العقلانية ومركزية الإنسان التصالح مع فرانكشتاين مرة بعد مرة
تاريخ النشر: 24th, April 2024 GMT
قنبلة أوبنهايمر واسعة الأثر
لا يسعني التخمين ما إذا كان كريستوفر نولان قد فكر في أثر عملية الاختراع على المجتمع عندما صنع فيلمه الأوسكاري أوبنهايمر، فالفيلم الذي يروي لحظة من التاريخ تمحورت فيها كل أفعال مجموعة من البشر حول قنبلة، لم يركز على هذه القنبلة بصفتها أداة تدمير، بل بصفتها عملية اختراع وشيئا قيد التحقق.
الملفت إذا أن كل ما هو مهم ويستحق الذكر من وجهة نظر الفيلم قد حدث قبل تفجير القنبلة، الصراعات والعلاقات والأفكار وتكون الشخصيات، كلها حدثت في تلك المرحلة التي كانت تتم فيها صناعة القنبلة، أي أنها نشأت مع تطور «مشروع» الاختراع الجديد. أما استخدام القنبلة، ذلك الحدث العملاق في التاريخ البشري، فقد مر سريعا وعلى الهامش، لتأتي بعدها ذروة الأحداث في مكان آخر تماما.
فإذا كانت القدرة التدميرية لقنبلة أوبنهايمر يمكن لها أن تبرر أثرها على السياسة العالمية، فإن أثرها الاجتماعي العميق كان قد تحقق فعلا خلال العمل وقبل إنجاز الاختراع وقبل التأكد من إمكاناته ورؤية قدرته التدميرية. الأثر الذي بدا في الفيلم نتيجة لكل الجهد وإعادة التشكل الذي كابده الجميع سواء في أروقة الجامعة أو دهاليز السياسة، وكل التغير في توجهات المجتمع وحيوات الأشخاص، ليتمكن المجتمع في النهاية من القيام بالعمل الذي أدى إلى تلك التقنية الجديدة. ومما هو ذو دلالة في الفيلم، أن الانتصار العسكري الذي أدى إليه الاختراع الجديد بدا عرضيا تماما في سياق الفيلم.
يدفعنا الفيلم إذا إلى التساؤل، ما هو أثر عملية الاختراع على المجتمع؟ كيف يمكن لمجرد السعي إلى إنتاج علمي أن يشكل المجتمع بشكل جديد؟
الاختراع بصفته عنصر تغيير
كان ماكس فيبر قد ناقش يوما أن العقلانية هي سمة المجتمع الرأسمالي، فالعقلانية بصفتها ضرورة لاختيار نمط الفعل الاقتصادي وغايته، واختيار الوسائل الاقتصادية وبدائلها، فإنها تتوسع نتيجة لذلك لتفرض نفسها على شكل العلاقات القانونية والسيادة البيروقراطية. ماكس فيبر يرى أن العقلنة تعني توسيع المجالات الاجتماعية التي تخضع لمقاييس القرار العقلاني، ابتداءً من تنظيم الوسائل والاختيار بين البدائل في الاقتصاد، مرورا بالتخطيط ومأسسة التقدم العلمي كشكل من أشكال ضمان استمرار أنظمة الفعل العقلاني عن طريق مأسستها، وصولا إلى تغيير الموروث الثقافي للمجتمع ككل، فيهدم المجتمع المشروعات القديمة ويبتعد عن زمن الخرافة.
لكن حدث أيضا أن اعترض هبربرت ماركيوز لاحقا على مفهوم العقلنة لدى ماكس فيبر، بأن العقلانية الرأسمالية بهذا المفهوم ليست العقلانية بذاتها بل هي شكل مضمر من السيادة لا يكتفي بأن يغير المجتمع ويعيد تشكيله، بل يضع له أيضا حدودا بقدر ما يشكله، وبذلك فإنه بعد حد معين يمنع المجتمع من التغير أو بالأحرى يحرمه منه. واعتراض ماركيوز لا يقلل من أهمية العقلنة، بل يزيد من أثرها في تشكيل المجتمع.
فالعقلانية العلمية بحسب ماركيوز هي إذا ممارسة للإشراف والرقابة تُمأسس السيادة وتحتفظ بالمحتوى السياسي، مما يجعل العقلانية والتقنية نفسها أيديولوجيا، ولا يعني ذلك أن استخدام التكنولوجيا (التقنية) يتم بشكل أيديولوجي، إنما يعني أن التقنية بذاتها هي سيطرة على الطبيعة والإنسان، هي شكل سيادة منهجية وعلمية محسوبة ومدروسة الأغراض. فبحسب ماركيوز تدخل السيادة أو السيطرة سلفا في بناء الجهاز التقني ذاته ولا تأتي من خارجه أو لاحقة عليه، فالتقنية هي مشروع اجتماعي-تاريخي يتم التخطيط فيه للمجتمع والمصالح المسيطرة عليه، بحيث تملي عليهما ما يتوجب فعله مع البشر ومع الأشياء، وهي بذلك سيادة مادية تنتمي من حيث ذلك إلى الشكل نفسه للعقل التقني.
قد تبدو الفقرة السابقة حول فكرة ماركيوز شديدة التكثيف، إلا أن ما يهمنا منها هو أن العقلانية بوصفها شكل السيادة المضمر في الرأسمالية هي أساسا ذات أثر أبعد بكثير من مجرد أن تكون خيارا يمكن الأخذ به أو تركه. فهي شيء بهذا المعنى تستحق صفة المضمر لأنها تشكل النظام ككل وشكل السلطة التي يمارسها، كما تبين لنا أن أحد معاني العقلانية بوصفها في أحد أشكالها العقل التقني المتمثل بالجهاز التقني والاختيار بين البدائل التقنية والتخطيط للتقدم العلمي، هو معنى ينسحب على كامل المجتمع.
العقلانية والتفرد البشري
كما فهمنا مما سبق، فإنه مع التقدم التقني لم تعد وسائل الإنتاج مجرد أدوات عمل بل غدت أساسا لأنواع المشروعية، وبما أننا النوع الوحيد المفكر، فإن هذا العقل الذي ينتج التفكير العلمي والعقلانية يغدو هو أساس مشروعية سيطرتنا البشرية على الحياة ومصدر التقدم العلمي الذي هو شرط حدوث التقنية واستمرارها.
فالتقنية تفرض سيطرتها علينا كبشر بينما نحاول نحن استخدامها للسيطرة على الطبيعة، إلا أن التفكير البشري بصفته المحتكر للعقلانية يبقى ذا مكانة جوهرية في عملية الإنتاج وبالتالي في عملية السيطرة بكل ما يستتبعه ذلك من مركزية إنسانية فلسفية وأخلاقية. وبالرغم من أن هذه السيادة المضمرة لا تمنح سيادة متساوية لجميع البشر، إلاّ أنها هي التي تهبنا الشكل السياسي والسيادي الذي يمتلك فيه الأشخاص حقوقهم بصفتهم أشخاصا.
الذكاء الاصطناعي والمركزية البشرية
لكن مع تصاعد دور الذكاء الاصطناعي، فإن سؤالا لابد أن يطرح نفسه فيما يتعلق باستمرارية المركزية الإنسانية كفكرة أساسية متأتية من تفرد البشر بالعقلانية كأساس للسيطرة البشرية على الطبيعة وبالتالي مكانتهم المركزية كأشخاص في هذا النظام السياسي الحالي بما فيه من حقوق ومنظومة قيم.
ففي الوقت الذي قد تحال فيه الكثير من الوظائف إلى الذكاء الاصطناعي، فإن الخوف الأساسي لا يجب أن ينحصر في انتزاع عمل البشر منهم لصالح الذكاء الاصطناعي، فالتاريخ يبين أن الأعمال التي يلغيها التطور يمكن أن تعوض بأنواع أعمال جديدة. لكن الهاجس الأساسي يجب أن يكون حول تراجع دور العقلانية والتفكير العلمي في أداء البشر لأعمالهم وبالتالي تراجع دور العقلانية المحوري كأساس للمبدأ الإنساني وانعكاساته السياسية.
فالقدرة البشرية على العمل والإنجاز والمشروطة حاليا بالعقلنة والتفكير العلمي قد تتعرض لفك هذا الشرط عندما يقوم الذكاء الاصطناعي بأداء المهام داخل (صندوقه المغلق) بينما البشر يتحولون للثقة بنتائج تفكير الآلة ذاتية التعلم أكثر مما يثقون بنتائج تفكيرهم المنطقي. وحيث إن الآلة غدت اليوم تتعلم ذاتيا بطرق غير مدركة للبشر -وهو شرط بعض أنواع الذكاء الاصطناعي الأكثر فعالية- فإننا عند العمل معها نتحول إلى نوع من الإيمان الغيبي والذي يتميز عن كل الإيمانات الغيبية السابقة بأنه دائم التحقق على عكس نتائج الصلوات ونبوءات الأبراج وقراءات فناجين القهوة المقلوبة، مما يجعله إيمانا أشد قوة ومتانة.
إلا أن هذا الإيمان الفعّال والمتحقق يشكل خطرا على مركزية الإنسان الفلسفية والأخلاقية والسياسية، فهو يعني تراجع سيطرة الإنسان على وسائل الإنتاج والذي يعني سياسيا تراجع أساس سيادته، ويعني أيضا تراجع المركزية الفكرية للإنسان بصفته ناظرا إلى الطبيعة في سبيل فهمها أو مفكرا بالكون، مما يعني تراجع دور العقلنة. ففهم الطبيعة أو الكون لم يعد ذا ضرورة لأن ذكاء الآلة يقوم بهذه المهمة على أتم وجه، بينما فهمنا لهذه الآلة الفاهمة للطبيعة ليس فقط غير ضروري لفهم الطبيعة وإتمام المهام واستمرار عمل الجهاز -أيا يكن مستوى الجهاز من الآلة إلى الدولة- بل ربما يكون غير ممكن من الأساس.
ولأجل أن يحافظ البشر على مكانتهم في نظمهم الفلسفية والسياسية فإنه قد لا يكفيهم أن يعتمدوا على غريزة البقاء البسيطة باعتبارها متأصلة فيهم ككائنات حية لتمكنهم من مقاومة تراجع مكانتهم أمام اختراعاتهم، بل يتوجب عليهم أن يسعوا بكل جهدهم لإبقاء الذكاء الاصطناعي ضمن إطار المفهوم والمدرك. لابد من النظر إلى ما بعد الذكاء الاصطناعي والعمل على تجاوزه.
التصالح مع فرانكشتاين
لابد من الإشارة إلى أن إبقاء الذكاء الاصطناعي في إطار المفهوم والمدرك لا يعني تقييده ومحاربته، وإن كانت دعوات محاربة التقنيات الجديدة بدافع الخوف منها هي الدعوات التي تلقى رواجا لدى المجتمع في البداية التي تبدو أكثر مدعاة للراحة إلا أنها أيضا النهج الذي يثبت التاريخ فشله. فكما كان الأمر دائما، يبدو أن التقدم هو شرط بشري جوهري حتى لو أدى التطور إلى نقطة تاريخية يبدو فيها أن هنالك إغراء بأن نركن إلى الراحة ونعطي قيادة العقل والتفكير إلى كائن آخر يريحنا مما طالما شكل أكبر تحدياتنا ومغامراتنا البشرية وهو الاكتشاف والتقدم. فتلك اللحظة التي نستسلم فيها للراحة من عبء التفكير بالمستقبل سوف تكون لحظة انحدارنا.
في رواية فرانكشتاين لماري شيلي، ينقلب الكائن المصنوع على صانعه، يتحداه وينكل به، ويضيع الصانع والمصنوع في النهاية غارقين في صراعهما العبثي. وإن كانت هذه نهاية الرواية، فإن القصة الحقيقة لم تنته هناك، فنحن نعلم أن تلك الرواية الخالدة كتبت كمقاربة أدبية للأزمة الاجتماعية التي أثارها ظهور ماكينات الحياكة الآلية في المجتمع البريطاني في أوائل القرن التاسع عشر، لكننا نعلم أيضا أن هذه الآلات التي أتت مع الثورة الصناعية كانت سر الرفاه الذي شهدته البشرية خلال المائتي سنة التي مرت منذ ذلك الوقت إلى الآن، ففرانكشتاين في الحقيقة لم يبق عدوا بل أصبح أعز الأصدقاء. قد يسهل تخيل الذكاء الاصطناعي على أنه فرانكشتاين الجديد، خصوصا أنه يبدو من السهل جدا أنسنة برامج مثل تشات جي بي تي، إلا أن تجاربنا السابقة تقول: إن البشر لطالما تعايشوا مع مخلوقاتهم الجديدة وأحبوها، وهي خاتمة ليست فقط أكثر ملاءمة للمجتمعات البشرية بصفتها الطريق الذي لابد منه، بل هي أيضا خاتمة لا تقل شاعرية عن خاتمة رواية ماري شيلي.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی إلا أن
إقرأ أيضاً:
بتشويه «فوضى الذكاء الاصطناعي» للواقع يمضي العالم إلى كارثة
تهيمن قناتان متوازيتان للصور على استهلاكنا البصري اليومي. في إحداهما، صور ولقطات حقيقية للعالم كما نعرفه، ففيها سياسة ورياضة وأخبار وترفيه. وفي الثانية، فوضى الذكاء الاصطناعي [أو ما يعرف بـ AI slop]، بمحتوى متواضع الجودة ليس فيه من الإسهام البشري إلا الحد الأدنى. بعض ما فيه تافه الشأن عديم المعنى، لا يعدو صورا كرتونية لمشاهير، ومناظر طبيعية خيالية، وحيوانات ذات سمات بشرية. وبعضه الآخر عرض خادش للحياء...ففيه تجد حبيبات افتراضيات لا يمكن أن تتفاعل معهن تفاعلا حقيقيا. ونطاق هذا المحتوى وحجمه مذهلان، فهو يتسرب إلى كل شيء، من صفحات التواصل الاجتماعي إلى الرسائل المتداولة على واتساب. فلا تكون النتيجة محض تشويش على الواقع، وإنما هي تشويه له.
وفي فوضى الذكاء الاصطناعي شيء جديد هو الخيال السياسي اليميني. فعلى موقع يوتيوب مقاطع فيديو كاملة ذات سيناريوهات مختلقة ينتصر فيها مسؤولو ترامب على القوى الليبرالية. وقد استغل حساب البيت الأبيض على منصة إكس صيحة إنشاء صور بأسلوب استوديو جيبلي، ونشر صورة لامرأة من الدومينيكان تبكي أثناء تعرضها للاعتقال على يد إدارة الهجرة والجمارك (ICE). والواقع أن السخرية السياسية باستعمال الذكاء الاصطناعي قد انتشرت على مستوى العالم.
فهناك مقاطع فيديو صينية من إنتاج الذكاء الاصطناعي تسخر من العمال الأمريكيين البدناء وهم يقفون في خطوط التجميع بعد إعلان التعريفات الجمركية، وقد أثارت هذه المقاطع سؤالا موجها للمتحدثة باسم البيت الأبيض الأسبوع الماضي وردا منها. فقد قالت المتحدثة: إن هذه مقاطع أنتجها من «لا يرون إمكانات العامل الأمريكي». ولإثبات مدى انتشار فوضى الذكاء الاصطناعي، كان علي أن أتأكد ثلاث مرات من أنه حتى هذا الرد نفسه لم يكن في حد ذاته محتوى ذكاء اصطناعي منفذا على عجل مختلقا خدعة أخرى لأعداء ترامب.
وليس الدافع إلى تسييس الذكاء الاصطناعي بالأمر الجديد، فهو ببساطة امتداد للبروباجندا المعهودة. ولكن الجديد هو مدى ديمقراطيته وانتشاره، وأنه لا يحتوي أشخاصا حقيقيين ويخلو من قيود الحياة الواقعية المادية، فيوفر بذلك ما لا حصر له من السيناريوهات الخيالية.
وانتشار محتوى الذكاء الاصطناعي عبر قنوات الدردشة الضخمة عظيمة الحضور، من قبيل واتساب، يعني غياب أي ردود أو تعليقات تشكك في صحته. فكل ما تتلقاه ينعم بسلطة من ثقتك في الشخص الذي أرسله إليك. لذلك أخوض صراعا دائما مع قريبة لي كبيرة السن، مطلعة على عالم الإنترنت، تتلقى سيلا من محتوى الذكاء الاصطناعي على واتساب بشأن حرب السودان وتصدقه. تبدو الصور ومقاطع الفيديو حقيقية بالنسبة لها، وترد إليها موجهة من أشخاص تثق فيهم. ويصعب على المرء حتى أن يستوعب قدرة التكنولوجيا على إنتاج محتوى يبدو حقيقيا إلى هذه الدرجة.
وبإضافة هذه القدرة إلى توافق المحتوى مع رغبات قريبتي السياسية، ستجد نفسك متعلقا به إلى حد بعيد، حتى لو اعتراك بعض من الشك فيه. فوسط الكم الهائل من القطط [في بعض الفيديوهات المختلقة]، يجري استعمال الذكاء الاصطناعي في خلق سيناريوهات سياسية، وتحسينها والوصول بها إلى درجة الكمال عبر تقديمها بلغة بصرية تؤجج الرغبة في الانتصار أو تعتمد على الشعور بالحنين.
يشير البروفيسور رولاند ماير، الباحث في الإعلام والثقافة البصرية، إلى «موجة حديثة من الصور المولدة بالذكاء الاصطناعي لعائلات بيضاء شقراء، تطرحها حسابات إلكترونية فاشية جديدة بوصفها نماذج لمستقبل مشرق». وهو لا يعزو ذلك إلى اللحظة السياسية الراهنة فحسب، وإنما إلى أن «الذكاء الاصطناعي التوليدي محافظ بطبيعته، بل ويقوم على حنين إلى الماضي». فالذكاء الاصطناعي التوليدي يقوم على بيانات مسبقة أثبتت الأبحاث أنها بيانات متحيزة بطبيعتها ضد التنوع العرقي، والأدوار الجندرية والميول الجنسية التقدمية، فتأتي منتجات الذكاء الصناعي بتركيز كبير على هذه المعايير.
يمكن أن نرى الأمر نفسه في محتوى «الزوجة التقليدية» [“trad wife”]، الذي لا يقدم ربات البيوت الجميلات الخاضعات فحسب، وإنما يقدم عالما رجعيا كاملا لينغمس فيه الرجال. وتغص جداول موقع إكس بنوع من المواد الإباحية غير الجنسية، حيث تلمع على الشاشة صور الذكاء الاصطناعي لنساء يوصفن بالحسن والخصوبة والخضوع. ويجري طرح سيادة البيض والاستبداد وتقديس التراتبيات الهرمية في العرق والجندر بوصفها سلة متكاملة من الحنين إلى ماض موهوم. فبات الذكاء الاصطناعي يوصف بالفعل بأنه جمالية الفاشية الجديدة.
لكن الأمر لا يكون دائما على هذا القدر من التماسك. ففي معظم الأحيان، لا تعدو فوضى الذكاء الاصطناعي محتوى فيه بعض المبالغة أو الإثارة بما يغري على التفاعل، ويوفر لمبدعيه فرصة ربح المال من المشاركات والتعليقات وما إلى ذلك. وقد تبين للصحفي ماكس ريد أن فوضى الذكاء الاصطناعي على فيسبوك ـ وهي الفوضى الكبرى على الإطلاق ـ ليست «محض محتوى غير مرغوب فيه» من وجهة نظر فيسبوك، وإنما هي «ما تريده الشركة بالضبط: فهي محتوى شديد الجاذبية». والمحتوى بالنسبة لعمالقة التواصل الاجتماعي هو المحتوى، فكلما كان أرخص، وقلت فيه الحاجة إلى جهد بشري، فذلك أفضل. وتكون النتيجة أن يتحول الإنترنت إلى إنترنت الروبوتات التي تدغدغ مشاعر المستخدمين البشريين وتؤجج فيهم أي أحاسيس أو عواطف تبقيهم منشغلين.
ولكن بغض النظر عن نوايا مبتكريه، يؤدي هذا السيل من محتوى الذكاء الاصطناعي إلى فقدان الإحساس بالواقعية وإرهاق الحواس البصرية. والتأثير العام لدوام التعرض لصور الذكاء الاصطناعي، ما كان منها تافها أو مهدئا أو أيديولوجيا، هو أن كل شيء يبدأ في اتخاذ مسار مختلف. ففي العالم الواقعي، يقف الساسة الأمريكيون خارج أقفاص سجن الترحيل. وتنصب الأكمنة لطلاب الجامعات الأمريكية في الشوارع ليجري إبعادهم. ويحترق أهل غزة أحياء. وتمضي هذه الصور والفيديوهات مع سيل لانهائي من الصور والفيديوهات الأخرى التي تنتهك القوانين المادية والأخلاقية. فتكون النتيجة ارتباكا عميقا. ولا يعود بوسعك أن تصدق عينيك، ولكن ما الذي يمكن أن تصدقه إن لم تصدق عينيك؟ فكل شيء يبدو حقيقيا للغاية وغير واقعي بالمرة، في آن واحد.
أضف إلى هذا ما نعرفه من التبسيط الضروري والإيجاز المستفز في (اقتصاد الانتباه)، وإذا بك في سيرك ضخم من التجاوزات. فحتى عندما يكون المحتوى شديد الجدية، يجري تقديمه بوصفه ترفيها، أو فاصلا، أشبه بنسخة مرئية من موسيقى المصاعد. فهل أفزعك هجوم دونالد ترامب وجيه دي فانس على زيلينسكي؟ حسنا، إليك رسم مصمم بالذكاء الاصطناعي لفانس في هيئة رضيع عملاق. تشعر بالتوتر والإرهاق؟ فها هو بلسم للعين في كوخ فيه نار موقدة والثلج يتساقط في الخارج. ولسبب ما، قرر فيسبوك أنني بحاجة إلى رؤية تيار مستمر من الشقق الصغيرة اللطيفة مع تنويعات من التعليقات التوضيحية مفادها أن «هذا هو كل ما أحتاج إليه».
وتؤدي التحورات السريعة للخوارزميات إلى إمداد المستخدمين بمزيد مما حصدته لهم معتبرة أنه مثير لاهتمامهم. والنتيجة هي أنه يستحيل ترشيد ذلك الاستهلاك حتى لأكثر المستخدمين اتزانا. لأنك تزداد انغماسا في عوالم ذاتية بدلا من الواقع الموضوعي. فتكون النتيجة انفصالا شديد الغرابة. ويضعف الشعور بالقلق والحاجة إلى العمل الذي ينبغي أن يوحي به عالمنا الممزق، وذلك بسبب طريقة عرض المعلومات. وإذن فها هي طريقة جديدة لكي نسير نياما نحو الكارثة وهي طريقة لا تقوم على نقص المعرفة، وإنما تنشأ بسبب الشلل الناجم عن تمرير كل شيء من خلال هذا النظام المشوه، فهو محض جزء آخر من العرض البصري المبالغ فيه.