الجانب الآخر من الحرب النووية.. كيف جاءت شهادات العلماء عن محاولاتهم لمنع القنبلة؟
تاريخ النشر: 30th, July 2023 GMT
مقدمة الترجمة
مع موجة الجدل التي أثارها فيلم "أوبنهايمر" الصادر مؤخرا من إخراج كريستوفر نولان، جاءت الأسئلة عن العلاقة بين العلم والسياسة من كل حدب وصوب، خاصة أن الفيلم ركز على هذه القضية في جانب منه، حيث إن العلماء لعبوا دورا رئيسيا في فعل يمكن أن نعده غير أخلاقي أيًّا كانت المبررات، فما الذي وقع فيه العلماء من أخطاء؟ وما الذي يمكن أن نتعلمه مما سمي بعد ذلك "لحظة أوبنهايمر"، تلك اللحظة التي أصبح العالم بعدها شيئا مختلفا تماما.
قضى روبرت أوبنهايمر، عالم الفيزياء الأميركي الذي قاد الجهود نحو تطوير القنبلة الذرية، سنوات من عمره في صراع بين علمه وما يُمليه عليه ضميره. لم يتوانَ أوبنهايمر في التعبير علنا عن مخاوفه بشأن القنبلة الهيدروجينية وسباق التسلح النووي، وهو ما أنهى مسيرته بصورة مأساوية ووقع ضحية للصراع السياسي والتوترات النووية في تلك الفترة. ومع ذلك، فإن العديد من الخبراء الأوائل في الطاقة النووية، بما في ذلك علماء جامعة شيكاغو -الذين أنتجوا أول تفاعل نووي متسلسل- راودهم شعور بواجب المساعدة في منع إساءة استخدام العلوم الذرية لعلهم بذلك يتفادوا نهاية محزنة.
لقد فهم هؤلاء العلماء شيئا يحتاج رواد التقنية الحديثة اليوم في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والهندسة الوراثية إلى إدراكه، وهو أن الأشخاص المسؤولين عن تحقيق التقدم الثوري في العالم لا بد أن تحتِّم عليهم خبرتهم ومسؤولياتهم الأخلاقية أن يساعدوا المجتمع في التعامل مع تلك المخاطر الناجمة عن أعمالهم. يعمل الباحثون اليوم في مختبرات الجامعات والشركات الربحية على تقنيات تُثير لجة متقافزة من الأفكار الأخلاقية العميقة على غرار: هل يمكننا تعديل جينات النباتات والحيوانات لجعلها كائنات مُقاومة للحيوانات المفترسة دون الإخلال بتوازن الطبيعة؟
ينوء صدر العلماء بالشكوك حول أسئلة أخلاقية أخرى مثل: هل يجب أن نسمح بحقوق الملكية الفكرية (براءات الاختراع) على الكائنات الحية المُعدلة وراثيا؟ (بمعنى أن المخترع يملك حقوقا حصرية لاستخدام وتسويق تلك الكائنات المُعَدلة وراثيا)، وهل من السليم أو المقبول أخلاقيا إجراء تعديلات جينية على الجينوم البشري لتصحيح الأخطاء الوراثية التي من المُفتَرض أنها موجودة في البشر؟ وهل يجب أن نسمح للآلات باتخاذ قرارات مصيرية لها تبعات جسيمة، كاستخدم القوة للرد على تهديد ما، أو شن ضربة نووية انتقامية ردا على هجمة ما؟ في ذلك الوقت، ترك علماء الذرة في شيكاغو وغيرها وراءهم معايير وأخلاقيات لممارسة العلم بطريقة تضمن المسؤولية والحذر، وهي معايير ما زالت مهمة وقابلة للتطبيق في وقتنا الحاضر كما كانت في أيام أوبنهايمر.
سباق نحو صنع القنبلةفي 2 ديسمبر/كانون الأول عام 1942، بدأ السباق نحو صنع القنبلة الذرية في مختبر المعادن بجامعة شيكاغو، وحدث أول انشطار نووي هندسي ومُستدام ذاتيا (دون الحاجة إلى إمداد خارجي بالمزيد من المواد المُشعة للحفاظ على التفاعل). في ذلك الوقت، تجمع العلماء في معمل المعادن بجامعة شيكاغو الذي أُطلِق عليه اسم "القرية الذرية"، وكان من ضمن هؤلاء العلماء عالم الفيزياء المجري ليو زيلارد الذي ساعد ألبرت أينشتاين قبل بضع سنوات في تحذير الرئيس فرانكلين د. روزفلت من أن التكنولوجيا والمعرفة العلمية المُتاحة كانت كافية لتطوير سلاح ذي قوة هائلة له تأثير كارثي، وأن علماء هتلر على دراية بذلك أيضا.
لعبت الرسالة الشهيرة التي كتبها زيلارد ووقع عليها أينشتاين دورا رئيسيا في إطلاق الولايات المتحدة لمشروع مانهاتن (تضمنت هذه الرسالة تحذيرا من إمكانية تطوير ألمانيا لسلاح نووي، وأشارت إلى ضرورة تطوير الولايات المتحدة لهذا السلاح للحفاظ على التوازن العسكري، وكانت بمنزلة إشارة لبدء العمل على مشروع مانهاتن وتوجيه جهود كبيرة لتطوير القنبلة النووية). عُدَّت هذه الرسالة أول خطوة مهمة توضح المسؤولية العلمية فيما يتعلق بالنشاطات النووية، بمعنى أنها عبرت عن وعي العلماء بالتأثير الهائل للتكنولوجيا النووية على العالم وتحملهم تبعاتها.
كان الدرس الأول للعلماء في ذلك الوقت هو أن المعرفة العلمية بمجرد اكتسابها لا يمكن التراجع عنها. وما إن أدرك زيلارد وزملاؤه الإمكانيات الهائلة التي قدمتها الاكتشافات الحديثة في الفيزياء النووية وقدرتها على تغيير العالم، حتى أبلغوا الزعماء الديمقراطيين بذلك. في ذلك الحين، ضمت القرية الذرية في شيكاغو مزيجا انتقائيا من العلماء يوضح التنوع الثقافي فيما بينهم، كان بعضهم من الشباب الأميركيين الذين نشأوا في ظل الإصلاحات الاجتماعية التي أدخلتها الحكومة الأميركية في عهد الرئيس روزفلت، فيما كان البعض الآخر من جنسيات مختلفة كعالم الفيزياء المجري زيلارد، والفيزيائي الألماني جيمس فرانك، وعالم الفيزياء الحيوية الروسي الألماني يوجين رابينوفيتش. بيدَ أن تجارب هؤلاء العلماء التي خاضوها قبل مغادرتهم أوروبا جعلتهم حساسين بطرق مختلفة للأبعاد الأخلاقية للعلم.
إخضاع العلم للسياسةفي الواقع، تمتع فرانك بخبرة عملية ومباشرة في كيفية إخضاع العلم للسياسة، إذ كان يعمل في شبابه باحثا في ألمانيا عندما بدأت الحرب العالمية الأولى، وتطوع في الجيش الألماني، وعمل ضابطا في الوحدة التي أدخلت غاز الكلور إلى ساحة المعركة. حينذاك، انتقده بشدة صديقه نيلز بور، الفيزيائي الدنماركي الشهير والحائز على جائزة نوبل، وهو ما جعله يعاني ندما جليا على فعلته (ولعل هذا ما أجج بداخله شعورا أشد حساسية ووعيا بأبعاد المسؤولية الأخلاقية للعلماء في تصرفاتهم).
بحلول عام 1943، انتقلت الأبحاث الرئيسية حول تطوير القنبلة النووية إلى مراكز البحث في أماكن أخرى في الولايات المتحدة، كمدينة أوك ريدج التي تقع بولاية تينيسي، ومنطقة هانفورد بولاية واشنطن، ومدينة لوس ألاموس بولاية نيومكسيكو. كان لدى العلماء الذين بقوا في مختبر المعادن بجامعة شيكاغو وقت كافٍ لمحاولة تشكيل قرارات بشأن استخدام التكنولوجيا النووية، سواء فيما تبقى من الحرب العالمية الثانية أو في الفترة اللاحقة بعد الحرب. أما الدرس الثاني الذي استفاد منه العلماء خلال هذه التجربة هو أنه على الرغم من أن الاكتشاف العلمي لا يمكن التراجع عنه، فإن تأثيراته يمكن تنظيمها أو توجيهها لخدمة البشرية لا لإبادتها.
في كتابها الصادر عام 1965 بعنوان "خطر وأمل: حركة العلماء في أميركا ما بين 1945-1947″، وثَّقت المؤرخة أليس كيمبال سميث المناقشات الحادة التي دارت بين العلماء خلال هذه الفترة باعتمادها على مواد أرشيفية ومقابلات أجرتها مع العلماء. أوضحت سميث في كتابها أن العلماء حينها توصلوا في نهاية المطاف إلى وضع أهداف نبيلة وعملية بعد مناقشات مُفصَّلة. كان هدفهم المنشود من ذلك كله هو إعطاء اليابان لمحة عن قوة القنبلة النووية، وإتاحة الفرصة للاستسلام قبل تعرضهم لها، كما أرادوا تحرير العلم من قيود السرية الرسمية بكشف تفاصيل ومعلومات حول القنبلة النووية وتأثيرها وقوتها، ليتمكن العالم من فهم تبعاتها، بل ورغبوا أيضا في تجنب سباق التسلح، وإنشاء مؤسسات تكنولوجية تحكم هذا النوع من الأسلحة.
أما الدرس الثالث الذي أدركه العلماء في مختبر المعادن بجامعة شيكاغو هو أن القرارات الكبرى المتعلِّقة باستخدام التكنولوجيا الجديدة يجب أن يتخذها المدنيون في إطار عملية ديمقراطية شفافة. وفي منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، بدأ علماء مانهاتن بطرح مخاوفهم على القادة والمسؤولين الحكوميين عن هذا المشروع، لكن البيروقراطية العسكرية فضَّلت الاحتفاظ بالأسرار، لكن العلماء أمثال زيلارد، وفرانك، ورابينوفيتش، وسيمبسون، وعدد من زملائهم رفضوا التكتم على المعلومات العلمية، وسعوا بكل جهدهم لتوعية الجمهور وتثقيف السياسيين بمخاطر القنبلة النووية عن طريق تنظيم اتحادات من ضمنها "تحالف علماء الذرة في شيكاغو".
أيادي ملطخة بالدماءواصل العلماء في تلك الفترة سعيهم متلمسين طريقهم وباذلين جهدا أكبر في تلك القضية بإلقاء محاضرات، وكتابة مقالات رأي، وأسسوا مجلة "أتوميك ساينتستس" (Atomic Scientists)، التي كانت تُعد من أبرز المنشورات التي غمرت حرم جامعة شيكاغو في ذلك الوقت. تعاون هؤلاء العلماء مع زملائهم في مواقع مشروع مانهاتن الأخرى لحشد الدعم والتأييدات لإقناع القادة السياسيين بأهمية وضرورة وجود هيئة مستقلة مسؤولة أمام الرئيس والكونغرس للإشراف على تطوير وتنظيم استخدام العلوم النووية. استمرت جهودهم على نحو جيد في الحرب الباردة، مع حملات ناجحة لحظر التجارب النووية، واتفاقيات الحد من الأسلحة.
رغم أننا وصلنا في وقتنا الحالي إلى القرن الحادي والعشرين، ما زالت العديد من القرارات المتعلِّقة بتطوير ونشر التكنولوجيا الحديثة تتحدد في المختبرات الخاصة والمكاتب التنفيذية للشركات بعيدا عن أنظار الجمهور. وعلى غرار متطلبات السرية العسكرية التي أثارت استياء العلماء في مختبر المعادن بشيكاغو، فإن استحواذ الشركات على الأفكار العلمية حصرا لها يعرقل التعاون وتدفق الأفكار التي يعتمد عليها التقدم العلمي. كما أن أولوية الشركات في اتخاذ قراراتها الخاصة تلغي حق الجمهور في المشاركة العامة، والحرية في اتخاذ القرارات الأخلاقية بشأن تطبيق المعرفة العلمية والتقنية. لذا، أكد العلماء حينذاك أن الجمهور هو مَن له الأولوية والحق في اتخاذ مثل هذه الخيارات.
في أغسطس/آب عام 1945، تسببت قنبلتان نوويتان في مقتل ما يتراوح ما بين 150.000-220.000 شخص في هيروشيما وناغازاكي. وبعد بضعة أشهر، في اجتماع في البيت الأبيض، وقف أوبنهايمر ماثلا أمام رئيس الولايات المتحدة في ذلك الوقت هاري ترومان موجها حديثه إليه: "سيدي الرئيس، إن يداي ملطختان بالدماء". لكن ترومان ذكّر أوبنهايمر بأن قرار إسقاط القنبلتين النوويتين على اليابان كان قراره الخاص ولا شأن له بالأمر.
صحيح أن علماء الذرة كانوا السبب الرئيسي في جعل هذا السلاح ممكنا، لكن ذلك لا يمنع دورهم المهم في تعزيز المسؤولية الأخلاقية ووضع القواعد المناسبة للعمل العلمي، وهو الدور الذي أدى إلى أن تكون الحرب العالمية الثانية هي الحرب الوحيدة التي شهدت استخدام السلاح النووي. لذا في نهاية المطاف، سيكون من الحكمة إن استفدنا من الدروس التي استفاد منها علماء الذرة لتفادي الكوارث المحتملة الناجمة عن الاستخدام الخاطئ للتكنولوجيا الحديثة في المستقبل.
________________________
ترجمة: سمية زاهر
هذا التقرير مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الولایات المتحدة هؤلاء العلماء العلماء فی
إقرأ أيضاً:
المراحل العشر التي قادت فيتنام إلى عملية الريح المتكررة ضد أميركا
في ظهيرة يوم شديد الصعوبة من أبريل/ نيسان عام 1975، بثت إذاعة الجيش الأميركي خبراً مفاده أن "درجة الحرارة في سايغون تبلغ 105 درجات وترتفع"، كانت تلك رسالة مشفرة تعني أن الوضع قد وصل إلى حد الانفلات التام في أعقاب هجوم واسع لقوات حكومة فيتنام الشمالية، وأنه قد بدأ الإجلاء الفوري لجميع الأميركيين المتبقين في فيتنام، بعدما كانت الولايات المتحدة قد سحبت قواتها القتالية من فيتنام وفقا للاتفاقية الموقعة في باريس عام 1973، تاركة نحو 5000 أميركي في مهام دبلوماسية واستخباراتية.
وخلال ساعات؛ وثقت الكاميرات مشهد عشرات الأميركيين والجنود الفيتناميين الجنوبيين واقفين على سطح مبنى في سايغون (عاصمة فيتنام الجنوبية)، أعينهم معلقة بطائرة هليكوبتر أميركية تهبط على عجل. رجال ونساء وأطفال يصطفون على درج معدني ضيق، يتدافعون بحذر وخوف نحو الطائرة التي لا تسع إلا عدداً قليلاً.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2نصف مليون جندي و8 ملايين طن من القنابل.. لماذا هُزمت أميركا في فيتنام؟list 2 of 2في حال وقع المحظور النووي هل ستنحاز أميركا للهند أم باكستان؟end of listكان ذلك المشهد ذروة عملية الإجلاء السريع التي عُرفت باسم "عملية الريح المتكررة" (Operation Frequent Wind)، وأصبحت رمزًا مريرًا لنهاية أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة في القرن العشرين.
لكن كيف وصلت فييتنام إلى هذه اللحظة؟ وكيف تحوّل بلد زراعي صغير على هامش خريطة آسيا إلى ساحة صراعٍ دوليّ دمويّ، وإلى اختبارٍ عسير لطموحات القوى الكبرى ومرآة لانكساراتها؟ ولفهم هذه التحولات التي باتت تمثل واحدة من أهم المعارك العسكرية في القرن العشرين؛ لا بد من العودة إلى البدايات؛ إلى الحسابات الجيوسياسية لحقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وماقبل ذلك في زمن الاستعمار القديم، تلك الحسابات التي تجاوزت حدود فيتنام الضيقة وجعلت منها ساحةً لصراع استمر أكثر من عقدين من الزمن.
منذ القرن التاسع عشر؛ كانت فيتنام جزءًا من المستعمرات الفرنسية، إلى جانب لاوس وكمبوديا (كانت الدول الثلاث تعرف باسم الهند الصينية). وكانت البلاد أشبه بساحة خلفية للإمبراطورية الفرنسية، حيث نُهبت ثرواتها الطبيعية، وقُمعت حركاتها الشعبية، وزُرعت فيها بذور الانقسام الطبقي والثقافي.
إعلانلم تكن فيتنام تحديدا مجرد مستعمرة بعيدة، بل كانت عقدة حيوية في خريطة النفوذ الفرنسي في آسيا. ميناء "هايفونغ" التجاري الأهم في فيتنام، والمزارع التي كانت تنتج الأرز والمطاط، وخطوط السكك الحديدية التي تربط الهضاب بالمرافئ، كلها كانت تُدار لخدمة باريس، وليس لخدمة هانوي.
المحطة الثانية: فرصة خاطفة للاستقلالفي منتصف القرن العشرين، ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية؛ بدأ التوازن الاستعماري القديم يتصدع. اجتاحت اليابان الهند الصينية عام 1940، تاركة الإدارة الاسمية لفرنسا الفيشية، لكنها عمليًا أضعفت القبضة الفرنسية وأفسحت المجال لنمو تيارات المقاومة المحلية. من بين هذه التيارات، برزت شخصية استثنائية ستغيّر وجه آسيا، ويحمل الفيتناميون صورته اليوم وهم يحتفلون بالذكرى الخمسين لتوحيد بلادهم: هو تشي منه.
أسّس هو تشي منه "رابطة استقلال فييتنام" أو "الفييت مينه"، وهي حركة قومية شيوعية، مزجت بين الكفاح المسلح والتحريض الشعبي. وعندما انتهت الحرب العالمية الثانية عام 1945، وإعلان استسلام اليابان، كانت الفرصة سانحة أمام هو تشي منه، فأعلن استقلال فيتنام عن الامبراطورية اليابانية في ساحة "با دينه" بهانوي.
لم يعمر حلم الاستقلال طويلًا. فرنسا، التي خرجت مدمّرة من الحرب العالمية الثانية، أرادت استعادة "هيبتها" من خلال إعادة بسط نفوذها على مستعمراتها القديمة. تجاهلت إعلان الاستقلال في هانوي، ونزلت قواتها مجددًا إلى الأراضي الفيتنامية، لتبدأ بذلك حربًا دموية جديدة. وبذلك؛ وُلدت حرب الهند الصينية الأولى، والتي ستُشكّل الأساس لحرب فيتنام القادمة.
لم يكن الاستعمار هذه المرة مثل الاستعمار القديم منحصرا فقط في استغلال الموارد؛ بل برز في قلبه صراع أيديولوجي ناشئ حول رؤيتين للعالم: فرنسا التي تمثّل الغرب الرأسمالي الإمبريالي، وفيتنام التي بدأت تتجه نحو الفكر الشيوعي، مدفوعة بإرث الاحتلال، وبحلم العدالة الاجتماعية.
إعلانكانت التربة الفيتنامية قد تشبعت بما يكفي من الغضب، وكان المشهد الإقليمي والعالمي مهيأً لانفجار طويل الأمد، لن ينتهي إلا بعد ثلاثة عقود من الدم والنار.
المحطة الرابعة: "ديان بيان فو" حيث دفنت فرنسا رايتها وورثت أمريكا عبء الإمبراطوريةفي وادٍ بعيد تحيط به التلال شمالي غرب فيتنام، خسرت فرنسا آخر رهاناتها الاستعمارية الكبرى. بدأت المعركة في مارس 1954، واستمرت 57 يومًا من القصف والحصار والنار. حاصرت المقاومة الفيتنامية بقيادة فو نغوين جياب الجنود الفرنسيين. واعتبرت المعركة لاحقا أحد الدروس التاريخية المذهلة في فنون وتكتيكات حرب العصابات وقدرتها على التفوق على الجيوش النظامية.
وفي السابع من مايو 1954، استسلمت القوات الفرنسية في ديان بيان فو، بينما كانت قادة فرنسا يبحثون في جنيف عن مخرج مشرّف. وفي يوليو 1954، اجتمع القوى الكبرى في العالم في مؤتمر جنيف، حيث تقرر تقسيم فييتنام مؤقتًا على طول خط العرض 17، الشمال بقيادة هو تشي منه الشيوعي، عاصمته هانوي. والجنوب بقيادة نظام مدعوم من الغرب، برئاسة إمبراطور صوري ثم رئيس فعلي هو نغو دينه ديم. لكن الاتفاق نص أيضًا على إجراء انتخابات وطنية موحدة عام 1956، لكنها لم تحدث، لأن الولايات المتحدة خشيت من فوز الشيوعيين.
من هنا، بدأت واشنطن تتدخل في فييتنام. لم يكن هناك إنزال عسكري بعد، وكانت الولايات المتحدة آنذاك تخشى من ما يسمى "تأثير الدومينو": إذا سقطت فييتنام في يد الشيوعية، ستتبعها لاوس وكمبوديا وتايلاند، وربما تصل العدوى إلى أستراليا! وهكذا، تحوّلت فييتنام من ساحة استعمار قديم إلى مسرح للصراع الأيديولوجي العالمي الذي تصاعد بعد الحرب الباردة.
انتهى الوجود الفرنسي رسميًا في جنوب فييتنام في أبريل 1956، وبقيت البلاد منقسمة بحكم الواقع بين حكومة “جمهورية فييتنام” في الجنوب، وحكومة “جمهورية فييتنام الديمقراطية” بقيادة هو تشي منه في الشمال.
إعلاندشن ديان دينه ديم (حليف أمريكي) سياسة أيديولوجية قومية وعنيفة ضد المعارضين داخليًا، معطياً امتيازات واسعة للكاثوليك وهو ما أشعل اضطرابات اجتماعية وانتفاضات بوذية ضد حكمه. عام 1960 تأسست «جبهة التحرير الوطني» المعروفة بـ"الفيت كونغ" لإعادة توحيد كل قوى المعارضة في الجنوب تحت قيادة الشمال. اعتمدت الفيت كونغ على تكتيكات حرب العصابات وبنية تحتية سرية في الدول المجاورة من الهند الصينية لتأمين الإمداد اللوجيستي.
المحطة السادسة: خليج تونكين؛ الذريعة التي فتحت أبواب الجحيمفي أغسطس من عام 1964، زعمت البحرية الأمريكية أن مدمّرتها يو إس إس مادوكس تعرّضت لهجوم من زوارق طوربيد فيتنامية شمالية في خليج تونكين. لم تكن التفاصيل واضحة، والصور غير حاسمة، لكن الرئيس ليندون جونسون لم يحتج لأكثر من هذه الشرارة لطلب تفويض مطلق من الكونغرس لاستخدام القوة في فييتنام. وهكذا، صدر قرار خليج تونكين، الذي منح البيت الأبيض يدًا طليقة لشن الحرب دون إعلان رسمي.
كانت الحادثة التي لا يزال الجدل قائمًا حول صحتها الكاملة نقطة تحوّل فاصلة، إذ انتقلت أمريكا من دور المستشار والراعي في الظل إلى قوة محتلة، تمطر الأدغال الفيتنامية بعشرات الآلاف من الجنود والقنابل.
وبحلول عام 1965، بدأ التصعيد العسكري الكبير: إرسال أولى وحدات القتال، ثم القصف الجوي المكثف على شمال فييتنام في حملة سُمّيت "رعد متواصل" (Operation Rolling Thunder).
مع تصاعد عدد القتلى، وغياب أفق النصر، بدأ الرأي العام الأميركي ينقلب تدريجيًا على الحرب. اللحظة المفصلية جاءت عام 1968، بعد هجوم مفاجئ شنّه الفيتكونغ في رأس السنة القمرية (هجوم تيت) على عشرات المدن في الجنوب، بما فيها سايغون نفسها. ورغم أن الهجوم ألحق خسائر هائلة بالمقاومين الفيتناميين وربما يعتبر خسارة عسكرية، إلا أنه زلزل ثقة الأمريكيين بقدرتهم علي تحقيق النصر. فقد بدا لهم كأن العدو "المنهك" لا يزال قادرًا على الضرب بقوة في عمق المناطق الآمنة، سيظل كذلك.
المحطة الثامنة: "فتنمة الحرب".
حين تولّى ريتشارد نيكسون الرئاسة في الولايات المتحدة عام 1969، كانت فييتنام قد أصبحت كابوسًا سياسيًا وعسكريًا. أدرك نيكسون أن النصر الكامل مستحيل، لكنه لم يشأ الانسحاب فجأة. فطرح استراتيجية سمّاها: "فتنمة الحرب" (Vietnamization)، أي تحويل عبء القتال إلى الجيش الفيتنامي الجنوبي، بينما تبدأ القوات الأمريكية بالانسحاب التدريجي.
المرحلة التاسعة: رحيل آخر الجنود المقاتلينلم تكن "فتنمة الحرب" أكثر من محاولة لتأجيل الهزيمة، لا تجنّبها. فالجيش الجنوبي كان ضعيف التدريب، ويفتقر للحافز القتالي، في حين كان الشمال يزداد صلابة. في الوقت نفسه، وسّع نيكسون الحرب عبر قصف كمبوديا ولاوس بحجة ضرب خطوط الإمداد الفيتنامية (طريق هو تشي منه)، ما أدى إلى توسيع رقعة الصراع، وخلق المزيد من الفوضى في المنطقة، وأشعل المعارضة داخل الولايات المتحدة.
لم يستجب الفيتناميون لرغبة الأمريكان في التفاوض مباشرة، واستمروا في إلحاق الخسائر بهم، حتى عام 1973 حين وقّعت أميركا اتفاقية باريس للسلام مع حكومة فيتنام الشمالية، معلنة انسحابها الرسمي من الحرب، بعد أن خسرت أكثر من 58 ألف جندي، وأبقت على نحو 5000 آلاف جندي فقط في مهام غير قتالية.
المحطة العاشرة: سقوط سايجون
في ربيع عام 1975، بدأ الجيش الشمالي الزحف النهائي نحو العاصمة الجنوبية سايغون. كانت القوات الفيتنامية الشمالية مدعومة بخبرة طويلة، وعقيدة قتالية متماسكة، بينما كان الجنوب، رغم الأسلحة الأمريكية المتروكة، منهارًا معنويًا. سقطت المدن الواحدة تلو الأخرى، بلا مقاومة تُذكر. أما واشنطن، فقد اكتفت بالمراقبة، بعد أن قطعت المساعدات العسكرية.
في 30 أبريل 1975، دخلت دبابات الشمال سايغون. لم تكن هناك معركة حقيقية. رفع الجنود علمهم الأحمر بنجمة صفراء فوق القصر الرئاسي، وانتهت الجمهورية الفيتنامية الجنوبية إلى الأبد. لم يُعلن عن هزيمة أمريكية رسميًا، لكنها بقيت محفورة ومستقرة في التاريخ العسكري والاستراتيجي: أن الفيتناميين هزموا الولايات المتحدة.
إعلان