ترجمة : أحمد شافعي
في عام 1977، كتبت توني موريسن إلى روائي مبتدئ تقول عن روايته: «لقد وجدتها فائقة الصدق، والمباشرة، والتأثير، ولم أكن أتوقع أن تكون كذلك. لكنها رواية تبعث الرعدة ولا توفر مهربا لأي قارئ مهما يكن». وبرغم ذلك فإن توني موريسن، كبيرة المحررين آنذاك في دار نشر راندم هاوس، أعجبت بالمخطوطة كثيرًا لدرجة أنها قبل أن ترد على مؤلفها عرضتها على آخرين في المكتب لحشد التأييد.
على مدار سنواتها الست عشرة في راندم هاوس، كتبت موريسن مئات من خطابات الرفض التي كانت تطبع في العادة بالآلة الكاتبة على ورق نسخ وردي أو أصفر أو أبيض وغير مكربن، وكان يحمل أحيانا شعار الدار القديم وبياناتها، وهذه الخطابات مؤرشفة الآن ضمن مراسلات موريسن في أرشيف راندم هاوس بمكتبة نوادر الكتب والمخطوطات في جامعة كولومبيا. وفي حين أن كثيرًا من تلك الخطابات كان يوجَّه إلى نيويورك وبوسطن بل وروما، فإن منها ما كان يوجَّه إلى كتَّاب في أماكن غامضة، وبعضها كان يوجَّه إلى «عنوان عام» في العديد من البلدات الصغيرة المتناثرة في أنحاء الولايات المتحدة.
وبغض النظر عن الوجهة، كانت خطابات موريسن الرافضة تنزع إلى الطول، والكرم بالمقترحات، والمباشرة في النقد. وتمثِّل الخطابات نفسها -وهي بعامة خطاب واحد أو اثنان على الأكثر يجري تبادلهما مع كاتب معين- أرشيفا من طرف واحد. ففي أحد طرفي ذلك التواصل ثمة شبح المخطوطة المرسلة (الغائبة عن الأرشيف بعد ردها إلى مرسلها، وإن بقيت بعضها أحيانا مشفوعة بخطابات الإرفاق الأولى). وفي الطرف الآخر ثمة رفض موريسن، ويكون في بعض الأحيان فظًّا لكنه في صورته النمطية يقدم ما يفوق محض التعبير عن عدم الاهتمام، فله ملاحظات في الحرفة، وتطوير الشخصية، والحاجة إلى قدر (أكبر أو أقل) من الدراما. ولكنه أيضا: تشريح للتغيرات الطارئة على صناعة النشر، وتقلُّصها من جوانب كثيرة، وإحباطات موريسن من ذائقة جمهور القراء، وتعاطفها مع الشعراء وكتَّاب القصة القصيرة، وغيرهم من الكتاب المنجذبين إلى أجناس أدبية بائسة من الناحية التجارية.
*
ترجع تواريخ أغلب خطابات توني موريسن الرافضة إلى سبعينيات القرن الماضي، وهي حقبة شهدت تغيرات سريعة في نشر الكتاب في نيويورك. ويصدق هذا بصفة خاصة على راندم هاوس، فبعد مرور عقد على طرحها للاكتتاب العام في سنة 1959، استعملت الشركة التدفق النقدي لتغذية موجة من الاستحواذات وعمليتي دمج، فاشترت دار (ألفريد آيه نوبف) و(ذين) سنة 1965، ثم بيعت راندم هاوس نفسها لشركة آر سي آيه للإلكترونيات، لتباع بعد سنوات قلائل لشركة إعلام كبرى مملوكة لعائلة نيوهاوس. وفي ظل هذه الرعاية، مضت راندم هاوس فاشترت عددا كبيرا من الدور موسِّعة حجمها العالمي ونطاقها النوعي.
باختصار، شأن مقلوب تفكك قارة بانجيا [Pangaea]، مرت صناعة النشر بعملية اندماج عالمية دراماتيكية أنتجت لنا اليوم ما يعرف بـ«الخمسة الكبار»، أي دور نشر سيمون آند تشوستر، وبنجوين راندم هاوس، وهاربر كولينز، وهاتشيت بوك جروب، ومكميلان. وفي الآونة الأخيرة كان يمكن أن يتقلص الخمسة الكبار إلى الأربعة الكبار لولا أن محاولة عملاقة الإعلام الألمانية بيرتلسمان (مالكة بنجوين راندم هاوس، أضخم ناشر أمريكي) لشراء سيمون آند تشوستر من شركة فياكوم سي بي إس المالكة لها حاليا تعرضت لإعاقة من قاض فيدرالي أمريكي لأسباب تتعلق بمكافحة الاحتكار. احتفى مساعد النائب العام جوناثان كانتر بانهيار الصفقة زاعما أن «الاندماج المزعوم كان من شأنه أن يقلل التنافس، ويقلل حقوق الكاتب، ويقلل نطاق وعمق وتنوع قصصنا وأفكارنا، ويؤدي في نهاية المطاف إلى إفقار ديمقراطيتنا».
قد يبدو في بيان كانتر شيء من المغالاة، لكن الهم الكامن فيه كان حقيقيا، ولم يزل كذلك، وقد عبرت موريسن عن مخاوف مماثلة قبل أربعين سنة من ذلك. ففي الكلمة الأساسية لمؤتمر الكتاب الأمريكيين التي ألقتها موريسن سنة 1981، حذرت من أن نشاط النشر قد مضى إلى أبعد مما ينبغي عن عمل الكتّاب والمحررين، فباتت «حيوية الفنون التي يحلو للمروجين الحديث عنها زائفة. ومن وراء عناوين الكتب الرائجة والكتب الأكثر مبيعا، ومن تحت معارض الكتب، ثمة خطأ رهيب».
قد لا يكون مدهشا أن تنزع شروط الإنتاج الثقافي الهادف للربح إلى مكافأة السلعة المصقولة التي يسهل التنبؤ بها. لقد ذهب أخيرا الباحث الأدبي دان سينيكين إلى أن حقبة الشركات الكبرى في عالم النشر قد غيرت من الأعمال الروائية التي يجري شراؤها ونشرها ووضعها (استراتيجيا) على أرفف متاجر الكتب. وأدب الشركات الكبرى الذي غالبا ما ينتمي إلى الأدب النوعي -أي الذي يسهل تصنيفه إلى ألغاز أو روايات رومانسية أو خيال علمي- لا يمكن تمييزه من خلال خصائص شكلية بقدر ما يمكن تمييزه من خلال نشأته داخل «الكائنات العملاقة» الخاصة بالمسوِّقين، والمحررين المتخصصين في الاستحواذ، ومصممي الأغلفة، وكثيرين غيرهم ممن تتوالى وظائفهم في العملية الإنتاجية فتكون لهم بالتالي مصلحة في نجاح كتاب معين. ولم يقتصر هذا التحول على الرواية. فلو أن حقبة التكتلات الكبرى أنتجت كتاب التكتلات، فقد أنتج نظام الأستوديو أفلام هوليوود الرائجة، في حين صاغت برامج الكتابة الإبداعية أسلوب الورش المتكرر. ومع ذلك، فإن تحذير موريسن من حالة النشر سنة 1981 لم يدعُ إلى الرجوع إلى الكاتب الفرد المكافح الرومنتيكي. ولكن كلمتها دعت إلى حركة بناء: «فما نحن بحاجة إلى المزيد من الكتاب المنفردين على خيولهم. إنما نحن بحاجة إلى حركة كتاب بطوليين: حازمين، مناضلين، مشاكسين».
*
تتسم خطابات موريسن بصراحة غير متوقعة. وهي في الغالب تشفع خطابات الرفض بتشخيصات لعلل في صناعة النشر، وإحباطات متزايدة من ذائقة لا يستوعبها الخيال، وعزوف من الصناعة عن القبول بالمخاطرة، وإحساس شخصي لديها [أي موريسن] بتقييد على الإبداع من جراء العمل في الطباعة التجارية (وبخاصة في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، إذ تركت موريسن العمل التحريري لتصبح روائية متفرغة في أوائل الثمانينيات). ترسم الخطابات ملامح «الطريق غير المطروق» في متن عالم النشر، حيث باتت الكتب التجريبية، وكتب الشعر، ومجاميع القصة القصيرة تلقى على نحو متزايد معاملة الاستثمار المريب الذي يستهلك وقت التحرير وموارده. كتبت موريسن إلى أحد الكتاب أن شروط السوق القائمة تسبَّبت في «خسارة للناشر ويأس لكتَّاب القصة القصيرة»، فما لم تكن القصص القصيرة مكتوبة بأقلام مشاهير الروائيين فإن هذه المجاميع «أشبه تقريبا بنشر الشعر» بمعنى أنه «يستحيل عمليا تحقيق ربح منها». وفي خطاب آخر مطول يرجع إلى سنة 1977، أوضحت موريسن كيف أن اقتصاديات مشروع الكِتاب تعتمد على آليات التوزيع. لم يقتصر الأمر على أن القراء العارضين لا يشترون مجاميع القصص القصيرة، ولكن المؤسسات الكبيرة المسؤولة عن توليد الحماسة والتعريف بالأسماء كانت غير مهتمة بها فـ«أندية الكتب لا تقدم عروضا لمجاميع القصص القصيرة، ودور النشر الشعبي الواسع لا تقدِّم عروضا لقصص قصيرة لمؤلف واحد فلا يبقى لنا من أمل إلا أن يذهب عشرة آلاف شخص أو خمسة عشر ألفا إلى متجر كتب ويسألون عن كاتب معين بالاسم». وينتهي خطاب الرفض باعتراف موريسن بأنه «لا معنى لأن أفتقر إلى الصراحة معك، عليك أن تستمر في النشر في المجلات، وإذا ما كتبت رواية فسوف يسعدني أن أنظر فيها».
في مشاريع أخرى، حاولت موريسن أن تخطب ود شبكات التسويق المتاحة، فكتبت إلى منظمة جود هاوسكيبنج أو (شغل البيت الجميل) راجية أن يختاروا كتاب «أجيال» لليوسيل كليفتن (الصادر سنة 1976) في نادي الكتاب التابع لهم، وكذلك عشرات من المؤسسات الثقافية الخاصة بالسود لترى لو أن بوسعهم تنظيم أندية قرائية لسيرة أنجيلا ديفيز. وبرغم مصادفتها نجاحًا متوسطًا، فإن هذه الحملات -فضلا عن عمل موريسن على كتاب «الكتاب الأسود» الخارق للأنواع الأدبية (الصادر سنة 1974)- قد زادت من طلبات الساحل الغربي للكتَّاب التجريبيين. وكانت موريسن تتحلى بالإنسانية حتى مع أشد المقترحات التي ترد إليها بؤسا، ومنها مقترحات الأكاديميين على سبيل المثال. ففي عام 1978 أخبرت أستاذا في جامعة بيريكلي بأن «شروط راندم التجارية تجعل البحث والنقد الأدبيين غائبين عن خططها». ولكن خطاب موريسن يوحي بأنها قرأت المخطوطة كاملة، وطرحت اقتراحات، وقدمت للأكاديمي عزاء بأنه «ما لم تكن لديك زاوية مسايرة جدا للموضة واجتماعية (حتى لو لم تكن دقيقة)، فإن تلقي النقد الأدبي لا يصادف غير قدر ضئيل للغاية من الحماس». وبالمثل، كتبت موريسن رسالة اعتذار قصيرة لواين دانييلز Wayne Daniels وإسماعيل ريد بعد رفضها جزءا من سلسلة كتب «ياردبيرد ريدر» سنة 1974 موضحة أن «الأزمة المالية التي اجتاحت البلد خنقت الجميع في عالم النشر حتى أن أي مشروع ينطوي على قدر زهيد من المخاطرة يلقى إعراضًا كبيرًا». ومع ذلك عرضت «القيام بكل شيء -في الإمكان- لترويجه» طالبة نسخا لاستعمالها في «توليد بعض الحماسة في هذا الساحل».
كانت موريسن شديدة الوعي بأن عالم النشر، شأن مجالات أخرى من التجارة، مكان ينفع المرء فيه أن يكون له أصدقاء وعلاقات، ومعارف في الصناعة قد يدينون لك (أو لشخص تعرفه) بمعروف. وتحقيقا لهذا الغرض، كانت في بعض الأحيان تختتم خطاب رفض باقتراح اسمها كنوع من جواز المرور الذي يمكن أن يستعمله الكتَّاب الناشئون لعبور الحدود المقامة من حراس آخرين على بوابات ثقافية. ففي عام 1977 اقترحت على كاتب شاب أن يعثر على وكيل ووجَّهته إلى الوكيلين الأدبيين الأسطوريين جورج بورشات وبيتر ماتسن مضيفة قولها: إن « لك أن تقول-حينما تبعث إليهما- إنني وإن لم أستطع شخصيًّا أن أقبل مخطوطتك، فقد أحببتها كثيرا، وإنني مستعدة لقول ذلك كتابة». ووجَّهت كاتبا راديكاليا آخر إلى جول جيلر وكان زميلا سابقا لموريسن ومضى للعمل في مجلة مانثلي رفيو، وبعثت آخر إلى تشارلز هاريس، وهو محرر أسود تقاطع طريقه مع موريسن لفترة وجيزة في راندم هاوس قبل مغادرته ليصبح محررا مؤسسا في مطبعة جامعة هوارد. فحتى في خطاباتها الرافضة كانت موريسن تقيم شبكة للكتاب والمحررين السود الذين قد يعملون يوما على إعادة رسم ملامح النشر التجاري.
*
في المقام الأكبر، كانت خطابات موريسن الرافضة تركز على الصنعة، أي على تجربة قراءة عمل معيَّن. في خطابٍ رُفض سنة 1978 لرواية حديثة تنتمي إلى روايات الغرب، كتبت «إنها ببساطة ليست مثيرة بالقدر الكافي، فالإثارة، والتوتر، غائبان. وإنني أعيدها إليك طي هذه الرسالة». هذه الرغبة الباقية في تفسير أسباب رفضها تبدي ذلك النقاش المتقطع والممتد على مدار عقود للأسلوب، ولكيفية تطوير حبكة، وللمواضع التي يلزم مخطوطة فيها مزيد من مغايرة التوقعات، أو المواضع التي يلزمها فيها مزيد من التبسيط (وهذا هو الأكثر شيوعًا). فالقراء كائنات كثيرة الاحتياجات، كما يظهر من خطابات موريسن، يطالبون بالدراما وبالتنظيم، وبالمساحة والمعلومات اللازمة ليكتشفوا بأنفسهم، ويطالبون بطريق واضح بالقدر الذي لا يشعرون فيه بالتيه. وقد وصفت في عام 1975 مخطوطة بأنها «أقيمت على نحو يصعب الاستمتاع به، فالمشاهد قصيرة ومزدحمة للغاية، والدوافع غائبة». وكانت تقطع الطريق على أي ردود محتملة حول فضائل التجريد الطليعي معلنة إدراكها بأن «الموضوع نفسه هو الفوضى والحيرة» ولكنها أصرت أن «الكتاب يجب أن يخلق نظاما للقارئ، ليعينه على فهم أكثر مما يجري وحسب. يلزمه أن يعرف السبب». بعبارة أخرى: محاولات اقتناص ظروف الحياة الحديثة لا تبرر ترك القراء للشقاء، والتيه، والملل.
غالبا ما تصفو النصيحة التحريرية إلى «أظهر ولا تخبر» ويذهب نقاد الأدب من أمثال تيد أندروود وأندرو بايبروسينيكين إلى أن لغة الإدراك الحسي التجسيدي هي التي تميز الأدب عن غيره من الأجناس، من قبيل السيرة الذاتية. وغالبا ما تؤكد خطابات موريسن هذا. فقد أخبرت كاتبا في عام 1979 بأن قصته «جديرة يقينا بالحكي» لكنها «تصف الناس والأحداث من بعيد بدلا من أن تحيلهم إلى دراما، وتنشئ مشاهد يكتشف فيها القراء أي نوع من الناس هم بدلا من أن يقال لهم ذلك. فالمشهدية الواضحة والتفاصيل الدقيقة توفر للقراء مجالا للمناورة، وسبيلا إلى اكتشاف عالم يكون له وقع في أنفسهم. وقبل شهرين من ذلك، أسدت نصيحة مماثلة لبيبي مور كامبل في شبابها (وهي التي مضت بعد ذلك لتصبح من أكثر الكتاب رواجا). وفي حديثها إلى شخصية مرحة يبدو أنها مرَّت براندم هاوس دون سابق موعد لعرض سيرتها الذاتية، حذرت موريسن من الخلط بين حياة مليئة بالأحداث وقصة محكمة الحبكة. قالت «قصتك لم تكن تقل إثارة عن شخصيتك» ولكن من أجل جعلها قابلة للنشر «عليك أن تضيف الصنعة (أو الفن) وذلك ما قلت إنك عازم على ألا تفعله».
الأمر الذي كانت موريسن تكرر تأكيده، مطمئنة إلى فطنتها الاستثنائية في القراءة وفي الكتابة على السواء، هو أن الكتابة مهارة في ذاتها، وهي مهارة لا تنجم آليا عن ذكاء عقلي، ولا عن كون الشخص مثيرا للاهتمام أو مهما. فقد قالت لكاتب شاب إن أفكاره جيدة، لكنها حذرته من أن المفهوم هو أول وأدنى عقبة سوف يواجهها:
«إن عملك بحاجة إلى قوة، شيء ما يجعل هذه الشخصيات القوية حية ويمنح المشهد نسيجا. تقديم تفاصيل عن الناس، تتجاوز أشكالهم، إلى دقائق ما يميزهم، وما ينفردون به من سلوك، وتفاصيل عن المكان الذي يجري فيه الحدث، عما في الغرفة، عن طبيعة الضوء، عن الروائح، إلى آخر ذلك، كل ذلك هو ما يضفي النسيج والنبرة».
ومن خصائصها أن خطاباتها الرافضة التفصيلية تنتهي بتشجيع، كما في قول موريسن لكاتب: «أرجو أن تتمكن من العمل على مخطوطتك فتمنحها الحيوية التي تستحقها ولا شك».
*
تركت موريسن العمل في راندم هاوس سنة 1983. وفي السنوات السابقة على رحيلها، سعت إلى تخصيص مزيد من الوقت لكتابتها الخاصة فلم تعد تتردد على المكتب إلا مرة في الأسبوع. غير أنها استمرت في قراءة المخطوطات المبعوثة إلى الدار لا التي سعت الدار إليها. وقد اعتذرت لكاتبة بسبب ردها بعد قرابة عام من وصول مخطوطتها إلى مكتبها. (كانت قد عثرت على المخطوطة «مختلطة ومفككة» ولم تعرف «أين أو ما لو أن هناك رواية» لكنها مع ذلك خلصت إلى أن «ثمة الكثير من القوة والإرادة ونوعا من الغنائية التي يجب أن أطلب منك أن تخرجي منها بشيء» وطلبت من الكاتبة أن تعيد إرسال المخطوطة إليها عندما تفعل ذلك. وفي رسالة إلى كاتب من جنوب وبستر بأوهايو لم يسبق له النشر كتبت أن «هناك الكثير من الحيوية في كتابتك وطزاجة محببة» ولكنها حذرت من أنها «بحاجة إلى الكثير من العمل على البنية والحوار» ووعدت بـ«إعطاء المخطوطة كاملة قراءة أخرى» إذا ما اكتملت.
واللافت أن هذا العرض كان يتكرر من موريسن، لكتاب مغمورين لم يسبق لهم النشر، وبعضهم لم يكن قد أرسل غير حفنة مما رأت أنه صفحات واعدة. فليس غريبا أن تكون خطاباتها الرافضة مستودعا من الطرق اللطيفة المجرَّبة لقول «لا» و«مع السلامة» و«أرفق لك طيه» و«أحجم» و«أرجو قبول أسفي العميق» و«أطيب الأمنيات» و«مع احترامي وأسفي». لكنها أرشيف لإيمان موريسن وحبها الخالص للكلمة المكتوبة، ولطيبة نفسها.
على مدار مسيرتها المهنية، وازنت موريسن بين الالتزامات الأدبية، والمسؤوليات التجارية، واهتماماتها بالصناعة إجمالا. ويرجَّح أن الاحتكاك المتزايد بين هذه العناصر قد أسهم في قرارها الأخير بمغادرة صناعة النشر كليةً. ولعل خطابات الرفض التي كتبتها موريسن تمثل أوضح تناول منها لهذا التوتر، الذي غالبا ما كان يميل إلى صالح الكتاب الشبان الذين لم يكن لهم أي قدرة على لفت انتباهها إلا بإلقاء بعض الكتابة على أبواب راندم هاوس. وقد نبهت موريسن إلى أن أولئك الكتاب يخوضون معارك شاقة من أجل طبع كلماتهم. وقالت في نهاية أحد خطاباتها: إن «المادة مثيرة للاهتمام، خلافا للكتابة، وهي بحاجة إلى كثير من العمل لشحنها بالطاقة اللازم توافرها في قصة».
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: صناعة النشر بحاجة إلى لم تکن فی عام إلى أن
إقرأ أيضاً:
«قضايا الوجود والمعرفة والأخلاق» أحدث إصدارات هيئة الكتاب
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
صدر حديثا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، برئاسة الدكتور أحمد بهي الدين، كتاب «قضايا الوجود والمعرفة والأخلاق لدى فلاسفة الإسلام»، للدكتور الصاوي الصاوي أحمد.
وتعد قضية الوجود والمعرفة والأخلاق من أهم القضايا التي شغلت الإنسانية بكل مستوياتها وطبقاتها منذ الخليقة حتى عصرنا، فلا يوجد إنسان في أي عصر من العصور لم تشغله قضية وجوده وعلاقته بوجود الآخر، وكيف يعرف وجوده ووجود الله على حقيقته، والسلوك الخلقي الذي يجب أن يتحلى به الإنسان في كل أمور حياته، ونعني هنا بالوجود وجود الله والعالم بما هو موجود في الظاهر والباطن، وكيفية معرفة كل ما يتعلق بهذا الوجود وأسراره.
أما الأخلاق فتعنى بها السلوك الواجب الالتزام به في معرفة الوجود على الحقيقة وكيفية التعامل معه بما يجب، ولهذا كان شغل الفلاسفة على مر العصور هو البحث في حقيقة هذا الوجود «وجود الله والعالم»، وكيفية معرفة حقيقته، وما القيم الأخلاقية الواجب الالتزام بها لمعرفة سر هذا الوجود والتعامل معه.
ويعد نصير الدين الطوسي وابن سينا وفخر الدين الرازي والشهرستاني من هؤلاء الفلاسفة الذين شغلهم البحث في الوجود، فقد حاولوا البحث في كثير من معالم الوجود وطرق الوصول إلى معرفة حقيقته، كما اهتموا بمعظم العلوم التي تتعلق بالوجود من فلك ورياضيات ورصد وفلسفة ونفس ومنطق وأخلاق وغيرها، وخلفوا لنا تراثًا في كل هذه العلوم لم يتم حصره حتى الآن، ولم يكشف عن جميعه على الرغم من جهود الباحثين في محاولة إبراز أهمية تراث هؤلاء في الفكر الإسلامي والكشف عن بعض كنوزهم الدفينة .
والطوسي كعالم وفيلسوف نشأ في عصر ركود الفلسفة وانحطاطها على يد الغزالي وغيره، وفي عصر حرم فيه التفكير الفلسفي مثل عصرنا العربي الحالي، وقد شغله هذا الهجوم على الفلسفة والفلاسفة فاطلع على تراث الفلاسفة وأعدائها وأخذ في الدفاع عنها، وهذا دفعه إلى تحليل فكر الشيخ الرئيس ابن سينا الفلسفي، وشرحه كأشهر فلاسفة الإسلام للدفاع عنه أمام أعدائه ومنهم الرازي والشهرستاني وغيرهما، لهذا انعكف الطوسي فترة من الزمن في قلاع الإسماعيلية للبحث عن قضايا الوجود والمعرفة والأخلاق في مؤلفات ابن سينا وشرحها، واتهامات فخر الدين الرازي والشهرستاني له بالكفر وخرج من هذا بإنتاج أعظم مؤلفاته في الوجود والمعرفة والأخلاق، ومنها شرحه «للإشارات والتنبيهات» لابن سينا وتعليق الرازي عليها، وكذا شرح محصل أفكار المتقدمين للرازي، وألف كتابا آخر للرد على الشهرستاني «مصارع المصارع» وبهذا نمت ملكة النقد الفلسفي لدى الطوسي.
كما نجح في محاولته التوفيق بين الفلسفة وعلم الكلام، لهذا عده البعض مؤسس المنهج الفلسفي في البحث في علم الكلام، وقد اكتسب الطوسي هذا من خلال مناقشاته ومحاوراته بين المتكلمين والفلاسفة، وهو كمسلم لم يعارض علم الكلام ولا الفكر الإسلامي بل العكس يُعد من المدافعين عنه، ونظرًا لأن هذه القضية تشغل كل إنسان فقد قام بدور بارز في التوفيق بين رؤى الفلاسفة في قضية الوجود والمعرفة ممثلة في ابن سينا، وموقف علماء الكلام منها ممثلا في فخر الدين الرازي والشهرستاني.
لهذا كان الهدف من هذه الدراسة بيان موقف الطوسي من ابن سينا ممثلا عن الفلاسفة، وفخر الدين الرازي ممثلاً عن علماء الكلام في قضايا الوجود والمعرفة والأخلاق التي نحن في حاجة ماسة إليها في عصرنا الحاضر المعرفة حقيقة وجودنا وعلاقتنا بالله وبخلقه، ونظرًا لأن هذه القضايا دار حولها الجدال منذ عصور طويلة، فضلا عن أنها تعد من أهم القضايا الفلسفية.