الإنفاق العسكري بالجزائر.. ماذا وراء الزيادة القياسية؟
تاريخ النشر: 23rd, April 2024 GMT
رفعت الجزائر إنفاقها العسكري بنسبة 76 في المئة خلال عام 2023، ليصل إلى 18.3 مليار دولار، ما وضع البلاد في المرتبة الثالثة بين الدول الأكثر إنفاقا على الجانب الدفاعي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وتعد هذه القفزة في النفقات العسكرية الأعلى في تاريخ الجزائر، وتمثل أكبر زيادة سنوية منذ عام 1974 وفقا لبيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (سيبري).
وبينما عزا المعهد السبب الرئيسي وراء هذا الارتفاع إلى زيادة عائدات صادرات الغاز الجزائري إلى أوروبا مع ابتعاد هذه الأخيرة عن الإمدادات الروسية، تحدث محللون جزائريون عن عوامل وخلفيات أخرى دفعت بلادهم إلى ضخ المليارات لتعزيز وتقوية قدراتها العسكرية.
"ثلاثة أسباب"المحلل السياسي، توفيق بوقاعدة، يرى أن الزيادة المسجلة خلال 2023، "تعد سابقة في تاريخ البلاد"، مشيرا إلى ثلاثة أسباب رئيسية وراء هذا التوجه.
الأول، بحسب تصريح بوقاعدة لموقع "الحرة"، يتمثل في سعي الجيش الجزائري إلى "تحديث منظومته الدفاعية بما يتماشى والتطور الحاصل في التكنولوجيا الجديدة في مختلف أنواع الأسلحة".
أما السبب الثاني وراء النسبة القياسية، فيعود، وفقا للمحلل الجزائري، إلى "عدم التزام المنتجين بصفقات الأسلحة التي كانت مبرمجة سابقا، وذلك بسبب الحروب التي تخاض في العديد من المناطق، وقبلها الركود في المجال الصناعات العسكرية بسبب جائحة كورونا".
ويبقى السبب الثالث و"الأكيد"، بحسب المتحدث ذاته، متمثلا "في ما يجري في المحيط الإقليمي للبلاد من توترات تثقل كاهل الجيش الجزائري وحاجته الماسة إلى أدوات حديثة لمراقبة الحدود المتوترة".
ويشير في هذا الجانب، إلى أن عدم استقرار دول الجوار الإقليمي والتهديدات التي تلوح في الأفق في بلدان مالي والنيجر وليبيا، "كلها تجعل الجزائر تحتاط من امتداد هذا التوتر نحوها".
ويضاف إلى كل ما سبق "التوتر الذي تشهده العلاقات الجزائرية المغربية والذي يجعل البلدين على حافة حرب إقليمية"، على حد تعبير المحلل الجزائري.
"تحديات جيوسياسية"وتشهد علاقات المغرب والجزائر أزمة دبلوماسية متواصلة منذ قطع الأخيرة علاقاتها مع الرباط، صيف العام 2021، متهمة إياها باقتراف "أعمال عدائية" ضدها، في سياق النزاع بين البلدين حول الصحراء الغربية. وقد أعرب المغرب عن أسفه للقرار الجزائري ورفض "مبرراته الزائفة".
وزادت حدة التوترات بين الجارين بعد تطبيع العلاقات بين المغرب وإسرائيل، مقابل الاعتراف الأميركي بسيادة المغرب على الصحراء الغربية التي يدور حولها نزاع منذ عقود بين الرباط والبوليساريو المدعومة من الجزائر.
في هذا الجانب، يرى أستاذ العلاقات الدولية بالمدرسة الوطنية العليا للعلوم السياسية بالجزائر، حسام حمزة، أن قراءة الزيادة المسجلة في الإنفاق ينبغي أن تتم أساسا من زاوية الواقع الأمني للجزائر، مشيرا إلى أن الجوار الجيوسياسي لبلاده سواء المباشر أو البعيد، "يفرض تحديات أمنية وعسكرية متعددة الأبعاد".
كيف تصدرت السعودية وإسرائيل قائمة "الأكثر إنفاقا عسكريا" بالشرق الأوسط؟ ارتفع الإنفاق العسكري العالمي للعام التاسع على التوالي في عام 2023 ليصل إلى ما مجموعه 2443 مليار دولار، من بينها أكثر من 200 مليار دولار أنفقتها الدول في الشرق الأوسط في أعلى معدل نمو سنوي تشهده المنطقة في العقد الماضي.ويشير حمزة في تصريحه إلى ما يعتبرها "تحديات جيوسياسية بعيدة تتعلق" بإسرائيل و"وكلائه في المنطقة"، مشيرا إلى أن هذا يفرض "استعدادا حتى لسيناريو الحرب".
ولم تتقبل الجزائر تطبيع المغرب لعلاقاته مع إسرائيل ضمن اتفاقيات إبراهيم، خلال فترة إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب.
وتسبب تصريح لوزير الخارجية الإسرائيلي السابق، يائير لبيد، خلال زيارة رسمية أجراها للدار البيضاء في المغرب في أغسطس من 2021، في تعميق التوترات بين الجارين، بعد تعبيره عن "قلق بلاده من التقارب بين إيران والجزائر، ورفضها قبول إسرائيل في الاتحاد الإفريقي بصفة مراقب".
واعتبرت الخارجية الجزائرية أن "قيام السلطات المغربية بمنح موطئ قدم لقوة عسكرية أجنبية في المنطقة المغاربية وتحريض ممثلها على الإدلاء بتصريحات كاذبة وكيدية ضد دولة جارة، يشكل عملا خطيرا وغير مسؤول".
وحملت صحيفة الشروق الجزائرية على المغرب قيامه بتشكيل محور مع إسرائيل "ضد المصالح الجزائرية ووحدتها الترابية".
في المقابل، ندد مصدر دبلوماسي إسرائيلي بالتصريحات الصادرة من الجزائر، كما أكد وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، أنه "لن يمس الجزائر سوء من المغرب".
ومنذ توقيع اتفاقية التطبيع، شهدت علاقات إسرائيل والمغرب دينامية ملحوظة توجت بتعزيز التعاون على عدة مستويات، كان من أبرزها تطوير التعاون العسكري بين الجانبين.
انخفاض الإنفاق المغربي.. ولكنوبينما تحدث تقرير "سيبري" عن انخفاض الإنفاق العسكري المغربي للعام الثاني على التوالي، بنسبة ناهزت 2.5 في المئة في عام 2023، إلى 5.2 مليار دولار، أورد تقرير لصحيفة هآرتس الإسرائيلية مجموعة من التفاصيل الخاصة بصادرات الأسلحة الإسرائيلية نحو المغرب، والتي قال إننا "لا نجدها في معطيات سيبري".
وذكرت هآرتس، أنه منذ عام 2014، أي قبل استئناف العلاقات بشكل رسمي بسنوات، زوّدت إسرائيل المغرب بمسيرات من طراز "أي إي أي هيرون"، وبعدها بمسيرات "هيرمس 900" في 2017، ثم في 2020 مسيرات أخرى، ومسيرات انتحارية من طراز "هاروب" في العام الموالي"، وبعدها في 2022، حوالي 150 مسيرة من طرازي "WanderB" و"ThunderB" من شركة "BlueBird Aero Systems"، وصولا إلى العام الماضي، حيث تم تقديم قاذفات صواريخ متعددة من طراز "إلبيت بولس".
وتشير الصحيفة، أيضا إلى خطط لإنشاء مصنعين محليين، أحدهما لتصنيع الصواريخ، والآخر لتصنيع "هيرميس 9".
ولم يتمكن موقع الحرة من التأكد من المعطيات التي أوردها تقرير "هآرتس" من مصدر مستقل.
تحسن الظروف الاقتصاديةوبلغ الإنفاق العسكري لدول شمال أفريقيا مجتمعة 28.5 مليار دولار في عام 2023، بزيادة قدرها 38 في المئة عن عام 2022، و41 في المئة عن عام 2014.
وبينما كشف تقرير "سيبري"، أن الجزائر والمغرب، كانا أكبر المنفقين عسكريا بالمنطقة، حيث مثّلا معا 82 في المئة من الإنفاق العسكري في شمال أفريقيا في عام 2023، كان الارتفاع المسجل مدفوعا أساسا بالإنفاق الجزائري الكبير.
وكانت الجزائر التي تعد إحدى القوى العسكرية الرئيسية في أفريقيا، قد زادت ميزانيتها الدفاعية للعام 2023 بأكثر من الضعف مقارنة بـ 2022، وذلك إلى أكثر من 22 مليار دولار، بحسب قانون المالية الخاص بالسنة المالية المذكورة.
وجاء ذلك، بعد تحقيق الاقتصاد المحلي لمجموعة من المعطيات الإيجابية خلال 2022 والتي تواصلت خلال العام الماضي، وأفاد تقرير من البنك الدولي عن أحدث المستجدات الاقتصادية للبلاد، صدر في أواخر أكتوبر، أن الاقتصاد الجزائري، شهد في 2022 العودة لمستوى ما قبل جائحة كورونا، وأن هذا الانتعاش تواصل في النصف الأول من عام 2023.
من جانبه، ذكر صندوق النقد الدولي أن نمو الاقتصاد الجزائري، بلغ خلال عام 2023 نسبة 4.2 في المئة عام 2023 بفضل انتعاش إنتاج الهيدروكربونات والأداء القوي في قطاعات الصناعة والبناء والخدمات.
بينما سجل الميزان التجاري فائضا بقيمة 10.42 مليار دولار خلال الفترة من يناير إلى نوفمبر، حسبما أفاد به وزير التجارة وترقية الصادرات، الطيب زيتوني.
وبلغت احتياطيات الجزائر من النقد الأجنبي 73 مليار دولار، بارتفاع ناهز 25 في المئة مقارنة مع نهاية عام 2022، بحسب الوزير الأول السابق، أيمن بن عبد الرحمان، بينما وصلت قيمة الفائض التجاري الجزائري، خلال الفترة الممتدة من يناير إلى نهاية سبتمبر 2023، بحسب تقديرات الديوان الوطني للإحصائيات.
في هذا الجانب، يؤكد حمزة على أن تحسن الوضع الاقتصادي وزيادة النمو، "يُرى وينعكس على إنفاقها العسكري من أجل تحسين قدراتها الدفاعية نوعية سلاحها وتكوين جيشها".
غير أنه يشير إلى ضرورة قراءة المعطيات الجديدة المرتبطة بارتفاع الإنفاق العسكري على ضوء بعض المعطيات التاريخية، مشيرا إلى أنه بين التسعينيات ومطلع الألفية الجارية، كانت الجزائر خارج خريطة التسلح بالعالم نتيجة الحصار الذي كان مفروضا عليها، نظرا لما كانت تواجهه من ظاهرة إرهابية داخلية.
ولذلك خلال تلك المرحلة، كان هناك تراجع كبير في الإنفاق أولا بسبب الضعف الاقتصادي، وأيضا بسبب الحصار المفروض عليها والذي منعها من شراء الأسلحة.
ويقول حمزة إن الوضع "تغير" اقتصاديا ودبلوماسيا وعلى المستوى الدولي، "بعد أن استعادت الجزائر ثقلها وشراكاتها".
ومن بين العوامل الأخرى، التي يلفت إليها الجامعي الجزائري، ما اعتبره "الطموح الإقليمي من أجل الريادة في ظل التنافس الحاصل مع المغرب"، مشيرا إلى أن الجزائر تريد أن "تبقى دائما القوة الإقليمية رقم واحد في شمال أفريقيا وتصبو لأن تكون الأولى أفريقيا"، وهي تعمل من أجل ذلك "عسكريا واقتصاديا".
انتقاداتلكن على الجهة المقابلة، يرى الحقوقي الجزائري المقيم في الخارج، علي أيت جودي، رئيس المنظمة غير الحكومية "التصدي الدولي" (ريبوست أنترناسيونال)، أن الإنفاق العسكري "يتضاعف" في الجزائر سنة تلو الأخرى، معتبرا أن "سياسات زيادة التسليح تمثل فرصة للاستحواذ على هذه الأموال التي ليس للحكومة أو البرلمان أي رأي أو تحكم في مراقبتها".
ويضيف أيت جودي، في تصريح لموقع "الحرة"، أن سياسة "تسويق الغاز مقابل السلاح، يسهّل من نهبها"، مشيرا إلى أنه حتى لو أن "القوانين تمر عبر هذا البرلمان إلا أنه منزوع الصلاحيات ولا يراقب ميزانية الجيش بالشكل المطلوب".
وأظهر مؤشر التصنيف العالمي لمكافحة الفساد، حلول الجزائر في المرتبة 104 عالميا، بحصولها على 36 نقطة من أصل 100، في الوقت الذي جاءت في المرتبة 116 في تقرير عام 2022 والمرتبة 117 للعام 2021.
ونقل موقع "الشروق" المحلي، معطيات أوردتها السلطة العليا للشفافية والوقاية من الفساد ومكافحته، وتكشف تراجع المؤشرات العامة لواقع الفساد خلال سنة 2022 بنسب متفاوتة، وتتراوح إجمالا ما بين 34 و40 بالمئة، قياسا بما مضى، بحسب آخر تقرير للمؤسسة الحكومية.
وعلى صعيد آخر، يقول الحقوق الجزائري ذاته، إن "النظام في بلاده نجح في شحن وخلق جو من التوتر مع كل الجيران، وخاصة مع المغرب"، وذلك من أجل "تبرير سياسات التسليح والنهب".
وينتقد أيت جودي "تبرير صرف هذه الميزانيات الضخمة على الإنفاق العسكري، في وقت تبلغ فيه البطالة بين الشباب الجزائري ذروتها"، مشيرا إلى أن هذه الظروف "تدفعهم لركوب قوارب خشبية، في خرجات انتحارية سعيا نحو حياة أفضل هناك".
وبلغ معدل البطالة بالجزائر، بحسب قاعدة بيانات البنك الدولي، نحو 12.3 في المئة، خلال عام 2023.
المصدر: الحرة
كلمات دلالية: الإنفاق العسکری مشیرا إلى أن ملیار دولار فی عام 2023 فی المئة من أجل
إقرأ أيضاً:
من صحراء المغرب إلى فيافي الجزائر.. إيطالي ينقذ نفسه بدماء الخفافيش!
قرر شرطي إيطالي يدعى ماورو بروسبيري في عام 2004 اختبار قدرته على التحمل بالمشاركة في ماراثون الرمال بجنوب المغرب. في هذا السباق يتم قطع مسافة 250 كيلوا مترا خلال مدة ستة أيام.
هذا الشرطي كان يزاول منذ أن كان طفلا عدة رياضات منها الركض وإطلاق النار وركوب الخيل والمبارزة، وكان تسنى له حتى الانضمام إلى الفريق الأولمبي الإيطالي. بروسبيري الذي تعود على تحدي المشاق قرر أن ينازل الصحراء. حينها لم يخطر على باله ما سيعانيه وما سيواجهه من أهوال.
بدأ ماراثون الرمال في 10 أبريل 1994. سارت على ما يرام خلال الأيام الأربعة الأولى من السابق، ركض المشاركون بين نقاط التحكم، حيث تم تزويدهم بالماء، واستراحوا لبعض الوقت قبل أن يستـأنفوا الجري حاملين معهم ما يكفي من غذاء وما سُمح لهم من مقتنيات بسيطة.
الطقس ساء في 14 أبريل وهبت عاصفة رملية عاتية في الصحراء، فيما ارتفعت حرارة الجو إلى 46 درجة مئوية. منظمو السابق كانوا شددوا في تعليماتهم على المشاركين أن يبقوا في أماكنهم إذا ما واجهوا عاصفة رملية وأن يحتموا بكيس النوم ويستلقوا على الأرض إلى حين مرور العاصفة.
ماورو وصف الموقف لاحقا بقوله: “حين بدأت العاصفة الرملية، فقدت رؤية الجميع. ومع ذلك واصلت الركض لأنني اعتقدت أنني أستطيع تبين الطريق. كنت في المركز السابع ولم أرغب في خسارة ترتيبي. لكن العاصفة هبت بغضب شديد لدرجة أنني اضطررت إلى التوقف والبحث عن مأوى. وجدت شجيرة واحتميت بها. الرمال كانت مثل الإبر تنغرس في بشرتي. لففت المنشفة حول وجهي وانتظرت. تبدلت الكثبان الرملية من حولي، واضطررت للتحرك عدة مرات كي لا أجد نفسي مدفونا تحت الرمال”.
في الصباح استيقظ على مفاجأة غير سارة. نظر حوله من أعلى الكثبان الرملية ولم ير أي طريق أو أي علامات على وجود بشري، ولم تتبق لديه إلا قطرات من الماء.
انتظر بروسبيري على كثبان الرمال المساعدة وهو يرقب الأفق بدقة. مع غروب الشمس راي فجأة طائرة مروحية تحلق في البعيد. حين اقتربت أطلق شعلة مضيئة إلا أن المروحية مرت فوقه ولم يشاهده من كان فيها.
عن هذا الموقف العصيب كتب العداء الإيطالي يقول: “طار فوق راسي، وكان قريبا جدا لدرجة أنني تمكنت من رؤية خوذته البيضاء في قمرة القيادة. ظننت أني قد نجوت أخيرا، إلا أن المروحية لم تهبط. واصلت التحليق أمامي واختفت. أنا لم أفهم. حينها كنت في حالة من اليأس، وجنون من الخوف”.
حين أدرك ماورو أن إنقاذه لا يزال بعيدا، تذكر ما سمعه من جده الذي شارك في الحرب العالمية الأولى، فتبول في زجاجة ليشرب منها، ولكي تمده بما يحتاج من رطوبة في الصحراء الحارقة.
في محاضرة عن تلك المغامرة أوضح العداء الإيطالي الخبير أن المتسابقين في الماراثون عادة ما يأكلون القليل ويشربون الكثير، ولذلك يكون البول شفافا ويبدو سبيها بالماء.
بعد أن خزّن بوله نام مرة أخرى، وحين استيقظ رأى نسرين يحومان فوقه، حينها أدرك أن عليه أن يخرج من هذه المتاهة بنفسه.
أثناء سيره بلا هدى في الصحراء، صادف ماورو ضريحا لأحد الأولياء. لم يكن بداخله إلا بقايا عظام. لكنه وجد به الظل والرطوبة. غرس العلم الإيطالي الذي كان معه وأمضى اليوم بطوله في القبر.
كان كل ما كان معه من طعام وماء حينها قد نفد. عثر في البداية على بيض بعض الطيور في الضريح فأكلها، إلا أن الجوع بقي يعذب جسده المنهك بالتعب.
لاحظ العداء التائه خفافيش تتدلى من السقف. عن ذلك اللقاء بالخفافيش قال: “قررت أن آكلها نيئة لأن الطهي على موقدي المحمول لن يؤدي إلا إلى تجفيفها، وكنت أعرف أن الرطوبة هي أكثر ما أحتاجه. لذلك انتزعت أعناقهم ومصصتها. كان الأمر مقرفا، لكني كنت أشعر بالجنون من الجوع.”
امتص دماء حوالي عشرين خفاشا، ودفن رفاتها في الأرض وبعد ذلك استلقى وغرق في سبات عميق. صبيحة اليوم التالي استيقظ ماورو على صوت طائرة يتناهى من بعيد. جمع وهو في حالة جنونية كل ما لديه من أغراض وخاصة المصنوعة من البلاستيك وأوقد فيها النار كي يلفت إليه الأنظار. لسوء الحظ، ما أن اتقدت النار حتى هبت عاصمة رملية أخرى.
مرت اثنتا عشرة ساعة قبل أن تهدأ العاصفة، وازداد يأس ماورو. خبا أمله في أن يتمكن من الخروج حيا من هذه المتاهة الصحراوية. تذكر أن أسرته في إيطاليا لن تحصل على معاش شرطي بالوفاة إذا لم يتم العثور على جثته، لذلك قرر الانتحار في ملاذ على الأقل بعيدا عن الرمال السافية.
نقش على الحائط رسالة لزوجته، ثم قطع عروقه بسكين صغير واستلقى في انتظار الموت، لكنه لم يأت. الجفاف استشرى في جسده إلى درجة أن الدم تخثر ولم يسل. حين استيقظ صباح اليوم التالي، استجمع ما تبقى لديه من قوة وقرر المضي قدما. كان يشرب من البول الذي يخزنه وانتقل عبر الصحراء مسترشدا بالغيوم.
في الأيام الستة اللاحقة، سار بروسبيري في الصحراء المترامية، وكان يمشي في الصباح الباكر وفي المساء ويستريح فيما يجد من ظل حين تشتد حرارة الشمس. كان يقتات على كل ما تصل يده إليه. أكل الفئران والسحالي والثعابين، وكان يمضغ بعض الوريقات. من الجوع والقيظ الشديد كان يهلوس ويتراءى له السراب.
في اليوم الثامن منذ هبوب العاصفة الرملية الأولى، صادف واحة حقيقية بها بئر ماء صغير. هرع ماورو يعب الماء منه، إلا أن جسده لم يعد يستسيغ الماء.
روى العداء الإيطالي هذه المحنة قائلا: “هرعت إليه وعببت الماء بشراهة، لكن كان من الصعب عليّ ابتلاعه. ما أن دخل الماء جوفي حتى تقيأت على الفور. لم أستطع كبح أي شيء. أدركت أنه يتوجب أن آخذ رشفات صغيرة، واحدة كل عشر دقائق. كنت مستلقيا بجانب بركة مثل النمر عند نبع ماء. أخذت رشفات من الماء. بحلول الصباح، تمكنت من إخماد عطشي”.
ملأ زجاجات الماء وغسل الجروح في ساقيه. عثر أثناء سيره في اليوم التاسع على فضلات ماعز حديثة وآثار أقدام بشرية. قادته الآثار إلى رعاة من الطوارق.
أول من شاهد طفلة ترعى تبلغ من العمر ثماني سنوات. ما ان رأته حتى فرت مرتعبة. كان العداء الإيطالي يبدو مثل مومياء تسير بعينين غارقتين ووجه شديد الشحوب. لحسن الحظ أن الراعية الصغيرة أحضرت والدتها وقد ساعدت ماورو في المضي معهم إلى الخيمة حيث سقته حليبا. تقيأه بروسبيري على الفور ورفضه جسمه.
رجال الطوارق استدعوا الشرطة. رجال الأمن شهروا أسلحتهم على العداء ظنا منهم أنه جاسوس! الأمر المذهل الذي تبين أن العداء انحرف عن الطريق الأصلي بحوالي 290 كيلو مترا، وأن رحلته التي بدأت في المغرب انتهى بها المطاف في الجزائر.
الشرطة حين عرفت أن هذا الرجل هو العداء الإيطالي الذي كان يعتقد حينها أنه توفى، نقلته على المستشفى وتبين أن وزنه لا يتعدى 43 كيلو غراما.
أظهرت الفحوصات الطبية أن كبد ماورو الذي عولج في الجزائر لمدة أسبوع، تعرضت لأضرار جسيمة ما أعاق عملية الهضم واستدعى تناوله وجبات من الحساء والسوائل لعدة أشهر، كما عانى من تقلصات شديدة في الساق لمدة عام وتعرضت أيضا كليتاه لأضرار.
بعد العلاج في الجزائر، عاد بروسبيري إلى عائلته في روما، واستقبل هناك بحرارة وتحدثت الصحف الإيطالية عن مغامرته في الصحراء وأجريت العديد من المقابلات معه.
هذه القصة المثيرة التي تبدو كما لو كانت سيناريو سينمائي متخيل، هي درس بالدرجة الأولى على إمكانية الخروج من أصعب المواقف وأشد الظروف حين تتوفر الخبرة أو المعرفة بأساليب العيش في الظروف القاسية وكذلك الإرادة القوية والاعتماد على الذات في المقام الأول.
المصدر: RT