بلا مجلس إدارة ولا يمتلك لجاناً للسياسات النقدية والاستثمار حتى يتمكن من دراسة الأمر وإصدار قراره وفقاً للقانون، بالتالي لجأ إلى خيار استثنائي من طريق مجلس النواب ورئيس المجلس عقيلة صالح، الذي يعتقد أنه نجح في إقناعه بأن هذا الأمر سيمكن مصرف ليبيا المركزي من توفير التمويل المناسب والملائم للإنفاق على الحكومتين، وربما أكثر تحديداً في الإنفاق على الحكومة في المنطقة الشرقية باعتبارها حكومة بلا موارد.
وأقر المتخصص الاقتصادي، بالانعكاسات الصعبة لقرار فرض ضريبة الـ27 في المئة على مبيعات النقد الدولي، بخاصة على المستوى المعيشي وارتفاعات في معدلات التضخم ومستويات الأسعار، وانخفاض المقدرة الشرائية لدى المواطنين، الذين هم يعانون بالأساس مع وجود الوضع السابق،مضيفاً “بينما كان مصرف ليبيا المركزي يستهدف عبر هذا القرار توفير العملة الأجنبية لطالبيها، إلا أنه لا يزال يفرض قيوداً كبيرة على مبيعات الدولار، بالتالي ربما هو نقل سعر الصرف في السوق الموازية التي تدار عبر كثير من المتعاملين في النقد الأجنبي إلى مستويات أعلى، ولم يتمكن حتى من الحفاظ على سعر الصرف الذي رفعه عبر هذه الضريبة، وأصبحنا نرى ارتفاعات متتابعة في سعر الصرف، ومستويات جديدة، ولم يتمكن أيضاً من توفير العرض الملائم للطلب المتزايد على الدولار، بخاصة مع شراهة الإنفاق والاستيراد الضخم في ليبيا”.
وصرح بوجود شبكة عالمية لتهريب الوقود في ليبيا ،منوها إلى أن ملف الدعم في حاجة إلى معالجة عميقة.
وعرج الشحومي في حديثه إلى قضية رفع الدعم عن المحروقات،ورأى أنه ملف قديم في ليبيا ويجرى طرحه من حين لآخر لما يسببه من إشكالية كبيرة تتعلق بارتفاع مخصصات الدعم والتسرب غير المنضبط في توزيع المحروقات، لافتاً إلى أن فروق أسعار الوقود في ليبيا ودول الجوار شاسعة للغاية، وهي فروق تغري أي شخص أو مجموعة لديهم القدرات الإدارية أو التنفيذية أو بقوة السلاح المنفلت على تهريبه، والاستفادة من الوفورات الهائلة من فارق الأسعار.
كما أكد الشحومي، وجود شبكة عالمية كبيرة جداً تدير بيع المحروقات في ليبيا،معتبرا أن ملف دعم المحروقات في حاجة إلى معالجة جذرية، ووضع إطار مناسب وسياسات واحدة على مدى معين، موضحاً وجود كثير من الخيارات المطروحة وعلى رأسها الاستبدال الكمي أو تخصيص كميات لاستهلاك الأفراد، لدعم قدرتهم على شراء الوقود، إضافة أيضاً إلى الدعم النقدي، ولكن هذا الأمر لم يحسم فيه الجدل حتى الآن، ولم تستطع أي حكومة المضي في هذا الملف، باعتبار أنه لا توجد في البلاد حكومة موحدة قادرة على اتخاذ مثل هذه القرارات،مردفا:”في تقديري الأمر في حاجة إلى معالجة شاملة في إطار من الموازنة العامة، وقوانين تصدر من البرلمان تضمن العدالة والشفافية في هذه المعالجة العميقة التي قد تسبب كثيراً من التصدعات في المستقبل، لكنها في حاجة إلى إدارة فاعلة وربما وجود جهة تشرف على مشروع التحويل أو الانتقال من الدعم بصورته الحالية إلى الدعم الأكثر انضباطاً وتنظيماً في البلاد”.
وتناول مؤسس سوق المال الليبية، في حديثه ملف الخصخصة للشركات العامة في ليبيا، ويرى أن هذا المشروع في حاجة أولاً إلى مقومات ومؤسسات تعمل بكفاءة ونظام رقابي منظم، وسوق مال نشطة وفعالة.
وأردف:””في ليبيا، لا تزال سوق المال متعثرة وغير فعالة، وإن عادت، أخيراً، للتداول عودة رمزية، ولا يوجد مشروع للخصخصة واضح المعالم ولا يمكن ذلك الآن في ظل هذا الانقسام والتخبط الإداري وتخبط المشروع الاقتصادي في ليبيا، وعدم وضوح الاستراتيجيات على مستوى الدولة، بالتالي أي مشروع حالي للخصخصة هو انتهاز للفرص، فلا يمكن القيام به في الوقت الحالي”.
وعن تراجع سعر الدينار الليبي أمام الدولار الأميركي، واستشراء نشاط السوق الموازية في البلاد، أعتقد أستاذ التمويل بجامعة نوتنغهام ترنت ببريطانيا أن وجود السوق السوداء في ليبيا أمر طبيعي، في وجود عارض واحد للنقد الأجنبي هو مصرف ليبيا المركزي، إذ ليس هناك عوائد دولارية أخرى بديلة لعوائد النقط، سواء كانت من الصادرات الزراعية أو تحويلات من العاملين بالخارج، وأمام العرض المحدود للدولار هناك طلب واسع بسبب الأوضاع الهشة وعدم الثقة في النظام الاقتصادي الليبي.
وختم الشحومي قائلاً: “كثير من الليبيين يبحثون عن تخزين القيمة عبر استبدالها بالدولار الأكثر استقراراً وضماناً وتخوفاً من انهيار الدينار الليبي أو تعرضه لأي تبعات سلبية، بالتالي يجرى التحوط بالذهب أو بالعملة الأجنبية، وعليه فإن السوق السوداء للدولار ستستمر في ليبيا طالما ظلت الأوضاع بهذه الصورة، بخاصة في ظل غياب سياسات متسقة على المستوى التجاري أو النقدي أو حتى المستوى المالي، بحيث يجرى ضبط الاستيراد والتصدير وإدارة النقد الأجنبي بصورة مناسبة عبر المصارف والمؤسسات النقدية في ليبيا، والاقتصاد الليبي في حاجة إلى عملية تنظيم شاملة، يكون لها انعكاساتها على المواطن أو النظام النقدي أو النظام المالي”.
المصدر: صحيفة المرصد الليبية
كلمات دلالية: مصرف لیبیا المرکزی المصرف المرکزی النقد الأجنبی فی حاجة إلى على مبیعات سعر الصرف فی لیبیا إلى أن
إقرأ أيضاً:
الإشكالية الفلسفية في تنمية القطاعات (التدخل الحكومي والفشل السوقي)
طرحنا في الجزء الأول من المقال استقراءنا لرغبة الحكومة في التحول من الشكل الاقتصادي الريعي المركزي إلى شكل يتلمس نموذج السوق الحر حيث تعتمد حركة الاقتصاد ونموه على الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتساءلنا عن وجود خطة تحول اقتصادي وقياس تأثيراتها على أربعة أسواق هي سوق المال والأعمال والعمل والاستهلاك وما يصاحبها من تأثيرات اجتماعية وسياسية. وإن كان أساس التحول هو التخارج الحكومي من السوق لصالح القطاع الخاص، فمن المهم فهم الأسباب التي حدت بالدولة إلى التدخل في السوق بهذا الشكل وما إن كانت قد حققت غايتها من هذا التدخل قبل التخارج منه.
يعَد التدخل الحكومي في السوق أحد أكبر القضايا الجدلية التي ناقشها فلاسفة الاقتصاد، فبين يوتوبيا النظام الرأسمالي الذي بشر به آدم سميث الداعي إلى عدم تدخل الحكومة في السوق وتركه لديناميكية العرض والطلب، إلى المثالية العالية للنظام الاشتراكي الذي يدعو إلى سيطرة الدولة على السوق وتوجيهه حسب منفعة المجتمع. ويرى كورناي (2000) أن الفرق بين النظامين يكمن في ثلاثة تصنيفات رئيسية وهي ملامح النظام السياسي، وتوزيع الملكية، ووجود التنسيق في السوق. ويلخّص زيا اونيس (1991) الخلاف الدائر بين المدارس الاقتصادية في هذا الشأن في محورين مهمين؛ محور المدرسة الليبرالية الذي يرى أن الدول النامية (Less Developed Countries) عليها أن تتدخل في السوق لمعالجة الفشل السوقي وبالتالي الوصول إلى تنمية مستدامة، في المقابل ترى المدرسة الكلاسيكية أن تدخل الدولة في السوق قد ينتج عنه ثلاث تداعيات رئيسة وهي: 1) إيجاد قطاعات ذات فعالية ضعيفة مما يتطلب دعما حكوميا مستمرا لهذه الشركات، 2) تعزيز حضور نموذج الدولة الريعية مما يشتت انتباه العاملين في أشكال التدخل نحو خلق لوبيات هدفها الحصول على أكبر قدر من الدعم الحكومي بدلا عن إصلاح الفشل السوقي، 3) أن نجاح الدول التي تدخلت الحكومة فيها في السوق مثل دول النمر الآسيوي عائد لوجود حوافز قوية موجهة لخلق قطاع خاص قوي.
ودون الانحياز إلى آراء المدرستين الكلاسيكية والليبرالية، فإنه من الضروري فهم الأسباب التي تدعو الحكومات إلى التدخل في السوق، حيث تشير الأبحاث عموما إلى مجموعة من الحالات أهمها: تعديل الميزان التجاري، ومعالجة الفشل السوقي، وتسريع عملية تنمية القطاعات الحوية، ولإيجاد إجراءات حمائية تجاه سيطرة رأس المال الأجنبي، ولرفع مستوى الابتكار في السوق. أما عن الكيفية التي تتدخل فيها الحكومة فيذكر لويس بريرا (1992) أن الحكومات تتدخل بعدة أشكال، وقام بوضع أربع تصنيفات وهي: 1) إصدار تشريعات ولوائح تنظيمية للاقتصاد الكلي، 2) وضع تشريعات معيارية للاقتصاد الجزئي، 3) التدخل في الاقتصاد الجزئي من خلال حالات خاصة، وأخيرا 4) التأميم أو من خلال استثمارات مباشرة بإنشاء شركات مملوكة للدولة.
الفشل السوقي
يقسم علماء الاقتصاد الكفاءة إلى ثلاثة تقسيمات أساسية وهي الكفاءة التخصيصية Allocative Efficiency، والكفاءة الديناميكية Dynamic Efficiency، والكفاءة غير المعرفة X-efficiency . تعرف الكفاءة التخصيصية على أنها القدرة على تطوير المورد بأفضل السبل المتاحة، بحيث لا يمكن تخصيص هذه الموارد بسبل أخرى دون الإضرار بموارد أخرى أو أشخاص آخرين، حيث تسعى الكفاءة التخصيصية إلى الوصول بالاقتصاد إلى إيجاد عائد بنسبة 80% من خلال استغلال 20% من الموارد، وهو ما يعرَف أيضا بتأثير باريتو، وعليه يذهب علماء الاقتصاد من هذا المنظور أن الفشل السوقي يحدث عندما لا يتمكن الاقتصاد من الوصول إلى تأثير باريتو. وتعرف الكفاءة الديناميكية على أنها قدرة الاقتصاد أو المؤسسة على الابتكار لتقليل مصاريفها في تطوير الموارد، وإسقاطا لهذا التعريف على الدول فإننا نستطيع القول إن الكفاءة الديناميكية للاقتصاد هي قدرته على الابتكار لتعزيز نموه. في حين تختص الكفاءة-س بالمؤسسات وقدرتها على تعزيز ربحيتها في سوق غير متكافئ.
ما يهمنا هنا هو الكفاءتين التخصيصية والديناميكية في فهم فشل السوق، فإذا ما نظرنا إلى الاقتصاد من منظور الكفاءة التخصيصية فإن الفشل السوقي يكمن في عدم قدرة قطاع اقتصادي بالوصول إلى 80% من العوائد المباشرة أو غير المباشرة من خلال استغلال 20% من تلك الموارد. يلخص الاقتصادي الأمريكي جوزف ستيجليتز في كتابه اقتصاد القطاع عام (1988) مظاهر الفشل السوقي الناجم عن عدم وصول السوق إلى تأثير باريتو في الحالات التالية: 1) ضعف المنافسة وظهور الاحتكار، 2) ضعف توفر السلع العامة، 3) وجود عوامل خارجية تؤثر في حركة السوق، 4) وجود أسواق غير مكتملة، 5) ضعف توفر المعلومات عن السوق، 6) وجود البطالة والتضخم. وعليه فإن مظاهر الفشل السوقي أعلاه تؤثر بشكل سلبي على الكفاءة الديناميكية للاقتصاد، وهي المحرك الرئيسي لنموه، فعدم الاستفادة القصوى من الموارد يؤدي إلى وجود فشل سوقي، والذي بدوره يؤدي إلى تقليص الكفاءة الديناميكية للاقتصاد وبدوره يؤدي إلى ضعف أكبر في الاستفادة من الموارد، وهكذا دواليك إلى أن يتم كسر حلقة الضعف القائمة في الاقتصاد بتدخل جراحي من قبل الدولة في السوق لإيقافها.
عمان والتدخل الحكومي
وبالنظر إلى الوضع الاقتصادي والاجتماعي لسلطنة عمان في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات فإن مفهوم الدولة بشكلها الحديث كان في مراحله الأولى من التشكل، ولم يكن الاعتماد الكلي على القطاع الخاص في التنمية من شأنه أن يحقق النقلة النوعية التي احتاجتها السلطنة للنمو المتسارع، لذا فقد اختارت السلطنة مبكرًا أن تتدخل في السوق بشكل موسع لتحقيق هدف واضح وهو تسريع عملية التنمية، وتمثل التدخل آنذاك من خلال التخطيط والتنفيذ المركزي للاقتصاد فيما كان يعرف بمجلس التنمية والذي انبثقت منه الخطط التنموية الخمسية. إلا أن هذا التدخل في السوق لم يتمكن بعد من معالجة مجموعة من مظاهر الفشل السوقي وأهمها تأثر السوق بالعوامل الخارجية، وضعف المعلومات عن السوق وفوق هذا كله ازدياد الباحثين عن عمل. ونستطيع القول إن التدخل الحكومي في السوق تطور منذ السبعينيات إلى أن وصل للشكل الحالي الذي يتضمن جميع أشكال التدخل الحكومي التي ذكرها لويس بريرا (1992) والذي تسعى الدولة اليوم إلى التخارج منه، فعند بداية عصر النهضة أسندت الدولة مجموعة من المشاريع العملاقة في البنى الأساسية لبعض الشركات العمانية والتي كانت لدى بعضها شراكات استراتيجية خارجية لتوفير الخبرات اللازمة لإتمام المشاريع، مما أدى إلى وجود قطاع خاص معتمد على الدعم الحكومي وعلى المشاريع الحكومية المرتبطة بإتمام البنى الأساسية فقط دون أن يكون لدينا قطاع خاص قادر على تطوير الموارد الأولية للدولة. وبالتالي، لا يمكن الاعتماد على هذه الشركات عند تذبذب أسعار النفط، حيث إنها غير مرتبطة بمورد آخر لمشاريعها غير الدولة والشركات المملوكة لها.
إذا ما أردنا أن نرسم خريطة مبسطة للتدخل الحكومي في الأسواق الأربعة باعتماد نموذج لويس بريرا فإن الدولة تتدخل كالتالي:
أولا: سوق المال؛ حيث تقوم الحكومة بتنظيم السوق من الناحية التشريعية ومن الناحية العملياتية عبر إنشاء شركة بورصة مسقط، كما قامت بإنشاء بنك التنمية العماني وبنك الإسكان وبعض الصناديق الاستثمارية مثل: صندوق رفد وصندوق عمان للتكنولوجيا وصندوق عمان المستقبل.
ثانيا: سوق الأعمال؛ فالحكومة تتدخل بشكل أكبر، فعهدت وضع السياسات لوزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار، وعهدت دعم قطاع الأعمال الناشئ لهيئة تنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة. أما من حيث الاستثمار المباشر في سوق الأعمال فقد قامت الدولة بإنشاء شركات مملوكة لها تستثمر في جميع القطاعات الاقتصادية بدءًا من النفط والغاز إلى إنتاج الغذاء تحت صندوق التنويع الاقتصادي التابع لجهاز الاستثمار العماني.
ثالثا: سوق العمل: عهدت الدولة وضع السياسات المتعلقة بالسوق ودعمه وتطويره ومتابعة تنفيذ برامجه لوزارة العمل التي بدورها قامت بعدة برامج ولجان لمحاولة تنظيمه أو رفع كفاءته من خلال برامج التدريب والإحلال والتوطين.
رابعا: سوق الاستهلاك: يتمثل التدخل الحكومي من خلال الناحية التشريعية والتنظيمية عبر وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار وعبر هيئة حماية المستهلك وبعض الهيئات التنظيمية للقطاعات التي تنتهي في السوق المحلي مثل: قطاع الاتصالات وقطاع الخدمات، كما تتدخل في سوق الاستهلاك من خلال دعم بعض السلع الأساسية والاستثمار في بعض المنتجات الموجودة في سوق الاستهلاك من خلال شركاتها الحكومية.
إلا أن هذا التدخل الحكومي في السوق لا يحمل نسقًا عامًا تقوده هوية اقتصادية أو أهداف واضحة، مما يشير إلى أن التدخل الحكومي في السوق ناتج عن رد فعل على أحداث اقتصادية أو سياسية معينة دون أن ينبع عن خطة اقتصادية شاملة للتحول الاقتصادي من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد القائم على الشراكة بين القطاعين العام والخاص. فعلى الرغم من تحديد رؤية عمان 2040 للقطاعات الرئيسية التي تسعى إلى تطويرها، فإننا لا نجد اليوم تفصيلًا دقيقًا لكفاءة هذه القطاعات (الديناميكية والتخصيصية) كما لا نجد تفصيلا لوجود مظاهر الفشل السوقي التي ذكرها ستيجليتز في كتابه اقتصاد القطاع العام (1988)، حيث إن القطاعات التنموية التي تركز عليها رؤية عمان 2040 غير قادرة على النمو بالشكل الذي ترتفع معه فرص التوظيف في هذه القطاعات مما يزيد العبء على قطاعات اقتصادية مثل: النفط والغاز والقطاعات الحكومية والعسكرية على احتواء هذه الأعداد.
وإن كانت التدخلات الحكومية لدواعي الدعم والتنظيم تقربها بشكل أكبر إلى النظام الرأسمالي، فإن التدخل الحكومي من خلال الاستثمار المباشر في السوق يقربها أكثر إلى النظام الاقتصادي التدخلي الاشتراكي. مما يظهر ضرورة معرفة الحدود التي يجب أن تتدخل فيها الدولة في السوق والحدود التي يجب أن تتخارج منه. فوجود الدولة وتحكمها في بعض القطاعات لا ينبع فقط من أهداف اقتصادية بحتة، بل قد يكون مدفوعًا بأهداف استراتيجية أو أمنية تحتم على الدولة الاستمرار في التدخل وعدم التخارج منه. في حين، تحتاج بعض القطاعات إلى أن تعمل بكفاءة القطاع الخاص ورشاقته في اتخاذ القرارات التجارية وبالتالي لا يمكن للحكومة إلا أن تتخارج منه وتدعم القطاع الخاص من خلال تشريعات ولوائح تنظيمية تعزز من بيئة الأعمال وتسانده في تحقيق عوائد عالية يمكن من خلالها رفع مساهمتها في الدخل الناجم عن الضرائب. كما تحتاج بعض القطاعات إلى تدخل مؤقت لكسر الاحتكار أو تعزيز الابتكار أو تقليل مخاطر الاستثمار من خلال عمليات معالجة دقيقة في تطوير هذه القطاعات. كل هذه الأهداف لا يمكن أن تحقيقها دون تحديد الهوية الاقتصادية للبلاد والتي ستمكنها من تحديد أولوياتها وشراكاتها وأطر التشريعات والقوانين وملامح العقد الاجتماعي وحتما كيفية معالجة ضعف الكفاءة التخصيصية التي تنجم عنها ملفات أصبحت معقدة مثل ملف الباحثين عن عمل. وعليه نتساءل، هل يوجد هنالك تفصيل واضح من قبل الجهات المعنية بالملف الاقتصادي في السلطنة للكفاءة التخصيصية للموارد الأولية والكفاءة الديناميكية للسوق ومظاهر فشل السوق مثلما يرد في الأدبيات الاقتصادية؟ وهل التدخل الحكومي في السوق ناجم عن تأثيرات آنية مؤقتة أو يقع ضمن استراتيجية واضحة لمعالجة ملفات معينة؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة ستصب في صالح التخطيط الصحيح لتطوير القطاعات المستهدفة في «رؤية عمان 2040» كما أنها سترفع من كفاءة استثمارات الدولة في هذه القطاعات من خلال التخطيط الصحيح لتطوير القطاعات ومميزاتها عن تطوير الأعمال، الأمر الذي سنناقشه باستفاضة في الجزء القادم من السلسلة.
د.المعتصم البهلاني كاتب مختص بالتخطيط الاستراتيجي