«الأرض بتتكلم عربي» استنطاق كاظمة في الرواية
تاريخ النشر: 24th, April 2024 GMT
يقول عاصي الرحباني: «غاية المعنى الفرح»، وتلك الغاية تذكرني بصديق تذمر من روايات أمين معلوف مُعبِّرًا عن رأيه فيها فيما كنا وقوفًا عند جناح من أجنحة معرض الكتاب، فتدخل رجل بقربنا وسأل مُداخلا: أليس في رواياته معرفة؟ أليس فيها متعة؟ هذا يكفي! نعم يكفي، لذلك كل تنظير عن الروايات وكتابتها وقراءتها مهما كان ماتعًا، لن يتجاوز جوهر سؤال الرجل.
صدرت رواية «حديث كاظمة» للدكتور فيصل عادل الوزان عن دار ذات السلاسل عام 2023. وهو مؤرخ وأكاديمي يعمل بجامعة الكويت عرف بكتاباته البحثية الرصينة في تاريخ الكويت والجزيرة العربية وما يتصل بها، بالإضافة إلى كتاب عن أصول وقواعد الكتابة البحثية التاريخية، لذلك كان خبر صدور رواية له أمرا جديدا ويستحق الانتباه.
منذ بدأت في قراءتها، عرفت أنني أمام رواية من نوع لا تألفه أرفف المكتبة العربية ولا ينتشر فيها. إذ إنها رواية يمكن تصنيفها بالرواية الجغرافية التاريخية. تريد هذه الرواية عبر حكاية بسيطة أن تحكي قصة أرض وتستنطقها، وتكشف عن شخصيتها. لذلك لم تكن حكايةً بطلُها (وهيب) رغم مركزية شخصيته في السرد؛ إذ إن سبر وهيب أرضَ كاظمة وما حولها لم يكن سوى عذر للمؤلف الأكاديمي، لكي يوصل الحكايات التاريخية التي تجري من عصر إلى آخر على الأرض نفسها وهي مسرح الأحداث، وبالتالي جعل من المكان، أي كاظمة، البطل الحقيقي.
تبدأ الرواية في عام 2020م عندما اكتشف فريق أثري من متحف الكويت الوطني ينقب في منطقة الصّبية، شمال مدينة الكويت، مخطوطا يعود لبداية القرن الرابع الهجري. خط فيه مؤلفه وهيب التميمي تاريخ أرضه. ويأتي السؤال لماذا يكتب وهيب تاريخ أرض كاظمة وما حولها؟ إن الكتابة في أحد أهم مسبباتها ردة فعل إزاء خوف من النسيان. لذلك كان الخوف من حروب الجنابيين «القرامطة» والعباسيين هو الدافع الظاهري الذي جعله يرتحل شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، بل ويركب البحر إلى جزيرة فيلكا، ليسمع من الأهالي ويوثق. يريد وهيب في رحلته التوثيقية أن يعاكس التيار القوي للمؤرخين وينتصر على النسيان، يريد أن يهزم جنود النسيان ألا وهم المؤرخون أنفسهم! خاصة أن مؤرخي الحضارة الإسلامية عبر تاريخها، سواء ممن اقتربوا من الأنظمة الحاكمة أو أولئك المهمشين كانوا ممن أسهم في الإقصاء والتهميش لصالح ذلك الطرف أو ذاك! لذلك أراد وهيب بوعي وبدون وعي أن يحارب طواحين المؤرخين ويتصدى للسردية التاريخية العوراء. ورغم هزيمته لقرون بعدما أتم عمله وطواه النسيان جاءت فرق الكشوف الأثرية والتي تعد من علامات العصر الحديث، لتنقب في أرض اشتهرت بالتنقيب عن النفط، لكي يكتشف المخطوط تحت ثراها. لذلك كانت حكاية المخطوط الدفين مدخلا ومعبرا للحكاية التي ظن الزمان أنه انتصر عليها ثم جاءت مثل كنز منتظر.
عُرف كثير من المثقفين العرب بتناقضاتهم، لذلك تجد أحدهم يقول في نص: «زرتُ سوريا وتونس والجزائر وفلسطين والجزيرة العربية». وعندما نستفسر منه عن سبب عدم ذكره أسماء دول الخليج والجزيرة العربية التي زارها بدلا من إجمالها في مصطلح جغرافي هو «الجزيرة العربية»؟ في حين أنه فصّل أسماء الدول العربية الأخرى؟ تكون إجابته السطحية أن الدول التي ذكر أسماءها أسماء بقع لها تاريخ، وليست دولا صحراوية ذات أسماء حديثة! إن كل مطلع وقارئ يعرف أن أسماء الدول التي ذكرها أسماء حديثة تختلف عن الأسماء التي نجدها مدونة قبل قرون في السرديات التاريخية وكتب الجغرافيا مثل بلاد الشام ومدينة إفريقية، وبلاد المغرب الأوسط والمغرب الأقصى... إلخ. إن المثقفين أنفسهم، الذين يتوارون بداخل معطف إدوارد سعيد، ويرددون اسمه للبركة بمناسبة وبدون مناسبة، ويتحدثون عن الرؤية الاستشراقية الظالمة للصورة العربية الإسلامية، يتحولون بقدرة قادر إلى جلادين يلبسون لباس المستشرقين حينما يتعلق الأمر بالمنطقة التي أسماها أحدهم مرة مستظرفًا: «الحتة الوسطانية»، متجاهلا أن تاريخ الجزيرة العربية ومسميات مثل عُمان والبحرين ونجد وغيرها ضاربة في القدم. وعندما نتفحص كتابات وتصريحات أولئك المثقفين، نجدهم يقولون أيضا: إن الشاعر العباسي الفلاني عراقي، وذاك مصري وذاك لبناني والآخر يمني! ولكن حين يتعلق الأمر بشاعر من أي دولة من دول الخليج فهو في نظرهم ليس منتميا، بلا بلاد، شخصية تعيش لحظة لا مرئية أو ضبابية، وما عنترة وحاتم الطائي وطرفة بن العبد، وشعراء المعلقات وغيرهم ببعيد، وفي أحسن الأحوال سيقال هم من الجزيرة العربية. لماذا أمر مرورا على هذه السيرة؟ لأن رواية «حديث كاظمة» جاءت وجاء صوت وهيب قادما من الماضي، ليقاتل هؤلاء وسرديتهم. ليتحدث عن الفرزدق الذي ولد وعاش في كاظمة ووردت في شعره التي ورثت أرضها دولة الكويت.
استطاع فيصل الوزان عبر استثمار البحث العلمي ونتائج التنقيب الأثري، واطلاعه الواسع في بلدان الجزيرة العربية بحاضرتها وباديتها، ربط تاريخها إلى قصة يقرؤها ابن الأرض ليعرف صوت أرضه الصامتة كيف هو إن تحدثت. وليعرف القارئ العربي أن هناك تاريخا في ركن من أركان العالم العربي، تاريخا تصر السردية المركزية المنتصرة في القرن العشرين، إما على تجاهله أو تصويره بكاريكتورية مثلما فعل عبدالرحمن منيف في عمله الكاريكتوري البروبجاندي المسمى «مدن الملح».
لم يتخلّ الراوي في رواية حديث كاظمة عن الإسقاط على العصر الحديث، منذ الفصل الأول الذي بدأ بأبيات للشاعر د. يعقوب الغنيم. نركب مع ثلة من الأكاديميين المتجهين إلى منطقة الصبية. ونتابع حوارا تضمن مفتاح الرواية عندما حكى سيف عن تعرضه في إحدى الجلسات لادعاء أحد جلسائه بأن البلاد لا تمتلك تاريخا قديما، وأنها وليدة القرن الماضي، ولولا اكتشاف النفط لم تعرف! ثم كال الجليسُ المديح لتاريخ دول أخرى! هذه الحادثة التي أشعلت الحوار بينهم، عزاه أحدهم إلى الاحتقار الذي يشعر به البعض تجاه نفسه وناسه وأرضه، وآخر نسبها لجهل الناس بما كتب من دراسات حديثة تغطي تلك الحقب، ونسب تقصير الناس في المعرفة إلى عدم إنتاج أعمال فنية تشكل وعي الجمهور. هذا الفصل كان المفتاح المناسب لإغراء القارئ بمتابعة الحكايات التي كانت في سباق تتابع تاريخي جغرافي.
في الفصل الذي يليه، حيث ينتقل الزمن إلى العصر العباسي، تبتدئ حكاية وهيب الذي راح يتفكر، بعد حوار دار بمجلس عمه، في مسألة: لماذا لم يُقِم آباؤنا دولة كما فعل من حولنا؟ هذا التساؤل قاده لرغبة «في التأمل ودرس العقبات التي حالت دون إقامة دولة ترعى مصالح الناس في كاظمة وما حولها»! لكن تلك الرغبة تبلورت عندما زار الكتبيين في البصرة ورأى في حوانيتهم كتبا عن أغلب المدن والأقاليم الإسلامية ولم يجد مدنه وأراضي قومه، عندها سأل الكتبي: «ألديك كتب عن تاريخ بلاد البحرين وعُمان ونجد؟» فجاءه الرد المختزل، والذي يحيل على ما ذكرته بشأن مثقفي هذا الزمان، عندما أجابه الكتبي: «كلا، ولكن لدي كتبًا عن أخبار الخوارج!».
لم تخل رواية «حديث كاظمة» من إسقاطات على عصرنا الحالي كما سبق وذكرت، وكانت في شطر منها لاذع وساخر، بدءا من قصة سرقة المخطوط، وإهمال صيانة وحماية المواقع الأثرية، بل وذكر حكاية غير معروفة عن مؤلف سلسلة جيمس بوند المعروفة آيان فليمنج، الذي جاء للكويت في الستينيات ليكتب عنها بدعوة من شركة النفط، لكنه كتب عن بيوت الطين، لا عن الشوارع الحديثة التي أرادوا منه الكتابة عنها. ولخص رأيه في النهاية بقوله: «فكتب كتابا ملأه تهكما على تعاطي بعض المسؤولين وفهمهم الخاطئ للحداثة، سخر من تنكرهم لماضيهم وشعورهم بالخجل منه. وحين سلم لهم الكتاب بعد أن أنهاه، رفضوا نشره لما يحتويه من نقد لاذع وساخر!!»
طفتُ مع وهيب ورأيت كيف كان أهل هذه الأرض يشتغلون في بيع النفط في القرن الثالث الهجري! وما هي ديانة أهل فيلكا بعد مرور أكثر من قرنين على الفتح الإسلامي، ومعركة ذات السلاسل التي دارت في أرض الكويت! وأيام العرب الشهيرة، وشهدتُ ولادة قطري بن الفجاءة في العدان التي خرج منها ثم انتزع لنفسه الحكم في العراق وفارس وكون إمارة تحولت إلى خلافة تاخمت بني أمية وبني الزبير! وسرت مع قوافل الحج البصري في الشجي، عرفت عن أختام الحضارة الدلمونية في فيلكا، وعن المدينة التي شيدها اليونانيون في فيلكا. عرفت كيف نبغ الفرزدق في الشعر وكيف احتفى به أهله في كاظمة! كنت في رحلة زمنية بعيدة وقريبة، وفي جغرافيا عرفتها أكثر بعدما أنهيت الرواية التي امتازت بالمتعة والمعرفة. إنها سرد روائي جغرافي تاريخي أنطق الأرض وجعلها «تتكلم عربي».
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الجزیرة العربیة
إقرأ أيضاً: