قراءة في مجموعة «قلبٌ آيلٌ للخُضْرة»
تاريخ النشر: 24th, April 2024 GMT
بهاءٌ مديدُ الطُّهر يُفْرغُ سرَّه / على الأرضِ والقلبُ السّماويُ ينظر / تزِفُ خُطاها غيمتانِ وخفْقَةٌ / شماليّة الآمالِ بالحبّ تُزْهرُ
يشير أدونيس إلى ما قبل الرومانسيّة بأن الشعر كان يكرّر الأشكال والأفكار المستنفدة؛ بينما بعد ذلك انساق الشعراء في طرق مفتوحة باستعارة أجواء وصيغ أسلافهم. نستطيع أنْ نؤكد ذلك في تجربة الشاعرة رقيّة الحارثيّة؛ فهي تمثّل جيلا شعريّا في الأدب العماني المعاصر يعمل على الإمساك بطرف التجربة الأصيلة وحداثة التشكيل المعنوي في الشعريّة الحديثة أمام ثورة الشعر وانفتاحه على الفنون والعلوم بالإضافة إلى ركاكة التجارب الشعريّة التقليديّة التي وقع شعراؤها بين يُتم الصلة بالقديم وهشاشة التخلف عن الحديث، والأدب العمانيّ كغيره كان بحاجة ماسة إلى حساسية الشاعر لإنقاذه من التكرار والسطحيّة، فتغير الحساسية الشعريّة في الشعر العربيّ ـ كما تقرأه الخضراء الجيوسيّ في تجربة الأخطل الصغير ـ تحرّر من جمود الكلاسيكيّة وتقعّرها وانسياب موسيقيّ في يسر وتناغم لفظيّ، وكذلك حضور الطبيعة، ليس بالتّأمل الحسيّ كما يشير فاتح علاّق؛ بل بالاقتراب منها والإفضاء إليها بمشاعر الشاعر وأحاسيسه، وكأنها روح يبادلها النجوى ويحاورها ويستخلص منها تأملاته.
رقيّة الحارثيّة تستدرك ـ كآخرين من شعراء جيلها ـ رومانسيّة التجربة الشعريّة العمانيّة بعد جيلين من فترة الرّواد في الشعر الحديث، وعلى الرغم من تطوّر النص الشعري العماني المتمثّل في تداخل الشكلين التفعيلة وقصيدة النثر، ومحاولات القصيدة العموديّة لدى بعض الشعراء الشباب بأنْ تغامر مغامرة تحقيق شعريّتها بأدوات واتجاهات النصّ الحر؛ نقول على الرغم من ذلك إلا أن تجربتها في هذا الصفّ تستعيد محافظة على سمات الرومانسية في القصيدة المعاصرة، إيمانا بقرب هذه الاتجاه من الذات البشريّة في بساطتها وعلاقتها بالمحيط طبيعة ومواقف ورغبة من الانعتاق من صلابة المدنيّة وثقلها على الذات، وكذاك ـ كما يقول عبداللطيف عبدالحليم عن هذا الاتجاه في الأدب العمانيّ ـ إدراك هؤلاء الشعراء أن الشعر مغامرة صعبة في اكتشاف الكون وإعادة صياغته مع التزامهم بضرورات الفن؛ تلك التي يرونها ـ طبعا ـ بأنه تحقق الفن الحقيقيّ.
الذات والوطن والطبيعة ومواقف الإنسان منها؛ أهم ما يشكل معاني تجربة الشاعرة رقيّة الحارثيّة في مجموعتها الشعريّة (قلبٌ آيلٌ للخضْرة)، أصوات الداخل الإنساني وهو يعادل العلاقة بينه وبين محيطه محاولا إعادة صياغته؛ كما يشعر به.
إلى مَن تلوّحُ وقت انكسار الخُطى؟/ طويلا تلوّحُ/ والأرضُ لمّا تجفّ من الحُزن مُنذ استفاقت!/ أكنتَ تعبئُ قارورة العمر بعضا من الصبر كالعاشقين؟!/ تسرّحُ حقل الحنين الذي شعّثته الدروبُ بأضلاعنا؟!
المسافة بين الذات وصاحبها في الاتجاه الرومانسيّ لا يميّزها فيه عن غيره من الاتجاهات الحديثة قصر المسافة بينهما؛ بأنْ تكون قريبة كما يظن بعض الدارسين، فالمؤثّرات المختلفة والأدوات التي تتشكل منها هي الملامح البارزة، فالمخاطب في المقطع السابق هو ثنائيّة (أنتَ/ أنا)، كما تقرأ الذات صاحبها في الشبيه أو الضدّ أو المتوازي، ويتعلق الأمر بكيفية تتبّع العلاقات بين الذات وصاحبها ومدى ظهورها في التجربة؛ فالشاعر الحديث خفيّ عصيّ على الظهور أمام عين التلقي، ولهذا فتمازج الذوات كما في تجربة رقيّة الحارثيّة هو خروج منها إلى مقابلها باعتبارها مؤثّرا ومتأثرا، فكل ما يمتّ إلى الذات من مشاعر ومواقف تقف أمام الذات الشاعرة ذاتا موازية حقيقة أو مجازا؛ إذ الأول (هو) والثاني (أنا)، وهي ليست ثنائية محاكمة بل انتشال من محسوس مؤلم إلى ملموس أقل ألما بالاعتراف.
لا يعني هذا التّحول في الأدب العربي بأنّ الكلاسيكيين بعيدون عن هذه الرؤى؛ لكن ارتباطهم بمعجم وأساليب الشعراء القدماء حاصر آفاقهم فكان الجانب الرومانسي فيهم يتداخل مع الطبيعة الشعريّة العامة، ولهذا يرى عبدالقادر القط هذا الجانب في الباروديّ التفاته إلى ذاته، وتقاربه مع معاني الوجدانيين المحدثين، إضافة إلى معاني الغربة وآلامها، فإذا ما أسس دعائم التّحولات هو التحرر من القالب والأساليب بمعجم يعبّر عن رغبة الشاعر في الأفق، نقرأ في نصّ الشاعرة (وطَن يموسِقه الوطن) هذا الاغتراب الذي اشتبك مع الذات الإنسانيّة في شقائه على الأرض حين يعيش صراعا للاحتفاظ بوطنه:
(عيناي بلّلتا فؤادي للدّجى زُلفى/ والوقت ينهش ضِحكتي مع كل فاصلة تُثار! / ... / للموت رائحةُ الرّماد/ وأنت تعبره بِعكّازين وحْدك يا وطن!! / ... / بغداد يا «سيّاب» لمْ تأتْ وما صدقتْ رؤاي!/.../ بغْداد تغمس طينتي في آهة خرساء/ وتعيد أحلامي إلى الصّمت المُطعّم بالدموع)
تشير آلاء جرار في مقال لها إلى تعدد مفاهيم الوطن في الشعر العربي الحديث، وقد اتخذ أنماطا فلسفيّة وفكريّة بدلالات مكثّفة، وحاصرت التحولات السياسية والاجتماعيّة الشاعر من صريح غربة الوطن في حياة الشاعر العربيّ، ومنذ بداية صراع انتزاع الوطن العربي من أيادي الاستعمار؛ والشاعر العربي ينزف دما وأرضا وإنسانا، وكل وجع يتكرّر يستعيد هذا الغياب حتى لو لم يكن هذا الشاعر يعيش على تلك البقعة العربيّة، وفي نص الشاعرة رقيّة الحارثيّة السابق يتجلّى لنا ذلك بوضوح، فقد بدأت الشاعرة بسؤال التّحولات الأولى بمطلع النص:
(مَنْ نضّد الوجع المُبعثَرَ منذُ ميلاد الطهارة؟/ ذاك الذي اقترف النهاية ثم هرول واسْتباح الأغنياتْ)
إنه سؤال الإنسان العربي العميق حين يفيق على فراغ من كثير من المعاني التي تحقق له علاقته بذاته وأرضه، لا يمكن أن تتجاوز ذات الشاعر كل الروابط البشريّة إلى هذا المعنى الجارح إلا بامتزاج ذاته الموجوعة إنسانيّا، تلك التي لا تحاكم الشعور بغياب الوطن وغربته دينيّا أو عرقيّا أو شكليّا، وآلام الشاعرة في النص السّابق تستعيد حلما رآه السّياب بغداد الإنسان في عراق الحضارة، وفي كل ما بناه الإنسان انعكاس ذاته على الأرض، وانعكاسها على ذاته؛ وجودا وأنسابا وقيما وعمرانا، يترك كل ذلك وجع فقده على ذات الشاعرة تساؤلا وافتقادا (بغداد يا «سيّاب» لمْ تأتْ وما صدقتْ رؤاي!).
في تحولات الشعر العماني بعد جيل الرّواد وبعد تأصيل الشعر الحر تجربة خطاب الشعر الرومانسيّ كان على القصيدة أن تستجيب للنداء الدّرامي في التعبير عن هذه التحولات لغة وأسلوبا ومضمونا، فالتعبير الدرامي ـ كما يراه أستاذنا عز الدين إسماعيل ـ أعلى صورة من صور التعبير الأدبيّ، حيث يتولّد من الرغبة في البحث عن الذات والوصول إلى كينونة الإجابات الوجوديّة والقيميّة، فنقرأ بعد ذلك الجيل واليوم نموذجا شعريّا يمثل مراحل من هذه التحولات. نص الشاعرة (نهرانِ من حبّ):
أنْثالُ كالضّوء الموزّع ماءه/ ومعاطف الغيم المعلق أوسدتْ لي قلبها المُكتظّ بالطُّهْر الزُّلالْ/ ما كان في وسع الهواجس أنْ تجفّف من عيوني ماءها/ أو تشعلَ الوجه اغترابْ
لنقرأ في النصّ ذاته:
لو فرّ اسْمي من دَمي من غير رائحة العصافير الصغيرةْ / لو لم أكنْ منفضَّةً بالأمنيات المصطفاةْ / لو أنجبتْ كفّاي غيرَ الغيم ساعةَ صحوها / لو ...........!
نجد تحوّلات تجربة الشاعرة نموذجا على رؤية شعريّة تحرص على اختلاف الشعريّة واستدراك الرومانسيّة المتقدمة في الأدب العمانيّ؛ حيث توظّف الشاعرة أدوات الجيل الثالث الذي أثبت باختلاف أشكال تجاربه الشعريّة قدرته على التعبير الشعري بما استفاده من تطوّر الشعريّة الحديثة من الجمع بين استعادة الموروث وإبداع الجديد، ففي النص السابق تبني الشاعرة صورتها الشعريّة بتراكيب تتدفّق بيسر تتابع المتواليات الشعريّة، ويشكل المعجم تنوّعا دلاليّا يمنح القراءة عالما واسعا من قراءة المفردات وتوزيعها، وفي الجزء الثاني توظّف أدوات طباعيّة تنقل الخطاب به إلى مستوى آخر من القراءة البصريّة؛ يحوي دهشة المتناقضات في المتوالية الشعريّة؛ وكأن الشاعرة تمنحها بعدا آخر من المعنى.
هكذا تقرأ نصوص المجموعة متدفّقة بين الشكلين الشعريين، تستدرك بهما الشاعرة رقيّة الحارثيّة رومانسيّة الجيلين الشعريين في الأدب العماني، مؤكدة على استفادة الجيل المعاصر ـ الذي تمثّله الشاعرة ـ من التحولات الشعريّة. وقد حاولت قراءة بعض نماذج من مجموعتها في ضوء تنوعها بين الشكل العموديّ والتفعيلة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الشعری ة ة الشاعر فی الشعر شعری ة
إقرأ أيضاً:
سامح قاسم يكتب | زين العابدين فؤاد.. أبجدية الغضب والحنان
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
في زاوية من التاريخ، تتقاطع فيها القصيدة مع السجن، والأغنية مع الحلم، والوطن مع الوجع، وُلد زين العابدين فؤاد. لم يكن شاعرًا فحسب، بل كان لسانًا للناس، صوتًا للهامش، وضميرًا شعريًا ظلّ يقاوم النسيان والخذلان والظلم، بالكلمات وحدها، كأنها شفرات ضوء تخترق عتمة طويلة اسمها الوطن.
ولد زين العابدين فؤاد في أبريل 1942، وما زال – بعد أكثر من ثمانين عامًا – يكتب كما لو أنه يتنفس، أو كما لو أن الشعر هو ما يبقيه حيًا. إننا لا نتحدث هنا عن شاعر "عامية" فقط، بل عن شاعر صنع من البساطة قنابل مضادة للذل، ومن الجملة اليومية نشيدًا عابرًا للسجون. في زمن الخوف، كتب "اتجمعوا العشاق في سجن القلعة"، وفي زمن الصمت، غنّى للعمال، وللفلاحين، وللأطفال، وللشهداء الذين لم تحفل بهم نشرات الأخبار.
ما يُميّز تجربة زين العابدين فؤاد أنه لم يسعَ إلى الشعر كفنٍ للنخبة، بل سلك طريقًا معاكسًا. كان يؤمن أن الشعر يجب أن يُقال في الشارع، في المصنع، في المدرسة، لا في صالونات الأدب المعقّدة. لذا جاءت لغته مجبولة بالتراب، بالرغيف، بالحارة. لم يكتب من برجٍ عاجي، بل من بين الناس، ومن أجلهم.
في قصيدته، يتقاطع الغضب مع الحنان. يثور على الجلاد، لكنه في الوقت ذاته يمسح بيده على رأس الطفل الجائع، يكتب عن الخيانة، ثم يستدير ليكتب عن أمٍ تفتح نافذة الصباح بحثًا عن ابنها المفقود. هذا التوتر الإنساني، هذا التداخل بين الثورة والعاطفة، هو ما يجعل شعره نابضًا حتى اللحظة.
لم يكن زين العابدين فؤاد شاعرًا منفردًا، بل كان جزءًا من جوقة الغضب التي ضمت الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم وغيرهم. لكن ما يميزه هو صوته الخاص، صوته الهامس أحيانًا، العاصف حينًا آخر. بينما كان الشيخ إمام يغني "الفلاحين" على لحنٍ لا يُنسى، كانت كلماته تحفر في الذاكرة حفرًا يصعب طمسه.
في عيد ميلاده الثالث والثمانين، لا يبدو زين العابدين فؤاد شيخًا. هو ابنٌ دائمٌ للشعر، شابٌ في لغةٍ لا تشيخ، فتية في نبرتها، عنيدة في موضوعها. يحتفل به محبوه لا بوصفه شاعرًا مخضرمًا وحسب، بل بوصفه ذاكرة حيّة، وضميرًا صادقًا، وحكايةً لا تنتهي.
لم يحصل زين العابدين على جوائز رسمية ضخمة، ولم يكن نجمًا في قاعات الأضواء، لكنه ظل نجمًا حقيقيًا في قلوب من يعرفون معنى الكلمة، ومعنى الصمود، ومعنى أن تكون شاعرًا لا مهنة لك سوى أن تقول "لا" حينما يقول الجميع "نعم".
في هذا الزمن الذي يُعاد فيه تدوير الأكاذيب، ويُحتفى فيه بالسطحيين، يظل زين العابدين فؤاد شاعرًا لا يشبه أحدًا. شاعرًا كتب للناس، عن الناس، وبالناس. وكأن الشعر عنده ليس طقسًا جماليًا فقط، بل موقفًا أخلاقيًا، والتزامًا لا يشيخ.
تحية لك يا عم زين… لأنك جعلتنا نؤمن أن القصيدة يمكن أن تكون خريطة وطن، أو راية مقاومة، أو حضنًا مفتوحًا لكل مَن ضيّعته البلاد. زين العابدين فؤاد