تنقيب في دفاتر حولية الحرب (2): مؤتمر باريس: تمثيل دولي منقوص، و”إعلان مبادئ” بلا إجماع
تاريخ النشر: 24th, April 2024 GMT
بقلم: خالد التيجاني النور
24 أبريل 2024
1
اختتمنا المقال التمهيدي في هذه السلسلة عن حولية الحرب وتداعياتها، على خلفية الجدل الذي أثارته فعاليات مؤتمر باريس بشأن السودان، بتساؤل إن كان "إعلان المبادئ"، الوثيقة الأكثر أهمية الصادرة عن الاجتماع الوزاري، وإن لم تكن محل إجماع بين المشاركين كما سنفصل لاحقاً، يوفي باستحقاقات إنهاء الحرب وتحقيق السلام المستدام، والحفاظ على وجود الدولة السودانية، والحرص على تطلعات الشعب السوداني وفق مرجعية أهداف المؤتمر وهي "بغية دعم مبادرات السلام من أجل السودان"، والتأكيد على "عزمنا الراسخ مجدّدًا على المساهمة في تسوية النزاع في السودان على نحوٍ سلمي، مع الحرص على تطلعات الشعب السوداني وسيادة السودان ووحدته وسلامة أراضيه" كما ورد نصاً في ديباجته.
2
وقبل الشروع في تحليل محتوى بنود "الإعلان" هناك العديد من الملاحظات الجوهرية التي تكتنفه، ليس أولها من يمثل هذا الإعلان؟، فإطلاق صفة "الدولي" على المؤتمر تفترض توفر شرطين على الأقل، أولاً أن هناك تمثيلاً دولياً شاملاً مشاركاً في المؤتمر، وثانياً أن يكون "إعلان المبادئ" محل توافق حوله يمثل جماع الإرادة الدولية بتوازناتها المختلفة.
عند تحليل قائمة المشاركين في المؤتمر يتضح أن إطلاق صفة "دولي" عليه غير متحققة من حيث شمول التمثيل لأطراف المجتمع الدولي المختلفة، وطبقاً لبيان الرعاة الثلاث للمؤتمر، فرنسا وألمانيا والاتحاد الأوربي، الصادر في ختام المؤتمر يوم 15 أبريل الجاري "جمع هذا المؤتمر وزراء وممثلين عن 58 دولةً تشمل البلدان المجاورة وبلدان المنطقة، وجهات مانحة، وممثلين عن منظمات إقليمية على غرار الاتحاد الأفريقي، والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية، وجامعة الدول العربية، والمبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة إلى السودان وقادة عدة برامج ومؤسسات تابعة للأمم المتحدة وممثلين عنها".
3
بالإطلاع على قائمة الدول المشاركة في المؤتمر يتضح أن الصين وروسيا لم تشاركا، وهو ما يعني أن 40% من الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي غير ممثلة، ولم تتوفر للكاتب معلومات إن كانت وجهت لهما الدعوة من قبل الرعاة، ولم يستجيبا لسبب أو لآخر، أم لم توجه الدعوة لهما أصلا.
الملاحظة الثانية في شأن عدم شمول المشاركة في المؤتمر أن نصف الدول الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن لم تشارك فيه أيضاً، فالدول الأفريقية الثلاث الأعضاء في المجلس وهي الجزائر، وموزمبيق، وسيراليون لم تشارك، كما غاب عن المشاركة أيضاً ممثلا أمريكا الجنوبية في المجلس وهما الإكوادور وغيانا، ولم تتوفر معلومات عن سبب غياب الدول الخمس عن محفل يُفترض أنه دولي، مع ما يقتضيه وجودها بالضرورة بحكم عضويتها في مجلس الأمن.
دلالة هذا التحليل لقائمة المشاركين يظهر أن مؤتمر باريس يمثل من واقع المشاركة "الكتلة الغربية" وحلفائها، ولا يعبر بالضرورة عن المجتمع الدولي قاطبة كما توحي بذلك صفة "الدولي" المطلقة عليه في غياب أطراف ذات وزن معتبر في الساحة الدولية. فضلاً عن غياب العديد من الدول وثيقة الصلة بالملف السوداني في القارة الإفريقية أو الدول العربية.
4
وينعكس ذلك بالضرورة على طبيعة وزن وجدوى "إعلان المبادئ"، إذا لا يستطيع كسب صفة تمثيل المجتمع الدولي قاطبة، حيث يكشف قصور المشاركة عن تمثيله لأطراف معينة في الساحة الدولية، وهو ما يسقط حالة الاستقطاب الدولي السائدة على الوضع في السودان في ظل عدم التوافق على رؤية مشتركة دولياً بشأن تشخيص وسبل علاج قضية الحرب، وهو أمر سيعبر عنه بالضرورة في مواقف وقرارات مجلس الأمن الدولي فيما يلي القضية السودانية مما يجعلها تحت طائلة الدخول في نفق "الجمود" بفعل الأمر الواقع في ظل استمرار حالة الاستقطاب، وعدم التوافق الراهن بين صناع القرار الدولي حولها بكل تبعات وتداعيات ذلك.
5
بيد أن الأمر اللافت أكثر بشأن "إعلان المبادئ"، ولا يخلو من مفاجأة، أن لم يحظ كذلك بالتوافق والإجماع حوله حتى من قبل كل المشاركين في مؤتمر باريس، وهو ما أضطر الرعاة إلى استدراك ذلك في أول فقرة من البيان بتحديد الأطراف الموافقة عليه، في تأكيد على أنه لم يكن محل اجماع المشاركين، حيث أورد نصاً لائحة في ذيل الييان يحدّد "الدول والمنظمات الدولية والإقليمية التي تؤيد هذا الإعلان، وهي: ألمانيا، المملكة العربية السعودية، جيبوتي، مصر، الإمارات العربية المتحدة، الولايات المتحدة الأمريكية، إثيوبيا، فرنسا، الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية، كينيا، ليبيا، جامعة الدول العربية، النرويج، منظمة الأمم المتحدة، المملكة المتحدة، جنوب السودان، تشاد، الاتحاد الأفريقي، الاتحاد الأوروبي".
6
ويندرج تصنيف المؤيدين لهذا الإعلان، مع الإشارة إلى أن دولاً أيدته وأخرى لم تؤيده في الوقت الذي أيدت منظمات إقليمية منضمة لها الإعلان، في المجموعات التالية: "رعاة المؤتمر الثلاث" وتضم فرنسا ألمانيا والاتحاد الأوروبي، مجموعة "الترويكا"، وتضم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والنرويج، حاملة قلم "الكتلة الغربية" في الشأن السوداني لأكثر من عقدين، الاتحاد الأفريقي، مجموعة إيقاد، ومجموعة دول الجوار، بالإضافة إل المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، السعودية والإمارات.
والملاحظة أنه مع توقيع منظمة إيقاد بسكرتيرها التنفيذي إلا أن نصف الدول الثمان الأعضاء لم تؤيدهوهي أوغندا والصومال المشاركتين في المؤتمر، وإرتريا التي قاطعت المؤتمر، والسودان الذي لم يُدع، بينما أيدته إثيوبيا وجيبوتي وجنوب السودان وكينيا، وهو انقسام سيلقي بظلاله على أية فرص مستقبلية ل "إيقاد" لمواصلة مبادرتها المتعثرة أصلا.
وفيما يلي دول الجوار أيدت "إعلان المبادئ" مصر، ليبيا، تشاد، جنوب السودان، إثيوبيا، ولم تؤيده أفريقيا الوسطى المشاركة في المرتمر، وإرتريا المقاطعة بالطبع.
7
تحليل البيانات المفصل أعلاه، ليس تمريناً اعتباطياً بل أداة مهمة لتفكيك وفهم خلفيات وديناميات كواليس مؤتمر باريس، فإثبات عدم شمولية التمثيل الدولي فيه، وكذلك عدم تحقق التوافق الشامل على "إعلان المبادئ" بين المشاركين فيه، يسهم في فهم تركيبته الداخلية وحدود توازنات أطرافه في الساحة الدولية، وتساعد على قراءته في سياقاته الفعلية، وليست المتخيلة، بحيث تحلل مخرجاته وفرص تأثيرها وجدواها على نحو موضوعي، دون تهوين ولا تهويل.
والشاهد هنا، بغض النظر عن التمثيل المنخفض المستوى لأغلب المشاركين لا سيما على مستوى المنظمات الدولية والإقليمية ودول الجوار، ودون التقليل من ثقل وزن رعاة "إعلان المبادئ" إلا أنه بالنظر إلى عدم تحقق توافق واسع حوله من داخل المؤتمر، فضلاً عن غياب أطراف دولية ذات تأثير وازن في الساحة العالمية، فإن ذلك يعني عملياً دخول القضية السودانية نفق الاستقطابات الحادة التي من شأنها أن تزيد من تعقيدها بدلاً من أن تسهم في حلحلتها.
8
ولننظر في المقال القادم في محتوى "إعلان المبادئ"، وإلى أي مدى أسهمت السردية المتبناة من قبل الرعاة حول الحرب في السودان في حشرها في مطب التناقضات والاستقطابات بين القوى الدولية الفاعلة، ولتصبح ساحة آخرى لتصفية حساباتها المعقدة في أكثر من بؤرة صراع محتدم في مناطق ساخنة في المنطقة وخارجها.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: إعلان المبادئ مؤتمر باریس فی المؤتمر مجلس الأمن فی الساحة من الدول
إقرأ أيضاً:
السودان وجنوب السودان: حتاما نساري “الدم” في الظلم (1-2)
عبد الله علي إبراهيم
ملخص
كانت دولة جنوب السودان كإقليم في السودان معملاً كبيراً لنظرية العرق النقدية في الحرب السودانية، وأهاج أهلها خبر قتل جماعة من مواطنيها العالقين في السودان منذ الانفصال في 2011 بتهمة الارتزاق مع "الدعم السريع" واستنكرته حكومتهم.
ربما لم تكن عبارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب في خطاب تنصيبه عن تصفية الليبرالية في المجتمع والدولة في قوة عبارة الرئيس رونالد ريغان، "مستر غورباتشوف اهدم هذا الحائط" التي انطوت بها خيم النظم الشيوعية. ولكن هدم ترمب بعبارته أعمدة العقيدة الليبرالية بلا مواربة. فقال إنه سينهي إشاعة الهندسة الاجتماعية للعرق والجندر في شأنهم العام والخاص. وسيقيم مجتمعاً كفيف البصر حيال اللون وقائماً على مكافأة من أحسن صنعاً. وعليه ستقوم سياسة الدولة على أن هناك نوعين من البشر ذكراً وأنثى.
حديث ترمب هذا يمثل طياً لخيم الليبراليين، أي لنظرياتهم في الهوية والشوكة مثل "الهويات المتقاطعة" (1989)، و"الووك" (2014)، وأشهرها "نظرية العرق النقدية" (آخر السبعينيات أوائل الثمانينيات). وجميعها تلتقي في الاعتراف بالفوارق العرقية سليلة التاريخ الأميركي التي لا تزال قائمة حتى بنهوض حركة الحقوق المدنية للسود الأميركيين. والأخيرة هي النظرية التي تقول إن العرقية ليست نتاج حزازة شخصية للفرد في جماعة ما ضد جماعة أخرى، بل هي ضغينة متوطنة في النظام القانوني والشوكة السياسية والثقافية.
وتريد هذه النظريات الكشف عن هذه المنطويات في التاريخ والواقع لتوضيح كيف تنظلم جماعات من الناس من هذه العرقية بقصد إنهاء آثارها الضارة وبناء عالم عادل وصحي للجميع. وامتد أثر النظرية ليشمل النساء والمثليين. وهي عند المحافظين نظريات هدامة مبالغة تدس بين القوم وتنبش التاريخ لتخجل به قوماً حيال قوم. وتتحول إلى شرطي يتعقب العبارة وصحتها السياسية. ووصف ترمب النظام الأميركي بأنه المكافئ لمن أحسن عملاً من أين جاء مما أراد به الكف عن التوسل بهذه الهويات الأصاغر في مثل التمييز الإيجابي للإحسان، فالإحسان في أميركا لمن أحسن عملاً بلا نظر لعرقه أو نوعه.
لم يجف مداد كلمة ترمب التي هدم فيها أعمدة الليبرالية حتى دخلت دولة جنوب السودان التي كانت كإقليم في السودان معملاً كبيراً لنظرية العرق النقدية في الحرب السودانية. فقد أهاج أهلها خبر قتل جماعة من مواطنيها العالقين في السودان منذ الانفصال في 2011 بتهمة الارتزاق مع "الدعم السريع"، واستنكرته حكومتهم. وساد بين الليبراليين في الشمال، ممن ينتسبون إلى تنسيقية القوى الديمقراطية والتقدمية "تقدم"، أو من حولها، خطاب بدا أنه لم يتصالح بعد مع حقيقة أن السودان صار سودانين اثنين. فظلوا يسمون قرار اعتزال الجنوب للسودان "انفصالاً"، وهي الكلمة البغيضة في القاموس السياسي منذ عهد الاستعمار الذي أدار جنوب السودان بمعزل عن بقية القطر تمهيداً لضمه إلى شرق أفريقيا بما عرف بـ"سياسة المناطق المقفولة". ولا يجد مواطنو جنوب السودان حرجاً في تسمية ما هم فيه "استقلالاً" يعدونه فخراً، ناهيك باستهجان بعضهم أن يوصف استقلالهم هذا بغير ما أرادوا له أن يسمى.
وبينما أحسن هذا الخطاب السوداني الليبرالي حقاً في شجب مقاتل تلك الجماعة الجنوب سودانية، إلا أنه استنكر إخضاع النظر إليها في واقع في الحرب التي نهضت الشواهد على توظيف لمواطني جنوب السودان العالقين وغير العالقين في الحرب إلى جانب "الدعم السريع". فتداولت الوسائط منذ أشهر فيديو لخطيب منهم، بدا كمقاول أنفار، بين جماعة غزيرة من مواطني جنوب السودان يطابق بين "الدعم السريع" وعقيدة السودان الجديد التي كانت عنوان الحركة الشعبية لتحرير السودان ضد دولة 1956، بل أنهى حديثه بـ"دعم سريع وي وي" وهي مما كانت تختم به حشود الحركة الشعبية.
من أفدح ما وقع في هذه المواجهة السودانية - الجنوب سودانية هو استباحة دم السودانيين في جنوب السودان ومالهم في الشغب الذي جرى، بعد سماع مواطني جنوب السودان خبر قتل بعض مواطنيهم في الجار الشمالي. وبدا من عبارات لبعض السودانيين الجنوبيين في الشغب وكأنهم يصفون ما زال حساباً قديماً ضد أبناء الشمال-السودان حين كان البلد واحداً. فكأن مقتل جماعة منهم في سياق الحرب، بغض النظر عن سببه، هو نسخة أخيرة لمقاتلهم في الشمال منذ استقلاله. وينسون هنا أنهم صاروا بلداً مستقلاً بإرادتهم وعزائمهم سواء في ميدان السياسة والحرب ومن فوق حق تقرير المصير، ذؤابة الحرية، في 2011.
وما حال دونهم والتفكير في السودان كدولة مستقلة، حتى لو أخطأت في حق بعض مواطنيهم، هي ثقافة المظلمة التي نشأوا عليها تذيعها الصفوة الليبرالية الشمالية. ونواصل.
ibrahima@missouri.edu