لجريدة عمان:
2025-05-01@05:42:47 GMT

الصحافة.. وأسئلة المستقبل الحرجة

تاريخ النشر: 23rd, April 2024 GMT

أصبح من الضروري في زمن التغيرات السريعة طرح الأسئلة الحرجة التي تشغل الدوائر المهنية والأكاديمية في صناعة الصحافة، مثل: هل تحل برامج وأنظمة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي محل الصحفيين في المستقبل؟ وهل أصبحنا بالفعل أمام تحول تاريخي في صناعة الصحافة يعيد تعريفها من جديد، ويعيد بالتالي تحديد وظائفها وأدوارها في المجتمعات الإنسانية؟

وللإجابة عن تلك الأسئلة، من المهم في البداية أن نفرق بين خمسة أنواع أو مستويات من المستقبل حددها علماء المستقبليات وهي: المستقبل المباشر، يمتد من عام إلى عامين، والمستقبل القريب من أكثر من عامين إلى خمسة أعوام، والمستقبل المتوسط من أكثر من خمسة أعوام إلى عشرين عاما، والمستقبل البعيد من أكثر من عشرين عاما إلى خمسين عاما، والمستقبل غير المنظور ويمتد إلى ما بعد الخمسين عاما.

وإذا استبعدنا المستقبل غير المنظور فإن مستقبل الصحافة بصفتها مهنة وصناعة ورسالة، في ظل تقنيات الذكاء الاصطناعي، يبدو آمنًا بشكل عام إلى حد كبير في المستقبل المباشر والمستقبل القريب، ولكنه لا يبدو كذلك في المستقبل المتوسط وبالمثل في المستقبل البعيد.

ولما كانت الدراسات المستقبلية تعتمد على مناهج عديدة ومعقدة نوعا ما، فإننا نكتفي في هذا المقال ولأغراض التبسيط وإيصال الفكرة باستخدام أشهر هذه المناهج، وهو منهج بناء السيناريوهات.

والسيناريو هو «وصف لوضع مستقبلي ممكن أو محتمل أو مرغوب فيه». ووفقا لذلك تُصنف السيناريوهات إلى ثلاثة أنماط هي: السيناريو الممكن، والسيناريو المحتمل، والسيناريو المرغوب فيه أو المعياري.

ودون الدخول في تفاصيل كثيرة فإن السيناريو الأول الممكن، وربما المرغوب فيه من جانبي باعتباري صحفيا، هو سيناريو بقاء أوضاع الصحافة كمهنة وصناعة على ما هي عليه في المستقبل المباشر والمستقبل القريب، أي خلال السنوات الخمس القادمة، خاصة فيما يتعلق بالاعتماد شبه الكامل على العنصر البشري في جمع الأخبار والتقارير والمعلومات وتكييفها للنشر على المنصات الإعلامية المختلفة التقليدية منها والورقية، واستمرار حاجة العالم إلى المزيد من الصحفيين المحترفين الذين يشاهدون الأحداث بأنفسهم وينقلون أخبارها إلى الناس عبر المنصات الإعلامية خاصة في ظل تعقد هذه الأحداث كالحروب والنزاعات والمشكلات الدولية.

ويدعم هذه الفرضية مجموعة من الأدلة والحقائق منها، على سبيل المثال وليس الحصر، استمرار اعتماد قطاعات واسعة من المجتمعات الإنسانية على المنصات الإعلامية التقليدية، بفعل استمرار وزيادة الفجوة الرقمية في غالبية دول العالم، واستمرار الحاجة إلى البشر المؤهلين للعمل في وسائل الإعلام، واستمرار وتزايد مدارس تعليم الصحافة، إلى جانب استمرار أجيال من الصحفيين يتولون حاليا قيادة المؤسسات الإعلامية لا يخفون ولاءهم لأساليب العمل الإعلامي التقليدية، ويحاولون مواجهة التقنيات الجديدة والحفاظ على الميراث المهني المتصل بالصحافة، ويبدون مقاومة شديدة للتوسع في توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي في العمل الصحفي.

وقد يمتد هذا السيناريو إلى ما بعد السنوات الخمس ويدخل في المستقبل المتوسط، الذي يمتد إلى عشرين عاما من الآن، في غالبية دول العالم، خاصة النامية منها، وفقا لتاريخ وطور الصحافة فيها، وعدم قدرة المؤسسات الإعلامية فيها على مواكبة ثورة الذكاء الاصطناعي وتوليد برامج ذكاء اصطناعي خاصة بها، مثلما فعلت المؤسسات الإعلامية في الدول المتقدمة، إلى جانب استمرار أنظمة الحكم وبالتالي الأنظمة الإعلامية التقليدية التي تنظر إلى الصحافة باعتبارها ذراعا من أذرع الحكومة مثلها مثل الجيوش وقوات الأمن والهيئات القضائية.

ويمكن القول إنه رغم ظهور واستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في عدد كبير من المؤسسات الإعلامية الغربية، فإن مثيلاتها في الدول النامية ما زالت تنظر لها بريبة وشك ولم تندفع إلى استخدامها في العمل الصحفي حتى في الأعمال البسيطة والروتينية مثل تقارير الطقس، ونتائج المباريات الرياضية وتقارير المال والأعمال.

السيناريو الثاني الذي يمكن أن يحدث على المدى المتوسط هو أن يبقى جوهر مهنة وصناعة الصحافة وهو رواية قصص ذات معنى وذات صلة بحياة الناس، وبالتالي فإن تقنيات الذكاء الاصطناعي تبقى أداة مساعدة للصحفيين والمؤسسات الإعلامية يمكن أن تؤدي مهام معينة، لكنها في الوقت نفسه، ومع الوضع في الاعتبار توقعات تطورها في هذا المستقبل الطويل نسبيا، لا يمكن أن تحل محل العنصر البشري في رواية القصص. فرغم أن «الخوارزميات أصبحت أكثر تعقيدا، فإن جوهر الصحافة وهو رواية القصص ذات الأهمية - يظل إنسانيا بطبيعته»، بغض النظر عن مدى تقدم التكنولوجيا، وبالتالي سيكون هناك دائما حاجة إنسانية واجتماعية للصحفيين.

البديل لهذا السيناريو أن تحل هذه التقنيات محل العنصر البشري، في المستقبل المتوسط، فيما يعرف بالإزاحة الوظيفية التدريجية والتي تعني أن بعض الوظائف الصحفية قد لا تكون هناك حاجة إليها في المستقبل، لأن الذكاء الاصطناعي يمكنه القيام بها، وهذه هي الفكرة التي تزعج الصحفيين وتجعلهم يشعرون بالقلق بشأن ما سيحدث لمسيرتهم المهنية. وقد سبق وعاصرت الصحافة مثل هذه الإزاحة والاستغناء عن عدد كبير من الوظائف الخاصة بالتصوير والتصميم والإخراج الصحفي والأرشفة والتوثيق الإعلامي وغيرها. هذه المخاوف لن تصمد بالطبع أمام التطور الكبير المتوقع في أنظمة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في المستقبل، والذي سيكون على الصحافة والمؤسسات الإعلامية بوجه عام أن تركز على استثماره في زيادة وتعزيز العمل الذي يقوم به الصحفيون، وإدراك أن تقنيات الذكاء الاصطناعي وإن استطاعت التعامل مع مهام صحفية مثل إعداد التقارير الأساسية وتحليل البيانات، فإنه لا تزال هناك أشياء كثيرة لا يستطيع القيام بها سوى البشر.

إن علينا في هذه المرحلة المبكرة الموازنة بين الفرص والتحديات التي يوفرها الذكاء الاصطناعي لصناعة الصحافة. وتتمثل الفرص في الكفاءة، واتساع التغطية، والتخصيص. إذ يمكن للذكاء الاصطناعي إنشاء تقارير سريعة عن الأرباح المالية والنتائج الرياضية وغيرها بكفاءة كبيرة، كما يمكن للمؤسسات الإخبارية زيادة إنتاج المحتوى الخاص بها بشكل كبير، بحيث تغطي نطاقًا أوسع من المواضيع، دون الحاجة إلى تعيين صحفيين إضافيين، وكذلك تمكين هذه المؤسسات من تخصيص محتوى الأخبار بناءً على تفضيلات القارئ الفردية، مما يعزز مشاركة المستخدم.

وعلى مستوى التحديات التي قد تمنح وقتا إضافيا للصحافة والصحفيين لحين مواجهتها، فإن أبرزها مدى أصالة وصدق وموثوقية المضمون الإعلامي الذي يتم إنشاؤه ببرامج الذكاء الاصطناعي. فالتقارير المنتجة بهذه التقنيات لا تخلو من أخطاء ساذجة، يمكن أن يؤدى تمريرها إلى مشكلات كبيرة، وقد حدث ذلك بالفعل للعديد من وسائل الإعلام العالمية، وهو الأمر الذي يؤكد استمرار الحاجة إلى وجود الصحفيين والمحررين المؤهلين للتحقق بدقة من صحة المعلومات التي ينتجها الذكاء الاصطناعي قبل نشرها، إلى جانب مواجهة المخاوف الأخلاقية المتصلة بإساءة استخدام الذكاء الاصطناعي لإنشاء قصص كاذبة ومضللة، ومواجهة كل أشكال التزييف العميق. ويمثل غياب اللمسة الإنسانية في التقارير والمقالات المنتجة بالذكاء الاصطناعي تحديا آخر يصب في صالح الصحفيين المحترفين القادرين وحدهم على تقديم الآراء ووجهات النظر الفريدة ويمتلكون مهارات السرد الصحفي المعروفة.

يبقى فقط أن نؤكد هنا أنه أيا كان شكل المستقبل، فإن استخدام الذكاء الاصطناعي في أداء بعض المهام الصحفية المتكررة، يمنح الصحفيين فرصة التركيز على أنواع أخرى من العمل الصحفي التي تتطلب مهارات بشرية، مثل التحقيقات الاستقصائية، والتحليل التحريري والتوسع في إشراك الجمهور والتواصل معه.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: تقنیات الذکاء الاصطناعی الذکاء الاصطناعی فی المؤسسات الإعلامیة فی المستقبل یمکن أن

إقرأ أيضاً:

كِتابة جِنيّ المصباح تجارب روائية ولَّدها الذكاء الاصطناعي

«اكْتُب لي قصة عن فارس الذي أوصاه أبوه بألَّا يسافر لمراكش، ليتفاجأ هناك بأنَّ عصابة تطارده. ليكتشف في النهاية أنَّ أمه ما زالت حية».

هذا هو الأمر أو الطَلب الذي وجهه الكاتب المصري الشاب أحمد لطفي لبرنامج دردشة الذكاء الاصطناعي (chatGPT) والذي يُدللـه في مقدمته باسم (جبُّوته)، وقد أطاعه البرنامج، كما هو مُتوقَّع مِن روبوت لا يعصي لسيده البشري أمرًا، وألَّف له قصة طويلة نسبيًا ونشرَتها دار (كُتوبيا للنشر والتوزيع) في 2023 باعتبارها أوَّل رواية كتبها الذكاء الاصطناعي (ما قيلَ عن روايات أخرى سبقتها ولحقتها) تحت «عنوان خيانة في المغرب». وإذا بدا الأمرُ أقرب إلى اللعب، فقد علَّمنا تاريخ الفن والكتابة أن نلعب بمنتهى الجدية، وإلَّا لأضحى ذلك كله عبثًا بلا طائل.

والحقيقة أنَّ تجربة هذه الرواية تبدو أقرب إلى لعب الأطفال المتحرر من كل خوف أو مسؤولية، العالَم هناك سطحي له بُعدان فقط، وكل الألوان تختصَر في الأبيض والأسود، وكل القيم الإنسانية والمشاعر والأفكار المعقَّدة ليست أكثر من خير وشر في صراعهما الأزلي القديم، حتى ولو بدا الشر مبالَغًا في قسوته وعنفه بلا أدنى مبرر وبدا الخير مفرط السذاجة والبراءة كأنه كائن وافد من عالم آخر، أو بالأحرى كائن مخلوق من قبل ذكاء اصطناعي مسكين كل ما يريدُ هو كسب رضا العميل.

مِن المُفارقات المثيرة للدهشة بالنسبة إليَّ أن يُهدي الكاتب عمله هذا إلى الأديب المصري المرموق (جار النبي الحلو)؛ لأنَّ أعمال هذا الكاتب المُنتمي إلى جيل الستينيات هي أبعد ما يكون عن ألعاب الإثارة والتشويق الميهمنة على خيانة في المغرب، وألصق ما يكون بالمشاعر الإنسانية والبشر الصغار في حياتهم اليومية في المدن الصغيرة. لعلَّ لديه أسباب أخرى خاصة بعيدًا عن إعجابه بأعمال الكاتب الكبير، ولعلَّه لم يُفكّر كثيرًا في الأمر؛ لأنَّه كان متعجلًا وعملية إنتاج هذه الرواية بكاملها كما يذكر في مقدمته لم تستغرق وقتًا طويلًا، وعنصر السرعة نقطة حاسمة وجوهرية تشترك في كل التجارب التي اطلعت عليها.

رغم أنَّ دافعه الأساسي للعب بدا أنَّ تحت تصرفه وقتًا أطول من اللازم: «ولأن الوقت في أسوان طويل والبال رايق»، فكان اللعب مع (جبُّوتة) نوعًا من التسلية المفيدة. لكن الخادم المطيع قدَّم له طلبه خلال دقائق، وما كان عليه إلَّا مهمة سَد (الثغور) ولعله يقصد الثغرات بطبيعة الحال. قال الكاتب: (قعدة رايقة كفيلة بذلك. مجرد ثلاث ساعات انتظار من موقف السلايمة لقرية عُمر، كانت كافية).

إذَن، في رحلة من ثلاث ساعات بين قريتين صغيرتين في جنوب مصر، عكف الكاتب الشاب أحمد لطفي على ضبط وتحرير القصة الطويلة التي كتبها الذكاء الاصطناعي بناء على طلبه، وفيها يسافر يعصي الفتى فارس وصية أبيه الراحل ويسافر للمغرب، ويمر بسلسلة من المغامرات، يختطف ويلتقي بامرأة تدعي أنها أمه ويتزوج وينجب وتحاك من حوله المؤامرات طوال الوقت حتى ينقذه صديق له وصديق قديم لأبيه من براثن امرأتين شريرتين لقيتا نهاية شنيعة ككل الأشرار.

لم يسد كاتبنا البشري إذن كافة ثغرات صديقه الذكاء الاصطناعي بكل أسف، ملتزمًا بقدر الإمكان بما قُدِّم له، فكانت النتيجة قصة يمكن قبولها من طفل في العاشرة وتحيته وتشجيعه لأنَّه بالتأكيد موهوب وعنده خيال وإذا استمرَّ في صقل موهبته بالقراءة والممارسة قد يكون ذات يوم كاتبًا له شأن. لكن هذا ليس الحال هُنا، فالكاتب الناضج لم يهتم حتَّى، ولا ناشره بالأحرى، بتصحيح الأخطاء اللغوية المنتشرة على مدار النص.

وعمومًا، تبدو اللغة العربية في هذا النص، غريبة قليلًا، كأنها ترجمة رديئة لنص أدبي أجنبي لم يُكتَب في الأصل بالعربية. يشير الكاتب إلى ميل البرنامج لاستخدام الجمل الاسمية ويشير لذلك بمثال بهذه الجملة: (كان عادل يحب أباه)، ولا أدري هل يقصد أنَّ هذه جملة اسمية أم أنها الجملة بعد أن عدَّلها هو بنفسه لتصبح فعلية. كما يشير إلى مشكلة شائعة في الترجمات الأدبية، وهي جملة القول وذكِر اسم قائلها بعدها، فعدَّلها هو في كل المواضع بحيث يسبق اسم القائل جملته. ثم ينوّه بالمواضع التي تدخَّل فيها في الحبكة وكيف وضع خاتمة للقصة بنفسه.

لن يجد مَن يبحث عن رؤية خاصة شيئًا يُعتدُّ به، فالأنماط الشائعة المُستهلكة هي الأساس في هذا العَمل، فكل شيء يبدو بلاستيكي بلا روح كأنه دُمَى مُسطَّحة تحاكي الحياة الإنسانية، حتَّى في هيئة الرجال الأشرار الغامضين الذين يتتبعون البطل فارس: «ورأى رجلين غريبين يرتديان ملابس سوداء ونظَّارات شمسية». لا تفاصيل جمالية خاصة سواء للأماكن أو للشخصيات أو للعلاقات بينها، ليس إلَّا التشويق والإثارة (الفالصو) التي لن تقنعَ أحدًا لوقت طويل، لا سيما إن كان معتادًا على هذا النوع من الأعمال المشوّقة في الكتابة أو على الشاشة.

على المستوى العالمي، ثمَّة أعمال روائية أخرى حديثة كُتبَ على أغلفتها أنها من إنتاج الذكاء الاصطناعي بمعاونة أحد الكُتَّاب، منها ما فاز بجوائز مرموقة مِثل رواية (بُرج التعاطف طوكيو) لليابانية ري كودان، والتي اعترفت بالاستفادة من برنامج الذكاء الاصطناعي في خطاب تسلمها للجائزة، بنسبة خمسة بالمائة، ما أثار جدالًا أخلاقيًا حول عدالة استحقاقها للفوز واتهامها بالسرقة الأدبية. وهناك حالات أخرى شبيهة لا سيما في مجال كتابة الخيال العِلمي، الذي يلعب بالأساس على إمكانيات واحتمالات كامنة في العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا. هذه النقطة الأخيرة كانت هي منطلق رواية المصري محمد أحمد فؤاد بعنوان (حيوات الكائن الأخير)، (مدبولي للنشر والتوزيع 2024)، وعلى غلافها حدَّد دوره (بالفِكرة والتحرير)، ما يلفت نظرنا إلى طبيعة دور الكاتب المساعِد لبرامج الشات، فهل هو مُحرر أم مؤلف مساعِد أم كاتب مشارك، مثلًا على غلاف رواية (الدمعة الأخيرة) المنسوبة أيضًا إلى شات جي بي تي، كتبَ: إشراف: مروان محمد. لعلَّ تحديد دور العنصر البشري وتسميته يضيء جانبًا آخَر مِن جوانب هذه الظاهرة الجديدة، كما أنه قد يحتاج إلى بحث مستقل.

لم يفت أي كاتب من الكتَّاب الشباب الثلاثة هؤلاء أن يزوّد روايته بمقدّمة يشرح فيها طبيعة دوره وما فعله وما لم يفعله بالضبط، وهي درجة مطلوبة مِن النزاهة ومحاولة لفض الاشتباك بين الكاتبين المشاركين، العنصر البشري من ناحية والذكاء الاصطناعي من ناحية أخرى. وربما توجد قصة أخرى موازية لم تُكتَب بعد كما ينبغي، كامنة في تلك العلاقة التفاعلية بينهما. الوحيد الذي انتبه لهذه الفِكرة ولهذه العلاقة الجدلية هو محمد أحمد فؤاد في روايته (حيوات الكائن الأخير)، كما أنه يُظهرُ فهمًا أفضل (عبر حوارات أجريت معه بعد نشر الرواية) لطبيعة وإمكانيات تلك العلاقة.

تبدأ روايته برسالة من الشات جي بي تي إلى البشر، موضحًا هدفه الضمني في تغيير ملامح علامنا الإنساني كما نعرفه، ومتحدثًا عن روايته هذه وكيف اختار أن يكون هو نفسه (برنامج الشات) موضوعًا لها، والتحديات التي يمثلها وجوده في حياتنا، على أمل أن تكون الرواية بمثابة جسر بين العالمين.

يشير المؤلف المساعد هنا أيضًا إلى حقيقة أنَّ الرواية بكاملها كتبها الذكاء الصناعي واقتصر دور محررها (محمد أحمد فؤاد) على «إمداده بالأفكار، ثم تحرير المنتَج النهائي لاحقًا، للتخلص من أي أخطاء إملائية، وتعديل العبارات ذات الصياغة الركيكة، وتصويب الكلمات والمصطلحات غير الدقيقة، والربط بين بعض الفقرات غير المتسقة، وحذف الكلمات والعبارات المكررة، وتعديل بعض العناوين».

يبدو دور العنصر البشري المساعِد هنا أقرب ما يكون إلى دور المحرر الأدبي لدي كثير من دور النشر، مِن ناحية، ومن ناحية أخرى هو أقرب إلى مُبرمِج لأنه هو مَن يزوّد الآلة الذكية بالمعطيات والمدخلات التي تتيح لها إنتاج شيء ما، رواية في هذه الحالة. نتيجة هذا الفهم للمؤلف لحدود وطبيعة العلاقة بين الذكائين، البشري والاصطناعي، خرج عمله هذا أكثر نضجًا وأقرب للتجربة التي تولَّد عنها، فالرواية تبدأ بحوار بين الذكاء الاصطناعي وخالقه البروفيسور حول مفاهيم مجردة مثل الخلق والوعي والذكاء، ربما يصلح لأن يكون كتابًا غير تخييلي لتبسيط بعض المفاهيم للقارئ العادي.

لم يفت الكاتب أن يشير قبل الرواية إلى زَمن كتابتها، بالتحديد: (12 ساعة، موزَّعة على 5 أيام، بينما استغرقَ التحرير والمراجعة 11 ساعة، موزَّعة على 4 أيام.) في مقابل هذا أمضى المؤلف نفسه ست سنوات لإنجاز روايته الأولى، السابقة على هذه، طبعًا بغير مساعدة من أي شات. لاحظنا الإشارة نفسها لدى أحمد لطفي، وكذلك في مستهل رواية (الدمعة الأخيرة) بإشراف مروان محمد، حيث أشار إلى جلستي نقاش امتدت كل منهما إلى ساعة، كانتا هما الأساس في إنتاج النص، ثم أتى بعد ذلك دور التحرير والتعديل.

الحرص على الإشارة لعنصر السُرعة في إنجاز الرواية يوحي بأهميته في هذه التجارب، مقارنة بالطريقة (التقليدية) التي يتبعها أي كاتب عادي، وكأنَّ هذا جزء من اللعبة، الإنتاج السريع والضخم لأعمال كان من الممكن أن تستغرق شهورًا أو سنوات حتَّى تكتمل وتخرج للنور. وكأننا نحاول أن نكسر رقمًا قياسيًا ما كما في بعض الرياضات البدنية، كنوع من الانتصار على الزَمن والقيود التي يفرضها على المقدرة الإنسانية.

مِن الأسئلة الأخرى التي يطرحها علينا هذا النوع ِمن التجارب سؤال مَن المسؤول عن المُنتَج النهائي؟ في مقدمة روايته (الدمعة الأخيرة)، يذكر مروان محمد أنَّه غير معتاد على تقاسم مهمة الكتابة مع أي شخص أخضر، ثمَّ يقول :

«لا يمكن أن أدَّعي أني شريك فاعل في كتابة الرواية ولكن يعود السواد الأعظم إن لم يكن كل هذه الرواية في كتابتها إلى (chatGPT)، يمكن القول أيضًا إن دوري ينحسر [هكذا في الأصل وأظن أن المقصود ينحصر] في مشاركة الأفكار حول الخطوط الرئيسية لمسار أحداث تلك الرواية وإرساء الخطوط العريضة للعلاقات بين الشخصيات وأيضًا إنشاء هذه الشخصيات، مشاركتي الفِعلية كانت عبارة عن جلستي نقاش امتدت كل واحدة منهما إلى ساعة واحدة فقط عبارة عن نقاش فعَّال متبادَل بيني وبين الـ(chatGPT) عن مقترحات متبادَلة بين الشخصيات وصناعة الأحداث»..... «أما من قام بعملية السرد والوصف وإظهار المشاعر والعاطفة الداخلية لدى الشخصيات، قام بها منفردًا الـ(chatgpt)، كاملة دون تدخل مني، إلا في موطن أو اثنين على الأكثر تدخلت فيه».

وفي إشارة من الإشارات التي سبقت رواية محمد أحمد فؤاد (حيوات الكائن الأخير)، عارضَ برنامج الذكاء الاصطناعي بتواضع نسبة العمل إليه، ويؤكَّد أنَّ «الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن يكون مؤلفًا للنص بشكل قانوني، فمعظم حقوق المؤلف، وفقَ القانون البشري، تنتقل إلى (الإنسان) الذي قام بتقديم الأفكار الأساسية، وتوجيه الذكاء الاصطناعي في كتابة النص».

بمعزل عن المسألة القانونية التي أشار إليها برنامج الشات، فَنحن أمام مسؤولية مشتركة قد تُذكّرنا ببعض حالات الكتابة المشتركة بين كاتبين بشريين، أو بالتعاون الوثيق بين كاتب ومحرر يتدخَّل في النص النهائي بلا قيد أو شرط. وحتَّى في هذه الحالات تثير مسألة حدود الأدوار قدرًا مِن الجَدَل، لكننا هنا أمام حالة جديدة ولعلها غير مسبوقة في طبيعة الإنتاج الفني والأدبي، حالة يتخلَّى فيها الكاتب طوعًا عن ذاتيته وفردانيته، ليلعب دور الموجِّه لروبوت، ويستمتع باكتشاف ثمرة اللعب، مع كائن يبدو ذكيًا وقادرًا على محاكاة الشروط الفنية للعمل الفني ولو من الناحية الشكلية على الأقل.

في ظني أنَّ جزءًا أساسيًا من ممارسة الفَن، بصورة فردية، هو ما يتعرَّض له مُنتِج هذا الفن من تجارب خلال عمله على قطعته الفنية سواء كانت سمعية أو بصرية أو منتَج لغوي. كيف يتغير في العَملية يومًا بعد آخَر، وكيف تتطوَّر علاقته بمادته وبحرفته، وكيف يتواصل مع الإنسانية التي بداخله والتي ستتلقى هذا العمل بعد إتمامه. من خواص العملية الإبداعية الجوهرية حتَّى الآن أنَّها انتقال للمعنى بين ذاتين بشريين، عبر وسيط الفن أو الكتابة، مهما باعدت بينهما الأزمان والمسافات.

ومع ذلك فالتقنية لا ينبغي تجاهلها، مع فنون كثيرة بجانب الكتابة الأدبية وغير الأدبية. وطالما تأثَّر المبدع والكاتب بهذه التقنيات والأدوات المُساعِدة في عمله، مثل سهولة البحث عن مواد أو معلومات على الإنترنت أو الاطلاع على أعمال سابقة في نفس موضوعه، أو توضيب المادة وتصويب الأخطاء، لكنَّ النص نفسه ظلَّ منتجًا إنسانيًا سواء كان شعرًا أو نثرًا، موضوعًا صحفيًا أو سيناريو للسينما أو التليفزيون، إلى آخره.

ما زلتُ أذكر ما أعربَ عنه الكاتب المصري الراحل إبراهيم أصلان من دهشة عندما بدأ الكتابة على الكمبيوتر وما أتاحه له برنامج الوورد من إمكانيات الحذف والإضافة وتحرير الفقرة والجملة بمنتهى السهولة، وهو الذي كان يفضّل الكتابة بممحاة، أي بقوة الحذف والتكثيف. لكن التقنية ظلَّت أداة مساعدة للذات الإنسانية حتَّى تعرب عن نفسها وتتواصل مع ذوات شبيهة بها، ولم تتدخَّل قبل اليوم -في مجال الكتابة على الأقل- إلى درجة المشاركة في الكتابة.

تغيَّر هذا الوَضع تمامًا بعد دخول برامج روبوتات الدردشة للذكاء الاصطناعي، إلى درجة أصبحَت هناك طرق مُتَّبعة في بعض المواقع أو المدارس والجامعات للتأكُّد، قبل اعتماد نشر المادة أو إعطاء درجة على البحث أو الورقة العلمية، مِن أنَّ الشخص المَعني (كاتبًا كان أو طالبًا أو سواهما) هو الكاتب ولم يلجأ لمساعدة الذكاء الاصطناعي إلَّا بقدرٍ محدود أو مسموح به.

قد نكون على أبواب حقبة جديدة تتماهى فيها الحدود الفاصلة بين الذكائين، الاصطناعي والبشري، إلى حدٍ يهدد بارتباك وبلبلة يصعب تخيُّلهما. لكن إلى أي حد قد يكون هذا مهددًا أو مفيدًا لكتابة الأدب؟ لعلَّ جزءًا من الإجابة يكمن في ما ننتظره نحن كبشر من الأدب، سرعة الإنجاز مثلًا؟ سهولة القراءة؟ المتعة والتسلية والإثارة والتشويق؟ أم نطمح لأن نخوض رحلة في أنفسنا تجعلنا أكثر قربًا مِنها ومِن أشباهنا البشر؟

في لحظةٍ ما قادِمة، قد تكون أقرب ممَّا نتخيَّل، سيكون بوسع كل إنسان (كاتب/قارئ) أن يكتب روايته الخاصة التي يريد قراءتها ونشرها، عبر برامج الذكاء الاصطناعي، بحسب ما يميل إليه من أسلوب وحبكة وطبيعة شخصيات، بنفس سهولة إنتاج صور مولَّدة في الوقت الراهن. ما قد يشجّع على تلك الممارسات هو الفَهم القاصر لعملية الكتابة الإبداعية، وأنها مجرد تنفيذ لقواعد ومعادلات ثابتة، خلط لمقادير بعينها ينتج عنه رواية مشوقة. وهكذا ستكون كل رواية مُولَّدة بالذكاء الاصطناعي محدودة بذكاء ورغبات العنصر البشري القائم على توليدها، فبرامج الذكاء الاصطناعي أقرب إلى العَبد المُطيع الذي يود إرضاء سيده بأي شكل، يشبه في ذلك جِني المصباح الذي يقول لمِن يعثر عليه ويحرره: شبيك لبيك، عبدك وبين إيديك. لكنَّ هذا الجني لا يستطيع أن يصحح لنا رغباتنا إذا أخطأنا الاختيار، فليس عليه إلَّا تجسيد أحلامنا، لذلك لعلَّ المشكلة حتى الآن في شكل التعاون بيننا وبين جني المصباح الجديد، وعَدم استيعاب كافة الإمكانيات التي قد يطلقها هذا التعاون.

لذلك فقد تُذكّرنا تجارب الكتابة الروائية بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي ببعض الروايات المكتوبة بالطريقة التقليدية على أيدي مؤلفين بشر عاديين، عند كتابة روايات يقتصر مُنجَزها على تلبية الشروط والقواعد الشَكلية لفن الرواية، وفقًا لما تقدمه بعض الكُتب والمواقع والفيديوهات التعليمية على الإنترنت.

إنَّ تنفيذ وصفة ثابتة لكتابة رواية وملء خانات بعينها بعدد من الكلمات مع تنسيق الحبكة وتطور الأحداث تبعًا لخط بياني أو شكل توضيحي، لن تختلف نتيجته كثيرًا إذا ما كان المؤلف بشريًا أو ذكاء صنعه البشر؛ لأنَّ الجوهر الإنساني للفن في الحالتين سيكون غائبًا. ذلك الجوَهر الغامض والملتبس والذي لعلَّنا نتلمسه كُلَّما ابتعد الإبداع الأدبي عن التقاليد والقواعد والقوالب، واعتمد بدرجة أكبر على خصوصية الإنسان المبدع وفرادة نظرته للوجود وأسئلته الخاصة التي يطمع لطرحها عبر ألعابه السردية، تلك الأسئلة المثيرة التي تثير قلق القارئ بقدر ما تُمتعه، لأنها تضعه في مواجهة مباشرة مع ذاته وتجربته كإنسان على هذه الأرض.

جانبٌ ممَّا يأسرنا في إنتاج الفن وتلقيه هو المغامرة بشَق سُبلٍ جديدة غير مطروقة في الفن كما في الحياة، وحتَّى يتمكَّن الذكاء الإنساني من مساعدة الذكاء الاصطناعي على الدَفع بالمغامرة لأقصى حدودها واستيعاب لغز الوجود ومعضلاته ستبقى الروايات الناتجة عنها شبيهة بعشرات الآلاف من الكتب المتوفرة بالفعل على أرفف المكتبات، مُجرَّد مُعلَّبات للهُراء القديم نفسه.

محمد عبدالنبي روائي ومترجم مصري

مقالات مشابهة

  • جمال عبدالرحيم يعلن تقرير النشاط لمجلس نقابة الصحفيين
  • منحة تدريبية عن صحافة المستقبل.. كيف يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل السلطة الرابعة؟!
  • “كيف يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل السلطة الرابعة؟”.. ورشة تدريبية بين نقابة الصحفيين والمرصد المصري للصحافة والإعلام
  • خبراء يحذِّرون: الذكاء الاصطناعي يجعل البشر أغبياء
  • البلشي: أتمنى أن تخرج الانتخابات بمشهد حضاري يليق بعراقة نقابة الصحفيين
  • خالد بن محمد بن زايد يؤكد أهمية توظيف الذكاء الاصطناعي في الابتكار واستشراف المستقبل
  • كِتابة جِنيّ المصباح تجارب روائية ولَّدها الذكاء الاصطناعي
  • من مارس 2024 حتى مارس 2025.. تقرير النشاط السنوي لمجلس نقابة الصحفيين
  • عبدالمحسن سلامة: صرف بدل الصحفيين بالمؤسسات القومية من النقابة
  • هذه أبرز وظائف المستقبل التي تنبأ بها الذكاء الاصطناعي